الإخوان والسلفية المحتسبة (الجهيمانية) والطريق إلى داعش (الحلقة الأولي)
محتويات
مقدمة
تتعدد الاتجاهات الإسلامية داخل المشهد السياسي برؤى ومذاهب فكرية مختلفة، كما تتعدد الحركات الإسلامية حيث يطلق عليها هذا المسمى لكونها تنهج منهج المعارضة للأنظمة المستبدة بخلاف بعض الكيانات الإسلامية كالصوفية أو الأحزاب الإسلامية التي لا يطلق عليها هذا المسمى.
إن أبرز السمات المميزة لهذه الحركات هي حداثتها فهي حركات نشأت في كنف الحداثة واستجابة لتحدياتها، وهي أيضا إسلامية بمعنى أنها اختارت استجابةً لتحديات الحداثة المرجعية الإسلامية، ولا تنطلق مثل غيرها من منطق الفعالية المجردة، ولا تستند إلى قيم وأيديولوجيات أخرى تتعارض مع هذه المرجعية، أو تعتمد مرجعية من خارجها.
لقد فرضت البيئة في أحيانا كثيرة الوضع على هذه الحركات من حيث أيديولوجيتها التي تتبناها كل حركة وتعمل في إطارها، وتختلف الأهداف والوسائل التي تنتهجها كل حركة عن الأخرى للوصول لأهدافها، وأحيانا يحدث صدام بين الحركات بعضها البعض، أو ربما يكون بينهم قواسم مشتركة.
بين الوسطية والتطرف
لا شك أنّ دين الإسلام دين توسّط واعتدال، لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وشريعته خاتمة الديانات والشرائع السماوية، التي أنزلها الله على الناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها. والوسطية يقصد بها الاعتدال في كلّ أمور الحياة ومنهاجها وتصوراتها ومواقفها، فطبيعة الإسلام الشمولية والوسطية في كل مناحي الحياة.
ولذا يقال أن الوسط يشترطُ له أن يكون مكنوفًا بطرفيه، وليس مُنفصلاً عنهما، لطبيعة العلاقة التجاذبيَّة بين الوسط وطرفيه؛ فالوسط شيء عزيز، يحتاج إلى جهد، وفقه، وعلم، وصبر، حتى ينتزع من طرفيه، ويسلَّ من متشابهاته، وفي ذلك من المعاناة والجَلَد والاصطبار ما يرتقي بصاحبه إلى ما يُمكن أن نسمِّيَه بـ "مقام الوسطية". (1)
وعلى هذا الأساس دعت مبادئ الإسلام إلى نبذ التطرف في العقيدة والمغالاة في العبادات التي ربما تؤدي إلى نتائج سلبية على الفرد والجماعة، إلا أن الملاحظ أن هناك تيارات من ذوي الفكر المتطرف تكون الركيزة الأساسية لأفكارهم هو تأكيد أنهم أصحاب الفكر الصحيح والتطبيق السليم لأحكام الدين، وإن غيرهم هو صاحب عقيدة فاسدة.ولقد أدى انتشار هذا الفكر إلى قيام أعداد كبيرة من الشباب بالانضمام لتلك الجماعات والتي وجدت فيها ضالتها المنشودة في الرغبة في إثبات الذات والتغيير ولو بالقوة، وقد نتج عن هذا الفهم الخاطئ لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف إلى ظهور أجيال تتسم بالتطرف الديني والغلو والإرهاب. (2)
يقول الدكتور محمد ويلالي:
- مصطلح الوسطيَّة الذي لا يزيد عمره عن 20 سنة، أصبح صهوة يركبها المختلفون، المتضاربون، المتناقضون، كلٌّ يدعي أنه على نهجها، وأنه أحق بها، وغيره على الضَّلال، حتَّى صار سمتنا وظاهرنا يوحيان للآخر بالبُعد عن الهدْي الحق، الذي علَّمَنَاه رسول البشرية - صلى الله عليه وسلم - وتشرَّبه صحابته الكرام، وصار مصطلح الوسطيَّة يحتاج إلى تخصيص؛
- كقولهم: الوسطيَّة "المبصرة"، ربَّما في مُقابلة الوسطية "العمياء" أو "المتطرفة"؛ وهذا ما دَفَعَ ببعض المعاصرين إلى أن يستنكف عن استعمال هذا المصطلح، ويراه جناية جديدة على أمَّة الإسلام، مُكتفيًا بلفظ الإسلام والإيمان، وأهل السنة، وجماعة المسلمين، فأصبحنا بهذا نحتاج إلى وسطيَّة في استعمال لفظ الوسطية.
