*28 الحلقة الثامنة والعشرون: العودة إلى مصر

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

العودة إلى مصر وبداية الخلافات مع الثورة

عدت -والحمد لله- إلى مصر، وقدمت تقريرًا إلى فضيلة المرشد العام عن الرحلة، وقد لقيت فضيلته بعد ذلك، وعلمت منه أنه قرأ تقريري، واهتم منه بما جاء عن حزب التحرير ومقولاته ومجاولاته.

وكانت الخلافات قد بدأت تبرز بين الإخوان ورجال الثورة، وخصوصًا بعد أن طلبوا من الإخوان أن يرشحوا لهم أسماء للاشتراك في الوزارة، فرشَّح مكتب الإرشاد لهم ثلاثة من أعضاء الجماعة، هم الأساتذة: منير دلَّة، وحسن العشماوي، وثالث لا أذكره الآن.

ولكن جمال عبد الناصر ورجاله كانوا يريدون أسماء لها رنين وشهرة لدى الشعب المصري، من أمثال الشيخ أحمد حسن الباقوري، والشيخ محمد الغزالي؛ ولذا رفضوا ترشيح المرشد أو مكتب الإرشاد، وعرضوا الوزارة بالفعل على الشيخ الباقوري، فقبل مبدئيًّا، وأبلغ الإخوان بذلك، فلم يمنعوه من القبول، ولكن اشترطوا عليه أن يستقيل من الجماعة.

وبدأت الخلافات تتسع بين الجماعة والثورة، ولا سيما عندما أرادت أن يكون لها حزب يمثلها، فلم تَعُد تقبل أن يكون الإخوان هم سندها الشعبي، بل لا بد أن يكون لهم رجالهم وجماعتهم المؤيدة لهم، والمؤتمرة بأمرهم، فبدءوا بإنشاء (هيئة التحرير) وأنشئوا لها فروعًا في كل العواصم والمراكز، وحتى بعض القرى، وبدأ شباب هيئة التحرير يحتكون بشباب الإخوان، وكان الإخوان حريصين على عدم الاصطدام بالهيئة الوليدة، وكانت هذه تعليمات المرشد العام.


رحلة إلى مدن الصعيد:

ومن ثم كلَّفني الأستاذ المرشد بتطواف مدن الصعيد في توعية للإخوان، وتوجيههم للثبات على دعوتهم، وعدم الذوبان في الآخرين، وتجنب الصدام معهم.

وقد طفت مدن الصعيد، وخصوصًا عواصم المديريات ابتداء من الفيوم، فبني سويف، فأسيوط، فسوهاج، فقنا، فأسوان، كما مررت ببعض المدن المهمة، مثل ملّوي، والقوصية بأسيوط، وأخميم بسوهاج، والمنشأة والعسيرات وجرجا بها، والأقصر ونجع حمادي وإسنا وفرشوط بمديرية قنا، وإدفو بمديرية أسوان.

وكان لي بكل هذه المدن محاضرات عامة، ودروس، ولقاءات خاصة، بنواب الشُّعَب وبالطلاب وبغيرهم؛ لإبلاغهم تعليمات المرشد العام.

وكانت هذه أول مرة أزور الصعيد كله بعد زيارة أسيوط لتأييد الأستاذ "أبو غدير" في الانتخابات، وقد تعرفت على عدد غير قليل في كل بلد من هذه البلدان، جمعنا بهم السجن الحربي بعد ذلك.

وكانت لي زيارة أخرى للصعيد بعد ذلك بطلب من إخوان الصعيد أنفسهم، وكانت الزيارة الأولى لي في أيام الشتاء، فكانت ملائمة جدًّا، وكانت الزيارة الثانية في مقدم الصيف، وهناك عرفنا جو الصعيد الحار، ولكن كنا في عصر الشباب لا نبالي بحرارة ولا برودة، مع الحماس للدعوة والاستغراق في آمال مستقبلها، وهموم حاضرها، فتكاد تستوي عندنا الفصول.

ومما أذكره هنا: أن الأخ عبد الله العقيل الذي قدم من العراق للدراسة في كلية الشريعة بالأزهر، أحد الناشطين في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي وقسم الطلبة، كان يرافقني في إحدى هذه الرحلات، التي مررنا بها معًا على كل مدن الصعيد المهمة، وكان لنا فيها محاضرات ودروس عامة، ولقاءات وجلسات خاصة، وكان لها أثرها الطيب في أنفس الإخوان حينما التقيناهم، كما تركت في نفوسنا ذكريات حسنة، لا زلنا نتحدث بها كلما لقيت الأخ عبد الله العقيل أو لقيني.


زيارة الورتلاني وتوصيته بالأقصري:

وفي تلك الفترة زرت الداعية المجاهد الشيخ الفضيل الورتلاني، أحد رجالات الجزائر ومجاهدي علمائها المرموقين، وقد كنت لقيته من قبل في بيروت في رحلتي الشامية السابقة، وكانت هذه الزيارة بناء على طلبه.

