الانتخابات البلديّـة والاختياريّة: عدم المشاركة لجاهليّة المجتمع.. مخالفة وطنيّة وشرعيّة
بقلم: الشيخ د. محمد خير فرج
نلحظ في مناخ الاستحقاق البلدي والاختياري تنوع النظرة الشرعية عند حاملي الفكر الإسلامي، ونجد بالمقابل تباين الرؤية الوطنية عند العاملين في الحقل الاجتماعي، ونرى التنافر الحاد بين بطون العائلات عند الساعين الى زعامة القبيلة العربية اللبنانية، ونواكب مسيرة الانقسام الشعبي عند أتباع أهل الحكم والسلطة، فالولاء والبراء منطلقهما لا يخرج من اطار المصلحة الذاتية لمن يعمل في حساب هذا السياسي أو ذاك، علماً بأنّ المواطن هو الذي أنجب وأوصل الساسة الى مواقعهم، فهل يعقل أن يتبع الأب ابنه؟ أم أن الابن يسلك مسار أبيه ويسعى الى تطويره؟
وتأخذ مسألة المشاركة في الانتخابات من الناحية العملية أو القولية حيزاً مهماً في المعالجة على مائدة الحوار اليومية المبنية أعمدتها من المصلحة الشرعية والوطنية، والمؤلف طعامها المتنوع من تحقيق مقاصد الشريعة في المجتمع.
لكن عدداً من أبناء هذا المجتمع تصيبهم الحيرة الذهنية وينتابهم الاضطراب النفسي عندما يسمعون رمزاً دينياً ووطنياً يكيل بمكيالين، تراه بداية يتحدث عن مقاصد الشريعة والوطن، ثم ينتقل الى جزئيات الأسلوب االموصلة الى خدمة فكرة الحق ومصلحة المجتمع، فتتكون صورة مظلمة وغير صحيحة عند عامة أبناء الأمة والوطن في أن التلاقي بين العاملين في الحقل الإسلامي مستحيل، لأن أسس المنهج الذي يرتكز كل منهما عليها مختلفة من حيث الجوهر.
وهذا الأسلوب في معالجة القضايا الكبرى ينزل بالمجتمع الى حضيض الذهنية التشاؤمية من كل متحدث باسم الدعوة حتى ولو كان يلبس عمّة أو عباءة، وبالتالي يحكم بعض أبناء المجتمع على عصرهم بأنه عصر فتنة أو أن المرحلة التي نمر فيها هي مرحلة فساد وجاهلية، ويرى أن الحكم الشرعي والمصلحة الوطنية والعائلية والأخوية يوصلان إلى قناعة راسخة هي اعتزال المشاركة بالانتخابات، بل بتبليغ الدعوة لضمان حسن العلاقة مع المجتمع، وعدم الخوض في ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بداية، نقول إن مشكلة العلماء اليوم أنهم يخلطون بين كليات الشريعة وجزئياتها، وعلينا أن نصحح آلية التفكير التي ائتمننا الله عليها لأنها المسؤولة عن متابعة المسيرة في حفظ البشرية من التخبط والتقهقر، فإن كل مسلم لا يمتلك حيوية التفاعل مع واقع الحياة فكرياً واجتماعياً وإنسانياً لا يمكن أن نحكم من خلاله على الإسلام بقصوره في مواكبة الإنسان لرحلته الحياتية، لأن الإسلام هو منهج حياة، لكن المشكلة تكمن في إدراكنا له.
والجدير بالذكر أن الصحوة الإسلامية والعلماء المبرزين تجاوزوا كل المعوقات الجزئية الحائلة دون إشراقة المشروع الإسلامي والوطني، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابيَّين اللذين قرأ كل منهما أمامه بقراءة مختلفة عن الآخر لإحدى آيات القرآن: «كلاكما محسن»، لأن الهدف هو تحقيق معنى القراءة ضمن الاطار العام للضوابط الموصلة لها، فترك المشاركة في الاستحقاق البلدي والاختياري على أساس جاهلية المجتمع نتيجة الاضطراب الذهني والنفسي، نجدها مخالفة للشرع ولمصلحة الوطن من عدة وجوه:
- 1- أن الجاهلية العامة لكل أبناء المجتمع كانت قبل الإسلام، لكن بعد أن بلَّغ الرسول الرسالة وأدى الأمانة وختمت الرسالات السماوية به عليه الصلاة والسلام لا بدّ من استمرارية انتشارها بعد ذلك، ولن تكون إلا برجال صادقين يحملونها، وقد تعهد الله بحفظ الشريعة عندما قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وبيّن رسول الله صفة حملة الرسالة بأنهم يسيرون مع منهج الحق أينما اتجه الى قيام الساعة، حيث قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة»، أي وجود طائفة الحق مستمر الى قيام الساعة، والمعرِض عن نصرة دين الحق والمصلحة العامة للمجتمع متخلف عن اللحاق بركب الطائفة الباقية حتى نهاية الإنسانية من على وجه الأرض، وبالتالي فهو بذاته قد اتصف بصفات الجاهلية وليس المجتمع، لأنه رضي بإيصال رجال لموقع المسؤولية لا يحملون الإسلام مشروع حياة والوطن دولة مؤسسات.
