الاثنين الدامي: عار على أصحابه
بقلم : معتصم حمادة
.. وكما دعونا، في 18/11/1994 إلى معاقبة الذين ارتكبوا مجزرة مسجد فلسطين، في زمن سلطة الحكم الذاتي، حين فتحت الشرطة النار على المصلين، ندعو الآن إلى معاقبة الذين ارتكبوا مجزرة الاثنين الدامي، حين فتحوا النار على المحتشدين في مهرجان الوفاء للرئيس عرفات ولمنظمة التحرير الفلسطينية.
ذهل الرأي العام وهو يتابع ما جرى في غزة يوم 12/11/2007، حيث ارتكبت حماس مجزرة أوقعت في صفوف المواطنين سبعة قتلى وحوالي مئتي جريح، وهم يغادرون ساحة الكتيبة بعد أن فرغوا من إحياء الذكرى الثالثة لرحيل الرئيس الشهيد ياسر عرفات.
كما ذهل الرأي العام ـ أكثر وأكثر ـ وهو يتابع تصريحات قادة حماس، فيبررون ما جرى، ويحملون الضحايا من قتلى وجرحى، كما يحملون الجماهير، مسؤولية وقوع المجزرة، ويدعون أن المحتشدين في المهرجان استفزوا مسلحي حماس مما اضطرهم للرد على الاستفزاز بإطلاق النار.
كذلك ذهل الرأي العام وهو يتابع قادة حماس، يصفون مهرجان إحياء ذكرى الرئيس الشهيد بأنه تجمع للغوغاء، كان هدفه العودة بالقطاع إلى زمن الفلتان الأمني.
كما دعت بعض التصريحات (كتصريحات الزهار) إلى حظر مثل هذه المهرجانات مستقبلاً. وإلى الحجر على حريات الناس. وإلى منعهم من التعبير عن آرائهم.
وكل ذلك بذريعة الأمن والاستقرار.
في 18/11/1994 ارتكبت الشرطة التابعة (آنذاك لما كان يسمى) سلطة الحكم الذاتي في قطاع غزة، مجزرة ضد المصلين في مسجدفلسطين، أوقعت 16 قتيلاً وحوالي مئتي جريح.
وكتبنا على صفحات هذه المجلة، ندين الجريمة، والقتلة والسلطة. وفي عودة إلى ما كتبناه نستطيع أن نقرأ العناوين التالية:
@ «حتى لا ينجحوا في تحويل المجزرة إلى حرب أهلية: تحميل السلطة المسؤولية، وكشف مرتكبي الجريمة أولاً وقبل كل شيء».
@ «إصرار على كشف الفاعلين ومحاسبتهم وإدانتهم وإدانة السلطة ودعوة عناصر الشرطة للتمرد على أوامرها».
@ «الجمعة الدامي في غزة ليس فصلاً من الحرب الأهلية، بل مواجهة بين الشعب وبين السلطة وأجهزة قمعها».
@ «إجماع على تحميل السلطة كامل المسؤولية وإصرار على معاقبة المخططين والمنفذين».
وعندما صرح بعض قادة السلطة محملين الضحايا مسؤولية وقوع المجزرة، وصفنا هذه التصريحات بأنها «فاشية».
وكتبنا نقول: «السلاح لمواجهة الاحتلال. وخائن من يطلق النار على الشعب».
كذلك كتبنا نقول «لا مغفرة فإنهم يحاولون أن يرسخوا النهج الدموي أساساً للعلاقات الفلسطينية بديلاً للحوار والتوافق والوحدة الداخلية».
ولعلنا، في هذه المرة، لا نجد كلاماً مغايراً نكتبه أو نقوله تعليقاً منا على المجزرة، بل يحز في النفوس وقوع مفارقة كبرى بين المجزرتين.
ففي مواجهة مجزرة العام 1994 تصاعدت أصوات من داخل فتح، تدعو إلى فتح التحقيق لكشف ملابسات وقوع المجزرة، ومعرفة من أصدر الأوامر بإطلاق النار، وإحالتهم إلى القضاء.
وكان إجماع واضح وصريح على تحريم سفك الدم الفلسطيني، وإجماع واضح على عدم استعمال السلاح الفلسطيني في الخلافات السياسية.
علماً أن الخلافات كانت في ذلك الوقت أكثر تعقيداً مما هي عليه الآن، في ظل الانقلاب السياسي الذي نظمته قيادة م. ت. ف. ضد البرنامج الوطني، والتحاقها ببرنامج أوسلو وملحقاته.
