الحلقة الحادية والعشرون: الشيخ الغزالي يرحل إلى قطر
مصير الغزالي
عدت إلى الدوحة، لأمارس عملي في عمادة كلية الشريعة، وكان من أهم ما شغلني في تلك الفترة هو: مصير شيخنا الشيخ محمد الغزالي، فقد كنت أعلم أن العلاقة بينه وبين السادات كانت رديئة، وقد اتهمه على الملأ بأنه مثير فتنة، وداعية طائفية، وهي تهمة كاذبة تنادي على نفسها بالبطلان، فكل من يعرف الشيخ الغزالي قارئا أو مستمعا أو معايشا، يوقن أنها عارية عن الصحة تماما.
وقد علمت أن الشيخ عندما وقع الاعتقال لم يكن في القاهرة، أظنه كان في الجزائر وقتها، وقد أرسلت إليه من قطر: أن كلية الشريعة ترحب بك، وأن مكانك محفوظ بين إخوانك وتلاميذك، ولا ضرورة لأن تعود إلى مصر.
واتفقت مع أ. د. إبراهيم كاظم مدير الجامعة: أن نتعامل معه باعتباره أستاذا زائرا، ليظل في الفندق مقضي الحاجات، بخلاف ما لو كان متعاقدا وأعطي له سكن كبقية الأساتذة، فهو في حاجة إلى من يطهو له طعامه، ويغسل له ثيابه، وينظف له فراشه... إلخ. والشيخ بعد أن توفيت زوجته أم أولاده، أصبح وحيدا، ولم يتح له أن يجد رفيقة أخرى لحياته. فالأليق به أن يعامل معاملة الأساتذة الزائرين، الذين يعيشون في الفنادق على حساب الجامعة طوال مدة زيارتهم، كل ما في الأمر: أن هذه زيارة قد تطول، على خلاف العادة، ولا بأس بذلك، فهو داعية عصره، ووحيد دهره، الشيخ الغزالي.
الغزالي في قطر
وفعلا قَدِم الشيخ الغزالي إلى قطر وكان ذلك في بداية السنة الدراسية 1980م – 1981م. واستقبله الجميع بفرح وترحاب، كما يستقبل الغيث المبارك بعد جدب، فرح به أساتذة الجامعة، وفرح به الطلاب، وفرح به أهل قطر، وفرحت به شخصيا، فقد كنت أحب الغزالي من قديم، وأعتبره من ألسنة الصدق، وأقلام الحق، وسيوف الدعوة، التي يذود الله بها عن دينه، في مواجهة الكائدين للإسلام، والمفترين عليه، والمحرفين له، والمشوهين لوجهه الجميل، بسوء الفهم له، وسوء العرض له، كان هو الداعية الأول للإسلام الحق في ذلك الوقت، فوجوده بيننا مغنم كبير، ومكسب عظيم.
كانت العلاقة بين الغزالي والسادات متوترة واتهمه على الملأ بأنه مثير فتنة نزل الشيخ الغزالي في فندق الواحة، وخصص له فيه جناح فسيح، ليستقبل فيه زواره ومحبيه، وهم كثر. والغزالي رجل محبب لكل من لقيه وعايشه، فهو رجل هين لين متواضع، موطأ الأكناف، حلو اللسان، طيب العشرة، باسم الثغر، طلق المحيا، فكه الحديث (ابن نكتة) على طريقة المصريين الظرفاء بالفطرة، لا تجده يوما مقطب الجبين، أو عابس الوجه، إلا إذا كان ذلك لبلاء وقع بالمسلمين في أي مكان، أو شكا إليه مسلم من المشكلات والنوازل ما لا يملك له حلا، فهو يألم لألم الناس، ويفرح لفرح الناس.