- ولغياب المعنى الصَّحيح للوسطيَّة، عاد الناس بين مُفْرِط ومُفَرِّط، بين غالٍ وجافٍ، وبين هذا وذاك ضاعت معالم الدِّين، وفُقد التنْزيل الحقيقي لنصوص الشرع على الواقع، فطفا على السطح الخوارج الجدد، والمعتزلة الجدد، والشيعة الجدد، والمرجئة الجدد، والمُحَرِّمة الجدد، في ثوب من العقلانيَّة جديد، كل هؤلاء الوسطيين الجدد، يزعمون الوسطيَّة في الفكر، والاتِّزان في الاعتقاد، وربَّما كل ينسب إلى نفسه، أنَّه من الذين وهبهم الله لهذه الأمَّة؛ لنفي تحريف الغالين، وتأويل المبطلين. (3)
لقد رأينا كثير من الحركات من لوت الحقائق والمفاهيم والمصطلحات في الإسلام وطوعتها وفق أهوائها ومعتقداتها، ومنها لفظ الحاكمية. إن الحاكمية في المعنى التشريعي والتي تعني أن الله تعالى هو الذي يشرع لخلقه ويأمرهم وينهاهم، ويحلل لهم الحلال ويحرم عليهم الحرام هو ما عليه إجماع الأمة "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم" (يوسف: 40). وكل كتب أصول الفقه تبحث هذه القضية عند البحث في مواضيع الحكم والحاكم والمحكوم به.
وفي هذا يقول الإمام الغزالي في
- "المستصفى من علم الأصول"، "في البحث عن الحاكم يتبين أن (لا حكم إلا لله) وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك، حكم الله تعالى ووضعه لا حكم غيره". (4)
وقد حدث في تاريخ الفكر الإسلامي إشكالية كبيرة حول هذا المفهوم فمنذ القرن الأول الهجري قال الخوارج كلمتهم المشهورة "لا حكم إلا لله" وكان رد الإمام علي رضي اله عنه بليغاً حين قال: " كلمة حق يراد بها باطل! نعم، لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله! ولا بدّ للناس من أمير بر أو فاجر".
ويعرفها الشيخ يوسف القرضاوي بقوله:
- هي الحاكمية العليا والمطلقة التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، فهي من دلائل وحدانية الألوهية، وهذه الحاكمية لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الديني المحض كالتشريع في أمر العبادات، والتشريع في أمر الحلال والحرام، والتشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة، أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم. (5)
وقد كان أبو الأعلى المودودي وسيد قطب – رحمهما الله – أكثر من ركزّ في العصر الحديث على هذا المفهوم، وقد كان لهما أسبابهما الموضوعية في شدة التركيز على ذلك، ذلك أن التخوف كان مبرراً في ذلك الوقت من أن تُغيّب هذه الفكرة، ولكن أقواماً حمَّلوا أفكار المودودي وقطب أكثر مما تحتمل أو أخذوها معزولة عن سياقها، فحكموا بعدم جواز إعطاء أي صفة تشريعية للناس.
وقضية التكفير من أخطر القضايا المعروضة على الأمة في الوقت الراهن، ولقد منع الإسلام تكفير المسلم، واستند إلى عدد من النصوص الشرعية، من بينها حديث الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والذي يقول فيه: "إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" (رواه مسلم).