وقد عاد من بيروت معززًا مكرمًا من رجال ثورة يوليو باعتباره أحد رموز الجهاد الوطني والعربي، وقد رجا أن يراني في القاهرة حين يعود إليها، وقد أرسل إليّ لأزوره حيث يقيم، فاصطحبت أخي محمد الدمرداش، وذهبت لزيارته، وحدثنا عن بعض تجاربه في حياته الحافلة، وهي مثيرة وخصبة، وسألته أن يحدثنا عن شيخه الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسس (جمعية علماء الجزائر) التي قامت بدور معروف غير منكور في نهضة الجزائر، وأعادتها إلى هويتها العربية الإسلامية، بعد استماتة فرنسا في القضاء على هذه الهوية بالفرنسة التي تريد أن تلغي -أول ما تلغي- الإسلام والعروبة من الجزائر، وقام الشيخ ابن باديس، وإخوانه البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي، وغيرهم بمقاومة الفرنسة، بحركته التعليمية التربوية التثقيفية في كل ربوع الجزائر، وأنشأ الشيخ ابن باديس نشيده الذي كان يحفظه الجزائريون ويرددونه:

شعب الـجزائر مسلـم وإلى العـروبة ينتسب

من قال: حاد عن أصله أو قال: مات، فقد كذب

وأسَّس ابن باديس مجلة (الشهاب) التي كان يكتب فيها هو وإخوانه لتعميق فكرتهم، وتوصيلها إلى الشعب الجزائري.

وتحدث الشيخ الفضيل طويلاً عن شيخه بإعجاب وحب، وأنه كان يحوِّل دروسه كلها بقدرة فائقة إلى دروس تربوية ودعوية.

ومما ذكره لنا: أن ابن باديس كان يشرح لهم (الألفية) في النحو، ووقف عند البيت الأول فيها، وهو الذي يقول:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم

فبعد أن شرح الشيخ البيت من الناحية النحوية، عرج على الناحية التربوية فقال: انظروا إلى براعة الاستهلال في هذا البيت، فهو يقول: كلامنا لفظ مفيد، إنه يتكلم عن الجماعة المسلمة؛ ليعلن أنها لا تَهرفُ بما لا تعرف، ولا تلقي الكلام جزافًا، ولا تقول ما يضرها في دينها أو دنياها، إن كلامها (لفظ مفيد) ليس عبثًا ولا ضارًّا.

ثم اختار التمثيل بكلمة (استقم)، وهي التي أمر الله بها رسوله (صلى الله عليه وسلم) في كتابه: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت" (هود: 112)، وأوصى بها رسوله من سأله من أصحابه عن وصية جامعة، فقال: "قل: آمنت بالله ثم استقم" رواه مسلم.

وذكر لنا أشياء من هذه المواقف، تُعَدُّ غاية في الروعة.

وفي هذا اللقاء حاول الشيخ الورتلاني أن يملأني ثقة بنفسي، فقال: أرى فيك متشابهًا من الأستاذ حسن البنا، وهذا يلقي عليك تبعات، فقلت له: يا أستاذ وأين يوسف القرضاوي من الأستاذ حسن البنا؟ وأين الثرى من الثُّريا؟

فثار عليَّ وقال: لا تحقر نفسك، إن حسن البنا عنده قدرات ليست عندك، وأنت عندك قدرات ليست عنده، ومجموع مواهبك يؤهلك لتقوم بدور، فلا تنسحب منه، ولا تبخس نفسك حقها.

قلت: أسأل الله أن يجعلني أهلاً لثقتك وحسن ظنك.

قال: ستثبت لك الأيام حسن ظني؟

قلت: أرجو الله. وقد قرأت في حِكَم ابن عطاء الله السكندري: إن الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذامًّا لنفسك لما تستيقنه منها، أجهل الناس من ترك يقين نفسه لظن ما عند الناس.

قال: وهذا يزيدني ثقة بك.

وكان أخي الدمرداش يستمع إلى حديثه عني، وهو منفرج الأسارير، فقد كان -رحمه الله- شديد الحب لي، والاعتزاز بي، إلى حد الإسراف أحيانًا.

وفي نهاية اللقاء قال لي: هنا أحد إخواني من شباب علماء الجزائر النابهين، وقد جاء ليكمل دراسته بالأزهر، وهو من قريتي، ولا آمن أن يعيش مع أحد من مصر إلا معك، فأنا أوصيك به خيرًا، ولعلها تكون فرصة له لينهل منك شخصيًّا ومن الإخوان وروحهم بصفة عامة، وكان هذا الأخ في الخارج فناداه فحضر، وقال: هذا هو (محمد الأقصري) أمانة في عنقك.

وكان محمد الأقصري شابًّا أديبًا قارئًا مثقفًا، وقد التحق بكلية أصول الدين، فكان من المناسب أن يسكن معنا في شقتنا بشبرا.

وقد انعقدت بيني وبين الأخ الأقصري مودة عميقة، وصداقة وثيقة، وظل حتى تخرج، وكان له دور في ثورة الجزائر، فقد كان له خطاب يومي أو ليلي إلى ثوار الجزائر كلفته به القيادة، يُذاع بصوته من إذاعة (صوت العرب) بالقاهرة كل ليلة، يعبئ الروح المعنوية، ويحرِّض على القتال، وظل هذا حتى انتصرت الجزائر.

وبعد أن تخرج الأقصري في (أصول الدين) من الأزهر، التحق بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية، ليدرس فيها في قسم القانون والشريعة، الذي كان يرأسه علامة القانونيين العرب الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وقد قبله في القسم استثناء، مع أنه لا يقبل من الأزهر إلا خريجي الشريعة، وقد رفض قبولي رغم إلحاحي لأني خريج أصول الدين.

