الإخوان المسلمون: ثمانون عاماً من الصُـمودِ والتحدِّي (الحلقة العشرون)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الإخوان المسلمون: ثمانون عاماً من الصُـمودِ والتحدِّي (20)


بقلم : زياد أبو غنيمة

كان الكاتب الصحفي الأستاذ إحسان عبد القدُّوس من أوائل الصحفيين الذين أجروا لقاءاً صحفيا مع الإمام البنا في المركز العام للجماعة ، وقدَّم عبد القدُّوس لتحقيقه الصحفي الذي تناقلته الكثير من الصحف العربية والعالمية بقوله : ( إركب أي سيارة أجرة وقل للسائق : الإخوان المسلمين يا أسطى ، ولا تزد ، فلن يلتفت إليك السائق ليسألك : ماذا تقصد بالإخوان المسلمين .؟ ، ولا أين تقع هذه الدار التي يطلق عليها هذا الاسم .؟ ، بل سيقودك إلى هناك دون سؤال ، بعد أن يرحب بك بابتسامة لم تتعود أن تراها على وجوه سائقي سيارات الأجرة ، وقد يرفض أن يتناول منك أجراً ، ولا شك أنه سيحملك سلامه إلى فضيلة الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ، وستمرُّ في طريقك داخل دار الإخوان بمخازن الذخيرة التي يمتلكها الإخوان ، وهي الشباب ، شبابٌ امتلأت بهم حجرات الدار على سعتها ، ترى على وجوههم نور التقوى والإيمان ، وفي عيونهم حماسة الجهاد ، وبين شفاههم ابتسامة تدعو إلى المحبة والإخاء ، وفي يد كل منهم مسبحة انحنى عليها بروحه يذكر اسم الله ، وهم مع كل ذلك شبان ( مودرن ) لا تحسُّ فيهم الجمود الذي امتاز به رجال الدين وأتباعهم ، ولا تسمع في أحاديثهم التعاويذ الجوفاء التي اعتدنا أن نسخر منها ، بل إنهم واقعيون يحدثونك حديث الحياة لا حديث الموت ، قلوبهم في السماء ولكن أقدامهم على الأرض ، يسعون بها بين مرافقها ، ويناقشون مشاكلها ، ويُحسُّـون بأفراحها وأحزانها ، وقد تسمع فيهم من يـُـنكـِّـت ومن يحدثك في الاقتصاد والقانون ، والهندسة ، والطب ، ويستقبلك الأستاذ حسن البنا بابتسامة واسعة ، وآية من آيات القرآن الكريم ، يعقبها بيتان من الشعر ، يختمهما بضحكة كلها بِشر وحياة ، والرجل ليس فيه شيء غير عادي ، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك ، اللهم إلا بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيراً مع زيه الإفرنجي ، وطربوشه الأحمر الغامق ، ولن تملك منع نفسك عن التساؤل : كيف استطاع الرجل أن يجمع حوله كل هؤلاء الإخوان .؟ ، وكيف استطاع أن ينظمهم كل هذا التنظيم بحيث إذا عطس فضيلته في القاهرة صاح رئيس شعبة الإخوان في أسوان : يرحمكم الله ، ولكنك لا تلبث قليلاً حتى تقتنع بأن قوة الرجل في حديثه ، وفي أسلوبه الهادئ الرزين ، وفي تسلسل أفكاره التي يعبِّر عنها تسلسلاً منطقياً ، وربما كان أغرب ما في حديثه أن يُحسَّ بما يقوم في نفسك من اعتراضات ، فيجيبك عنها ، وينقدها لك قبل أن يترك لك الفرصة لتصدمه بها ، وهو لبق يستطيع أن يحلل شخصيتك ، ويدرس نفسيتك من النظرة الأولى ، وربما أحسَّ أني دخلت إليه وتحت لساني مئة تهمة أستطيع أن أوجهها إليه ، فكان من لباقته أن عرض علي قبل أن أغادره تقريراً عن الحسابات المالية لجماعته ، وفي هذا التقرير تقرأ عجباً فهذا أخ أراد أن يسهم في شراء دار الإخوان ، ولم يملك مالاً ، فباع أرضه وخصَّص ثمن أربع مئة متر منها للجمعية ، وصورة العقد والتخصيص منشورة بالزنكوغراف ضمن التقرير ، وهذه زوجة أخ لم تجد لديها مالاً لتقدمه ، فوهبت قرطها الذهبي حليتها الوحيدة للإخوان ، وصورة القرط منشورة أيضاً ضمن التقرير ، وهذا رجل من مسلمي بومباي في الهند تبرَّع بفتح اكتتاب بين أبناء بلده للمساهمة في بناء الدار ، وهذا أخ اختلف مع زوجته فهو يريد أن يتبرع للجمعية بجنيه واحد وهي تريده أن يتبرع بثلاثة جنيهات ، وجاءا ليحتكما إلى الأستاذ البنا ، فحكم بينهما أن يتبرعا بجنيهين اثنين حسماً للنزاع ، وهذا رجل من العراق يرسل تبرعه عن طريق سعادة عبد الرحمن عزام باشا ، وآخر يتعهد بكل ماله لتغطية ما تحتاجه الجماعة من مال، و.. و.. وبين أسماء المتبرعين أعضاء في مجلس النواب وشخصيات كثيرة ، وشباب لامع لم أكن أحسب أنهم يدخلون ضمن نصف المليون الذين انتظموا في أكثر من ألف وخمس مئة شعبة إنبثت في كل قرية وكل كفر ، بينها مئتان وخمسون شعبة في القاهرة وحدها ، وهناك شعب في باريس ولندن وجنيف قبل قيام الحرب .

