أحمد أنس الحجاجي يكتب: كيف صححتُ إسلامي؟.. من تراث الدعوة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
أحمد أنس الحجاجي يكتب: كيف صححتُ إسلامي؟.. من تراث الدعوة

04-04-2012

يا ليتَ المقترحين يعلمون ما سيثيره نشر هذه الصحف من ذكريات، إذن لأشفقوا على أخيهم، ولذكروا الحكمة القائلة" ليس كل ما يعرف يقال".

وأنا امرؤ قد عرفني الناس- أو عرفت نفسي على الأقل- جادًّا صريحًا، ولقد حاول كثيرون أن يحطموا نظرة الناس إلى شخصي أو نظرتي في نفسي من هذه الناحية فيما حاولوا معي، فباءوا بالخذلان والفشل المبين، وبقيت أنا على جدي وصراحتي، وما ازددت- أنا أيضًا- إلا ثباتًا على هذا الحق في هذا المبدأ والصراط المستقيم، إيمانًا مني بأنه من أسرار نجاحي التابعة لإيمان سابق بأن هذا الخلق موجود في نفسي فعلاً.

وليس هذا التقديم من شرود ذهني، ولا هو خروج عن الموضوع كما قد يظن الذي لا يعرفون فنون الكتابة، أو يتذوقون مرامي الكتاب وأهدافهم فيما يكتبون.

لا فهو وثيق الصلة بموضوع الحديث عن "صححت إسلامي" فصراحتي وجدي كلتاهما ساقتاني إلى دعوة الإخوان، وإلى هذه الصلة الوثيقة بأستاذي ومرشدي كواحدٍ من المؤمنين بدعوته وقيادته وأستاذيته، وأني لولاه ولولا هذه الصلة ما عرفت الإسلام كما أعرفه الآن.

صراحتي وجدي هما المفتاح الأول لإيماني والباب الواسع الذي نفذت منه إلى آفاق هذا الضوء اللامع، فإذا عرفت بعد هذا أنني رجل يباهي دائمًا بأنه يؤمن إيمانًا مستنيرًا بنظام الإسلام على أنه دعوة وقيادة، وبالجندية على أنها طاعة ووفاء، وأضفت هذا إلى ما قلته لك من أنني (جاد صريح)، عرفت أن مثل هذا الإيمان العميق لم يتكون في نفس صاحبه اعتباطًا أو استجابة لغير داعٍ العقيدة الصحيحة بشروطها وأركانها، والتي درسها صاحبها واطمأنَّ إلى أنها الحق بالمشاهدة وبالعلم والاختبار، فليس من الهين اليسير على مثلي أن يسير مع الريح وإلا كان هذا الإيمان العميق مختلاً مطعونًا فيه.

فلقد حثَّ الله المؤمنين الصادقين على البحث والنظر والدراسة والتعمق الشديد ليكونوا جديرين بما وصفهم به نبيهم حين قال: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: من الآية 103).

أقول إنه لم يكن من الهين اليسير أن أقبل على قلب حياتي كلها، وقد كنت رجلاً واسع الآمال له مناهج وله خطة وأهداف في حياته الخاصة والعامة، لم يكن من السهل أن أنصرف عن هذه البرامج كلها لمجرد اللهو أو نحوه أو لفكرة عارضة- سيما- وقد كنت عرفت بدراية واسعة تاريخ الأحزاب والهيئات كلها في مصر واتصلت برجالها اتصالاً وثيقًا مكنني من دراستها دراسةً وافية، ودونت عنها وعن رجالها والقائمين بها كثيرًا من المعلومات في مذكراتي الخاصة.

إنني لم أتلق دعوة الإخوان من خطيبٍ ولم أتتلمذ فيها على داعية، ولقد لازمني بالأقصر في أوائل سنة 1937 بعض دعاة الإخوان أكثر من شهرين ليل نهار، وحاول جهده أن يستميلني لدعوة الإخوان فلم يفلح ولم يلق مني إلا العناد والانصراف حتى عن مجرد سماع كلامه، وكنت أقول له : دعني لنفسي أبحث وأفكر حتى أصل إلى مرتبة الإيمان العليا التي أريدها.. هكذا كنت أقول له.

ثم تلقيت الدعوة من أستاذ واحد ومرب واحد، وعن لسان لم يرطبه إلا ذكر الله وحده، فانفتح قلبي لهذا الهدى من قلب مخلص إلى قلب مخلص، ومن قلب مجرد من كل غاية إلى قلب مجرد، ولهذا قصص وذكريات ليس هنا محل الكلام فيها.

المهم أني تلقيت الدعوة عن أستاذها الأول وقائدها ومرشدها وحده فآمنت بها إيمانًا عميقًا مستنيرًا وبدراسة.

ولقد أراد الله لي بعد أول بيعة بفترة قصيرة أن أحضر إلى القاهرة ومكثت فيها نحو خمس شهور، واظبت خلالها على حضور المحاضرتين الأسبوعيتين في يوم الثلاثاء والخميس من غير أن يشعر أحد، فلم أكن أعرف أحدًا إلا المرشد، ولم يكن يعرفني غيره كذلك، وقد كنتُ أنصرف في كثيرٍ من الأيام بدون مقابلته مكتفيًا برؤيته من بعيد.