كان الأقصري كلما حضر خطبة أو محاضرة لي، يقول: كم أتمنى أن يأتي اليوم الذي أراك تخطب فيه وتحاضر في قلب الجزائر، إنه يوم أترقبه وعسى أن يكون قريبًا.

ولكن هذا اليوم لم يأتِ إلا في سنة 1982م، حينما حضرت أول (ملتقى للفكر الإسلامي) بالنسبة لي، وكان في مدينة تِلمسان، وشهدت في الجزائر من جماهير الصحوة، ما لم أشهده في بلد آخر، حتى كان يحضر أحيانًا نحو مائتي ألف شخص يستمعون إليَّ في خطبة الجمعة.

والعجيب أني حين ذهبت إلى الجزائر سألت عن الأقصري، فلم أجده، فقد كان سفيرًا للجزائر في إندونيسيا وفي غيرها.

ولم أره في الجزائر إلا بعد عدة سنوات، ورأيته عزبًا كما تركته من قديم، لم يتزوج، فلما سألته عن السبب، قال: أهملت الأمر حتى فاتني القطار! والآن من تقبل أن تتزوجني لا أريدها، ومن أريد أن أتزوجها لا تقبلني!

وقد تقطعت الصلة بيننا بعد أحداث الجزائر المأساوية، ولا أدري ما مصيره؟ فإن كان حيًّا فأدعو الله أن ييسر له أمره، وإن كان ميتًا فأسأله تعالى له المغفرة والرحمة، وأن يتقبله في عباده الصالحين.

ولنا عودة في الحديث عن الجزائر في حينها إن شاء الله.


امتحان الشهادة العالمية

كان من أهم الوقائع التي وقعت لي في تلك المرحلة: امتحان الشهادة العالمية -أو العالية- التي تختم بها الكلية، وبها يصبح الطالب أحد علماء الأزهر، ويستحق رسميًّا لقب (الشيخ) ويكتب له في شهادته.

وكانت شهادة العالمية لها شأن ووزن كبير، وكان يوقعها الملك بنفسه في عهد الملكية، أما في عهد الثورة فأصبح الذي يوقِّعها شيخ الأزهر.

وكنت رغم انشغالي بالدعوة وأنشطتها المتنوعة، وبجامع آل طه بالمحلَّة الكبرى -حريصا على التفوق في دراستي، وهذا مما أكرمني الله به منذ السنة الأولى الابتدائية حتى الآن، فقد حافظت في معظم السنوات على ترتيب (الأول) بين فرقتي، وفي قليل من السنوات تأخرت عن الأول لأكون الثاني أو الثالث.

ولكني في الشهادة العالمية كنت حريصًا كل الحرص على أن أكون الأول، والمسلم ينشد الأحسن والأمثل دائما -كما قال تعالى- "فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه" (الزمر: 17-18).

والله تعالى يحب معالي الأمر ويكره سفسافها، والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يقول: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى".

فلا تلوموني إذا كان طموحي إلى الأولية، واشتد حرصي عليها، وقد استعددت لها بما يسَّره الله لي، ووفقني إليه من الاستذكار ومن المراجعة، التي أعتبرها كافية بالنسبة لي، ولتكويني العلمي السابق المؤسس على قواعد مثبتة، ولله الحمد.

ولكن كنت أخاف من أمر واحد، هو (الامتحان الشفهي)، وخصوصًا امتحان (التعيين)، وكان عندنا امتحان شفهي عادي في بعض المواد مثل (المنطق) واللغة الإنجليزية.

وقد أدَّيت امتحان المنطق أمام لجنة كان يرأسها العالم الأزهري النابه المتألق الدكتور حمودة غرابة، أحد الأزهريين المرموقين والمأمولين؛ لتفوقه العلمي والفكري والأخلاقي، وهو أستاذ الفلسفة والعقيدة، وقد قدم حديثًا من لندن بعد أن حصل على الدكتوراه منها، إضافة إلى العالمية من درجة أستاذ، التي كانت رسالته فيها عن (ابن سينا بين الدين والفلسفة)، وقد نشرت وكتب مقدمتها الأستاذ الدكتور محمد البهي. ولكن شاء قدر الله أن يُتوفَّى بعد مدة قليلة، أحوج ما يكون الأزهر إلى مثله، رحمه الله رحمة واسعة.

سألني د. غرابة عدة أسئلة في (المنطق) فوُفِّقت في إجابتها، وخرجت من اللجنة مسرورًا.

أما اللغة الإنجليزية، فقد كانت إجابتي على ما يرام، وكنت أحصل في التحريري –غالبًا- على عشرين من عشرين، ولكن مما يؤسف له: أن ما حصلته من الكلية في سنواتها الأربع من اللغة الإنجليزية، قد ضاع وتبخر من ذاكرتي بعد ذلك -إلا قليلاً- نتيجة الإهمال وعدم الاستعمال، ولأني تعلمتها على كبر، والتعليم في الصغر كالنقش في الحجر كما قيل.

أزمة امتحان التعيين.. والله الموفق

بقي امتحان التعيين، وكان في مادتين أساسيتين: التفسير والتوحيد. ومعنى (التعيين): أن يُعَيَّن للطالب موضوع معين أو فقرة معينة من المقرر، وعليه أن يراجعها فيما شاء من مراجع، ويسأل فيها من شاء من مشايخه، بل الكلية تكلِّف بعض المشايخ ليراجعهم الطلاب في الموضوع، ويسألوهم عن كل ما يعنّ لهم حوله.