حدثني فضيلته عن فكرة الإخوان ، وكيف نبتت ، وكيف تحققت ، لقد وجد القائمين على أمر الإسلام قد عجزوا عن تطبيقه تطبيقاً صحيحاً ، فالإسلام ليس ديناً فحسب ، ولكنه نظام سياسي واقتصادي واجتماعي ، وقد وجد مصر من حوله ينقصها الخلق ، وينقصها الإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي ، ولم يقصر تفكيره في الإصلاح على ناحية واحدة من هذه النواحي كما فعلت الأحزاب فقصرت جهودها على الناحية السياسية ، أو كما فعلت الشيوعية فقصرت جهودها على الناحية الاقتصادية ، إنما أراد أن يصلح كل نواحي النقص الذي تعانيه مصر ، ويعانيه الشرق ، فلم يجد نظاماً شاملاً جامعاً يستطيع أن يلجأ إليه سوى الإسلام وقانونه الأساس القرآن الكريم ) .

وبعد اغتيال الإمام الشهيد بإذن الله حسن البنا ، وفي مقال له حمل عنوان ( فى ذكرى الإمام الشهيد ) نشرته مجلة الدعوة الإخوانية الصادرة في 16 / جمادى الأولى / 1371هـ ــ 12 / شباط / 1952م قال الكاتب الصحفي إحسان عبد القدوس : ( لم أقابل فى حياتى الصحفية زعيماً سياسياً متمكناً من دعوته تمكُّن المغفور له ( بإذن الله ) الأستاذ حسن البنا ، كنت أقابله دائماً متحدياً ، متعمداً أن أحطـِّـم منطقه بمنطقي ، وكنت أفترق عنه دائمًا مقتنعاً بإيمانه وبصدق دعوته وبقوة عزمه على الوصول إلى هدفه ، وهو ما دعانى إلى أن أنشر أول تحقيق صحفى عن الإخوان المسلمين ، وهو التحقيق الذى نقلته عنى وكالات الأنباء ، وأصبح الإخوان من يومها حديث العالم ، وكنت أعتقد أن قوة حسن البنا فى عقليته التنظيمية ، فقد كان يجلس فى مكتبه بالمركز العام بالقاهرة وفى ذهنه صورة صحيحة لما يجرى فى شعبة الإخوان فى أسوان ، وكان يعرف الإخوان واحداً واحداً، ويكاد يعرفهم بالإسم رغم أن عددهم كان يزيد عن نصف المليون ، وكان يعدُّ لكل منهم دوره فى الجهاد ، وكان يشغل كلا منهم طول يومه بخدمة الجماعة حتى لا يجد ما يلهيه عن مبادئها ، ولكن عقلية حسن البنا التنظيمية وحدها لم تكن تكفى ، لولا نشاطه الفذ ، الذى كان يستعين به على الطواف بالقطر المصرى كله ، كل أسبوع تقريباً ، ولولا سرعة خاطره فى الردِّ على كل ما يعترضه من حالات ، ولولا قدرته على تفسير القرآن بحيث تنطبق آياته على كل مشكلة من مشاكل العصر ، ولولا أنه كان صورة صادقة للزعيم يمثل شعب مصر، فى قناعته وفى زيِّه، وفى إيمانه ، وفى لغته ، وفى تواضعه ، وفى إحساسه ، كان حسن البنا يمتاز بكل ذلك ، وقد ذهب حسن البنا ، عوَّضنا الله فيه خيرًا.

