*4 الحلقة الرابعة : الجانب الاقتصادي.. مقايضة وملاليم وراحة بال
الحلقة (4)
محتويات
الجانب الاقتصادي.. مقايضة وملاليم وراحة بال
كانت الأشياء في قريتنا ـ في الثلاثينيات من القرن العشرين، وهي التي بدأت فيها أعي ما حولي ـ رخيصة جدا، كان المليم واحد من عشرة من القرش صاغ عملة متداولة له قيمة، يأخذه الطفل الواحد ـ الذي يكون أبوه في سعة ويسر ـ مصروفا له فيشتري به من الحلوى ما يشبعه، وكنت أشتري به (الطعمية) فيكفي لإفطاري أو عشائي. وفي بعض الأحيان آخذ مع المليم بيضة لبائع الطعمية ـ وهو صانعها ـ أيضا فيعمل لي بالبيضة عجة، ويكون هذا من الرفاهية.
بل كان هناك نص المليم، يسمونه (عشرين خردة) ولا أدري ما الخردة هذه؟ وكانت تستعمل ويشترى بها، إما وحدها، أو كسرا مع الملاليم. وكانت هذه الملاميم تصنع من النحاس، فتظهر أول ما تظهر لامعة براقة، ثم تنطفئ بالاستعمال.
وكان هناك عملة بمليمين يسمونها النكلة، وعملة أخرى بمقدار مليمين ونصف يسمونها (عشرين تعريفة). ثم نصف القرش ويسمى (قرش تعريفة)، ثم (القرش صاغ) وهي عملة محترمة. وهذه العملات كلها من النيكل الأبيض.
ثم تأتي عملة بقرشين صاغ، وهي عملة صغيرة من الفضة، وتسمى في عرف الناس (نصف فرنك)؛ إذ الفرنك ـ وهو عملة فرنسية ـ كان يقارب الأربعة قروش. وهناك الـ (خمسة قروش) والـ (عشرة قروش) وتسمى (البريزة) والـ (عشرون قرشا) وتسمى (الريال) وكلها عملات فضية.
وبعد ذلك الجنيه، وهو عملة ورقية، ولم يكن هناك عملة ورقية إلا الجنيه ومضاعفاته، الخمسة والعشرة جنيهات، ولم تكن هناك عملة أكثر من عشرة جنيهات. ولم أدرك عصر الجنيهات الذهبية.
والذي أذكره في تلك الفترة: أن العملة كانت قليلة جدا بين الناس، ولا يكاد يجد النقود في جيبه إلا الموظف الذي يقبض راتبه كل شهر. أما الفلاح فلا يكاد يجد النقود إلا عندما يبيع القطن، أو يبيع القمح أو الذرة، وهو لا يبيع منهما إلا ما فاض عن قوت العائلة، فالناس يخزنون أقواتهم من القمح خاصة في (زواليع) يصنعونها من الطين، ويضعون فيها القمح ـ أو الغلة كما يسمونها ـ ليقوها من التسوس.
وأذكر أن فلاحا تخاصم مع جار له كان موظفا ببلدية المحلة، ويتقاضى راتبا كل شهر مقداره جنيه مصري واحد، فقال له الفلاح: من حقك أن تتطاول عليّ، ما دمت تعمر جيبك في أول كل شهر بجنيه مصري كامل! ورد عليه الآخر قائلا: أعوذ بالله من الحسد، يا ناس يا شر، كفاية قر!!
وكثيرا ما كان الناس يشترون حاجاتهم بالبيض أو بالذرة، ونحو ذلك، لعزة النقود بينهم.
وكثيرا ما كانوا يدفعون الأجرة لبعض الناس من الحبوب ونحوها من المزروعات، مثل الحلاق (أو المزين كما كان يسمى)، فهو يأتي إلى البيوت ليحلق لأفراد العائلة بصفة دورية كل شهر أو أسبوعين أو أسبوع حسب الاتفاق. ويدفعون له في موسم القمح وفي موسم الذرة.
وكذلك القارئ الراتب، الذي يأتي كل يوم إلى البيت ليقرأ فيه ربعا من القرآن أو ما تيسر له، يأخذ أجره من حصاد كل موسم.
حتى الشحاذون، كانوا يأخذون صدقتهم من الطعام، وخصوصا الخبز، ولا يطمعون أن يعطوا نقودا، فهي لم تكن ميسورة لعموم الناس.