وعلى الطالب أن يستعد للسؤال في كل ما يحيط بموضوعه، فقد يُسأل في النحو أو الصرف أو البلاغة أو المنطق، أو الحديث أو الفقه، أو ما شاء الممتحن أن يسأله، وعليه أن يجيب في كل ما يسأل عنه، فكأنَّ هذا التعيين امتحان عام لمدى تحصيل الطالب العلمي خلال سني دراسته كلها، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان.

وكان امتحان التعيين في سنتنا في التفسير في آيتين من سورة الرعد، وهما قوله تعالى: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا..." إلى آخر الآيتين (الرعد: 17-18).

وفي التوحيد: فقرة من كتاب العقائد النسفية، فيها خلاف معروف بين أهل السنة والمعتزلة، وهي التي تقول: "المقتول ميت بأجله عندنا أهل السنة". كما أن لجنة التعيين تمتحن الطالب أيضًا في حفظ القرآن الكريم.


عشر لجان لامتحان التعيين:

وكان في الكلية عشر لجان قد ألفت لامتحان (التعيين، والقرآن)، وكنت مستعدًّا للامتحان أمام أيّ واحدة منها، إلا واحدة، خوَّفني زملائي الطلبة من رئيسها، وهو أستاذنا الشيخ صالح شرف، الذي درسني علم التوحيد في إحدى السنوات، ولكن كان من زملائنا من هو بلديّه وقريبه، وهو ممن ينافسونني على الأولية، وخفت -أو خوفني إخواني- أن ينحاز الشيخ إلى قريبه، ويبخسني حقي، وكان هذا من سوء ظني، ولكن سوء الظن عصمة -كما قالوا- في كثير من الأحيان.

بَيْد أني ما كنت مهتمًا بهذا الأمر، وأقول: هناك عشر لجان، فلماذا أفترض أن يكون حظي في اللجنة المخوفة؟

ولم تكن تعرف لجنة الطالب إلا في يوم امتحانه نفسه، وفي يوم امتحاني ذهبت إلى الكلية؛ لأفاجأ بأن اسمي أمام اللجنة التي حذَّروني منها.

وهنا شاورت بعض الأساتذة الذين هم على صلة طيبة بي، مثل الشيخ مختار بدير الذي قال لي: من حقك أن تعتذر عن عدم الامتحان أمام هذه اللجنة دون إبداء الأسباب، وكذلك قال لي الدكتور محمود فياض أستاذ التاريخ.

وكذلك سألت قريبي وبلديتي الشيخ أحمد محمد صقر، أستاذ الحديث بالكلية، فقال لي: أحد زملائك (وهو الحسيني عبد المجيد هاشم الذي عُيِّن وكيلا للأزهر بعد ذلك) دخل على لجنتنا، وكان فيها الشيخ أحمد علي، ونظر إليه الطالب فوجده عابسًا، فقال له: يا فضيلة الشيخ مالي أراك مكشرًا؟ والله ما أنا ممتحن على هذه اللجنة، وغادرنا، ودخل لجنة أخرى.

كل هذا شجَّعني أن أذهب إلى عميد الكلية، وهو شيخنا الشيخ الحسيني سلطان، (الذي كان شيخًا لمعهد طنطا من قبل، وأصبح وكيلاً للأزهر بعد ذلك) فطلبت منه أن ينقل اسمي من اللجنة التي أنا فيها إلى لجنة أخرى.

فقال لي: وهل نحن على هوى الطلبة، إذا لم تعجب أحدهم لجنة نقلناه إلى أخرى، كأن الطلاب هم الذين يختارون لجانهم!.

قلت له: يا فضيلة الشيخ، هذا لو كنت أطلب منك أن تدخلني لجنة معينة من اللجان العشر، ولكني أرفض لجنة واحدة فيها لي تحفظ عليها، وأطلب منك أن تضعني في أي لجنة أخرى، أو تكوِّن لجنة ترأسها فضيلتك وتمتحني كما تشاء، ثم قلت له: إنها شهادة عالمية واحدة، ولن أفرِّط في حقي فيها، وضربت بيدي على المنضدة (الطاولة) في شيء من الغضب.

فقام الشيخ رحمه الله من مكتبه في هدوء، وذهب إلى اللجنة، وسحب أوراقي منها، وحولها إلى لجنة أخرى، برئاسة الشيخ عبد القادر خليف، وعضوية شيخنا محمد علي أحمدين أستاذ الحديث، ود. فياض أستاذ التاريخ.

ومن غرائب المصادفات: أن يكون في اللجنة الثانية الشيخ أحمدين، وكنت قد اصطدمت به أثناء الدراسة في آخر سنة، وساءت العلاقة بيني وبينه، حتى أخرجني من الفصل، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، خرجنا من عقدة لندخل في عقدة أشد.

وكان سبب الخلاف بيني وبين الشيخ أحمدين: أنه كان يدرِّس لنا حديث "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" برواياته المختلفة، وذكر لنا رأي العلماء في هذه الخيرية، وأن رأي الجمهور أن الخيرية بالنسبة لقرن التابعين إنما هي للمجموع لا للجميع، فلا يمتنع أن يوجد فيمن بعد التابعين من هو أفضل من بعض أفراد التابعين، ولكن لا يوجد قرن بعد التابعين أفضل من قرنهم في مجموعه.

أما بالنسبة لقرن الصحابة، فالخيرية والأفضلية فيه، إنما هي للجميع لا للمجموع، فلا يوجد بعد قرن الصحابة فرد ما -وإن بلغ ما بلغ من الفضل والتقى والجهاد- يبلغ مبلغ أي واحد من الصحابة، مهما دنت منزلته.

وللإمام ابن عبد البر رأي خالف فيه الجمهور، وقال: هناك من الصحابة من لا يبلغ أحدهم مبلغهم، مثل السابقين الأولين، وأهل بدر، وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، ومن كان له فضيلة معينة، ثم من عدا هؤلاء يكون التفضيل للمجموع لا للجميع، فلا يمتنع أن يأتي ممن بعد الصحابة من يفضل على واحد من عامة الصحابة، ممن لم يكن له من الصحبة إلا أنه حج معه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ورآه من بعيد.

وهنا قلت للشيخ أحمدين: والله يا مولانا، إن رأي ابن عبد البر رأي جيد، فقد استثنى من الصحابة من لا يلحق أحد بغبارهم، ولكنه أبقى الباب مفتوحًا بالنسبة للصحابة الذين لم يعرف لهم فضيلة معينة، فلا مانع أن يكون مثل عمر بن عبد العزيز أو الإمام الشافعي، أو عز الدين بن عبد السلام، أو صلاح الدين الأيوبي أو ابن تيمية أو غير هؤلاء ممن حملوا راية الدعوة والجهاد، أفضل من بعض الصحابة الذين ليس لهم فضل الصحبة.

وهذا يفتح نوافذ الأمل للعلماء والدعاة المجاهدين في عصرنا، الذين بذلوا جهودهم في إصلاح أحوال المسلمين والنهوض بهم.

وهنا قال أحد الإخوة في الفصل -وهو الأخ محمد حسن راضي من بسيون- مثل الشيخ حسن البَنَّا وما قام به من دعوة وجهاد.

وما إن ذكر اسم حسن البَنَّا، حتى ثار الشيخ أحمدين ثورة عارمة، وقال: تريد أن تجعل حسن البَنَّا أفضل من الصحابة؟ وهاجم الشيخ الأستاذ حسن البَنَّا بعنف، وهنا قلت للشيخ: يا مولانا هذا رجل أفضى إلى ربه، وقد نُهينا عن سب الموتى، وما ذنب حسن البَنَّا إذا اختار أحد تلاميذه رأيًا يخالف رأي فضيلتك أو رأي الجمهور؟

واشتد النزاع بيني وبين الشيخ، فطلب إليّ أن أخرج من الفصل، وألا أحضر دروسه، وكنا على وشك انتهاء السنة الدراسية، فظل التوتر قائمًا بيني وبين الشيخ أحمدين، ولكن هاهو القدر وضعه أمامي في اللجنة التي سأؤدي الامتحان أمامها، وليس مقبولاً ولا لائقًا أن أرفضها. فليكن ما قدر الله، ودعوت الله تعالى أن يعلِّمني ما جهلت، ويذكِّرني ما نسيت، وأن يسدِّد رميتي، ويلهمني الصواب، وفصل الخطاب.

وبدأت اللجنة تقوم بواجبها في امتحان الطالب الذي أضيف إليها بأمر من العميد، ولم يكن من طلابها، وكأنها في حالة تحدٍّ مع هذا الطالب، وتولَّى رئيس اللجنة الشيخ خليف معظم الأسئلة، التي شملت العلوم المختلفة التي درسناها في الأزهر، وكان الشيخ أحمدين يساعده في الأسئلة، وكان التوفيق حليفي في إجاباتي، كأني أغرف من بحر، أو أتدفق من سيل، وذلك من فضل الله وعونه، وما أصدق ما قال الشاعر:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده!

وبعد انتهاء اللجنة من امتحان التعيين في التفسير والتوحيد، أخذت تمتحني في حفظ القرآن الكريم.

قال الشيخ خليف: هل تحفظ القرآن أو أنت من الذين يدخلون الأزهر حافظين للقرآن، ويتخرجون منه وقد نسوه؟

قلت: بل أحمد الله أني أحفظه حفظًا جيدًا، تستطيع أن تسألني فيما شئت من القرآن من الفاتحة إلى الناس، وتسألني عن الآية في أي جزء؟ وفي أي ربع؟ وفي الصفحة اليمنى أم اليسرى؟ وفي أول الصفحة أو وسطها أو آخرها؟

قال الشيخ: يعني واثق من نفسك؟

قلت: نعم بحمد الله.

وبدأ الشيخ يسألني، وينتقل بي والمصحف أمامه، وقد أراد أن يجربني في أول سؤال: في أي سورة؟ وأي جزء؟ وأين تقع؟… إلخ، وأجبته بالتفصيل.

وبعد أكثر من عشرين سؤالاً، وأنا أقرأ بترتيل وصوت مؤثر، كان آخر سؤال من سورة الصف: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم"، وقرأت الآيات إلى قوله تعالى: "وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين" (الصف: 10-13).

وهنا قال رئيس اللجنة: فتح الله عليك.

وخرجت من اللجنة، باسم الثغر، منشرح الصدر، مستبشرًا بهذه الآية التي ختم بها الامتحان كله "وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين".