ومن المؤسف أن الأستاذ إحسان عبد القدُّوس انقلب إلى خصم لدود للإخوان بعد أن غدر البكباشي جمال عبد الناصر بالإخوان ، وصار أحد أبواق نظام عبد الناصر في مهاجمة الإخوان ، ولكن المفارقة التي لا تخلو من عبرة أن بكره الأستاذ محمد عبد القدُّوس إلتحق بجماعة الإخوان المسلمين وصار من قادة تيارها في نقابة الصحفيين المصريين .

حين يتحدَّث شهيدٌ عن شهيد

ما أصدق ما تكون الشهادة حين يشهدُ شهيدٌ في شهيد ، تعالوا نقرأ شهادة الشهيد بإذن الله الأستاذ سيد قطب في الشهيد بإذن الله حسن البنا :

( في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدرٌ مقدورٌ وحكمةٌ مُدبَّـرة في كتاب مسطور ، حسن البنا ، إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه ، ولكن من يقول إنها مصادفة والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء ، وإحسان البناء ، بل وعبقرية البناء .؟ .

لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرا من الدعاة ، ولكن الدعاية غير البناء ، وما كل داعية يملك أن يكون بنـَّـاءاً ، وما كل بنـَّـاءٍ يُوهبُ هذه العبقرية الضخمة في البناء.

هذا البناء الضخم ، الإخوان المسلمون ، إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات ، إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس إستجاش الداعية وجداناتهم فالتفوا حول عقيدة ، إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم ، من الأسرة إلى الشعبة ، إلى المنطقة ، إلى المركز الإداري ، إلى الهيئة التأسيسية ، إلى مكتب الإرشاد ، هذه من ناحية الشكل الخارجي ، وهو أقل مظاهر هذه العبقرية ، ولكن البناء الداخلي لهذه الجماعة أدق وأحكم ، وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم والبناء ، البناء الروحي ، هذا النظام الذي يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة ، هذه الدراسات المشتركة ، والصلوات المشتركة ، والتوجيهات المشتركة ، والرحلات المشتركة ، والمعسكرات المشتركة ، نظام الكتائب ، ونظام المعسكرات ، ونظام الشركات الإخوانية ، ونظام الدعاة ، ونظام الفدائيين الذين شهدت معارك فلسطين ومعارك القنال نماذج من آثاره تشهد بالعبقرية لذلك النظام ، وفى النهاية هذه الإستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.

ترى أكانت مصادفة عابرة أن يكون هذا لقبه ، البنا ؟ أو أنها الإرادة العليا التي تنسق في كتابها المسطور بين أصغر المصادفات وأكبر المقدورات في توافق واتساق .؟

ويمضي حسن البنا إلى جوار ربه ، يمضي وقد استكمل البناء أسسه ، يمضي فيكون استشهاده عملية جديدة من عمليات البناء ، عملية تعميق للأساس ، وتقوية للجدران ، وما كانت ألف خطبة وخطبة ، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان ، كما ألهبتها قطرات دمه الزكي المهراق ،

إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع ، حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكـُـتبت لها الحياة.

وحينما سلط الطغاة الأقزام الحديد والنار على الإخوان ، كان الوقت قد فات ، كان البناء الذي أسسه حسن البنا قد استطال على الهدم ، وتعمَّق على الاجتثاث ، كان قد استحال فكرة لا يهدمها الحديد والنار ، فالحديد والنار لم يهدما فكرة في يوم من الأيام ، واستعلت عبقرية البناء على الطغاة الأقزام ، فذهب الطغيان وبقى الإخوان ، إنها عبقرية البناء ، تمتد بعد ذهاب البناء .