أما الآن، فلا نسمع إلا نغمة واحدة، وتصريحاً واحداً على لسان قيادات حماس.
بل إن بعضهم انتقد ميليشيا حماس لأنها لم تحصد من الجماهير أكثر مما حصدت، ولأنها اكتفت بهذا العدد من القتلى والجرحى.
فقد كان يطمح هذا «البعض» إلى تلقين الناس درساً في الدم والموت، حتى لا يتجرأوا بعد الآن على الخروج إلى الشارع من الموقع المعارض ل حركة حماس ولسلطتها الانقلابية.
والأمن والاستقرار الذي يطمح إليه هذا «البعض» ليس هو الاستقرار القائم على التوافق والتفاهم والذي يوفر للناس حرية التعبير عن الرأي، وحرية التجمع، بل هو استقرار الأموات ليس إلا، أي «الاستقرار» المتولد من القمع والقهر والاعتقال والقتل.
وما شاهدناه من أعمال إطلاق نار على الناس العزل ومطاردتهم بالقنابل المسيلة للدموع، ومحاصرتهم في الزوايا، ومعاملتهم بقسوة عبر تكسير عظامهم بالهراوات، سوف يشكل ذريعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي لتواصل هي الأخرى العمليات العدوانية ذاتها.
فإذا كانت مثل هذه المعاملة مبررة في عيون حماس ومسموح لميليشياتها أن تمارسها فلابد أن تكون مبررة في عيون العدو ومسموح لقواته أن تمارسها .
وبرأينا، إن ما ارتكبته حماس من جرائم يوم الاثنين الدموي، وما أدلت به من تصريحات تبرر الجريمة وتدين القتيل والضحية، لا تعبر فقط عن فكر فاشي يتحكم بعقول قادتها سياسيين وعسكريين فحسب، بل تدلل على ما هو أبعد من ذلك:
@ فحماس باتت تدعو علناً إلى الانقسام، وإلى الاقتتال، وباتت تنظر للحرب الأهلية الفلسطينية كوسيلة وحيدة لحسم الخلافات.
وليس أدل على ذلك من تصريحات محمود الزهار يوم الجمعة في 9/11/2007 حين «تعهد بالسيطرة» على الضفة الفلسطينية حين ينسحب منها الاحتلال، كما كان قد «سيطر» على قطاع غزة.
والسيطرة التي يقصدها الزهار، ليست تلك المعتمدة على صندوق الاقتراع وعبر آليات تطبيق الديمقراطية، بل هي السيطرة الدموية التي تستعيد أحداث 14/6/2007، وتكررها حيث هناك خلافات سياسية.
وليس أدل على ذلك أيضاً من تصريحات نزار الريان الذي «تعهد» هو أيضاً أن يصلي في المقاطعة في رام الله (بعد أن يطرد منها الرئيس أبو مازن ومن معه) كما صلى في مقر رئيس السلطة في مدينة غزة.
وحين تعهد بأن يستولي على سلاح «الزندقة والكفر والعلمانية في رام الله»، كما استولى على سلاح «الزندقة والكفر والعلمانية في غزة».
أما الدعوات إلى الحوار الوطني لوضع حد للانقسام.
وفي ظل شروط حماس الخاصة (وفي مواجهة شروط محمود عباس فليست إلا ذراً للرماد في العيون. فالواضح والجلي أن الكلام في واد، وأن الممارسات في واد آخر، وهما واديان لا يلتقيان.
وأن الممارسة هي التي تتغلب على الكلام.
@ وحماس، كما يبدو للمراقب الأكثر حيادية، تعيش أكثر من مأزق ـ مأزقها الأول أنها فشلت في السيطرة على قطاع غزة وأنها بدأت تتلمس ضيق ذرع الناس بها وبسلطتها، وتأففهم من دفع الثمن الذي يدفعونها (دون أي مقابل سياسي ذي قيمة) ثمناً لانقلابها العسكري وسيطرتها على القطاع.
مأزقها على الصعيد العربي بعد أن رفضت العواصم العربية المعنية التوسط بينها وبين الرئيس عباس، أو أن تبارك لها انقلابها الدموي.
ومأزقها على الصعيد العالمي، فبعد أن فتحت أمامها أبواب موسكو، عادت وأغلقت بما يشكل خسارة فادحة للحركة.
أما المأزق الأكثر خطورة فهو مأزق علاقاتها الداخلية، والخلافات بين قياداتها، وواضح أنهم يحاولون حل هذه الخلافات بالمزايدات السياسية والتباري في اتخاذ المواقف الأكثر تطرفاً.