وكان عميد الكلية الشيخ الحسيني سلطان قد شهد الامتحان كله، كأنما أراد أن يعرف حقيقة هذا الطالب الذي أصرَّ على أن ينتقل من لجنة إلى لجنة، حرصًا على السبق والتفوق -والحمد لله- قد سترني الله بستره الجميل، وحسَّن صورتي أمامه، فضلاً منه ومِنَّة.

وبعد دقائق قال بعض زملائي: الشيخ أحمدين يسأل عنك، ويريد أن يلقاك، فقلت في نفسي: يا رب استر، ترى ماذا يريد الشيخ الآن؟

وما إن لقيت الشيخ حتى بادر بمصافحتي وعانقني، وقال: سامحني يا ابني، أنا ظلمتك من قبل، وأسأت الظن بك، وما كنت أعرفك على حقيقتك، واليوم اكتشفت خطئي وعرفت من أنت، بارك الله فيك، وجعلك من علماء الأمة العاملين المخلصين.

كان هذا اللقاء العاطفي الحار مع الشيخ أحمدين مفاجأة لي، لم أكن أتوقعها، كنت أرجو أن يغيِّر موقفه مني، ولكن ما كنت أتوقع أن يصل إلى هذا الحد من الود والتعاطف، وشكرت للشيخ حسن ظنه بي، وقلت له: أدعو الله تعالى أن يجعلني عند حسن ظنك، وأن يغفر لي ما لا تعلم. وقد دلَّني هذا على إخلاص الشيخ وصفاء سريرته، وشجاعته في الرجوع إلى الحق إذا تبين له، رحمه الله وجزاه خيرًا.

وقد ظل ودّ الشيخ أحمدين لي موصولاً، حتى قدمت إلى الدراسات العليا، وقبلت في شعبة التفسير والحديث أو علوم القرآن والسنة، وفي السنة الثانية كنت الطالب الوحيد الذي نجح في الشعبة، وأذكر أن فضيلة شيخنا الشيخ صالح شرف، الذي كان في ذلك الوقت السكرتير العام للجامع الأزهر والمعاهد الدينية، كان يمر بالدراسات العليا وطلابها، ومرَّ بي وأنا مع الشيخ أحمدين فقال له: هذا الشيخ يوسف القرضاوي، لو كان الأمر بيدي لأعطيته الأستاذية من الآن، فسبحان مقلِّب القلوب.

وكان الشيخ صالح شرف هو الذي فررت من لجنته خشية أن يجور عليّ، وما كنت أحسب أن الشيخ على علم بما جرى، أو أنه يتذكره. ولكن بعد نحو عشرين سنة، كنت عضوًا بمجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي، وكان البنك قد أقام حفلاً بمناسبة ما، ودعا إليه عددًا من كبار العلماء، وكان منهم الشيخ صالح شرف، وقد سلمت على الشيخ ورحَّبت به، وقال لي: يا شيخ يوسف، أنا لي حق عندك، فقد أسأت الظن بي بغير دليل، ولو كان امتحانك عندي لأعطيتك حقك.

قلت له: يا فضيلة الشيخ أرجو أن تسامحني، واعتبر هذا لونًا من حِدَّة الشباب وطيشهم، وعفا الله عما سلف. وأنا والله لا أكنّ لك إلا الحب والتقدير، فقد درستني علم التوحيد بكلية أصول الدين.

قال الشيخ: كل شيوخ الأزهر، يسمعون عن نشاطك وجهودك في خدمة العلم والدين، ويعتزون بك، ويدعون لك، فجزاك الله عن الأزهر وعن الإسلام خيرًا.

وقفه مع مناهج كلية أصول الدين

لقد اخترت كلية أصول الدين؛ لأنها تضم العلوم النقلية والعقلية، ولما في مناهجها من تنوع تثرى به معارف الطالب، وتتسع مداركه وآفاقه.

ولا غرو أن درسنا التفسير والحديث والتوحيد طوال سنوات الكلية، وكذلك درسنا الفلسفة في جميع السنوات، ابتداء بالفلسفة الشرقية القديمة، ومرورًا بالفلسفة اليونانية، ثم الفلسفة الإسلامية في المشرق والمغرب، وانتهاء بالفلسفة الحديثة.

كما درسنا التاريخ في كل سنوات الكلية ابتداء بالسيرة النبوية، مرورًا بعصر الراشدين، ثم بالدولة الأموية والعباسية، وانتهاء بتاريخ الأندلس.

كما درسنا أصول الفقه، والمنطق، وعلم النفس، واللغة الإنجليزية، ولا شك أن هذا أعطانا أرضية ثقافية واسعة، ازدادت اتساعًا بدراستنا لعلوم النفس والتربية في تخصص التدريس.

ولكن مع هذا كان هناك قصور في هذه المناهج ذاتها أو في تدريسها، أذكره في الملاحظات التالية.


ملاحظة عامة:

قبل أن أبدي ملاحظاتي التفصيلية على المواد والمقررات الدراسية، أودّ أن أبدي ملاحظة عامة وأساسية على طريقة التدريس.

فقد وجدت طريقة التدريس في الكلية هي نفس طريقة التدريس في المعاهد الثانوية، العمدة فيه كتاب مقرر يشرحه الأستاذ، وتدور طريقة الشرح حول الألفاظ، أكثر ما تدور حول المعاني والأفكار، وكثيرًا ما يكون الامتحان فيما قُرِئ من الكتاب، لا فيما هو مقرر فعلاً. وبهذا يضيع على الطالب فقرات كبيرة من المقررات ربما لا يعوضها قط.