وفي هذه الفترة درست كثيرًا مما أعاني في المستقبل على تحمُّل الكثير من الآلام والأعباء، فلقد كانت فترة دراسة صامتة وبطريقةٍ لا يعقلها إلا العالمون، ثم عدت إلى بلدي (متخمًا) أو على الأصح (منفوخًا) بما تزودتُ به من ثروة واسعة جديدة هي عندي أثمن من الجواهر واللآلئ، ومن كنوز توت عنخ أمون..! وأخذت أنظر إلى ثروتي القديمة، ومحصولي الأدبي، وإنتاجي الوافر في ربع قرن من حياتي الأدبية. ماذا أفعل فيه بعد هذه الدعوة؟ وقصائد الغزل النفسية الطريفة، والقصص السنيمائية الممتعة وغيرها التي لم يقدر لها النشر بعد..؟

أتطوى كل هذه الصفحات..؟ أجل... فأنا الآن في فجر حياةٍ جديدة. وهكذا دفنتُ من هذا الماضي ما يريد الإسلام أن أدفنه. ثم ماذا...؟ ثم طلبت بعد ذلك بقليل إلى العمل في المركز العام، وكنت إلى هذا التاريخ أقابل الأستاذ المرشد شامخ الأنف، وكما أقابل أي شخص آخر.. بالأنفة والكبرياء.. والبرود الصعيدي الذي تخصصت فيه، والذي لا يجاريني فيه أحد.. وكان الأستاذ- على ما كان يدركه عقلي يومئذ- محيي فيَّ هذا ولا يريد أن يصدمه.. وكنت أفهم فيه هذا فكنت أزداد مبالغةً فيه حتى أرى آخر موقفه مني في هذا السلوك فلم أجد منه إلا التواضع ولم أجد منه يومًا ما يُحرج عزتي.

وكان الأستاذ أيضًا- على ما دونت يومئذٍ في مذكراتي- كبير الأمل في هدايتي، شديد الحرص على أن أعمل في الدعوة شأنه- حفظه الله- مع الجميع، إلا أنه كان شديد العطف عليَّ برغم برودي المتناهي يومئذ، وسماجتي البالغة، وكنت أشعر إلى هذا كأنه يريد أن يجرب ما أدعيه له من إيمان عميق، ومؤهلات إيمانية كثيرة.

هذا بعض ما تصورته يومئذ، وهكذا كانت حالتي في صلتي بالأستاذ إلى أن طُلبت للعمل بالمركز العام، ولما جئت حضرت هكذا بلا مناقشة- وأول ما دخلت عليه قال بالنص: والله إني طول اليوم أُفكِّر في تدبير أمر حضورك.

ثم قال: هل جئت تسلم نفسك؟ قلت: نعم.. وكانت هذه المقابلة- وهذا بعض ما دار فيها- مبدأ انقلاب آخر جديد في حياتي زال على إثرها حالة الكبرياء التي كنتُ أقابل أستاذي بها، وذاب هذا وتحطَّم وأصبحت من يومها لا أحسن الكلام أمامه.

وأعود بعد هذا فأقول: إن الله أراد لي أن أعمل في المركز العام فكانت مرحلة جديدة من مراحل إيمان المشاهدة، ويراني الناس اليوم، أكاد لا أحسن أداء نطق الكلمة الواحدة أمام أستاذي فيظنونه (إيمان العجائز) ويؤيد هذا في نظرهم أن رأسي قد اشتعل شيبًا، وهذا اعتقاد خير لا أبرأ منه ولا أنفر، ولكن الناس لو عرفوني يوم قابلت المرشد، ولو عرفوا سيرة هذه الأعوام التي عملت فيها بجوار أستاذي، لغيروا رأيهم، ولعرفوا أن الرجال صناديق مقفلة، وأن العطايا مواهب، وأن القلوب بيد الله يصرف أمرها كما يشاء.

وفي هذه المدة استكملت عزتي الإسلامية، وكبريائي الجدير بأهل الإيمان- كما تعلمته من أستاذي، وكما أشرت إلى ذلك في مقدمة كتابي (رجل الساعة) عرفت أستاذي ودعوتي هذه المعرفة الواضحة، وتلقيت منه الدعوة نظامًا وجهادًا في سبيل إقرار هذا النظام بإيمان المستنير وليست دعوة فلسفية نظرية، فليتنبه الجاهلون المغرضون الذين يرمون المحصنين من المؤمنين بالباطل، ويتهمونهم في إيمانهم.

هكذا عرفت أستاذي ودعوتي وأنا ثابت على هذه المعرفة، ولقد وقفت هذا القلم من يومئذ على الإسلام ودعوته وحسبي هذا فخارًا وعنوانًا على صدق ما عاهدت الله عليه، وما حدت عن هذا الصراط المستقيم الذي تلقيته من أستاذي في جهاده وأخلاقه ومعاملته، وتطبيقه لمبادئ الإسلام في كل هذا، وبذلك غيرت الدعوة مجرى حياتي كلها من أول يوم. وإننا لا نقول هذا ليقال عنا ذلك، ولكن تحدثًا بنعمة الله ونسأله تعالى التثبيت، كما نسأله الهداية لأهل الغفلة والغرور، الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وينكرون على غيرهم جهاده وفضائله، فأحبطوا أعمال أنفسهم من حيث لا يشعرون.

والله أكبر ولله الحمد

* مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد 215 السنة السادسة 2 سبتمبر 1948م

المصدر