وكان فقيه الكُتَّاب يأخذ من أولياء تلاميذه من المواسم الزراعية أيضا، فضلا عن قرش التعريفة الذي يدفع له كل أسبوع.
كانت الحياة الاقتصادية تقوم أساسا على الزراعة، فلو أصابت الزراعة آفة، مثل (الدودة) التي كانت تأكل القطن أحيانا، وتدع أرضه سوداء، ففي هذه الحالة تكون السنة (سوداء) على الناس، ولا سيما المستأجرين للأرض منهم، الذين يطالبهم المالكون بأجرتها، وهم لم يحصلوا منها نقيرا ولا قطميرا. وكان ملاك الأرض متجبرين على الفلاحين، لا يرحمونهم في تلك الحالة، ولا يراعون ما نزل بهم من (جوائح)، بل يطالبونهم أن يدفعوا، المهم أنهم سلموهم الأرض، ولا عليهم أنتجت أم لم تنتج. وأقصى ما يفعله الرحيم منهم أن يقسط الأجرة على عدة سنوات.
وهذه المشاهد التي رأيتها في القرية هي التي جعلتني أرجح المذهب الذي يمنع (إجارة الأرض البيضاء بالنقود)، وأفضل عليها (المزارعة) التي يشترك فيها الطرفان في المغنم والمغرم. فإن كان ولا بد من الإجارة، فلتكن مصحوبة أو مشروطة بوضع (الجوائح) إذا نزلت الزارع.
كان الغنى في القرية يتمثل في ملكية الأرض الزراعية، وهي التي يسميها الناس (الأطيان) جمع طين، فبقدر ما يملك الرجل من هذا الطين يكون غناه، وفي قريتنا أرض مملوكة لبعض الباشوات مثل (أرض رياض باشا)، وبعضها مملوكة لآل خضر من أعيان البلد، ولآل نوير من أعيانها أيضا، أو لبعض الأعيان من بلاد مجاورة، مثل أرض (الدبور) و (أرض البنك) وله عزبة قريبة من القرية تسمى (عزبة البنك). وكان حول قريتنا عدد من (العِزَب) تتبع القرية، ومعظم أهلها يعملون مزارعين عند المُلاك الكبار، أو عمالا لهم.
وملكية الأرض تعني ملكية عدد من المواشي والأنعام تدل على مقدار الثراء والنعمة، وكانت منازل الناس ومراتبهم في القرية تتفاوت علوا وهبوطا، بمقدار ما يملكون من الأطيان؛ لأن الذي لا يملك الطين لا بد أن يعمل مستأجرا لأرض غيره، أو عاملا بالأجرة في أرض غيره.
فكان رأس مال الفلاح أرضه وبهائمه، وأكثر الفلاحين يملك جاموستين أو جاموسة وبقرة وحمارا؛ لأن الحراث تجره ماشيتان، فهو محتاج إلى اثنتين لا واحدة.
وكان موت الجاموسة يشكل (مأتما) عائليا، لمن ابتلي به، فالجاموسة رأسمال، لا يستطيع الفلاح بسهولة أن يعوضه. وأذكر في صغري أن أسرتنا ابتليت بذلك أكثر من مرة، ولا سيما في فصل الربيع، وكان الناس يعزونهم في تلك المصيبة.
تابع في الجانب الاقتصادي:
- طعام الفلاحين لبن وسمك وفطير وجميز
- القرية حرة لا تأكل من غير يدها
- سوق القرية وزارة اقتصاد كاملة
طعام الفلاحين: لبن وسمك وفطير وجميز
وكانت أطعمة الناس في عمومها من زراعتهم، فخبزهم الغالب من الذرة، وأحيانا من القمح، وكذلك الفطائر والقرص والعصائد والكنافة والكعك والبسكويت، ونحوها كلها من القمح. وكان الكعك وما تفرع عنه من الغُريبة وغيرها لا يستعمل إلا في عيد الفطر، وفي الأعراس خاصة.
كان الخبز هو القوت اليومي والطعام الرئيس للناس، وأحيانا يكون الأرز، ولما ظهرت المكرونة بدأ بعض الناس يستعملونها على قلة. ولذلك يسمي الناس الخبز (العيش) أي الحياة؛ لأنه أساس معيشة الناس وحياتهم.
وأما ما يطهوه الناس من إدام لهم، فكان معظمه من نتاج الزراعة: الباميا والملوخية والباذنجان والكوسة واللوبيا والرجلة والخبيزة ونحوها، وكلها من إنتاج مزارع القرية.