لم تكن كليات الأزهر، مثل كليات الجامعة في مصر وفي غيرها، تعتمد على الموضوع لا على الكتاب، وتدور على المعنى لا على اللفظ، وتشرك الطالب مع الأستاذ، وتهتم بالبحث يقوم به الأساتذة، ويتعوده الطلاب.

لم يكن هناك فرق بين المعهد والكلية إلا أن الكتاب في الكلية أكبر كَمًّا، وأكثر تعقيدًا، وهذا ليس فرقًا مؤثرًا، ولو طُعِّم النظام القديم والطريقة الأزهرية، ببعض هذه التوجهات الجامعية الحديثة، لكان في ذلك خير كثير على الأزهر وأبنائه.

  • أما الملاحظات المفصَّلة على المواد، فأجملها فيما يلي:


علم التفسير:

كان التفسير كله على (الطريقة التحليلية) للألفاظ، مع اهتمام بالغ بالجانب اللغوي والبلاغي، ماضيًا كله على نهج التفسير بـ(الرأي)، وكنت أود:

أولاً: أن يكون هناك جزء من هذا التفسير التحليلي على طريقة (التفسير بالمأثور) كما عند ابن كثير مثلاً؛ ليجمع الطالب بين الطريقتين، ويحوز الحسنيين.

ثانيًا: أن يستفاد من بعض (التفاسير الحديثة)، مثل (تفسير المنار) بما فيها من نظرات تجديدية إيجابية، كبعض الإشارات واللفتات (العلمية) غير المتكلَّفة.

ثالثًا: أن يكون هناك جزء من مقرر التفسير لما سُمِّي (التفسير الموضوعي)، مثل العلم في القرآن، الإيمان في القرآن، المال في القرآن... إلخ.

رابعًا: أن يقرر تدريس قدر مناسب من (علوم القرآن)، ومنها: أصول التفسير ومناهجه، فهذا لازم لثقافة الطالب المتخرج في أصول الدين.


علم الحديث:

في كلية أصول الدين كان الكتاب المقرر هو "صحيح مسلم" بشرح النووي طوال سنوات الكلية الأربع، ولكن كان هناك أبواب كثيرة ومهمة من الكتاب لا تدرس ولا تقرأ، كما أن شرح النووي عدا الأجزاء الأولى من الكتاب كان خفيفًا وغير مشبع، وكنت أود:

1 - أن يقرأ متن الصحيح كله بأسانيده؛ ليتعود الطالب ذلك.

2 – أن يحتل (فقه الحديث) مكانًا أكبر، ولا تُهمل أحاديث الأحكام، باعتبار أن ذلك من اختصاص (كلية الشريعة)، فكل كلية يجب أن يكون لها حظ من الفقه بوجه من الوجوه.

3 - أن يستفاد من بعض النظرات الحديثة في شروح الحديث.

4 - أن يُمرَّن الطالب على فن (التخريج)، ويعرف أصوله، نظريًّا وعمليًّا.

5 - أن يأخذ من (علوم الحديث) قدرًا أكبر مما هو مقرر في الكلية.

6 - أن يتدرب الطالب على معرفة (الحديث الموضوعي)، بدراسة بعض الموضوعات في السُّنَّة، مثل (الزواج)، أو (الأسرة)، أو (الجهاد)، أو (الحكم)، أو غير ذلك.


علم التوحيد:

كان علم التوحيد يدرس في الكلية على أنه من (العلوم العقلية) وكانت دراسته رياضة ذهنية، ودربة عقلية، في قضايا نظرية متفرعة عن مسائل الفلسفة القديمة، التي أصبحت قضايا تاريخية، ولم يَعُد لها وجود مؤثر في العقل الحديث.

ولهذا كان معظمها ردودًا مباشرة أو غير مباشرة على بعض الفلاسفة أو بعض الفرق التاريخية من معتزلة، وجهمية، أو كرامية، أو خارجية... إلخ، حتى إن أول جملة في كتاب التوحيد المقرر (العقائد النسفية) تقول: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، خلافًا للسوفسطائية.

وفي رأيي: أن اعتبار التوحيد من العلوم العقلية البحتة أمر خاطئ، فالإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة هي الأساس، والشريعة هي البناء، وإذا كانت الشريعة وفقهها من علوم الدين، فكيف لا تكون العقيدة، ـ وهي الأساس ـ من علومه؟

صحيح أن العقيدة في الإسلام تقوم على منطق عقلي سليم، خصوصًا في العقيدتين الأساسيتين: وجود الله، وإثبات النبوة؛ إذ لا بد أن يثبتا بالعقل، ولكن هذا لا يخرج علم التوحيد من اعتباره من العلوم الدينية، بل هو أصلها وعمدتها.

لهذا كان الواجب دراسة العقيدة من القرآن أولاً، لا على أنه مجرد أخبار، بل باعتباره مشتملاً على آيات، ودلالات، وبراهين عقلية، رد بها على المخالفين من الدهريين ومن أهل الأديان الأخرى.

ومن أهم من يجب الرد عليهم في عصرنا هم: جماعة (الماديين) الذين ينكرون كل ما رواء الحس، وما بعد الطبيعة.