- 2- أنه خلط بين المفهوم العام والخاص لمسألة تجهيل المجتمع، حيث يتعلل البعض بكتاب (جاهلية القرن العشرين) لأحد رموز الصحوة الإسلامية، لكن غاب عن أذهاننا التفريق بين الحكم على المجتمع من خلال السلطة والحكم عليه من خلال أبنائه، والفرق بين الحكمين كبير، والصواب في تجهيل المجتمع أن لا نحكم على فساد كل أبنائه فرداً فرداً، بينما إذا حكمنا على غالبيته لا نكون قد خالفنا مضمون الحديث النبوي السالف الذكر، ولا ننسى التفريق بين فساد المسؤولين وسلامة فطرة المحكومين، وبين فساد المتزعمين والمتسلطين على منافذ المجتمعات بحجة مصلحة القرية أو المدينة أو المؤسسة أو لأنه مسموع الكلمة عند بعض السياسيين أو لامتلاكه لمال وفير مما يستوجب تسليمه الراية، وبين عامة المجتمع الذين لا حول لهم ولا قوة.
- 3- المزج بين العزلة عن الكافرين والعزلة أيام الفتن، وبين العزلة عن المسلمين بسبب ضعف التزامهم أوبسبب عصاتهم بالكلية، فالعزلة الواجبة هي عند الفتن وطغيان أهل الكفر، لأنها سنّة الأنبياء وعصمة الأولياء وسيرة الحكماء كما يقول الإمام الخطابي في كتابه «العزلة»، ومحور الأحاديث التي تحث على اعتزال المجتمع أثناء الفتنة تتحدث عن الذي لا يأمن على دينه بالحفظ والصون، منها على سبيل المثال ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شعب الجبال ومواقع القَطر،، يفرّ بدينه من الفتن».
- والفرار بالدين لا يكون جرَّاء تشويش على الدعوة والمجتمع من أبناء المصلحة الذاتية والزعامية والوجاهية، ولنا بابن مسعود خير قدوة في صبره وتحمله لأيذاء صناديد وزعماء قريش المتمسكين بمنهج الباطل آنذاك حال الكثيرين من المبرّزين في مجتمعاتنا اليوم، ولا أظن أننا وصلنا في عصرنا الذي نعيش بمستوى ايذاء الصحابة وإثارة اللغط على دعاة الحق وحملة المشروع الإسلامي والوطني.
- 4- أن لبنان بني على الحرية، وتطوير بنيانه لن يكون إلا لمن ملك خبرة حياتية، والخبرة لا تتوفر بالفرد إن لم يشارك أو لم يدل رأياً في أي استحقاق وطني أو مصلحة شرعية، مما ينتفي مفهوم التجديد والتطوير لربوع الوطن، فنحكم بأنفسنا على مجتمعاتنا بالتخاذل والتخلف، لأننا تركنا أصحاب المآرب الذاتية يتحكمون بمصير الوطن دون محاسبة ومراقبة، لأنهم هم الحكماء والقضاة في آن.
وأن الحرية المعتمدة في الدستور اللبناني هي ثمرة الإجلال لله تعالى من المواطن اللبناني، ومن مضامين الإجلال لله أن ننصر ونؤيد ونوصل لزي مفصل اجتماعي صاحب العقيدة والمتمسك بالمبادئ الوطنية، وإلا استبدلنا الله يقوم آخرين، لأننا لسنا من أهل الفضيلة وحماية منهج الحق إذ قال: {وإن تتولَّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}، وعدم المشاركة يعني ضعف الحس الوطني عند الفرد وزوال الحس الإيماني عند المواطن، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.
وذلك أضعف الإيمان» وفي رواية: «ليس بعد ذلك ذرة من الإيمان»، والمنكر يمكن أن يكون اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، كما هو شرعي يتناول استباحة واجبات الإسلام على أساس الهوى والمصلحة الذاتية، لذلك يجب ألا تكون عدم المشاركة مبنية على اجتهاد شخصي وطني، بل يجب أن تبنى على أساس قطعي واضح وجماعي، فإذا رأت الجماعة المشاركة أو عدمها فالالتزام بأحد الخيارين ساعتئذ يكون لمصلحة المجتمع وللحفاظ على منهج الحق.
ولنعلم أن التعريض بذوي المرشحين لإضعاف حضورهم الانتخابي هو عين بقايا الجاهلية التي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محوها من ذاكرة المجتمع، بعدما عيَّر أبو ذرّ أحد إخوانه بأمه «السوداء البشرة»، يا ابن السوداء، فقال له: «إنك امرؤ فيك جاهلية» لأنه «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» ولأنهم «أرحامنا» إن كانوا من الأموات، فقد أفضوا الى ما قدّموا.
ولذا: فلنحرص على صفاء السريرة وحسن السيرة وعدم الظن السّيئ وكذا الشائعات المسيئة لكرامات الأحياء قبل الأموات، ولنتنافس بأخوة صادقة، بعيداً عن التحارب والتباغض العائلي المتوارث. لنقم مجتمع العدل والحب والتعاون بأمانة وخبرة علمية وعملية، بكل المعاني الإسلامية والوطنية والإنسانية.
المصدر
- مقال:الانتخابات البلديّـة والاختياريّة: عدم المشاركة لجاهليّة المجتمع.. مخالفة وطنيّة وشرعيّةموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان