الحلقة الثالثة والعشرون: كلمة حول فقه العنف

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
كلمة حول فقه العنف
  • الفكر التكفيري وجذوره
  • فتوى ابن تيمية
  • هل العنف إسلامي؟
  • هل العنف يحقق هدفا؟
  • فقه التغيير

الفكر التكفيري وجذوره

أثار مقتل السادات جدلا ونقاشا واسعا حول فكر الجماعات المتطرفة وفقهها لقد أثار مقتل الرئيس السادات على يد واحد من رجال إحدى (جماعات العنف) الإسلامية ورفقائه جدلا ونقاشا واسعا حول فكر هذه الجماعات الديني، وفقهها الذي تستند إليه في عملياتها ضد الحكومات، وضد السياح وغيرهم.

ومن الناس من رفض مناقشتهم، على اعتبار أنهم ليس لهم منطق إلا القوة، وليس لهم منطلق شرعي أو أخلاقي أو قانوني يعتمدون عليه.

والواقع أن هذا تبسيط مخل بحقيقة القضية، فالقوم – أيا كان انتماؤهم – لهم فقه مزعوم، يستندون إليه، ويدعمونه بالآيات من القرآن الكريم، وبالأحاديث من السنة النبوية، ومن أقوال العلماء من المذاهب المتبوعة ومن خارجها.

ولا بد لكل من يريد إقناعهم، أو ردهم عن أفكارهم: أن يناقشهم في مفاهيمهم التي تبنوها، ومبادئهم التي آمنوا بها، وأدلتهم التي يسوقونها حجة لهم في تبرير ما صنعوا.

وهم ليسوا جماعة واحدة، بل هم أكثر من جماعة، يختلفون في طرائقهم، وبعض أفكارهم، ولكنهم جميعا يتخذون من العنف (أي القوة العسكرية) طريقا لتحقيق الأهداف.

فهناك (جماعة المسلمين) وهي التي عرفت عند الناس بـ (جماعة التكفير والهجرة) وهي تكفّر الناس بالجملة، تكفّر الأفراد، وتكفر المجتمعات، تكفر الحكام؛ لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله، وتكفر المحكومين؛ لأنهم رضوا بهؤلاء الحكام ولم يكفروهم، وتكفّر العلماء، لأنهم لم يكفروا الفريقين.

وهم يبدؤون بالتكفير، وينتهون بالقتل والتفجير، فما دام الشخص كافرا، فهو يستحق القتل ودمه مباح، إذ الكفر وحده يبيح الدم.

وهؤلاء هم الذين استباحوا دم الشيخ الذهبي رحمه الله، سواء كانوا هم الذين قتلوه، كما تقول الحكومة أم غيرهم هو الذي قتله، فهم أعلنوا سعادتهم بقتله!

وهناك الجماعات التي أطلقت على نفسها: اسم (جماعة الجهاد). وقد بدأت – على ما أعلم – في (مصر) وانتقلت إلى غيرها من البلدان مثل (الجزائر) وغيرها.

الشيخ عمر عبد الرحمن

وصنوهم (الجماعة الإسلامية) التي نشأت في مصر، بزعامة العالم الأزهري الضرير الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون في أمريكا، فرج الله عنه.

وهناك: (السلفية الجهادية) التي ظهرت في عدد من الأقطار العربية والإسلامية، مثل: المغرب والجزائر، والسعودية، وغيرها.

ومن المعلوم: أن السلفية توصف بالتشدد في مجال العقيدة، ولاسيما ما يتعلق بالتوحيد والشرك، في مواجهة القبوريين ومقدسي الأولياء، وكذلك ما يتعلق بآيات الصفات وأحاديث الصفات، وموقفهم ضد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، وكثيرا ما يغلب عليهم الحرفية والجمود في مجال الفقه والاستنباط.

فإذا أضيف إلى هذا التشدد والحرفية والجمود: الجانب العسكري، أو جانب القوة والعنف، أصبحت هذه السلفية تمثل خطرا مزدوجا. خطرا فكريا، وخطرا عمليا.

وإذا أردنا أن نعيد الأمور إلى جذورها في شأن هذه الجماعات كلها: رددناها جميعا إلى فكر (الخوارج الغلاة) الذين عُرفوا بطول عبادتهم لله، وكثرة صيامهم وقيامهم وتلاوتهم، فهم صوّام قوام عبّاد قرّاء للقرآن. ولكنهم يستحلون دماء من سواهم من المسلمين، اعتمادا على متشابهات من النصوص، تاركين المحكمات من كتاب الله وسنة رسوله. فآفتهم ليست في ضمائرهم أو قلوبهم، ولكن آفتهم في رؤوسهم وأفهامهم.