ويمكننا الاستعانة في الرد عليهم بالعلوم الحديثة التي قام كثير من أقطابها بدور غير منكور، في التدليل على وجود الله تعالى من خلال تخصصاتهم، كما في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم)، و(العلم يدعو إلى الإيمان)، و(مع الله في السماء)، و(الله والعلم الحديث)... إلخ.


علم مقارنة الأديان:

وبهذه المناسبة، هناك علم كنا نحب أن نأخذ عنه فكرة كافية، وهو: علم مقارنة الأديان، وهو يدرس بعد ذلك في تخصص الدعوة والإرشاد، باسم (الملل والنحل)، وكان الأولى أن يأخذ طالب الكلية حظًّا ملائمًا منه، خصوصًا الأديان الكبرى مثل: اليهودية والمسيحية من الأديان الكتابية، والبوذية والهندوسية من الأديان الوثنية.


الفلسفة الإسلامية:

لا أنكر أن دراسة الفلسفة في كلية أصول الدين دراسة قوية ومستوعبة إلى حد كبير، ومع هذا يظل هناك تحفظ على الفلسفة التي سموها (الفلسفة الإسلامية) وهي التي تُعَبِّر عن المدرسة الفلسفية المشائية من المسلمين، ومن تبناها من كبار الفلاسفة، أمثال: الكندي، والفارابي، وابن سينا، ومن دار في فلكهم من بعدهم.

فهذه الفلسفة هي فلسفة اليونان، أو قُل فلسفة كبيرهم والمعبِّر عنهم أرسطوطاليس. الذي اعتبره الفلاسفة المسلمون (المعلم الأول)، والذي اعتبره بعضهم يمثل قمّة الكمال العقلي البشري، بحيث لا يتصور الخطأ فيما قال، بل يؤخذ قوله على أنه قضية مُسَلَّمة.

ولهذا كان موقف الفلسفة الإسلامية تأويل (محكمات النصوص) القرآنية، فضلاً عن النبوية ـ لتوافق ما قرره أرسطو.

وعلى كل حال، فإن مقولات الفلسفة الإسلامية أو ما سُمِّي فلسفة إسلامية، إنما هي ظلال لفلسفة اليونان، تتأثر بها، ولا تخرج عن دائرتها.

وقد قال شيخ مؤرخي الفلسفة الإسلامية في عصرنا الشيخ مصطفى عبد الرازق: إن علم أصول الفقه أولى بالتعبير عن فلسفة المسلمين من الفلسفة الإسلامية.

المهم أن هذه الفلسفة الإسلامية ليست هي فلسفة الإسلام بحال، واعتقد أننا بحاجة إلى مادة جديدة تتحدث بعمق عن (فلسفة الإسلام) في عقائده، وشرائعه، وأخلاقياته، ونظرته إلى الله والكون، وإلى الإنسان والشيطان، وإلى الدين والحياة.


دراسة التصوف:

ومن العلوم التي غابت في الكلية، وكان ينبغي أن يأخذ الطالب فكرة عنها: علم التصوف، أو السلوك.

فهو لا شك من علوم التراث الإسلامي، وله مصادره وكتبه، ورجاله وأعلامه، كما له مدارسه واتجاهاته، فمنه السني والمبتدع، والمستقيم والمنحرف، والنظري والعملي.

وبعضه يمثل (علم الأخلاق) أو السلوك الإسلامي، كما نقل ابن القيم عن بعضهم: "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف".

وبعضهم خرج عن هذا الإطار، وأصبح التصوف لديه: نظريات فلسفية في الحلول والاتحاد.

وأحسب أنه ينبغي لطالب أصول الدين أن يأخذ فكرة كافية عنه، وأن يزن موروثه بميزان القرآن والسنة.


علم التاريخ:

ومن مزايا كلية أصول الدين اهتمامها بعلم التاريخ، الذي يدرس في جميع سنوات الدراسة، وحتى في شُعَب تخصص الأستاذية بالكلية قديمًا: شعبة للتاريخ.

ولكن كان ينقص المنهج: دراسة التاريخ الحديث، وعلى الخصوص (حاضر العالم الإسلامي) ومشكلات الأمة المسلمة المشتركة، وقضايا أوطانها الساخنة، فهذا هو الذي يربط الطالب بأمة الإسلام، ودار الإسلام، والمؤمنون إخوة، ومن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم.


خاتمة

وأخيرًا وليس آخرًا إن شاء الله.. فهذا ما كتبه الشيخ من مذكراته.. استمتعنا بها على مدى شهرين تقريبًا.. وطفنا معه في: قريته.. وأسرته.. ودراسته.. وحلقنا في عالمه: آماله، وطموحاته، والصعوبات التي واجهته، والتحولات في حياته التي كادت توجهه مسارًا آخر.. ثم استعرضنا كيف عمل من أجل الإسلام، وكيف انتظم في الحركة الإسلامية، وكيف كان أداؤه، وما ملاحظاته الإيجابية ومآخذه السلبية.. كل ذلك في فترة محددة حتى نيله شهادة العالمية، وكنا نأمل أن يصل بنا الشيخ إلى حياته الآن، وشهادته على الواقع، ولكنه لم يكتب حتى الآن إلا ما اكتمل بين أيدينا، وسنترك الملف مفتوحًا.. آملين من الله سبحانه وتعالى أن يوفقه لإكمالها شهادة للتاريخ، وإفادة للأجيال القادمة..