ولعل العلاقة بين إسماعيل هنية ومحمود الزهار تشكل «نموذجاً» لمثل هذه الخلافات وتفسر المزايدات فيما بينهما.
@ مما لا شك فيه أن حماس، وهي تعيش مأزقها المركب، تشاهد بأم العين تراجع شعبيتها وتدهورها، وتقدم شعبية منظمة التحرير وفصائلها في القطاع بشكل خاص، وعلى الصعيد الوطني بشكل عام.
تدهور شعبية حماس ليس مجرد استنتاج، أو فبركة إعلامية نلجأ إليها.
بل إن محمود الزهار، الذي يقدم نفسه الرجل الأول (الآن) في غزة لا يتردد في الاعتراف بتراجع شعبية حركته.
ومن موقع المكابرة، يدعوها أن تدرس أسباب هذا التراجع، وكذلك السبل الصحيحة لاستعادة ما خسرته في هذا المجال.
ومهرجان الوفاء للرئيس عرفات، الذي دعت له الفصائل الفلسطينية هو بحق مهرجان الوفاء لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولموقعها التمثيلي للشعب الفلسطيني، بعيداً عن الأشخاص وعن مواقفهم.
فمنظمة التحرير هي عنوان وحدة للشعب، ووحدة قضيته، ووحدة حقوقه. وحين تفشل كل محاولات الالتفاف عليها، أو بناء بدائل عنها، أو التشكيك في مشروعية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وفي وحدانية تمثيلها له ، فليس ذلك تمسكاً بأفراد، أو هيئات، بل هو تمسك بوحدة القضية ووحدة الحقوق، التي يمثلها البرنامج الوطني للمنظمة. وبتقديرنا إن من أسباب إطلاق النار بهذه الوحشية والهمجية، على المحتشدين في مهرجان غزة، هو الحقد على الجماهير التي ترفض الانفكاك من حول المنظمة والانجرار وراء المشاريع الانقلابية والانقسامية، والثبات على الوحدة الوطنية حتى ولو كان ثمن هذا الثبات التصدي للرصاص بالصدور العارية.
عندما ارتكبت شرطة سلطة الحكم الذاتي جريمتها بحق المصلين في مسجد فلسطين في 18/11/1994 (لاحظ تقارب الموعدين ووقوع الحدثين في الشهر نفسه) دعونا إلى التحقيق في أسباب وقوع الجريمة، وإلى كشف المخططين والمنفذين لها، وأسماء الذين أعطوا الأوامر بإطلاق النار، وأسماء الذين تورطوا في ارتكاب هذه الجريمة وسفك دماء الشعب الفلسطيني.
ومع جريمة الاثنين الدامي، ندعو مرة أخرى إلى إحالة القضية إلى القضاء. فلا يصح أن تمر جريمة كهذه دون أن ينال مرتكبوها قصاصهم العادل.
ولعل الإجراء الأول الواجب اتخاذه هو مواصلة الضغط، بلا كلل، وبلا ملل، لوضع حد لحالة الانقسام، ولوضع حد لنتائج الانقلاب الدموي، ولإعادة الشرعية إلى مكانها الطبيعي تمارس دورها الذي من أجله جرى تأسيسها.
وإذا كانت تجربة الشرطة في السلطة الفلسطينية قد فشلت، فلأنها بنيت على أساس فئوي، ولأن ضباطها منحازون إلى فصائلهم، وليس إلى وظائفهم باعتبارهم ضباطاً لكل الشعب.
وإن تجربة «شرطة» حماس فشلت هي الأخرى للسبب نفسه. إن تجربة «شرطة» حماس، الفاشلة تشكل الوجه الآخر، لتجربة شرطة السلطة الفاشلة.
وهذا ما يعيد الاعتبار إلى ما كنا، ومازلنا، ندعو إليه.
أي ضرورة إصلاح أوضاع المؤسسة، لتقوم على الكفاءة، وبما خص الأجهزة الأمنية ضرورة نزع الصفة الحزبية والفصائلية عنها.
ولا يمكن أن يتحقق هذا الأمر إلا عندما تقوم سلطة فلسطينية، مستندة إلى الوحدة الوطنية، تمثيلاً وبرنامجاً.
وهذا ما يجب أن نواصل النضال لأجله حتى لا تتكرر جريمة الاثنين الدامي، وحتى نصون الدم الفلسطيني.
المصدر
- مقال:الاثنين الدامي: عار على أصحابهالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات