*6 الحلقة السادسة : الجانب الثقافي.. السبوع والشاعر وجريدة الأهرام

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (6)

الجانب الثقافي.. السبوع والشاعر الشعبي وجريدة الأهرام

كان الجانب الثقافي في القرية ضعيفا؛ إذ لم يكن في القرية من أدوات الثقافة غير المدرسة الإلزامية والكتاتيب الأربعة، والمساجد.

لم تكن هناك مكتبة في القرية، وكان المتعلمون فيها أقلية، وأكثرهم من خريجي الكتاتيب، وكانت الكتب التي يقرؤها الناس إما أنها كتب وعظية في الرقائق يبيعها كتبيون متجولون، وإما من كتب القصص الشعبي مثل قصة الزير سالم وهو المهلهل بن ربيعة عن مقتل شقيقه كليب وحربه الطويل مع قبيلة بكر.. وقصة "أبو زيد الهلالي" وسيرة بني هلال، ومنها قصة مرعي ويحيى ويونس أبناء أخت أبي زيد وقصة الناعسة وغيرها. وقصص محلية صغيرة مثل قصة سعد اليتيم وقصة أدهم الشرقاوي الذي قاوم الحكومة ليأخذ بثأر عمه.

وكان بعض الناس يقتني قصة عنترة بن شداد العبسي، وقصة سيف بن ذي يزن الملك اليمني.

وكانت أشهر هذه القصص قصة بني هلال وأبي زيد، وكان الناس يحفظون أحداثها ويتناشد بعضهم أشعارها وهي مؤلفة بالعامية، وممزوجة بالدين في صورة بسملة وحمدلة وصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل مناسبة.

وكانت المهرجانات الثقافية في القرية حين يستقدمون (الشاعر) ليحكي قصة أبي زيد على (الرَّبابَة)، ويلتف جل الناس في القرية حوله، ليستمعوا إلى القصة في إعجاب وتأثر وتفاعل مع الأحداث، وكان الشاعر يقضي عدة ليالٍ في حكاية القصة، ويقف في العادة عند مقطع مهم، كأن يترك البطل أسيرا أو نحو ذلك من المآزق، على نحو ما يفعل الآن مخرجو المسلسلات الدرامية، ويبيت الناس مشغولين: كيف يخرج البطل من مأزقه؟ حتى يأتي الحل في الليلة التالية.

ولم تكن في القرية سينما، ولا يعرف الناس التمثيل، إلا من خلال عمل فني بسيط مكرر يقام في (الأعراس) اسمه (الخيال)، وقوامه رجل (كوميدي) من أهل القرية اسمه (زهران) ومعه مساعدان يقدمون قصة اجتماعية مضحكة للناس، تكاد تتكرر في كل عرس.

وكانت جريدة (الأهرام) هي الصحيفة الوحيدة المعروفة في ذلك الوقت، وكان لا يقرؤها إلا القليل جدا من أهل القرية، معظمهم من (الأعيان) القادرين على شرائها يوميا بنصف قرش أو (قرش تعريفة).

وحين ظهر الراديو في القرية أحدث ضجة في حياة الناس، ولم يكن عامة الناس يقتنونه؛ فقد كان ثمنه أكبر من طاقتهم، ولكن كان في القرية قهوة يسمونها (القهوة الكبيرة) كان مستواها راقيا بالنسبة إلى غيرها من (القهاوي) فهذه كان فيها (راديو) أو مذياع كما سماه (المجمع اللغوي)، أو مجمع فؤاد الأول للغة العربية –كما كان يُسمى في ذلك الوقت-.

ولكن الناس لم يستخدموا كلمة (المذياع)، وظلوا يستخدمون كلمة (الراديو)، كما ظلوا يستخدمون كلمة (التليفون)، ولم يستعملوا كلمة (المسرة) التي وضعها له المجمع.

كان أبرز ما يهم الناس من الراديو (نشرة الأخبار) وسماع الشيخ "محمد رفعت" قارئ القرآن المبدع الذي كان له عشاق يترقبونه، وقل أن يجود الزمان بمثله.

كان معظم المثقفين في القرية من خريجي الأزهر، وقليل منهم من دار العلوم، ومن دار المعلمين، فقد كان الأزهر هو جامعة الفقراء، وأبناء الشعب الذين لا يملكون دفع رسوم التعليم العام، الذي كان يكلف من يدخله كثيرا. أما الأزهر فكان التعليم فيه مجانا، بل ربما كان هناك أوقاف وقفت على طلبته أو بعضهم تعينهم على معيشتهم.