الإخوان المسلمون وقضية التكفير
وضح منذ اللحظات الأولى لنشأة جماعة الإخوان المسلمين انتهاجها المنهج الإسلامي الوسطي سواء في فكرها الديني أو السياسي حيث يتمتع بمرونة كبيرة واعتدال ووسطية.
فقد ذكر حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان (إسلام الإخوان المسلمين)
- "أن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف".
وذكر أيضاً
- "أن فكرة الإخوان المسلمين نتيجة الفهم العام الشامل للإسلام، قد شملت كل نواحي الإصلاح في الأمة، فهي دعوة سلفية، وطريقة سُنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية". (6)
ولقد كان حسن البنا صريحا في هذا الأمر حينما أقر في الأصل العشرين من ركن الفهم:
- لا نكفر مسلما -أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض - برأي أو بمعصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر. (7)
لقد عالج الإمام البنا قضية تكفير المسلم – والتي استشرت في السنوات الأخيرة حتى صار المسلم يكفّر أخاه لأبسط الأمور.. وقامت أحزاب وجماعات تتبنى مثل هذا الفكر المتطرف الذي لم يترك لمسلم حرمة ولا لمؤمن عصمة.
يقول الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز:
- يظن بعض الناس - خاصة الشباب منهم - أن الحكم على إنسان بالكفر أو الإسلام في حياته إنما ينصرف إلى آخرته، وهذا فهم خاطئ. فالحكم بإسلام المرء أو كفره في الدنيا لا شأن له بما يؤول إليه مصيره في الآخرة، إنما هذا الحكم يتصل بدنياه ولا شأن له بآخرته، فنحن نحكم عليه لنجري عليه أحكام الإسلام في مجتمع المسلمين فإن كان مسلما فله ما لنا وعليه ما علينا، وإن كانت الأخرى فلا يُصلى عليه إن مات ولا يورث ولا يدفن في مدافن المسلمين وتنزع منه الولاية والنصرة إلى غير ذلك من الأحكام. (8)
وحينما ظهر فكر التكفير وسط المعتقلين الذين آلمهم التعذيب الرهيب أطلق شكري مصطفى صيحة تكفير الحاكم والمجتمع، متعللا بما كتبه سيد قطب، إلا أن مرشد الإخوان حسن الهضيبي وقف لهذا الأمر بشدة وألف كتاب دعاة لا قضاة.
يقول الدكتور عبد الحليم خفاجي:
- لم يستطع فريق من الشباب أن يروا صلة تربط بين ظلمة قلوب هذه الوحوش الضارية وبين صحة انتسابها للإسلام في إنسانيته المشرقة بالنور، فجرت من بعضهم أحكام تلصق الكفر بهؤلاء الظلمة من الحكام هم والمشاركين والساكتين عن الحق من مجموع هذه الأمة .. وأخذوا يسيئون فهم ما ورد في كتب الشهيد سيد قطب لتدعيم موقفهم ، وحملنا الأخ إبراهيم الطناني المرحل إلي سجن طره للعلاج رسائل للأستاذ سيد بتفاصيل تفكير وسلوك هؤلاء الإخوة ، فأرسل منكراً عليهم ذلك قائلاً : إنهم قد فهموني خطأ. وفي مرة ثانية قال غاضبًا : لقد وضعت حملي علي حصان أعرج. (9)
ويقول الأستاذ عباس السيسي:
- لم تكد تستقر بنا الحياة في هدوء ووئام بين دعوات للشاي والطعام وخاصة طعام الكشري – حتى ظهرت على سطح هذا الجو اللطيف - مظاهر خلافات الشباب الجديد لهم بعض الأفكار المخالفة لفكر الإخوان القدامي (في الحكم على عقيدة الحاكم) ويستنبطون من فقه بعض العلماء ما يؤيدون به اتجاههم - وقد شابههم من الإخوة القدامي واحد فقط ..
