الإنتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة النفق)
مقدمة

كان عام (1416هـ = 1996م)عامًا مليئًا بالأحداث التي ساعدت على قيام الهبة الفلسطينية ففي يوم 11 من شعبان 1417هـ = 4 من يناير1996م قامت قوات الاحتلال الصهيوني باغتيال الشهيد "يحيي عياش"- مهندس التفجيرات والمشرف على الإعداد والتخطيط لعمليات السيارات المفخخة التي أثارت رعب الصهاينة-، ولقد حاولت "حماس"التعمية عن وجوده بإثارة إشاعات عن مقتله تارةً أو بسفره للخارج تارةً أخرى، ولكن يشاء الله أن يُستشهد البطل "يحيي عياش"عن طريق استخدام جهاز المخابرات الصهيونية لجهاز محمول مفخخ انفجر في رأس البطل عند استخدامه له, وعمَّت الفرحة "إسرائيل" ابتهاجًا باستشهاد "عياش" الذي طالما حلمت بقتله على مدى أربعة أعوام.
وجاء الرد بعد خمسين يومًا بقيام أحد الأبطال بتفجير نفسه في حافلة على خط (18) في الطريق المؤدي لمقر القيادة العامة للشرطة الصهيونية وجهاز المخابرات الصهيونية "الشاباك" مما أسفر عن مقتل (24) صهيونيًّا من بينهم (13) جنديًّا صهيونيًّا وعدد من ضباط "الشاباك" بالإضافة إلى إصابة أكثر من (50) آخرين بجراح, ثم قام البطل "أحمد حسن" عند محطة سفر الجنود الصهاينة بمدينة "عسقلان" بتفجير نفسه، مما أسفر عن مقتل (3) جنود صهاينة وجرح (10) آخرين، وتوالت العمليات التي قام بها عدد من الأبطال الفلسطينيين لتصيب الصهاينة بالرعب والذعر في كل مكان، حتى كانت الانتفاضة الثانية "انتفاضة النفق".
و"الانتفاضة الثانية" أو "انتفاضة النفق" والتي اعتاد كثير من الأقلام تسميتها "هبَّة النفق"؛ لأن الشعب الفلسطيني قد هَبَّ بكل فئاته في مواجهة الصهاينة المحتلين، فقد انصهر الشعب الفلسطيني في كيان واحد للتصدي لطغيان الصهاينة وممارساتهم الوحشية ضد المواطنين العُزَّل من شيوخ وأطفال ونساء وبدون تفرقة بين كبير وصغير، واستمرارهم في سياسة التجويع والحصار الاقتصادي، واستمرار حبس الأسرى الفلسطينيين, وإصرارهم على عدم الانسحاب من "الخليل" بالإضافة إلى حالة اليأس التي غمرت الشعب الفلسطيني؛ نظرًا للدور العربي الضعيف تجاه القضية الفلسطينية، والتنصل الصهيوني من الاتفاقيات الدولية مثل "أوسلو" برغم إجحافها للجانب الفلسطيني.
ولكن "إسرائيل" تمادت في غرورها واستهانت بكل الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية، بل وصلوا إلى حدِّ الاعتداء على المقدسات الدينية ومحاولة العبث بها.
شرارة الإنتفاضة
في يوم (12 من جمادى الأولى 1417هـ = 25 من سبتمبر 1996م) أقدمت "إسرائيل"على فتح نفق أسفل "المسجد الأقصى"، وحينما اعترض الفلسطينيون الذين استشعروا خطورة فتح هذا النفق على المباني الأثرية في المنطقة المحيطة بالمسجد، واجهتهم "إسرائيل" في اليوم التالي بحشد أكثر من (5000) جندي في تحرش ظاهر لمواجهة اعتراض الفلسطينيين، وإزاء هذا التحرش السافر فقد هبَّ أبناء "فلسطين" للدفاع عن "المسجد الأقصى" فواجههم الصهيونيون بالرصاص، وحدثت مجزرة ضخمة استشهد فيها (10) فلسطينيين وأُصيب نحو (150) آخرون من جرَّاء العنف الصهيوني.
خطورة فتح هذا النفق
هذا النفق عبارة عن مجموعة من المباني القديمة التي يرجع بناؤها إلى عصور سالفة مختلفة, لكنها رُدِمَت تحت الأرض بسبب تهدم المدينة عدة مرات عبر التاريخ, فتتم عملية وصل لتلك المباني من خلال عمل حفر أسفل أساسات المباني القائمة بعرض متر وارتفاع مترين, إلى جانب وجود قناة رومانية قديمة محفورة بالصخر بطول (60 ) مترًا وعرض أقل من متر وارتفاع عدة أمتار، والجزء الأكبر من النفق يقع ضمن مبان قديمة قائمة تم تنظيفها وإزالة التراب منها، وترجع إلى العصرين الأموي والأيوبي, وهذه الأجزاء تقع أسفل كل من "المدرسة التنكزية" التي بنيت عام (729هـ = 1329م) وحوش "محمد الخليلي" و"المدرسة الأشرفية" التي بُنيت عام (887هـ = 1422م) وهي مكتبة "المسجد الأقصى" حاليًّا، وتقع كذلك أسفل "سوق القطانين" و"المدرسة المنجكية" والتي شيدت أيضًا في العهود الإسلامية، وبقية أجزاء النفق عبارة عن حفريات أسفل عقارات مملوكة قائمة في مستوى الأساسات وعلى ارتفاعات مختلفة من سطح الأرض.
أما المباني الأثرية التي تعلو النفق فتشمل كلاً من: "المدرسة الجوهرية" ويرجع إنشاؤها إلى سنة (844هـ = 1440م)، و"المدرسة العثمانية" ويرجع إنشاؤها إلى سنة (840هـ = 1437م)، و"رباط الكرد" الذي يرجع إنشاؤه إلى سنة (693هـ = 1294م)، و"المدرسة المنجكية" ويرجع إنشاؤها إلى سنة (762 هـ = 1361 م)، ويصل طول النفق إلى نحو (450) مترًا أسفل "المسجد الأقصى" والعقارات المحيطة به.
أحداث الانتفاضة
كانت كل الظروف مهيأة لقيام "هبة النفق" خاصةً في ظل حكومة اليمين المتطرف الصهيونية المنتخبة برياسة "بنيامين نيتانياهو"، الذي مارس منذ توليه سلطة رئاسة الوزراء أبشع الوسائل القمعية والردعية ضد الشعب الفلسطيني، وساعد أيضًا على قيام الهبة شعور الفلسطينيين والقيادة الفلسطينية بعدم جدوى المفاوضات السلمية مع الجانب الصهيوني لاستعادة "فلسطين".
وقد اندلعت الانتفاضة في ربوع "فلسطين" عندما قام الصهيونيون في صباح يوم الأربعاء الموافق (12 من جمادى الأولى 1417 هـ = 25 من سبتمبر 1996م)- اليوم الأول للانتفاضة- بفتح باب للنفق الممتد تحت "باب السلسلة" و"باب القطانين" وفتح باب حديدي يؤدي لمدخل يصل "حائط البراق" بباب "الغوانمة" بالمسجد الأقصى الشريف, بعدما فشلت في محاولتين سابقتين كان أولاهما في عام (1406هـ = 1986م) والثانية في عام (1414 هـ = 1994م)، ولكنهما باءتا بالفشل؛ نظرًا لتدخل الأوقاف الإسلامية والحيلولة دون عمليات الحفر, فقد اعتبرت تلك العمليات خطوة تجاه هدم "المسجد الأقصى" ضمن المخطط الصهيوني الرامي إلى تكملة بناء ما يُسمى بحائط المبكى على حساب "المسجد الأقصى" في إطار الأهداف الصهيونية التي لا تتورع "إسرائيل" عن إعلانها، والتي لا يفتأ زعماء الصهاينة والمتطرفين يرددونها بمناسبة وبغير مناسبة حتى تستقر في وعي ووجدان اليهود وتصبح جزءًا من موروثهم العقدي والسياسي.
وعلى إثر عملية النفق هبَّ الشعب الفلسطيني في كل أنحاء فلسطين للدفاع عن "المسجد الأقصى"، فتصدت لهم قوات الاحتلال الصهيونية، وحالت دون وصول أهالي القدس لموقع أعمال الحفر، ودارت المواجهات العنيفة بين الشبان الفلسطينيين مستخدمين الحجارة وقوات الاحتلال بالبنادق الآلية والرصاص المطاطي، وقنابل الغاز والدخان الخانقة، وأطلقت قوات الاحتلال النار عشوائيًا على الفلسطينيين وتدخلت المروحيات وتم إغلاق جميع أبواب ساحة "المسجد الأقصى" كما منع الشبان الذين تقل أعمارهم عن (35) عامًا من الصلاة داخل "المسجد الأقصى" واعتقلت قوات الاحتلال (11) فلسطينيًّا خلال وقت الظهيرة, ثم اعتقل بعد ذلك نحو (30) فلسطينيًّا.
وفي "رام الله" حاولت قوات الاحتلال دخول المدينة إلا أن بسالة قوات الأمن الوطني حالت دون دخولهم، فاستخدمت القوات الصهيونية طائرات الكوبرا المروحية في إطلاق النيران على الفلسطينيين مما أدَّى إلى سقوط (25) جريحًا.
وفي "الخليل" سارت المظاهرات الفلسطينية في شارع "الشلالة" وأصيب العشرات وتم اعتقال (20) فلسطينيًّا.
وفي "رام الله" استشهد (5) فلسطينيين إثر مصادمات مع العدو الصهيوني، كما دارت المواجهات في كل من "طولكرم" و"جنين" و"أريحا" و"قلقيلية" وكل المدن الفلسطينية.
وتواصلت المواجهات في اليوم الثاني من أيام الانتفاضة لتشمل مختلف المدن الفلسطينية ففي "القدس" حشدت "إسرائيل" أكثر من (5000 ) جندى صهيوني مما أدَّى لحدوث مجزرة سقط فيها (10) شهداء كان من بينهم "فيصل الحسيني".
أما في "نابلس" فقد استسلم(41) جنديًّا صهيونيا لقوات الأمن الفلسطيني عند "قبر النبي يوسف"، وتحولت كل من "رام الله" و"الخليل" و"بيت لحم" إلى ساحات حرب مع جنود الاحتلال.
وانطلقت المسيرات الطلابية التي نظمها طلبة المدارس في "قطاع غزة"، وظلت تطوف شوارع المدينة، معبرةً عن الغضب الفلسطيني وسخط الجماهير.
وفي ثالث أيام الانتفاضة توالت المجازر حيث سقط (3) شهداء وأُصيب (150) شابًا فلسطينيًّا.
ولم تبخل أي من المدن الفلسطينية على "فلسطين" بأرواح أبنائها ففي "دير البلح" بالقرب من مستوطنة" كفار داروم "سقط (7) شهداء، وأُصيب (60) جريحًا.
وفي جنوب "غزة" بالقرب من مستوطنة "نتساريم" سقط (8) فلسطينيًّا، وأُصيب (75) آخرون.
وانطلقت المسيرات الطلابية في مخيم "جباليا" إلى حاجز "بيت حانون" مما أدَّى إلى استشهاد (7) فلسطينيين وإصابة (104) آخرين.
وفي "خان يونس" قامت المسيرات الطلابية بالتجمع في "حي الأمل" وتوجهوا بالقرب من مستوطنة "جاني طال"، وتدخل أفراد الشرطة الفلسطينية لحماية الفلسطينيين، لكن مع تصاعد المواجهات واستخدام "إسرائيل" قنابل الغاز والأعيرة المطاطية والرصاص الحي ومطاردة القوات الصهيونية جموع المتظاهرين بمروحيات الكوبرا الحربية سقط (5) شهداء و(115) جريحًا.
وتصاعدت المواجهات في"رفح" عند الحدود المصرية، وكان للطلبة دور كبير في الانتفاضة فأُصيب طالبان وطالبتان، كما أُصيب شرطي فلسطيني، وشهد يوم الجمعة يوم الموافق (14 من جمادى الأولى 1417 هـ = 27 من سبتمبر 1996م) مواجهات دامية أسفرت عن إصابة 48 شخصًا.
ومرت أيام الانتفاضة الثلاثة، ولكنها تركت رسالة واضحة لقادة "إسرائيل" وشعبها أن الشعب الفلسطيني لن يفرط في حقه أبدًا، ولن يترك وطنه لهم، وأنه من السهل على أي فلسطيني أن يبذل حياته فداءً لأرضه ووطنه ومقدساته.