وكان خريجو الجامعة في الغالب مقصورين على أبناء الأعيان من الخضاروة أو النوايرة، وقل منهم من كان يجتاز كل المراحل، حتى ينهي الجامعة.

أما غير الأعيان، فكانوا بعيدين عن التعليم العام لكلفته، إلا قليلا جدا منهم، ومن هؤلاء قريب لنا كان تاجرا، وكان متزوجا من ابنة عمتي، وأصر على أن يعلم ابنه الأكبر في مدارس الحكومة، على رغم ما يكلفه ذلك.

كان أعظم مصدر للثقافة في القرية هو المسجد، ففيه تلقى خطبة الجمعة كل أسبوع وتلقى بعض الدروس، كما تنشط فيه الحركة الثقافية خلال شهر رمضان، فهناك درس بعد صلاة العصر من كل يوم، ودرس بين المغرب والعشاء وقبل صلاة التراويح.

ولكن قيمة المسجد وروحه وجوهره إنما تتمثل في (شيخ المسجد) أو إمامه وخطيبه ومدرسه، وقد كان حظ مسجدنا القريب من بيتنا -وهو (مسجد المتولي) وهو جامع كبير عريق- سيئا في مطلع صباي؛ حيث كان خطيبه الدائم والمتطوع الشيخ أحمد مولانا الكبير، ثم ابنه الشيخ أحمد مولانا الصغير، يخطبان فيه من ديوان قديم مسجوع، خطبا تقليدية معروفة، موزعة على أشهر العام الهجرية، وتكاد تتشابه كلها في المواعظ والتذكير بالموت والقبر والآخرة والجنة والنار، والترغيب في عمل الصالحات، والترهيب من فعل السيئات. وليس للخطبة موضوع محدد تعالجه.


الفنون في القرية

كان للقرية فنونها الخاصة بها، الملونة بلونها، المعبرة عن طبيعتها وبساطتها، وآلامها وآمالها، هناك فن الغناء، غناء الفرح والطرب، وغناء الحزن والألم.

أما غناء الفرح والسرور، فيتجلى ويبرز في مناسبات شتى، أهمها (الأعراس) حتى إن المصريين يعبرون عن (الأعراس) بكلمة (الأفراح). ولأهل القرية أغان وأهازيج جميلة بلغتهم العامية يعبرون بها عن فرحتهم، بعضها مما يشيع في بلدان مصر كلها تقريبا، مثل: يا عروستنا يا لوز مقشر تعالي.

وبعضها خاص بأهل القرية، حتى سمعت أن إحدى القرويات كانت تؤلف أغانيَ معينة، يُتغنى بها في المناسبات، مع أنها أمية، وكانت عندها الحاسة الفنية أو الشعرية، ربما لو تعلمت لكانت شاعرة مسموعة.

وهناك أغانٍ تُقال في الاحتفال بالمولود عند ولادته، وخصوصا عند الاحتفال بمرور أسبوع عليه، ويسميه المصريون (السبوع) ويوزعون الحلوى، وتزغرد النساء، ويدقون للطفل (الهون) ويضعونه في (الغربال) ويقولون له ما هو مشهور اليوم في الأغاني المذاعة: برجالاتك، برجالاتك، يا سلام سلم على شرباتك... إلى آخر ما يقال. وهذا الاحتفال له أصل شرعي، وهو (العقيقة) التي تذبح للمولود في اليوم السابع من ولادته.

وهناك الاحتفال بختان الذكور، وهذا أيضا يظلون يحتفلون به قبل حدوث الحدث بنحو أسبوع، ويوم الختان تذبح ذبيحة أو يطهى الطعام وتوزع الحلوى، ولهم في ذلك أغنيات معروفة أيضا. وأعتقد أنهم ينطلقون في الاحتفال بهذا الختان باعتباره من (شعائر الإسلام). ولهذا يحتفلون بختان الذكور، ولا يحتفلون بختان الإناث، ولا سيما أنه يقوم على الستر.

وكان الغناء شائعا في القرية في ألوان شتى:

- بين بائعي الفاكهة والخضروات وأمثالهم، حيث ينادون على سلعهم بأصوات منغمة.

- وكذلك بائع العرقسوس يغني ويضرب بالصاجات.

- وهناك البنَّاؤون والفَعَلَة، يباشرون أعمالهم وهم ينشدون الأهازيج التي تهون عليهم أعمالهم، على نحو ما كان يفعله الصحابة، وهم يبنون المسجد النبوي، ويقولون: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.

