الإخوان المسلمون: ثمانون عاماً من الصُـمودِ والتحدِّي (الحلقة 27)
زياد أبو غنيمة
مقدمة
كانت الستة عشرة عاما من حكم الملك فاروق سنوات عجافا على جماعة الإخوان المسلمين ، فقد تعرَّض الإخوان قادة وأفرادا وأنصارا وخاصة في أواخر ثلاث سنوات من تلك السنوات العجاف لأبشع أشكال التعذيب في سجون الملك فاروق في عهدي حكومة حزب السعديين الأحرار برئاسة العدوين اللدودين للإخوان محمود فهمي النقراشي باشا وخلفه بعد مقتله إبراهيم عبد الهادي باشا .
كان أشدَّ ما يؤلم الإخوان ، أكثر من التعذيب الشنيع الذي مورس عليهم ، أن تقع أعينهم صباح مساء على جدران زنازينهم الآية الكريمة : (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) ، هل هناك عذابٌ لإنسان نذر نفسه لدين الله أنكى وآلم من أن يُتهم بأنه عدو لله ولرسوله .؟ ، ويسعى فسادا في الأرض .؟ .
البوليس السياسي تاريخ قذر في تعذيب الإخوان
لا تكاد قصة من قصص تعذيب الإخوان المسلمين في عهد الملك المخلوع فاروق تخلو من دورٍ لضبَّـاط وعساكر ما كان يُطلق عليه فى البداية إسم (مكتب الخدمة السرية) ثمَّ حمل ثمَّ استقرَّ الإسم على (دائرة القلم السياسي في وزارة الداخلية المصرية)
وكان يُشار إليها في الصحافة باسم مختصر هو (البوليس السياسي) ، ويعود إنشاء تلك الدائرة إلى بدايات القرن العشرين المنصرم بإشراف مباشر من اللورد كرومر (السير إفلين بارينج) أول معتمد بريطاني في مصر ما بين عامي (1883 ـ 1906 م)
ليكون أداة بيد السفارة البريطانية في القاهرة لملاحقة المعارضين للإحتلال البريطاني في مصر ، وكان ضباط بريطانيون يتولون رئاسة الدائرة بينما كان ضباطها الصغار وأفرادها من صغار النفوس من المصريين الذين يفتقرون إلى الحس الوطني وتثق السفارة البريطانية بولائهم للمحتل البريطاني
وعندما تيقنت السفارة البريطانية من تفاني العاملين في هذا الجهاز من المصريين في خيانة بلادهم وتفانيهم في الولاء لبريطانيا أسندت الرياسة الرسمية للمصريين فبذ هؤلاء الرؤساء المصريون أسلافهم الأجانب في التسلط الإجرامي علي الشرفاء من مواطنيهم تسلطا أذهل سادتهم الانجليز أنفسهم حيث مارسوا ضدَّ أبناء وطنهم ما لم يكن المجتلون البريطانيون أنفسهم يجرأون على ممارسته من تعذيب وحشي لحقَ شباب الإخوان المسلمين القسط الأكبر منه .
وشهد القلم السياسي تعزيزا لدوره في ملاحقة الوطنيين فى 20 / شباط / 1910 م عندما اغتال الشاب مصرى إبراهيم الورداني رئيس وزراء مصر بطرس باشا غالي إنتقاما منه لدوره في خدمة البريطانيين حين كان رئيسا للمحكمة التي حكمت بإعدام أربعة من شباب قرية دنشواي في عام 1906 م
فتوسَّـع عمل القلم ليشمل النشاط الوطنى المعادى للإنجليز وللسراي (القصر) الذى يدور في فلك البريطانيين (الإنجليز) بعد أن كان دوره مقتصرا على الجمعيات السرية الوطنية وفي هذا السياق يذكر كتاب (البوليس المصري) للدكتور عبدالوهاب بكر أن عين وأذن الاحتلال البريطاني فى مصر كانت هى مكتب الخدمة السرية المُسمَّى (القلم السياسي)
حيث كان يهتم فى أيام الحرب العالمية الأولي بتزويد جيش الاحتلال بما يحتاج من خدمات وجنود إلى جانب ضمان الأمن الداخلى ، وكان المكتب وراء نفى آلاف المصريين الوطنيين إلى مالطة وغيرها .
وفى نهاية 1919 م إنبثق عن القلم السياسي قسم سرِّي جديد أطلق عليه إسم (القلم المخصوص) يتبع بوليس مدينة القاهرة وترأسه اليوزباشى سليم زكى ، واختصَّ القسم الجديد بتعقب المعارضين السياسيين للمحتلين البريطانيين وصنيعته الملك أحمد فؤاد
ومع تزايد عمليات الإغتيال السياسى للأجانب صدر قرار فى مايو 1922 بإنشاء جهاز جديد برئاسة الضابط الكسندروكين بويد سُـمِّى (الإدارة الأوروبية) يختص بالتعامل مع الإغتيالات السياسية فى مصر ، وكان جميع عناصره من البريطانين .
وفي الأعوام 1946 ـ 1952 م تركزت إهتمامات جهاز الأمن السياسى على جماعة الإخوان المسلمين التي انتشرت انتشارا واسعا ، والتى اعتبرتها أجهزة الأمن آنذاك خطرا على الأمن السياسى .
وفي سياق تاكيد تبعية البوليس السياسي في عهد الملك فاروق للسفارة البريطانية وخلال جلسة 27 / آذار / 1950 م أثناء النظر في قضية من القضايا التي لـُـفـِّـقتْ لبعض شباب الإخوان اتهم المحامي الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي البوليس السياسي بالتبعية للسفرة البريطانية
حيث ورد في مرافعته بالحرف الواحد :
- (إن البوليس السياسي في مصر هو منظمة انجليزية إسماً ولحماً ودماً وعظاماً ونخاعاً ، فالانجليز هم الذين أوجدوه ، ولطالما جأر الكثيرون من الزملاء المحامين بالشكوى من البوليس السياسي أمثال عبد الفتاح الطويل باشا وسليمان غنام بك وعبد اللطيف محمود بك وها هم الآن قد أصبحوا وزراء في الحكومة وبيدهم السلطات التنفيذية لماذا لا يلغون البوليس السياسي الذي كانوا يشكون منه)
وفي نفس السياق تقدم الأستاذ فوزي البرادعي عضو مجلس النواب في 16/ نيسان /1951 م إلي وزير الداخلية بالسؤال التالي :
- (ما هي الإجراءات التي اتخذتها الوزارة حيال الجرائم التي ارتكبها رجال البوليس السياسي في القضايا التي نظرت أمام محاكم الجنايات والتي تنظر الآن ، وما هي الإجراءات التي تتخذها الوزارة لوقف هذا السيل من الجرائم مستقبلا .؟)
وعندما ماطلت حكومة حزب الوفد في الإجابة على السؤال تحت ضغط السفارة البريطانية تقدم عضو آخر من أعضاء مجلس النواب هو الأستاذ سليمان عبد الفتاح باستجواب لوزير الداخلية في جلسة المجلس يوم 14/5/1951 م
وجاء في الآستجواب :
- (إن قلم البوليس السياسي هو أثر من آثار الانجليز فقد أنشئ في عهد اللورد كرومر ليكون عونا للانجليز ، وسوط عذاب علي الوطنيين ، وفي الميزانية حوالي مائتي ألف جنيه تنفق علي هذا البوليس السياسي كل عام ، وقد أصبح البوليس السياسي نقمة علي هذه البلاد ويجب قبل أن نبدأ بجلاء الانجليز عن القنال أن نبدأ بجلاء البوليس السياسي عن مصر ، وإنني إرفق مع استجوابي كشوفا بأسماء الموظفين في البوليس السياسي الذين تولوا تعذيب المتهمين في القضايا السياسية) .
العسكري الأسود
لا تكاد قصة من قصص تعذيب معتقلي الإخوان المسلمين في سجون الملك فاروق في عهد حكومة حزب السعديين الأحرار برئاسة إبراهيم عبد الهادي باشا تخلو من ذكرٍ لشخصٍ كان مجرد سماع اسمه يصيبهم بالغثيان ذلك هو (العسكري الأسود) الذي كان البوليس السياسي يُسلـِّـطه على الإخوان يهدِّدهم به في شرفهم وعفـَّـتهم لينتزع منهم إعترافات بأعمال لم يقترفوها ، كان وحشا كاسرا مجردا من أية مشاعر دينية أو إنسانية أوأخلاقية .