ومن هنا وصفتهم الأحاديث النبوية الصحاح بقولها: "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقراءته إلى قراءتهم، وصيامه إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". حتى رأيناهم استباحوا دم ابن الإسلام البكر، زوج فاطمة البتول، وابن عم الرسول، وسيف الإسلام المسلول: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتقربوا إلى الله بقتله، ومدح شاعرهم قاتله بقوله:

يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا!

وأخيرا هناك (تنظيم القاعدة) وهو يضم عناصر متنوعة الجذور، مستمدة من تلك الجماعات كلها، وانصهرت في بوتقة القاعدة، والتزمت بخطها، وبالعمل تحت قيادتها.

إن فقه جماعات العنف، يقوم على أن الحكومات المعاصرة: حكومات كافرة، لأنها لم تحكم بما أنزل الله، واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق: القوانين التي وضعها المخلوق، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وبهذا: وجب الحكم عليهم بالكفر والردة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى تدع السلطة لغيرها. إذ كفرت كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.

ويؤكد فقه هذه الجماعات: كفر هذه الأنظمة الحاكمة بأمر آخر، وهو: أنها توالي أعداء الله من الكفار، الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام، الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم. والله تعالى يقول: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

والحكومات المعاصرة: تعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام، وأنهم ينشئون المساجد لإقامة الصلاة، ويعينون الأئمة والخطباء والمؤذنين، ويؤسسون المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، ويوظفون الوعاظ ومدرسي الدين في المدارس وغيرها، ويحتفلون برمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويذيعون تلاوة القرآن في الإذاعات والتلفازات، إلى غير ذلك: من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه.

كما أن بعض دساتير هذه البلاد يعلن: أن الشريعة مصدر أو المصدر الرئيسي للتقنين. وبعضها: يعتذر بضعفه أمام قوى الضغط الغربي، وبعضها وبعضها.

فتوى ابن تيمية

كما تعتمد جماعات العنف: على فتوى الإمام ابن تيمية – في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام – كالصلاة أو الزكاة، أو الحكم بما أنزل الله: في الدماء والأموال والأعراض، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره. وهو ما اعتمد عليه كتاب (الفريضة الغائبة) لجماعة الجهاد، وجعل هذه الفتوى: الأساس النظري لقيام جماعته، وتسويغ أعمالها كلها.

ويستدلون هنا بقتال أبي بكر ومن معه من الصحابة – رضي الله عنهم – لمانعي الزكاة.

فكيف بمن يمتنعون عن تطبيق أكثر أحكام الشريعة، برغم مطالبة جماهير الناس بها، وخصوصاً العلماء والدعاة، بل هم أشد الناس خصومة لهؤلاء، وتضييقاً عليهم، ومعاداة لهم؟!

ونسي هؤلاء أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة ولي الأمر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!

وتعتمد جماعات العنف أيضاً: على أن هذه الأنظمة غير شرعية، لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس، فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشرعية، وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف، وما قام بقوة السيف: يجب أن يقاوم بسيف القوة، ولا يمكن أن يقاوم السيف بالقلم!

ونسي هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم: أن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقرّ له الوضع، ودان له الناس.

وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على ابن الزبيـر – رضي الله عنهما – وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابة: مثل ابن عمر وأنس وغيرهما، حقناً للدماء، ومنعاً للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم.

وهذا من واقعية الفقه الإسلامي، ورعايته لتغير الظروف.

وترى جماعات العنف كذلك: أن هذه المنكرات الظاهرة السافــرة التي تبيحها هذه الحكومات- من الخمر، والميسر، والزنى، والربا والخلاعة والمجون، في وسائل الإعلام، وسائر المحظورات الشرعية- يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه"[1].

ويغفل هؤلاء: الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة، التي قررها العلماء. ومنها: ألا يترتب على تغيير المنكر منكرا أشد منه.

وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله: أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضي بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها: أن من لم يكفر الكافر فهو كافر!

وبهذا توسعوا وغلوا في (التكفير)، وكفروا الناس بالجملة.

وعلى هذا: لا يبالون من يُقتل من هؤلاء المدنيين، الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل؛ لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم.

كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة: أنهم نقضوا العهد، بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين، وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم للشريعة الإسلامية. وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب من الأقباط في مصر، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضاً. وغفل هؤلاء عن اجتهادات فقهاء المسلمين في عصرنا، وأنهم أصبحوا (مواطنين) لهم حقوق المواطنة؛ لأنهم من أهل دار الإسلام بإجماع الفقهاء. وكلمة (من أهل الدار) تقابل كلمة (مواطن).

وهم يرون أن السياح وأمثالهم، الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدّهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مستباحي الدم؛ لأنهم لم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، ولأن بلادهم نفسها محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!! وجهل هؤلاء أن أي مسلم – ولو كان امرأة – يعطيهم الأمان، فإن أمانه نافذ، والمدار على ما يعتبرونه هم أمانا.

وكذلك يقول هؤلاء عن الدول الغربية – التي يقيم بعض هؤلاء فيها– وقد أعطتهم حق الأمان، أو حق اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف.

يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح: إن هذه الدول كلها كافرة، محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعاً حتى يُسلموا فَيَسْلَموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها.

وهؤلاء الكفار: دماؤهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين.

ويذكرون هنا آيات وأحاديث: يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها: من الآيات والأحاديث، التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!

هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان: ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.

وهو بلا ريب: فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل، من كل جانب:

أ: خلل في فقه التكفير.

ب: وخلل في فقه الجهاد.

جـ: وخلل في فقه الخروج على الحكام.

د: وخلل في فقه تغيير المنكر بالقوة.

ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية، لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطئوا فيه، في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة، في إطار مقاصد الشريعة الكلية، ومبادئ الإسلام العامة.

وقد ناقشنا هذه الجماعات وفقهها في أكثر من كتاب لنا، وخصوصا كتاب (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) فصل (من العنف والنقمة إلى الرفق والرحمة).

كما أصلنا القضية وفصلناها وأعطيناها حقها من المناقشة والمقارنة في كتابنا الكبير – تحت الطبع – (فقه الجهاد).

هل العنف إسلامي؟

الإسلام بريء من تهمة العنف والإرهاب ونريد أن نسأل هنا سؤالا، وهو: هل العنف ظاهرة إسلامية؟

ونقول: إن الإعلام الغربي عامة، والأمريكي خاصة، يوهم العالم أن العنف يحمل الجنسية الإسلامية، وأن الإسلام بعقيدته وشريعته يفرز (العنف)! وأن المسلمين بطبيعتهم الدينية أهل عنف.

وهذا ولا شك تحامل على الإسلام وأمته وقرآنه ونبيه وشريعته.

فالإسلام دين الرقة، وليس دين العنف، ودين الرحمة وليس دين النقمة، ودين اللين والرفق، وليس دين الغلظة والقسوة.

وأشهر أسماء الله عند المسلمين: الرحمن الرحيم، وليس المنتقم الجبار، كما يروج أعداء الإسلام.

واسم (الجبار) ذكر في القرآن مرة واحدة، واسم الرحمن الرحيم افتتحت به – كما نرى في المصحف – 113 مائة وثلاث عشرة سورة، غير ما ذكر داخل السور.

والمسلمون يبدؤون أكلهم وشربهم وسائر أعمالهم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) والمسلمون يرحمون الناس ليرحمهم الرحمن، وبعبارة أخرى: يرحمون من في الأرض ليرحمهم من في السماء.

والعنف الذي وقع من بعض المسلمين، يرجع في كثير منه إلى الغرب ومظالمه المستمرة على أمة الإسلام. ويكفي خلقه إسرائيل من العدم، ومساندته لها منذ قيامها إلى اليوم، وتشجيعها على الظلم والعدوان الدائم على جيرانها.

ومع هذا وجدنا العنف والإرهاب في كل بلاد الدنيا: في الشرق والغرب، في الشكمال والجنوب، في اليابان وفي أمريكا، وفي إسرائيل نفسها، وفي بريطانيا، وفي الهند، وفي غيرها من أقطار العالم.

ولم تتهم البروتستانية بأنها صانعة الإرهاب في أمريكا، ولا الكاثوليكية بأنها صانعة الإرهاب في بريطانيا، ولا اليهودية بأنها صانعة الإرهاب في إسرائيل، ولا الهندوسية أو السيخية بأنها صانعة الإرهاب في الهند، فلماذا يتهم الإسلام وحده بأنه صانع العنف والإرهاب فيما قام به بعض المسلمين من حوادث؟

ربما يكون ذلك صحيحا لو أقرهم المسلمون على ما فعلوه، ولكن العكس هو الصحيح، فالمسلمون عامة، وعلماؤهم خاصة، أنكروا عليهم، ونددوا بما صنعوا وحمّلوهم وزر ما عملوا. ولا تزر وازرة وزر أخرى.

هل العنف يحقق هدفا؟

على أننا لو ناقشنا العنف من غير ناحية شرعيّته، بل من ناحية فائدته وجدواه، اعتمادا على مذهب (المنفعة) أو (البراغماتية) هل نجد العنف أفاد أصحابه؟ هل حققوا به أهدافهم النهائية أو المرحلية؟ هل جُنيت من ورائه ثمرة للصحوة الإسلامية، أو للدعوة الإسلامية، أو للأمة الإسلامية؟ والجواب بالنفي قطعا.

استباح أصحاب الفكر التكفيري دم الشيخ الذهبي فالواقع الذي عايشناه يقول: إن العنف لم يغير حكومة، ولم يسقط نظاما، كما أراد أصحابه. ولم نر الاغتيال السياسي، أو القتل العشوائي، أو العمل التخريبي: غير شيئا في الأنظمة القائمة، التي أراد دعاة العنف ومستخدموه أن يغيروها، بل زادت الأنظمة تجبرا وتفرعُنا وعتوّا.

والاغتيال السياسي الذي نجحوا في بعض محاولاته، لم يغير شيئا في واقع الأمر، كل ما حدث أن ذهب حاكم، وجاء حاكم آخر، والوضع كما هو، بل ربما كان أشد وأقسى مما قبله، حتى أصبح البيت الذي يتغنى به الكثيرون قول الشاعر:

رب يوم بكيت منه، فلما صرت في غيره بكيت عليه!

أو كما قال الشاعر الآخر:

دعوت على عمرو، فمات، فسرّني فلما بلوت الغير نُحت على عمرو!

ثم إن الذي يمارس العنف، لا يستطيع أن يستمر فيه أبدا الدهر. إنه يمارسه مدة تقصر أو تطول، ثم يتعب وييئس ويلقي سلاحه، ولم يجن من عنفه إلا ما سفك من دماء، وما دمر من ممتلكات، وما أضاع من جهود وأوقات، كلها جزء من العمر النفيس.

ولذا رأينا جماعات العنف في العالم بعد مدة من الزمن تحيل نفسها على (التقاعد).

فقه التغيير

وأريد لهؤلاء المتسرعين السطحيين من هواة العنف – الذين يريدون تغيير المجتمعات بالقنبلة والرشاش – أن يعرفوا أن للتغيير (فقها) يجب أن يطلعوا عليه. وأن التغيير المنشود الذي تنتقل به الأمم من الفساد إلى الصلاح، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الضعف إلى القوة، لا يتم بالانقلاب ولا بالسلاح. إن له سننا ثابتة لا بد أن ترعى، فهو لا يتم إلا بتغيير الإنسان من داخله، أي من عقله وضميره، وهذا يحتاج إلى منهج بعيد المدى، طويل النفس، واضح الأهداف، محدد المراحل، بيّن الطريق. ومحوره تغيير الأنفس أو – على حد تعبير القرآن – تغيير ما بالأنفس، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع العرب: غير ما بأنفسهم، فغيّر الله ما بهم. غيّر معتقداتهم ومفاهيمهم وأفكارهم وقيمهم، واهتماماتهم، وأهداف حياتهم، فأنشأهم خلقا آخر، وأصبح عربيّ الإسلام غير عربيّ الجاهلية، في أهدافه وأخلاقه وسلوكه وعلاقاته. وبهذا انتقلوا من رعاة للغنم إلى رعاة للأمم، وأخرجوا الناس من عبادة الأشياء والأشخاص، إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان والفلسفات إلى عدل الإسلام، ووسطية الإسلام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وأخرج الله بهم الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، الصراط الذي هدى إليه رسول الله، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:52-53].

طالع في الحلقة القادمة:

مقارنة بين عهدي عبد الناصر والسادات

[1]- رواه مسلم في الإيمان (49)، وأحمد في المسند (11150)، وأبو داود في الصلاة (1140)، والترمذي في الفتن (2172)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5008)، وابن ماجه الفتن (4012) عن أبي سعيد.