- وقد حاول فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد شريت وهو كبير وعاظ أسيوط وعضو مكتب الإرشاد العام وكذلك الأخ اللواء صلاح شادي رحمهما الله أن يناقشوا معهم هذه القضية على ضوء فكر الإخوان المسلمين في رسائل الإمام حسن البنا – وما جاء في بيانات الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام التي كانت ترد إلينا تباعا من محبسه في مستشفي سجن مزرعة طره – والتي صدر بها بعد ذلك كتابه المشهور (دعاة لا قضاة) الذي يرد به على فكر التكفير.
وفي خطاب ورد من الأستاذ حسن الهضيبي يقول فيها
- "إنه لا يعلم أن للأستاذ سيد قطب فكرا يغاير فكر الإخوان المسلمين الذي يتفق مع الكتاب والسنة" (10)
ويقول الأستاذ محمد قطب عن فكر سيد قطب التكفيري في مقدمة كتاب:
- إن ما دار من لغط في محيط الإخوان حول كتابات الشهيد سيد قطب، وما قيل من كونها مخالفة لفكر الإخوان أو جديد عليه فإني أحب في هذا المجال أن أثبت مجموعة من الحقائق، أحس بأنني مطالب أمام الله بتوضيحها حتى لا يكون في الأمر شبهة – إن كتابات سيد قطب، قد تركزت حول موضوع معين – وهو بيان المعني الحقيقي "لا إله إلا الله" شعرا منه بأن كثيرا من الناس لا يدركون هذا المعني على حقيقته وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان كما وردت في الكتاب والسنة شعورا منه بأن كثيرا من هذه المواصفات قد أهمل أو غفل الناس عنه
- ولكنه مع ذلك حرص حرصا شديدا على أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصودا به إصدار أحكام على الناس وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة ليتبينوا هم أنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي أم أنهم بعيدون عن هذا الطريق فينبغي عليهم أن يعودوا إليه – ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول " إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك وهذا أمر ليس في أيدينا ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلا عن كوننا دعوة ولسنا دولة " دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم.
أما بالنسبة لقضية " المفاصلة " فقد بين كلامه أنها المفاصلة الشعورية التي لابد أن تنشأ تلقائيا في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية فنحن نعيش في هذا المجتمع وندعوه إلى حقيقة الإسلام ولا نعتزله وإلا كيف ندعوه ؟
تلك خلاصة كتابات سيد قطب ولي على هذه الخلاصة تعقيبان
- الأول: هو تأكدي الكامل – بإذن الله – من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف الكتاب والسنة اللذين تقوم عليها دعوة الإخوان المسلمين .
- والثاني: هو تأكدي الكامل – أيضا – من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف أفكار الإمام حسن البنا – مؤسس هذه الجماعة ولا ما يخالف أقواله وهو الذي نص في رسالة التعاليم في البند العشرين على " أن المسلم الذي لا يجوز تكفيره هو الذي نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدي الفرائض .. وذلك فضلا عن كون كتابات سيد قطب كما أسلفت لم يقصد بها إصدار الحكام على الناس، وإنما قصده منها كما كان قصد الإمام الشهيد بالضبط هو بيان حقيقة الإسلام ومواصفات المسلم كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم". (11)
ويتضح من ذلك أن الإخوان وفكرهم نبذوا منهج تكفير الأخر والعنف، وهو ما يتناقض مع فكر ومنهج السلفية المحتسبة أو مع الدواعش والقاعدة. ويؤكد ذلك قول الرئيس مبارك لصحيفة لوموند الفرنسية: أن هناك حركة إسلامية في مصر تفضل النضال السياسي على العنف وانصهرت في بعض المؤسسات الاجتماعية واستطاعت النجاح في انتخابات النقابات المهنية مثل الأطباء والمهندسين والمحامين. (12)
بل إن وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن الألفي في مؤتمره الصحفي الذي عقده، ونشرت وقائعه الصحف، سٌئل عن علاقة الإخوان بتنظيم الجهاد أو الجماعة الإسلامية - وهما المنظمتان اللتان يتهمهما النظام باستخدام العنف آنذاك- فكان رده: "الإخوان جماعة لا يرتكب أفرادها أعمال عنف، بعكس تلك التنظيمات الإرهابية". (13)
كما أكد ذلك الخبراء والمختصين فى هذا المجال وعلى رأسهم خبير الإرهاب الدولي المصري بالأمم المتحدة اللواء أحمد جلال عز الدين - والذي قام الرئيس مبارك بتعيينه عضوا بالبرلمان عام 1995 ضمن العشرة الذين يحق لرئيس الجمهورية تعيينهم - حيث صرح في مقابلة موسعة له عن " الإرهاب والتطرف "مع جريدة " الأنباء " الكويتية: "أن الإخوان المسلمون حركة دينية سياسية ليس لها صلة بالإرهاب والتطرف" (14)
وبالرغم من الصدام الدائم بين جماعة الإخوان والنظام الحاكم الذي كانت سياسته الاقصائية مستمرة تجاه الإخوان إلا أنهم أصدروا بيان يدين العنف جاء فيه: لقد أعلن الإخوان المسلمون عشرات المرات خلال السنوات الماضية أنهم يخوضون الحياة السياسية ملتزمين بالوسائل الشرعية والأساليب السلمية وحدها، مسلحين بالكلمة الحرة الصادقة، والبذل السخي في جميع ميادين العمل الاجتماعي... مؤمنين بأن ضمير الأمة ووعى أبنائها هما في نهاية الأمر الحكم العادل بين التيارات الفكرية والسياسية التي تتنافس تنافسا شريفا في ظل الدستور والقانون. (15)
وعندما وقعت عملية تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك أدان الإخوان العدوان، حيث صدر البيان بقوله: إن الإخوان المسلمين وقد راعهم ما حدث بالأمس في الولايات المتحدة الأمريكية من قتل ونسف وتدمير، واعتداء على مدنيين أبرياء. ليعربون عن عميق أسفهم وحزنهم، ويستنكرون بكل حزم وشدة هذه الحوادث التي تتعارض مع كل القيم الإنسانية والإسلامية، ويعلنون استنكارهم ومعارضتهم لكل عدوان على حياة البشر وحرية الشعوب وكرامة الإنسان في جميع أنحاء العالم. (16)
السلفية المحتسبة والطريق إلى القاعدة وداعش
الجماعة السلفية المحتسبة أو جماعة أهل الحديث وتعرف بالجهيمانية هي جماعة أسست بقصد الدعوة والاحتساب والاهتمام بمنهج السلف ومحاربة البدع والمنكرات، انطلقت من المدينة بصفتها العلنية الدعوية والاحتسابية وبالمحاضرات والدروس وكان لهم مجلس شورى يجتمع ويناقش الأمور سراً.
قام في عام 1966 كل من جهيمان العتيبي وسليمان بن شتيوي وناصر الحربي وسعد التميمي بزيارة الشيخ عبد العزيز بن باز ليبلغوه أنهم قرروا تأسيس جماعة سلفية تنبذ التمذهب وتدعو إلى التوحيد والتمسك بالكتاب والسنة كما قرروا أن يسموا مجموعتهم الجماعة السلفية عرضوا على الشيخ أن يكون مرشدهم فوافق بن باز غير أنه عدل اسم المجموعة ليصبح الجماعة السلفية المحتسبة، كان تأسيس الجماعة ثمرة حدث وقع في عام 1965 في المدينة المنورة حين قام بعض هؤلاء بمشاركة آخرين من الإخوان - ليس المقصود الإخوان المسلمين بل السلفيين - بالاعتداء على استوديوهات التصوير والمحال التجارية لتكسير الصور وتماثيل العرض. (17)
يقول ناصر الحزيمي، أحد رفقاء جهيمان العتيبي، أن "الجماعة السلفية المحتسبة" تأسست بعد حادثة تكسير الصور والتماثيل في إحدى المحال التجارية في المدينة المنورة، أي بعد سنة 1965 تقريباً، حيث تجمّع ستة وقرروا أن يؤسسوا جماعة تقوم بأمور الدعوة والتذكير في المساجد والأماكن العامة (18). لقد كان للتمويل الداعم لكل ما هو ضد الكتلة الشيوعية أو القومية العربية سببا في خلق مثل هذه الجماعات، كما ساد الصمت الرسمي حيال ممارسات الجماعات الدينية المسيّسة، ووجدت في أجواء الحرب الباردة خير معين على إعادة أجواء خطاب الإسلام السياسي. (19)
وصلت الجماعة لمكة المكرمة ثم الرياض ثم بقية أنحاء البلاد وكانت المرحلة وتطوراتها في شؤون الدعوة والاحتساب حتى بلغت الاعتقاد بالمهدي وذلك بتأثير سلبي من كتب الفتن وأشراط الساعة فكانت الرؤى محل تصديق وهوس ولذا بلغ بهم الحال أن آمنوا بسيناريو يبدأ بمبايعة للمهدي - محمد القحطاني - بين الركن والمقام ويعتصم المهدي ومن معه في الحرم ثم يأتي جيش من تبوك ويخسف بهذا الجيش ثم يخرج هذا الرجل من الحرم
ويذهب إلى المدينة ويحارب المسيح الدجال ثم يخرج من المدينة ويذهب إلى فلسطين ويحارب هناك اليهود ويقتلهم ثم ينزل عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويذهبون إلى الشام فيصلون في مسجد بني أمية وبعد ذلك تقوم القيامة الكبرى، فكان العقل الباطن لهم متأثرًا بالكرامات التي يروونها عن سلفهم ولهم تأثر بجماعات محلية أخرى، ولكن هذه المنامات لم تكن إلا خيالات وأوهاماً في أنفس أصحابها حيث قتل المهدي - حسب قول جهيمان - في الحرم
ولكن جهيمان رفض تصديق ذلك وأرغم المجموعة على تكذيب ذلك وقاطع وغضب على من يقول بأن المهدي قد قتل وقال بأن المهدي لا يمكن قتله وإنما هو محصور في الحرم وسيخرج فكانت هذه الرؤية من أنواع الخَلاصيات التي دفعتهم لتلك الثورة فالهوس بفكرة الخلاص من خلال المهدي كان هو سيد الموقف كما كان من قبل سيد القرار بالاعتصام في المسجد الحرام.
فالجماعة المحتسبة كانت تحت سيطرة وتحريك ودافع من فكرة الخلاص الغيبية وما دفعهم للرغبة بالخلاص إلا لما شحنته الجماعة في نفوس الأتباع والمريدين من ضلال المجتمع وهلاكه وزيغه وحاجته لمثل هذا الخلاص فوجدت في شخصية جهيمان الثورية من جهة والمتعلقة بالغيبيات من جهة أخرى الخلاص لأن دافعها عدم الرضا بالواقع ويغذيها إيمان بالرؤى والمنامات وتؤيدها أعمال متوالية متراكمة انتهت إلى ما انتهت إليه من تطبيق ميداني
والدوافع الفكرية لتلك الجماعة هي مبالغتها في النظر للمنكرات والعنف - استخدم اليد والفعل - في وسائل تغييرها والنظرة السوداوية تجاه المجتمع إلى حد القول بظهور علامات قرب قيام الساعة وأن الفتن ما تركت بيتاً إلا دخلته وهكذا، كما كانوا يقفون ضد العمل في الوظائف الحكومية بدافع ما يحمله جهيمان ورجاله من مبالغات تجاه ما يتصورونه من أحوال اجتماعية رأوها بشكل متعصب فكانت تلك المبررات التي قادتهم في النهاية وعبر تطورات تراكمية إلى ما حصل في الحرم. (20)
لم يرض الشيخ ابن باز عن منهج الجماعة فتركها وتولى أبو بكر الجزائري الإشراف على الجماعة خلفاً لأبن باز الذي انتقل إلى الرياض ولكنه لم يستطع السيطرة على مجموعة جهيمان بسبب رقته واتهامه بالتصوف من قبل البعض كما اتهمه جهيمان بأنه يسرب أخبارهم للحكومة حيث اعتاد أعضاء هذه الجماعة تأسيس بيوت للالتقاء بها وكان بيتهم في المدينة المنورة يدعى بيت الحرة الشرقية مما أضاف لجهيمان جاذبية القائد المحنك والذكي الذي لا تفوته صغيرة أو كبيرة مما جعل جهيمان يتغيب عن بيت الحرة ويبدأ دعوته في البادية وجمع السلاح. (21)
- وفي الحلقة القادمة نتعرف على حادث احتلال الحرم المكي وما ترتب عليه من نتائج
المراجع
- أحمد بن يوسف بن عبد الدائم السمين الحلبي: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، دار الكتب العلمية،طـ 1، بيروت، 1417هـ 1996م، 4/ 356.
- محمد صادق إسماعيل: الحركات الإسلامية في العالم العربي : الإخوان المسلمون، الشيعة، الحركات الجهادية نموذجا، الطبعة الأولى، المجموعة العربية للتدريب والنشر، القاهرة، 2014م، صـ 148.
- محمد ويلالي: الوسطية: مفهومًا ودلالة، موقع الألوكة، 15 ذو الحجة 1429هـ 14 ديسمبر 2008م
- الإمام الغزالي. المستصفى من علم الأصول: دار الكتب العلمية، بيروت، طـ 1، 1413هـ/ 1993م
- يوسف القرضاوي: بينات الحل الإسلامي: دار رحاب، الجزائر، طـ 2، 1989م، صـ 177.
- رسالة المؤتمر الخامس: رسائل الإمام حسن البنا.
- رسالة التعاليم: رسائل الإمام حسن البنا.
- جمعة أمين عبد العزيز : فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين للإمام حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2003م/ 1423هـ، صـ 324.
- عبد الحليم خفاجي: عندما غابت الشمس، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2006م، صـ 230.
- عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، الجزء الرابع، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، صـ 145.
- المحامي محمد علي قطب: سيد قطب الشهيد الأعزل، تقديم الأستاذ محمد قطب، دار المختار الإسلامي، القاهرة، بدون تاريخ، مقدمة الكتاب.
- الأهرام: 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993م صـ 1.
- الأهرام، والجمهورية، 14 نيسان/ أبريل 1994م، صـ 1.
- جريدة الأنباء الكويتية: العدد 6560، 13 أب/ أغسطس 1994م.
- بيان الإخوان المسلمون - 30 من ذى القعدة 1415 ه / 30 من أبريل 1995م.
- بيان الإخوان المسلمون - 24 من جمادى الآخرة 1422هـ - 12 من سبتمبر 2001م.
- أحمد عدنان: الثورة المضادة في السعودية: عودة جهيمان إلى أرض الحرمين 3/3، الأخبار، الخميس 9 حزيران - يونيو 2011م
- ناصر الحزيمي، أيام مع جهيمان.. كنت مع "الجماعة السلفية المحتسبة"، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2011م، صـ 42 - 43.
- أيام مع جهيمان، مصدر سابق صـ 14
- الجماعة المحتسبة أيعيد التاريخ نفسه ؟!
- جهميان العتيبي "الجماعة السلفية المحتسبة" (2) الرواية من موقع الحدث، 18/ 10/ 2007م