وكما يفعل أحدنا عندما يعتصر آخر قطرة في حبتَّـة ليمون ثمَّ يرمي بها إلى سلة المهملات ، كذلك فعل البوليس السياسي بوحشه (العسكري الأسود) بعد أن استنفد غرضه منه فأحاله على التقاعد ، ثمَّ استقالت جكومة إبراهيم عبد الهادي التي كان البوليس السياسي يدها القذرة في تعذيب الإخوان المسلمين
ليبدأ ضحايا (العسكري الأسود) رحلة البحث عنه لتقديمه إلى العدالة ، لينتهي الأمر بالعسكري الأسود أمين محمد محمود موسي النقيب ليقف أمام محكمة جنايات القاهرة في 10 أيار 1951 م ليواجهه رئيسها قائلا : (إسمع يا نقيب ، فيه ناس كانوا محبوسين قالوا عنك إن البوليس السياسى كان بيأكـِّـلك ويسمِّـنك علشان تعتدى على أعراضهم وأنك كنت بتقول ده بلسانك) .
ولقد أبدع الأديب المصري الروائي الدكتور يوسف إدريس في تحويل قصة (العسكري الأسود) إلى رواية حملت نفس الإسم صدرت في عام 1955م وطبعت عدَّة طبعات ، ويتحدَّث إدريس في روايته عن صديق له يُفهم من سياق الرواية أنه كان من شباب الإخوان زامله في كلية الطب أطلق عليه إسما حركيا (شوقي)
كان أحد زعماء الطلبة في الكلية ويتمتع بطاقة هائلة وثقة وبابتسامة دائمة ، ولكن يتم إلقاء القبض على شوقي ويدخل السجن تمهيدا لمحاكمته في ظل الأحكام العرفية في سنوات الإرهاب البشع المخيف الذي شهده عهد حكومة حزب السعديين الأحرار برئاسة محمود فهمي النقراشي وخلفه إبراهيم عبد الهادي باشا
وتعرَّض شوقي كغيره من معتقلي الإخوان للتعذيب الذي تواترت قصصه وطار صيت (العسكري الأسود) الذي كان يقترفها ، بعد شهور طويلة من اعتقاله تقدَّم شوقي للإمتحان النهائي في كلية الطب مع عدد من زملائه المعتقلين الذين جيء بهم مُكبلي الأيدي بالحديد تحت حراسة جيش من البوليس المدججين ببنادق
وتمكن شوقي من اجتيازالامتحان والنجاح بكلية الطب ، إلا أنه ظل مسجوناً لا يُقدم للمحاكمة ولا يواجه بتهمة ، ولم يفرج عنه إلا بعد مدة طويلة ، ويمضي الدكتور يوسف إدريس في سرد روايته فيذكر أن قدر الله عزَّ وجلَّ ألأعاد جمعه بصديقه شوقي في ذات القسم وبذات المستشفى الذي يعمل فيه
لم يكن شوقي الجديد هو نفس شوقي السابق الذي عرفه دائم الآبتسام نشيطا متوثبا ، أصبح منطويا قليل الكلام وإذا تكلم كان كلامه أقرب إلى الهمس ، ويروي إدريس أنه حاول أكثر من مرة أن يستثير شوقي البطل ويخرجه عن صمته ويستدرجه للحديث عن ذكرياته خلف القضبان ولكن دون أية استجابة
ذات مناوبة مسائية جمعت إدريس بصديقه شوقي تناول شزقي ملفا لأحد المرضى أطلق عليه الدكتور يوسف إدريس إسما حركيا (عبَّـاس الزنفلي) ، وسأل شوقي التمرجي عبد الله عن قصة صاحب الملف فأجابه التمرجي : (ده خلاص يا بيه ، الراجل بقى يهبهب زي الكلاب ، ويعوِّي زي الدِيابه)
وحاول أن يثني الدكتور شوقي عن مهمة الكشف الطبي على صاحب الملف قائلاً (ده يا بيه مشكلته معقدة وحالته حال ، مالنا إحنا ما تسيبه للحكيمباشي لما ييجي الصبح يعرف شغله معاه) ، ثمَّ فاجأه بأن صاحب الملف هو نفسه (العسكري الأسود) الذي شاع اسمه كثيراً
كان الملف قد أرسل إلى الحكيمباشي (رئيس الأطباء) لتوقيع الكشف الطبي عليه لإثبات عجزه الكامل تمهيداً لفصله من الخدمة ، كأن شيئا ما كان يتفاعل في تفكير الدكتور الشوقي فيدفعه على الإصرار على القيام بمهمة الكشف في نفس الليلة ، استقل شوقي وصديقه وعبدالله التومرجيسيارة المستشفى باتجاه بيت عباس الزنفلي
وفي الطريق أخذ التمرجي عبد الله يروي ما بعض ما سمعه من قصص التعذيب التي كان يقترفها العسكري الأسود بحق معتقلي الإخوان المسلمين ، وخلال حديثه استشهد بإحدى القصص عن تعذيبه لشاب من الإخوان بوحشية في إحدى غرف الدور الثاني من مبنى محافظة القاهرة فبقي يضرب فيه ساعات وساعات هنالك بدا الإنفعال والعصبية واضحاً على وجه شوقي وأفضى لصديقه إدريس بأحد أسراره التي كان يحتفظ بها في صدره وأخبره أنه هو نفسه المعتقل السياسي الذي كان (العسكري الأسود) يضربه من الصباح وحتى المغرب
عندما وصل الثلاثة إلى منزل عباس الزنفلي (العسكري الأسود) دخلوا إلى صالة المنزل المجرَّدة من الأثاث إلا القليل ، والتقوا بـنور زوجة عباس فروت لهم كيف كان الناس يجتمعون في منزله ليطلبوا منه التوسط في العرائض والشكاوي حتى أن العمدة بنفسه جاء ذات يوم يتوسله لكي يتوسط في الإفراج عن شقيقه الطالب المعتقل
وفجأة وأثناء حديث الزوجة انطلق عواء شديد أصابهم بالذعر صادر عن رجل ، فاندفعوا إلى الحجرة التي انطلق منها صوت العواء ليجدوا أمامهم عباس مكوماً على سرير متهالك يرمقهم بنظرات ساكنه كسكون الموت يا للهول لكأنما أيقظ منظر عبَّـاس كوابيس طقوس التعذيب التي كان يوقعها به وبإخوانه (العسكري الأسود) ، تحرَّك شوقي مقترباً من سرير عباس، وشمله بنظرة متفحصة ثم سأله أنت ... ؟ ، لم يرد الرجل ، فارتفع صوت شوقي حتى قارب الصراخ مكرراً سؤاله مرة أخرى
ثم تسارعت أسئلته وانهالت على عباس محاولا إنعاش ذاكرته : "مش فاكر العنبر .. ؟ ، مش فاكر الدم .؟ ، فين كرباجك ودِّيته فين .؟ ، سمِّعني صوتك ، بُص لي وانطق وإتكلم ، ما تعملش ناسي وإن عملت حالاً أفكرك ، وفجأة خلع شوقي قميصه وكشف عن ظهره الذي غطته الندوب البشعة طولاً وعرضاً وأثار الجروح المندملة
في مشهد بشع ، وفجأة أخذ عبَّـاس يعوي ثمَّ تحول صوته كهبهبة الكلب ، ثمَّ أخذ يلطم وجهه ، ثمَّ انقضَّ على ذراعه وغرس أسنانه في اللحم حتى تهتـَّـك لحمه وسال دمه
ويختم الدكتور يوسف إدريس قصة (العسكري الأسود) بعبارة قالتها واحدة من الجيران الذين تجمعوا على صراخ عواء عبَّـاس : (ده من خطايا لحم الناس يا بنتي ، اللي يدوقه ما يسلاه "ينساه" ، يبقى عايز يعض انشالله ما يلقاش إلا لحمه) .