ومن البقوليات المنتشرة: الفول والعدس واللوبيا الجافة، وكان الفول يستعمل (مدمسا) ويستعمل (بصارة)، ويستعمل (نابتا) ويستعمل (طعمية) ويؤكل أخضر بالجبنة، ويطبخ أخضر أيضا.
كما كان الناس يستخدمون الخضراوات طازجة من الحقل، مثل: الفجل والكراث والبصل والفلفل الأخضر والخس، والسريس والجعضيض، والطماطم والخيار والقثاء وغيرها.
أما اللحم فلم يكن يعرفه معظم الناس إلا مرة كل أسبوع، يوم الأربعاء، وهو يوم سوق القرية؛ حيث تكون معظم الذبائح من الجاموس الكبير وهو لحم أكثر الناس، وبعضه من الصغير، ويسمونه (الكندوز) وأحيانا من البقر، وقليل من اللحوم يكون من الغنم (الضأن والمعز) ومن العجول الصغيرة (البتلو). وكانت اللحوم لا تباع لجمهور الناس إلا يوم السوق. أما في خلال الأسبوع، فكان بعض الجزارين (اثنان أو ثلاثة) يذبحون مرتين أو ثلاثة للموسرين من أهل القرية، وفي العادة يذبحون الخراف أو (البتلو) وهي العجول (اللبانية) الصغيرة وهي التي تذبح بعد أربعين يوما من ولادتها في الغالب، ولحمها مميز وأغلى من غيره.
وكان مما يقوم مقام اللحم: السمك: اللحم الطري كما سماه القرآن، وكان أرخص من اللحم كثيرا، وأحيانا يصطاده الناس بأنفسهم، من المساقي والبرك، خصوصا عندما يقل ماؤها.
وقد اشتركت بنفسي في صيد السمك الصغير من القنوات الصغيرة مع زملائي، والسمك الذي يؤكل من الصيد يجد له المرء لذة لا يجدها في غيره من الأسماك. ولا سيما في ذلك الزمن، الذي كان سمك النيل وما تفرع منه لا يدانيه سمك آخر في طعمه ولذته.
وكان هناك أنواع من السمك الرخيص مَنَّ الله به على الفقراء، يأتي في أقفاص من خارج البلد، يسموه (الشِّرّ) الأقة فيه بقرش صاغ، وربما بنصف قرش.
وكان بعض الفقراء لا يجدون اللحم حتى يوم الأربعاء، ويقول المثل عنهم: اللحمة من العيد للعيد، والسكر في المرض الشديد!
وكان الله تعالى يعوضهم عن البروتين الذي يجدونه في اللحم، ببروتين آخر يجدونه في اللبن ومنتجاته، فهو غذاء يومي تقريبا.
وأذكر في طفولتي أنه كان لي وعاء صغير آخذ فيه اللبن من ثدي الجاموسة أو البقرة، وأثرد فيه الخبز الجاف بعد أن أكسره وأدقه، فيصبح (تسقية باللبن). وأحيانا أفطر على اللبن الرايب وكثيرا ما يخلط بشيء من القشدة والجبن، ويعتبر هذا ضربا من الرفاهية.
كما كان كثير من الناس يستغنون عن شراء اللحم من السوق بذبح الطيور والدواجن التي يربونها في البيوت، مثل الدجاج والبط والأوز والحمام والأرانب. وكثيرا ما تذبح هذه الطيور عندما يطرأ على العائلة ضيف، فإذا لم توجد هذه الطيور، كثيرا ما يصنع الناس (الفطير المشلتت) يقدم مع العسل الأسود أو مع الجبن للضيف. وقد يقدمون (فطير الذرة) وهو شهي جدا، إذا حشي بالجبن والقشدة، وأكل ساخنا، وكأني أراه قد انقرض اليوم من الريف المصري.
أما الفواكه فكان استعمال الناس لها قليلا، إلا الفواكه الرخيصة مما تنتجه أرض البلد من البطيخ البلدي والعجور، وأحيانا الشمام، والجوافة، وبلح أحمر ورطب، والجزر والتوت والجمّيز، وهو فاكهة شعبية تشبه التين في شكلها. فيها قال الشاعر قديما:
أما ترى السوق قد صفت فواكهها للتين قوم، وللجميز أقوام!
أما (التوت) فقد كانت أشجاره منتشرة بعضها حول بعض البيوت، وكان في بيت إحدى خالاتي جنينة فيها شجرة توت كنا نذهب إليها في موسم التوت لنتسلقها ونقطف من ثمارها، وكانت في غاية الحلاوة.
وكان هناك عند بعض الحقول التي يزورها عمي أشجار حول أرض تسمى (أرض البنك)، يبدو أن بعض البنوك الربوية قد حجز على هذه الأرض، في مقابل ديون لم يقدر أصحابها على الوفاء بها. فكان حولها نحو ثلاثمائة شجرة للتوت، وكنت أذهب مبكرا لأقطف من هذا التوت، وأنتقي أكثره نضجا وسوادا، فأستمتع به فاكهة شهية، بلا ثمن يدفع، ولا حارس يمنع، وهذا من فضل الله على الفقراء.
وقد بقيت هذه الأشجار حتى قطعت كلها أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لحاجتهم إلى الأخشاب وغلاء ثمنها في الأسواق.
وما عدا ذلك، فإن الفاكهة ـ غير الشعبية ـ تعتبر من (النعيم) الذي يبحث عنه الأغنياء، يقدرون على تكاليفه. أما عامة الناس، فحسب الواحد منهم: رغيف يكفيه، و(هدمة) تستره، وبيت صغير يكنه.
على أني قد مَنَّ الله تعالى عليّ بأن جدي لأمي ـ وخالي بعده ـ كانا من تجار الفاكهة المعروفين في منطقتنا، وكان هذا فرصة لي ولأولاد خالاتي لنشبع من الفواكه التي يحرم منها الكثيرون. ولعل هذا ما جعلني إلى اليوم مولعا بألوان كثيرة من الفاكهة، ولا يطيب لي الطعام بدونها، والشخص أسير ما تعود، كما قال المتنبي: لكل امرئ من دهره ما تعودا.
هذه صورة لأطعمة القرية في صباي، وأما مشاربها، فقد كان الماء يستقى من ترعة البلد، يأتي بها نساء القرية في جرار يملأنها، ويحملنها على رؤوسهن برشاقة، ونرى الصبايا في البكرة، أو في الأصيل، يذهبن بجراتهن فارغات، ويعدن بهن ممتلئات، ويمشين بهن متبخترات.
وكانت مياه الترعة ـ خصوصا في أيام فيضان النيل ـ تحمل كثيرا من الطين. فكن يحككن الجرات بنوى المشمش، فيرقد الطين، ويصفو الماء.
وبعض الناس يضعن الماء في (الزير) وهو يتسع لعدة جرات، وفيه يرقد الطين، ويبرد الماء، وكثير منهم يقطر الماء من الزير، ويضع تحته وعاء يستوعب هذا الماء المرشح النقي، فيشرب هنيئا مريئا.
وكان الناس يستعملون القلل لتبريد الماء، وكانت هي أيضا ثلاجات الفقراء، تملأ وتوضع في صينية خاصة بها، وتوضع في جهة بحرية (شمالية) فتهب عليها الرياح الباردة فتبردها.
وفي أيام النخاريق التي تهبط فيها مياه النيل إلى حد كبير، تجف ترعة القرية تماما، ويضطر نساء القرية ـ وهن المسؤولات عن سقي كل عائلة ـ أن يذهبن إلى (البحر الكبير) وهو (بحر شبين) ليملأن منه جرارهن رغم بعد المسافة: أكثر من اثنين كيلو متر ذهابا، ومثلها إيابا.
القرية حرة لا تأكل من غير يدها…
كانت القرية ـ بصفة إجمالية ـ مكتفية بذاتها في اقتصادها، وتكاد تستغني عن المدينة تماما في طعامها وشرابها، ولكنها تحتاج إليها في ملبوساتها بصفة عامة، وإن كان في القرية نساجون، ينسجون بعض (البشوت) أو (البطاطين) وفي بعض القرى كانوا ينسجون بعض الثياب، وكنا نشتريها من هناك مثل قرية (كوم النور) بجوار ميت غمر.
وكانت معظم الصناعات التي تفتقر إليها القرية موجودة فيها، ففيها النجارون: منهم نجار (الساقية) الذي يصنع الساقية لري الأرض، وكذلك (الطنبور). وكذلك أدوات الزراعة المختلفة، مثل المحراث والنورج والقصابية وغيرها.
وهناك النجار الذي يصنع الأبواب والنوافذ و(الشبابيك)، ولا سيما ذات (الشيش) المعروف.
وهناك تجار الأثاث (الموبيليات)، مثل الخزائن (الدواليب) واليوريهات ونحوها، وكانت الأسِرَّة في ذلك الوقت من الحديد أو النحاس أو النيكل، على حسب مراتب الطبقات لا من الخشب، إلا أن (المُلَّة) وهي الألواح الخشبية التي توضع على السرير لتفرش عليها الحشايا (المراتب) كما يسمونها.
وكانت تجارة الأثاث محدودة في القرية، إذ الغالب أن يذهب الناس إلى المدينة (المحلة الكبرى) وهي مركز القرية، ليشتروا منها متطلباتهم من الأثاث، وكثير من حاجات الأعراس.
وكان في القرية أكثر من حداد، ليصنع الفؤوس والقواديم، وأسلحة المحاريث، وغيرها من الأشياء التي تحتاج إليها الزراعة، وبعض الأشياء التي يحتاج إليها الناس في البيوت، مما لا يحتاج إلى (تقنية) عالية.
وكان فيها عدد من البنائين المتقنين، الذين يقومون بعمل المصمم والمقاول والبناء، وأحيانا يقومون بعملية (الصلب) وهو حمل السقف وما فوقه على أعمدة من الخشب، لتغيير بعض الجدران التي أصابها العطب أو الخلل، حتى لا يحتاج إلى هدم البيت كله وبنائه من جديد، وكان زوج إحدى خالاتي من هؤلاء البنائين المجيدين.
وكان هناك عدد من (الخياطين) الذين يخيطون للناس (الجلاليب) البلدية والإفرنجية، وخصوصا جلاليب الصوف أو الكشمير أو (السكروته) وهي نوع من الحرير، الذي اشتهر لبسه بين الموسرين، ولا أدري أهو حرير طبيعي أم صناعي؟
ومن هؤلاء من اشتهر بخياطة العباءات التي تصنع من الجوخ أو الصوف (ماركة الإمبريال) ويطرزونها بخيوط الحرير في أطرافها، ويلبسها أهل اليسار عادة في الأعياد والأعراس والمناسبات.
وكان في القرية سمكري ـ أو أكثر ـ يلحم الأشياء المعدنية، وأكثر من مبيض للنحاس، وفيها من المهن من يصلح وابورات الجاز، وفيها من يصلح (كوالين) الأبواب، وفيها أكثر من (إسكاف) يصلح نعال الناس، بل فيها من (يفصل) أحذية للناس على قدر أقدامهم.
وفيها من ينزح آبار صرف المراحيض إذا امتلأت، ويسمى (السرباتي) وفي أمثالهم: الاسم جوهر، والصنعة (سرباتي)! وفيها ميكانيكية يعملون في إدارة ماكينات (الطحين) أو (ماكينات الري) أو تصليح بعض الآلات كالبنادق ونحوها.
سوق القرية.. وزارة اقتصاد كاملة
وكان اقتصاد القرية يتجسد كل أسبوع في سوقها الدوري.
وكان سوق قريتنا كل يوم أربعاء، وهو يوم حركة تبادلية، يبيع الناس فيها ما يفضل من منتجاتهم، ويشترون منه ما يحتاجون إليه. وكان التجار يأتون من القرى المجاورة، ليبيعوا ما لديهم، كما كان تجار قريتنا يذهبون إليهم أيام أسواقهم، مثل سوق القرشية يوم السبت، وسوق الهياتم يوم الأحد، وسوق محلة روح يوم الاثنين، وسوق المحلة الكبرى يوم الثلاثاء، وسوق سجين الكوم يوم الخميس، وهكذا نجد الأسواق المحلية تملأ أيام الأسبوع.
ولم يكن سوق بلدنا مكانا مهيئا للبيع والشراء، معدا لهذا الغرض، مثل سوق القرشية أو شبشر من حولنا، بل كان السوق ينصب بين المساكن، وفي قلب القرية، بجوار مسجد المتولي وبالقرب من منزلنا وحارتنا.
وقد تعارف الناس فيه أن يكون لكل فئة منهم في الغالب مكان مخصص لهم توارثوه عرفا، فلا يعتدي أحد على أحد، والمعروف عرفا، كالمشروط شرطا، فكل واحد يحجز له مكانه حتى ينزل فيه.
فهناك مكان لتجار الأقمشة، ويسمونها (الماني فاتورة)، ولم أبحث سبب هذه التسمية ومن أي لغة أخذت، هل هي من اليونانية؟ أو من غيره؟
فكان في هذا السوق مكان للخضراوات: من الفلفل والجزر والطماطم والخيار والقثاء والعجور، والبطيخ والبصل والثوم واللوبيا وغيرها.
وفيه مكان للفواكه، يباع فيها في كل موسم فاكهة الموسم في الصيف والشتاء: البطيخ والشمام والعنب والبلح والجوافة والبرتقال واليوسفي والمانجو وغيرها.
وكان فيه مكان للحبوب يسميه الناس (سوق الحب) تباع فيه المحاصيل الزراعية من الذرة والقمح والشعير والفول، وكان البيع بالكيل، وكان في السوق (كيالون) محترفون، إذا اشترط البائع أو المشتري ذلك، فيكون الكيال على حسابه، وإلا رضي بكيل التاجر الذي يشتري منه، وكثيرا ما كان يطفف، كما قال تعالى: "ويل للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" (المطففين: 1-3)، ويحتاج الناس إلى الكيال لا محالة إذا باع بعض لبعض لا لأحد التجار.
وكان هناك مكان للحم، حيث يعرض الجزارون لحومهم معلقة مكشوفة، وفي بعض الأحيان يعلن بعض الجزارين عن ذبائحهم في اليوم السابق، يمرون بها في القرية، ويقولون: سيبيعها فلان من الجزارين.
وهناك سوق للطيور وللدواجن، حيث يبيع الناس بعضهم لبعض.
وكذلك سوق للبيض، وللجبن الزبد، وإن كان كثير من الفلاحين يستحون أن يبيعوا هذه الأشياء، وإن كانوا في حاجة إلى أثمانها: من الطيور والجبن والزبد ونحوها. وكثيرا ما يعطونها لغيرهم، ليبيعها لهم للضرورة؛ لأنهم يرون هذه الأشياء لا تباع، وأن بيعها يعتبر عيبا، لا يليق بكرام الناس. وكذلك كانوا لا يبيعون اللبن، ومن باعه عير به، ومن اضطر إلى ذلك لحاجة باعه سرا لمن يحتاج إليه.
وهكذا رأينا المحور والقطب الذي تدور عليه رحا القرية هو (الأرض) أعني الأرض الزراعية، وكل ما يتصل بها، فهي التي تخرج النبات والزرع مختلفا ألوانه، وهي التي تغذي الحيوان والأنعام، التي لهم فيها دفء ومنافع ومنها يأكلون، والتي يسقيهم الله مما في بطونها من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين.
ومعظم التجارة في القرية تدور حول محاصيل الزراعة، أو المواشي، أو نحو ذلك.
وكذلك العمالة كلها تتصل بالزراعة، فالعمال الذين يعملون بأجر في القرية يعملون في محيط الزراعة: في بذر بذور القطن ونحوه، وفي تنقية الأرض من الحشائش ويسمى (العزق) وفي نشر السماد في الأرض، وفي تنقية القطن خاصة من (الدودة) التي تهدد محصوله بالضياع، وفي جني القطن إذا بلغ مداه، وغير ذلك من الأعمال التي تتعلق كلها بالزراعة، وهي أعمال غير منظمة في العادة، ولهذا يعمل هؤلاء العمال أياما، ويبقون أضعافها عاطلين لا يجدون عملا.
وظلت هذه الفئة تعاني من البطالة المتقطعة، حتى مَنَّ الله على قريتنا والقرى من حولها بإنشاء مصنع المحلة الكبرى للغزل والنسيج، أو ما سمي (شركة المحلة) فكانت هذه فرجا من الله على أهل المنطقة، فقد هرعوا جميعا إليها، وأضحوا عاملين في أقسامها المختلفة باليومية أو بالإنتاج.
ولكن الشركة في أول أمرها كانت تستهلك جهد هؤلاء العمال بثمن بخس دراهم معدودة، مستغلة حاجتهم بل ضرورتهم إلى العيش بأي أجر يعطى، ولم يكن هناك نقابات تدافع عنهم. وكانوا يعملون ورديتين، كل وردية اثنتا عشرة ساعة، وأذكر أنهم أضربوا مرة كما ذكر لي ابن خالتي وكان أحد هؤلاء، وكان هتافهم: من سبعة لسبعة (أي من سبعة صباحا إلى سبعة مساء أو بالعكس) بأربعة صاغ!
وقد ترتب على ذلك العمل على تحسين أحوالهم، فأصبحت الوردية 8 ساعات فقط، وغدت الورديات ثلاثا بدل اثنتين، وتحسن الأجر شيئا فشيئا، حتى تكونت نقابات العمال، وأمسى لهم كلمة مسموعة، ورأي ينصت إليه.