وهناك غناء (المسحراتي) في شهر رمضان، حيث لكل ناحية مسحراتي خاص بها، وهو يمر بعد منتصف الليل على البيوت، وينادي على رب البيت بالألحان، وقد يسمي أفراد الأسرة فردا فردا، أو أهمهم. وأذكر مسحراتي حارتنا وهو يقول: يا عم أحمد قم اتسحر، لمّ أولادك واستغفر. كلوا واشربوا هناكم الله. وقد وجد في القرية مسحراتية فنانون، يؤلفون الأناشيد والأغاني ثم يغنونها بألحانهم.

وهناك فن (المواويل) وهو فن يغني فيه الإنسان لنفسه، أو لأصحابه من حوله. ويبدأ غالبا بمناجاة الليل: يا ليل، يا عيني، يا ليلي…

ومن المواويل ما يتعلق بالعشق والغرام، وكثيرا ما يكون مطلعها: قلبي عشق بنت بيضاء واسمها ليلى. أو سعدى، أو لبنى ... إلخ.

وبعض المواويل يتضمن الشكوى من الحبيب، أو سفره الطويل، أو فراقه لأي سبب كان. ومما أذكره هنا موال مؤثر كان يغنيه بعض الناس بتأثر عميق وفيه يقول: دق الهوى الباب، أنا قلت حبيبي جاني. ونزلت فرحان وخدت الباب في أحضاني، لما لقيت الهوا والباب كذابين، رجعت أعيّط وأعيد اللي مضى تاني!

وبعض المواويل تتضمن الشكوى من تغير الأصحاب، وتلونهم، وسوء معاملتهم. ومنها هذا الموال:

بالـتبر مـا بعـتكم بالـتبن بعـتوني


في الـبحر ما فتّكم ع الـبر فتوني

أنا كنت شمعة في وسط البيت طفيتوني


أنا كنت وردة على الخدين قطفتوني

ومن هذه المواويل ما يشكو من تقلب الزمان، وتغير الأحوال على الناس، مثل هذا الموال:

يا تاجر الـود هو الـود شجـره قـلّ


ولا سواقي الود جفت وماؤها اختل

أيام بنشرب عسـل وأيام بنشرب خـل


وأيام بنلبس حـرير وأيام بنلبس فـل

وأيام ننام على الفراش وأيام ننام ع التل


وأيام بتيجي على أولاد المـلوك تنذل

وكثيرا ما يغني الناس لأنفسهم، يبكون حظهم العاثر، وظروفهم البائسة، وقد حكى الشيخ الغزالي -رحمه الله- ما سمعه من غناء (عمال التراحيل) الذي يحملون من قراهم في (لوريات) كما تنقل الأغنام والمواشي، وينقلون إلى قرى أخرى يعملون في مزارعها لجني القطن أو نحو ذلك، وهم يعيشون فيما يشبه الحظائر، ويأكلون (المش) بدوده، معتقدين أن (دود المش منه فيه) جاهلين أن سببه الذباب.

ومما أذكره ما سمعته من إحدى قريباتي، وقد تعثر حظها في الزواج، وتأخرت عمن هو أقل منها، ثم لما تزوجت لم يلبث زوجها أن توفي، وهو شاب فكانت تندب حظها، وتنشد لنفسها:

يا كـاتب الـخيبة اكتب وسمّعني


يا هل ترى الخيبة: ما لهاش حدود يعني!!


الغوازي

ومن الفنون الدخيلة على القرية: فن (الرقص الشرقي) الذي كان يفد إلى القرية ما بين الحين والحين في صورة (الغوازي) جمع (غزية) وإن كان الصواب أن يكون مفردها (غازية) ولكن كلمة (غزية) أخف على ألسنة العوام. كانت الغزية ترقص وتتلوى، وهي كاسية عارية، كما تتلوى الأفعى، وتنفث سمها كالأفعى. وهي بالفعل أشبه شيء بالأفعى. ناعم مسها، قاتل سمها!

هذا الاسم (الغوازي) له دلالته، فهنَّ (يغزون) القرية الهادئة الساكنة بهذا الفن الخليع، وقد شهدتهن في الصبا يقمن بحركات مثيرة للغريزة الجنسية، مصحوبة بكلمات مكشوفة أشد أثرا، يؤدينها في صورة أغان خفيفة، وبعض الموسرين ينثرون النقود بين أيديهن، ويتنافسون في ذلك، ليخصصنهم بالرقص أمامهم. وهن يمكثن في القرية بضعة أيام في الغالب، مع من يصحبهن من بعض الرجال، الذين يعملون معهن، ثم يرتحلن عن القرية، وقد خلفن فيها من بذور الفساد ما خلفن، ويحمد الرجال الصالحون ربهم على ارتحالهن، وينشد من ينشد:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو


فلا رجعت ولا رجع الحمار!