وكان صاحب فندق الواحة صديقنا وصديقه (الشيخ قاسم درويش فخرو رحمه الله) يوصي موظفي الفندق، بالحرص على خدمة الشيخ، والإسراع بتلبية كل ما يطلبه، وعدم التلكؤ أو التباطؤ في إجابة طلباته. وكان الموظفون والعمال يتنافسون في خدمة الشيخ، ويتقربون إلى الله بذلك. وإذا طلب شيئا تسابقوا ليفوز أحدهم بذلك، وبذل جهده وهو قرير العين. إنها نعمة من الله تعالى: أن يحبك الناس لله وحده، لا لمال، ولا لجاه، ولا لدنيا، وما كان لله دام واتصل.
ظل الشيخ الغزالي في قطر ثلاث سنوات دراسية كاملة: يدرّس في الجامعة، ويخطب في الجامع، ويحاضر في الأندية، ويلقى الناس في مجلسه اليومي، بعد العصر، فيجيب السائل، ويعلم الجاهل، ويردع المتعالم، ويثبت المتحير.
وكان يزوره بعض الشباب من المتعالمين الذين قرؤوا بعض الكتب في الحديث أو التفسير، ثم خيل إليهم أنه أمسوا أعلم الناس بالسنة، أو أعرف الناس بالإسلام، وبات كل منهم يرى نفسه وكأنه (شيخ الإسلام)! والحقيقة أنهم لم يدرسوا العلم على شيوخه، ولم يعرفوه من جذوره، لم يدرسوا الفقه وأصوله، لم يدرسوا النحو والصرف والبلاغة، لم يتعمقوا في فهم تراث الأمة بمدارسه المختلفة، إنما هم أسرى الرأي الواحد، والمذهب الواحد، والشيخ الواحد. هم أسرى الألفاظ والظواهر، أو الحرْفية النصية، لم يلتفتوا يوما إلى فقه (المقاصد) أو فقه (المآلات) أو فقه (الموازنات) أو فقه (الأولويات) وقد سميتهم في بعض ما كتبت (الظاهرية الجدد) أخذوا من الظاهرية حرفيتهم وجمودهم، ولم يأخذوا منهم سعة علمهم.
هؤلاء كثيرا ما أتعبوا الشيخ الغزالي بمجادلاتهم العقيمة، ومقولاتهم السطحية، وكثيرا ما ضاق بهم ذرعا، وأوسعهم نقدا، وسلط عليهم قلمه البليغ، يسخر من غبائهم، وفقههم الأعرج، الذي عبر عنه في بعض كتبه بأنه فقه بدوي!!
عانى الشيخ الغزالي كثيرا من أصحاب الفكر المنغلق أتعب هؤلاء الشيخ عندما كان في قطر، وأتعبوه قبل ذلك عندما كان في مكة المكرمة بجامعة أم القرى، وأتعبوه بعد ذلك عندما ذهب إلى الجزائر، ليرأس المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بمدينة قسنطينة.
ولا عجب أن وجه الشيخ جل جهده في سنيه الأخيرة لمطاردة هؤلاء، وكشف عوارهم، والتحذير من تدينهم المغلوط، ابتداء من شرح الأصول العشرين، ومرورا بكتاب (مشكلات في طريق الحياة الإسلامية) و (هموم داعية) و(علل وأدوية) و(الطريق من هنا) و(الحق المر) وغيرها.
كان الذي يقلق الشيخ، ويؤثر في نفسه، وإن لم يصرح بذلك: وحدته بعد وفاة زوجته وأم أبنائه وبناته. وكان يتمنى أن يوفق إلى امرأة مناسبة له، تؤنس وحشته، وتملأ عليه حياته، وتكون سندا له في أواخر عمره. ولكن القدر لم يحقق له ما يريد.
ومن المعروف: أن المرأة ـ بعد وفاة زوجها ـ يمكن أن تعيش وحدها بلا رجل. ولكن من الصعب على الرجل بعد وفاة زوجته أن يعيش وحده، فحاجة الرجل إلى المرأة أكثر من حاجة المرأة إلى الرجل، ولا سيما في حالة الكبر.
طالع في الحلقة القادمة: