*25 الحلقة الخامسة والعشرون : ما بعد حل الإخوان

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (25) ما بعد حل الإخوان


ما بعد حل الإخوان.. أخصب فترات الدعوة

كانت جماعة الإخوان محظورة أو محلولة من الناحية الرسمية، ولكن هذا لا يعني أكثر من فقد البطاقة الشخصية أو شهادة الميلاد الرسمية -كما قال الأستاذ البنا-، أما وجود الإخوان على أرض الواقع فأمر لا شك فيه.

ولقد خرج الإخوان من معتقلاتهم أشد عزما، وأقوى إصرارا على دعوتهم، واستمساكا بعروتها الوثقى، ونشاطا في سبيلها.

وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في تاريخ الدعوة، فلم يكن للدعوة دور ولا لافتات، ولا أية مظاهر رسمية، وإنما كان هناك عمل هادئ صامت، يقوم به أبناء الدعوة في كل مكان، وخصوصا بين الطلاب، وكان العمل أشبه ببذر البذور الطيبة في أرض خصبة، بأيدٍ أمينة، وكان لا بد أن يؤتي أكله. وكنا نكسب باستمرار شبابًا وجنودًا جددًا ينضمون إلى الدعوة مخلصين، لا يرجون إلا الله والدار الآخرة، وقد كان هذا أمرًا جليًّا بالنسبة لطلاب الجامعة والأزهر، وقد جمعت بيننا لقاءات دعوية للتفاهم وتنسيق العمل المشترك.

وكان من أهم جولات النشاط العلني الذي قمت به في هذه الفترة: تأييد مرشحي الإخوان في الانتخابات؛ فقد رشح عدد منهم في بعض الدوائر، وكان ذلك لغاية مهمة، وهي أن الانتخابات تتيح لهم -رسميا- الحديث عن الدعوة وأهدافها ومنجزاتها ومستقبلها، وإن لم يكن لديهم أمل في النجاح.

رشح الشيخ الباقوري في دائرة القلعة، والأستاذ طاهر الخشاب في العباسية، والأستاذ مصطفى مؤمن في الجيزة، والأستاذ علي شحاته في شبرا، والشيخ عبد المعز عبد الستار في فاقوس، والأستاذ فهمي أبو غدير في الوسطى وأسيوط.

وكنا ننتقل من دائرة إلى أخرى لنشارك في المسيرات المؤيدة، أو في حملات الدعاية، بدافع من أنفسنا، ورغبة صادقة في مساندة إخواننا، الذين لا يملكون من وسائل الدعاية والتجنيد ما يملك خصومهم المرشحون.

ثم إن الإخوان طلبوا إليّ أن أسافر إلى أسيوط لأسهم في تأييد مرشح الدعوة المحامي فهمي أبو غدير، الذي رشح نفسه في دائرتين: دائرة الوسطى، ومنها (درنكه) بلدة حامد جودة النائب السعدي الكبير، ووكيل مجلس النواب السابق، وقال الأستاذ أبوغدير: إن قصدي ليس النجاح، ولكن إحياء الدعوة في الدائرتين، وكان معي في هذه الرحلة الأخ أحمد العسال.

وقد قمنا بجهد طيب -ولله الحمد- في زيارة قرى دائرة الوسطى، نحدث الناس عن الإسلام ودوره في علاج مشكلاتهم وبناء حياتهم على أسس صالحة، كما أن الأمة في حاجة إليه لتحريرها من الاحتلال البريطاني، وتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.

وكانت أياما حافلة تلك التي قضيناها في أسيوط، وتعرفت فيها على إخوة كرام: محمد الراوي، ومحمد الناجي، وعلي عبد المنعم عبد الحميد، وعيسى عبد العليم، وأحمد نصير، والدمرداش العفالي... وغيرهم من شباب الدعوة الناهض.

كما التقينا بالأخ الداعية المربي الحاج "عباس السيسي" الذي كان يعمل في أسيوط حينذاك، وكذلك الحاج عبد الرزاق هويدي (والد الكاتب المعروف الأستاذ فهمي هويدي).

وبعد رجوعي من أسيوط كلفت أن أسافر إلى (فاقوس) بالشرقية، لتأييد مرشحها فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، وبقيت هناك نحو أسبوع، أنتقل في أحياء فاقوس، وفي قرى الدائرة، لمساندة ابنها البار، وعالمها الجليل، وخطيبها المفوه، الذي دوى صوته في جنبات الأزهر، وفي أنحاء مصر، ووصل إلى فلسطين، فهز المنابر، وأيقظ المشاعر، وزلزل عروش الظالمين.

وعدت بعد ذلك إلى القاهرة لأواصل نشاطي الدراسي والدعوي.

وقد جرت الانتخاب بعد أيام قليلة، ولم ينجح أي مرشح من الأخوان، وهو ما كان متوقعا؛ فالانتخابات فن لم يتقنه الإخوان بعد، ويحتاج إلى تهيئة وإعداد طويل.


زيارة الشيخ أبي الحسن الندوي لمصر

الشيخ أبو الحسن الندوي

ومن الأحداث التي وقعت في تلك الحقبة، وكان لي بها صلة زيارة الشيخ أبي الحسن الندوي لمصر في يناير سنة 1951م، وذلك حين بدأ الشيخ يتحرك من وطنه بالهند إلى العالم من حوله، وكانت زيارته لمصر.

كنت وقتها طالبًا في كلية أصول الدين، مشغولاً بدعوة الإخوان المسلمين، مسؤولاً عن طلبة الإخوان في جامعة الأزهر مع أخي أحمد العسال وعدد من الإخوة الكرام، وأخطب الجمعة في مسجد بمدينة المحلة الكبرى -القريبة من قريتي-، وكنت قد قرأت كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) الذي نشرته (لجنة التأليف والترجمة والنشر) التي يرأسها الأستاذ الكبير أحمد أمين -رحمه الله-.

وقد أعجبت بالكتاب، ودللت عليه بعض الأصدقاء ليقرؤوه، وإن كنت لا أعرف عن صاحبه شيئًا إلا أنه عالم هندي مسلم، وقد كتب الأستاذ أحمد أمين مقدمة للكتاب، ولكنه لم يوفِّ صاحبه حقه كما ينبغي.

ولكن الكتاب نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى التاريخ العالمي من منظور إسلامي، وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية، يعرف التاريخ جيداً، ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته.

وقد ساعده على ذلك معرفته باللغة الإنكليزية، كما ساعده الحس النقدي، والحس الحضاري، والحس الدعوي، والحس الإصلاحي –وكلها من مواهبه– على تقديم هذه النظرة الجيدة من خلال كتابه الفريد.


الندوي في مصر ومع المصريين:

اتصل بي بعض الإخوة من الطلاب الهنود الذين يدرسون في مصر، وقالوا لي: هل تعرف الأستاذ أبا الحسن الندوي؟ قلت لهم: أليس هو صاحب كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)؟ قالوا: بلى، قلت: وما شأنه؟ قالوا: سيصل إلى القاهرة يوم كذا. قلت: أرجوكم أن توصلوني إليه عند حضوره.

وما هي إلا أيام حتى حضر الشيخ، ومعه اثنان من إخوانه ورفقائه الندويين؛ أحدهما: الشيخ معين الندوي، والثاني نسيت اسمه.

كان الشيخ ومن معه يسكنون في شقة متواضعة في زقاق من أزقة شارع الموسكي بحي الأزهر؛ فالشيخ لا يقدر على سكنى الفنادق، ولا يحبها إن قدر عليها، وفي اجتماعات مجلس رابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية يَدَع الفنادق التي ينزل فيها الضيوف، وهي من فنادق الدرجة الأولى، وينزل عند بعض إخوانه.

كما أنه يرفض النزول ضيفًا على بعض الكبراء من الأغنياء والموسرين؛ لعل ذلك للشبهة في أموالهم، أو لئلا يكون أسيرًا لإحسانهم.

كان الشيخ حين زار مصر في شَرْخ الشباب -أوله ونضارته-؛ لحيته سوداء، ووجهه نضر، وعزمه فتيّ، وروحه وثابة، وغيرته متوقدة.. كان يحمل حماس الشباب، وحكمة الشيوخ، يحمل فكر العالم الموفق، وقلب المؤمن الغيور في آنٍ واحد.

ذهبت لزيارة الشيخ في مسكنه المتواضع أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش مراد (رحمه الله) رفيقي في الدراسة، ورفيقي في الدعوة، ورفيقي في المحنة، ورفيقي في السكن، ودعوناه إلى بيتنا في شبرا؛ ليلتقي ببعض إخواننا من شباب الأزهر الملتزمين بالدعوة في صورة ما يسميه الإخوان (كتيبة)، وهو تعبير عن ليلة جماعية تقضى في العلم والعبادة والرياضة، وقليل من النوم، وكان الشيخ حريصًا على أن يستمع منا كما نستمع إليه؛ فكان يسأل عن حسن البنا وكلامه وطريقته، ومواقفه وتصرفاته في الأمور المختلفة، كبيرة كانت أو صغيرة؛ وهو ما كون معه فكرة عن الشيخ البنا، وأنه كان (إمامًا ربانيًّا) بحق، ولم يكن مجرد زعيم يطالب بحكم إسلامي، بل كان قبل كل شيء (مربيًا) يريد أن ينشئ للإسلام (جيلاً جديداً) يحسن الفهم له، والإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.

وتكرر لقاؤنا معه، ولقاؤه معنا، نحن شباب الدعوة الإسلامية (أنا، والأخ أحمد العسال، والأخ الدمرداش، والأخ مناع القطان، والأخ عبد الله العقيل... وآخرون).

كانت أيام الشيخ أبي الحسن في مصر أيامًا خصبة مباركة، لا يكاد يخلو يوم منها عن محاضرة عامة يُدعى إليها، أو درس خاص يُرتَّب له، أو لقاء خاص يُعد له.

ألقى محاضرة تحت عنوان (المسلمون على مفترق الطرق) في دار الشبان المسلمين -على ما أذكر-، وعقّب عليها الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ الغزالي. كما ألقى محاضرة عن (محمد إقبال شاعر الإسلام في الهند في كلية دار العلوم)، كان لها تأثيرها ودويُّها، والشيخ من المعجبين بشعر إقبال، ويحفظ منه الكثير الكثير، وقد أخرج كتابًا عنه بعنوان (روائع إقبال).

التقى الشيخ في القاهرة بكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وسجل عنهم ملاحظاته الدقيقة في كتابه الذي أصدره بعد رجوعه (مذكرات سائح في الشرق العربي).

التقى بالأديب الكبير الناقد الشهيد سيد قطب، وأعجب به الشهيد، وكتب مقدمة أخرى لكتابه (ماذا خسر العالم...؟) أنصف فيها الكتاب وصاحبه، وقدره حق قدره.

والتقى كثيرًا بالشيخ محمد الغزالي، ورافقه في بعض رحلاته الدعوية، وأعجب كل منهما بصاحبه، وكتب عنه الشيخ في (مذكراته) تلك.

وأذكر أن الشيخ الندوي كان قد اصطحب معه عدة رسائل من أوائل كتاباته الإسلامية الدعوية، وهي جملة رسائل تعبر عن حس رقيق، وفكر عميق، وبيان أنيق، وعن رهافة الحاسة الأدبية، وعمق الحاسة الروحية عند الشيخ.

وأذكر أن الشيخ الغزالي قرأها ومنها رسالتان؛ إحداهما: (من العالم إلى جزيرة العرب)، والأخرى: (من جزيرة العرب إلى العالم). وفيهما يستنطق الشيخ ما يريده العالم من الجزيرة من الهدى ودين الحق، وهو ما قدمته الجزيرة قديمًا للعالم، ورد الجزيرة على هذا التساؤل.

قال الغزالي معقبًا: هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه!.

لقد وجدنا في رسائل الشيخ لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتًا إلى أشياء لم تكن نلتفت إليها. إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر (رضي الله عنه) أمام رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: "إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". أبو الحسن الندوي -فيما أعلم- هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.

وقد لقي الشيخ أستاذنا البهي الخولي، وقد أعجب به الأستاذ البهي غاية الإعجاب، وسجّل ذلك في رسالة سطرها إليه، كما لقي الأستاذ صالح عشماوي وغيره من قادة الإخوان، وجلس إليهم وتحدث معهم حديثاً نشره في رسالة بعد ذلك، عنوانها: (أريد أن أتحدث إلى الإخوان المسلمين).

ولقي كذلك أستاذنا العلامة الدكتور محمد يوسف موسى، وقد كتب له مقدمة لكتابه (ماذا خسر العالم...؟).

كما لقي الأديب الداعية الشيخ أحمد الشرباصي، الذي سجل معه مقابلة عن سيرته نشرت في مقدمة (ماذا خسر العالم...؟).

ومما ذكره في هذه المقابلة: أنه سُئل عن أغرب ما رآه في مصر؟ فكان جوابه: أني وجدت العلماء حليقي اللحى! ولا ريب أن هذه صدمة شديدة لعالم لم يرَ في حياته في وطنه عالمًا واحدًا حليقًا، وحلق اللحى عندهم من شأن المتفرنجين، والبعيدين عن الدين، أما أن يكون هذا هو الطابع العام للعلماء في بلد، فهو الشيء الغريب! ومن العجب أن بعض شيوخ الأزهر المتحمسين لإعادة الأزهر إلى مكانته القديمة يحاولون أن يفرضوا على الطلبة لبس العمامة، وهي مجرد تقليد! ولا يفكرون أن يفرضوا عليهم إطلاق اللحية، وهو سنة إسلامية بلا ريب!.


رحلات الندوي في ريف مصر

ولم يكتف شيخنا بالنشاط والحركة في مدينة القاهرة على سعتها، بل امتد إلى مدن أخرى، سمعت بالشيخ، فدعته إلى زيارتها ولقاء الجمهور المسلم فيها.

ومن ذلك: مدينة (المحلة الكبرى) التي كنت أخطب في أحد مساجدها، وقد دعاه إليها الدكتور محمد سعيد (رحمه الله) رئيس الجمعية الشرعية بمدينة المحلة، وهو طبيب أسنان معروف، نذر حياته لإحياء السنة، والدعوة إلى الله على طريقة (إخواننا في الجمعية الشرعية)، وقد عرف الشيخ أن بينه وبين الإخوان شيئًا؛ فهو يأخذ عليهم أنهم لا يلتزمون بالآداب التي يلتزمونها هم من إعفاء اللحية، وإحفاء الشارب، وإرخاء العذبة (إطالة طرف العمامة)، وإطالة الصلاة، وقال الشيخ للدكتور: "إن دعوة الإخوان دعوة عامة، مهمتها أن تجمع الجماهير على الأصول الكلية للإسلام، ثم تربيهم بالتدريج على الآداب الخاصة. ولا بد أن يكون في الأمة المنهجان: النهج العام للإخوان، والنهج الخاص للجمعية"، واستراح الدكتور سعيد (رحمه الله) لكلام الشيخ، ودعاني معه على الغداء عنده.

ولكن سرعان ما كاد هذا يذهب هباءً، عندما ذهبنا مع الشيخ إلى بلدة (نبروه) وتكلمت كلمة أغضبت الدكتور سعيد -غفر الله لنا وله- ولا أدري: لماذا؟ ولكن الشيخ تدارك الموقف بهدوئه وحكمته، وبات الناس تلك الليلة في المسجد سجدًا وقيامًا، بدعوة من الشيخ واستجابة كثيرين من الحضور.

كانت زيارة الشيخ لمصر هي بداية لقائي به، ومعرفتي به، ثم زادتها الأيام قوة على قوة.


اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدًا

وفي هذه الفترة كان قد تم اختيار الأستاذ حسن الهضيبي بك المستشار بمحكمة النقض، والذي كان على صلة قديمة بالإخوان، وبالأستاذ حسن البنا، ولكن منصبه القضائي جعله يبتعد عن الظهور العلني في الإخوان، وكانت مجلة (الشهاب) قد نشرت صورته في (سجل التعارف الإسلامي) في العدد الأول، وكتبت تحته: "مصري ولد في (عرب الصوالحة) سنة 1309هـ، قبيلته عربية عريقة في عروبتها ودينها، ودرس في كلية الحقوق وتخرج فيها سنة 1335هـ واشتغل بالمحاماة، ثم عُين في القضاء، وهو الآن مستشار في محكمة النقض، سعادته خير قدوة لرجال القانون؛ فقد عُرف في جميع مراحل حياته باللباقة وسمو الخلق، والغيرة على الإسلام والدعوة إليه، وهو يحفظ القرآن، وذو رأي مسدد في كل ما يتصل باللغة والإسلام، كما أن لسعادته دراسات واسعة في القانون المقارن والتشريع الإسلامي، واطلاع واسع على كتبه وموسوعاته" انتهى.

وكأن هذا التعريف الشامل المركز من الأستاذ البنا، كان يحمل ترشيحا لصاحبه، ليقود سفينة الجماعة من بعد مرشدها الأول، رحمهما الله جميعا.

وقد حل اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًا عقدة اختيار المرشد من رجال الصف الأول البارزين: صالح عشماوي وكيل الإخوان، وعبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد وشقيق المرشد الأول، وعبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة وزوج أخت الأستاذ، والشيخ أحمد الباقوري أحد قدامى الإخوان، وغيرهم من المتطلعين إلى منصب المرشد العام، وكل يزعم -أو يزعم له- أنه أحق به من غيره. فكان اختيار رجل من خارج المجموعة كلها حلا للإشكال.

وكان الإخوان قد اختاروا مقرا مؤقتا في حي "الظاهر" بالقاهرة، يلتقون فيه حتى يكسبوا قضيتهم، وتعود إليهم ممتلكاتهم، ومنها المركز العام بالحلمية الجديدة.

وكان أول لقاء عام بالإخوان للأستاذ الهضيبي في هذا المقر المؤقت، وقد أوصى الإخوان بتقوى الله -عز وجل-، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وطلب منهم أن يقلوا الحديث عما أصابهم من بلاء في سبيل الدعوة؛ فهذا أول الطريق، وكأنه يستشف ما يُكنُّه ضمير التاريخ من محن كبيرة مخبأة للإخوان.

وبعد جهود واتصالات ومظاهرة أمام مجلس النواب، وضغط على حكومة الوفد أُلغي قرار حل الإخوان، وعادوا رسميا ليمارسوا نشاطهم تحت سمع القانون وبصره، وتسلموا مركزهم العام ليقيموا فيه أحاديث الثلاثاء، التي أمسى يتعاقب عليها عدد من دعاة الإخوان، ولكن أين من يملأ مكان حسن البنا؟

وفي هذا الوقت طُلب من الأستاذ الهضيبي أن يزور الملك فاروق، وحدد موعد الزيارة، وكأن الملك أراد بذلك أن يقيم صلة، أو يعقد هدنة مع الإخوان، بعد أن اغتيل مرشدهم الأول لحسابه، وذهب الأستاذ الهضيبي للقاء الملك، وجرى بينهما حديث عن الله ثم الملك، ثم الشعب، فعقب الهضيبي قائلا: "بل الله، ثم الشعب، ثم الملك".

وبعد خروج الأستاذ الهضيبي من الزيارة الملكية، سأله الصحفيون عن مضمون هذه الزيارة، فقال: "لقد كانت زيارة كريمة لملك كريم".

واستغلها خصوم الدعوة؛ ليشوشوا على الإخوان، وعلى مرشدهم الجديد، وليجعلوا منها مقدمة لدوران الإخوان في فلك القصر، وأن الهضيبي إنما جاء ليؤدي هذا الدور، وكل هذه أوهام وأباطيل، وإنما قالها الرجل على سجيته جملة يريد بها المجاملة لا أكثر من ذلك، وما غيَّر الإخوان من أهدافهم ولا من مناهجهم قيد شعرة، كما يعرف ذلك كل مراقب للإخوان، مطلع على مسيرة الإخوان.

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) بعض التفاصيل عن هذه الزيارة، منها: أنهم بعثوا إلى الأستاذ الهضيبي من القصر حلة خاصة لا يقابَل الملك إلا بمثلها، يسمونها (الردنجوت) فرفض الهضيبي أن يلبسها، وأصر على أن يلقى الملك بحلته المعتادة، وقبلوا بذلك لأول مرة.

ومنها: أن الملك ظل يتحدث نحو الساعة، معتذرا عما أصاب الإخوان، وأنه من عمل حزب السعديين وحكومتهم، وأنه هو الذي أقال حكومة إبراهيم عبد الهادي، وأمر بالإفراج عن الإخوان… إلخ، والأستاذ ساكت.

ومنها: أن الملك أرسل إلى الهضيبي صورة فاخرة له موقعة بخطه، وكان ينتظر أن يعلقها في مكتبه فلم يفعل، ولكنه أخذها إلى بيته، ووضعها على الأرض في مكان لا يراه أحد.


مسجد آل طه بالمحلة:

كانت نفقات الحياة بالقاهرة كثيرة؛ المسكن والمعيشة والتنقل والملبس والكتب... وغيرها، وليس لي مورد يغطي هذه التكاليف؟

أخي وزميلي محمد الدمرداش حل هذه المشكلة بالتقدم إلى وزارة التربية والتعليم ليعين بالثانوية مدرسًا، وقد كان، وعُين بالصعيد، ولكن مثل هذا العمل لا يلائمني بالمرة، فأنا لا أريد عملا يقطعني عن الحضور بالكلية، ويبعدني عن القاهرة مركز الدعوة والنشاط والحركة.

ولهذا فكرت في أن أعمل خطيبًا بأحد المساجد الأهلية، وآخذ مكافأة تكفيني، وقد دلني بعض الإخوة على مسجد يُنشأ في المحلة الكبرى في شارع البحر، وهو أكبر الشوارع في المحلة، وهو يوشك أن ينتهي، والذي أنشأه أسرة "آل طه"، من أعيان المحلة، وسيحتاجون قطعًا إلى خطيب للمسجد، ودلوني على الحاج رشاد طه، وهو ضابط مهندس كبير بالجيش، ومن أهل الصلاح والتقوى، بالفعل سألت عن مسكنه في القاهرة وزرته وعرفته بنفسي، وحاجتي إلى العمل بالمسجد، وطلبت منه أن يسأل عني، فقال لي: الكتاب يُقرأ من عنوانه، وسأجتهد في إقناع عمي الحاج حسن بذلك.. والله يختار الخير.

وتم الأمر بحمد الله، وافتتحت المسجد بأول خطبة حضرها عدد ملأ المسجد، وهو صغير نسبيًّا، وفي الجمعة التالية صلى الناس خارج المسجد، وما زال العدد يتضاعف حتى أصبح الذين يصلون في الشارع أضعاف الذين يصلون داخل المسجد؛ وهو ما اضطر أصحاب المسجد أن يبنوا ملحقا بجواره من عدة طوابق، حتى يتسع للناس.

وكان الناس يفدون إليه من طنطا، ومن سمنود، ومن طلخا والمنصورة، وبات مدرسة متميزة يقصدها الكثيرون للاستفادة منها. وكنت كثيرا ما أجعل الخطب سلسلة متماسكة الحلقات، بعضها في العقائد، وبعضها في العبادات، وبعضها في أخلاق المؤمن، وبعضها في مشكلات الحياة والمجتمع، وبعضها في قضايا أمة الإسلام.

وقد اشتهر المسجد باسم (مسجد الشيخ يوسف) وقلت للإخوة: أنا حريص على أن يظل اسمه (مسجد آل طه) تشجيعا لهم، وتنويها بعملهم الصالح، فقد قرروا لي مرتبا (عشرة جنيهات كل شهر)، حلوا بها مشكلتي الاقتصادية، جزاهم الله خيرا، كما أنهم لم يضيقوا علي في حضور ولا غياب؛ فلي أن أباشر أنشطتي كما أشاء، وحسبهم السمعة الكبيرة التي جاءتهم من وراء المسجد، وكنت آتي إلى المسجد مساء كل خميس، لألقي درسا في المسجد، وأصلي الجمعة، وكثيرا ما يكون هناك حلقة بعد الجمعة، وبعد عودة الإخوان الرسمية كنا نخرج من المسجد في تجمع كبير إلى دار الإخوان، وهي قريبة من المسجد، وأصلي المغرب والعشاء في المسجد، ثم أسافر مساء الجمعة أو صباح السبت إلى القاهرة. وفي الصيف كنت أقيم بصفة دائمة في المحلة.

وقد استأجرت مع بعض الإخوة شقة صغيرة من حجرتين لأسكن بها، وكان معي الأخ حلمي عبد الحميد مولانا من صفط ويعمل بشركة المحلة، والأخ محمد السعيد من طنطا.

وبعد أن أصبح للإخوان دار مستقرة، وكان بها حجرة مستقلة على السطح اقترحوا عليّ أن أنتقل إلى هذه الحجرة، وقد عاينتها فوجدتها مناسبة جدا، وتجعلني قريبا من الإخوان، وقد نقلت إليها سريري وفراشي وغطائي، وأضفت إليها خزانة صغيرة لكتبي، وبهذا أصبح لي مسكنان؛ مسكن في القاهرة، ومسكن في المحلة.

كان شهر رمضان شهر النشاط المضاعف؛ درس بعد صلاة العصر، وصلاة التراويح بجزء من القرآن، ودرس في الترويحة، وفي بعض الليالي نذهب إلى قرية من قرى مركز المحلة، أو سمنود وخصوصا ليالي الاحتفال بغزوة بدر، وفتح مكة، وليلة القدر.

كان مسجد آل طه مصدر إشعاع وإحياء، وكانت سنوات حافلة بالنشاط والعطاء، وكان من بواعث إنعاش الإخوان ونموّهم في منطقة المحلة وما حولها وظهور عدد من الدعاة الشباب، أمثال مصباح عبده، والسيد النفاض، ومحمد حوطر، وعبد الستار نوير، وعبد الوهاب الشاعر... وغيرهم، ممن أصبحوا بعد ذلك نجوما زاهرة في سماء الدعوة.

وقد تعرفت في المحلة على إخوة كرام: محمد محمد عبد العال رئيس الإخوان، وعدد من أعوانه المتجردين المخلصين من أمثال: حسين عتيبة، ومصطفى الغنيمي، وسليمان مطاوع، وسيد أحمد الغزالي، وعبد الخالق عيطه... وغيرهم، ممن يعملون في مصنع المحلة، وعبد الحي غالي الذي يعمل مدرسا في وزارة التربية والتعليم.

كما عرفت عددا من الشباب الواعد الصاعد، الممتلئ بالحيوية والطموح، وعلى رأسهم الأخ محفوظ السيد حلمي، الذي يعمل بشركة المحلة، وقد اشتهر بنشاطه الرياضي؛ فكان يتولى تدريبنا فجر أيام الجمع والإجازات حتى ننهك، كما اشتهر بطرائفه وملحه، فكنا نوزع الأطعمة في الكتائب والرحلات بالتساوي، فيقول: يا جماعة الحصة على قدر الجثة! وكان يرفض شرب (الكوكاكولا) ويقول: أنا لا أشرب إلا مصر كولا، يعني: العرقسوس! وكان من هؤلاء الشباب: مقبل أبو رحال، والسيد العزب صوان، وعلي إبراهيم حمزة...، وقد استشهد الاثنان (السيد وعلي) في مجزرة ليمان طرة.

وكان من هؤلاء الشباب: كمال السامولي، وعبد الرحمن الكموني، وعبد الغني العنتري، ومحمد حوطر، وزين العابدين البلاوي، وآل البيطار، ومحمود القوطي، وماجد المالكي، ومحمد جحا، وإهاب الصياد، ومجدي السعدي، وعدد آخر لا يتسع المقام لذكرهم جميعا، وبعضهم لا يحضرني اسمه الآن، وكان الأخ علي العوضي يعمل بالبنك، ويشرف على الطلاب، وزارنا في ذلك الحين الأستاذ عمر شاهين من طلاب القاهرة لإنعاش العمل الطلابي.

وكان الأخ الأديب الشاعر: محمد حوطر قد التزم أن يكتب خطبي كل جمعة بقلمه الرصاص، يعد لها عدة أقلام وكشكولا، ويكتبها بطريقة مختصرة؛ فهو يكتب أول الآية، وأول الحديث، ويترك بقيته، ثم يأتي آخر النهار فيبيضها، وهو يذكرها، فإذا باتت لم يحسن قراءتها في الغد، ولم يكن التسجيل قد شاع بعد.

وقد قرأت ما كتبه فأعجبني، وشجعني أن نصدره في صورة (ديوان خطب منبرية) أسميته (نفحات الجمعة)، ولكن بعد أن أقرأه وأحسن وأجود صياغته؛ حتى يظهر على وجه أرضاه.

وقد طلب إليّ الإخوان بالمحلة أن أكتب لهم رسالة مبسطة تتضمن (أحاديث نبوية) يحفظونها في الأسر، ويستشهدون بها عند الحاجة، فكتبت رسالة (قطوف دانية من الكتاب والسنة) رأيت أن أربط فيها الأحاديث النبوية بالآيات القرآنية؛ فالقرآن هو مصدر الإسلام الأول، والسنة هي المصدر الثاني المبين للقرآن.

كما رأيت أن أرتب هذه النصوص ترتيبا معينا عن الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والحكومة المسلمة، وأقسم كل فصل من هذه الفصول إلى عناصر، وقد طبعت هذه الرسالة ونشرت أكثر من مرة.

وقد شجعتني هذه الرسالة أن أمسك بالقلم لأكتب؛ فقد كان نهجي السابق أن أقتصر على استخدام اللسان، ولا أكاد أستخدم القلم إلا في كتابة عناصر الموضوعات التي أتحدث فيها غالبا، مع أن العرب قالوا: "القلم أحد اللسانين"، وقال الله –تعالى- في أول آيات أنزلت على محمد (صلى الله عليه وسلم): "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" (العلق: 4)، ومن أوائل ما نزل من القرآن سورة سميت (سورة القلم) بدأ تعالى بقوله: "ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" (القلم: 1، 2) فأقسم الله فيها بالقلم، ولا يقسم الله بشيء إلا لينبه على أهميته.

ومع هذا لم أكتب، ولم ينبهني أحد من الإخوان الكبار على ذلك، أو يدفعني إليه، وأول ما كتبته في هذه الفترة: كتيب بعنوان (رسالتك أيها المسلم)، وكان من حظ هذه الرسالة أن تصادر مع ما أعدّ من كتاب (نفحات الجمعة) حين أغلقت دور الإخوان في عهد الثورة، كما سيأتي في الحديث بعد.

فتنة احتلال المركز العام وعملية الزائدة الدودية

وفي هذه الفترة -فترة بقائي بمدينة المحلة الكبرى- وفي إحدى الليالي من شهر نوفمبر 1953م شعرت بمغصٍ شديد جعلني أتلوى من الألم، وقد عرف الإخوة ما ألمَّ بي فأحاطوا بي، وأعطوني بعض المُسَكِّنات التي لم تُغنِ شيئا في دفع الألم الذي طفق تزداد حدته.

وفي الصباح ذهبوا بي إلى الدكتور زهير، وكان من أطباء الإخوان، فقال لي: إن الزائدة عندك ملتهبة التهابا شديدا، وكان يخشى أن تنفجر، ويجب أن يدخل الشيخ المستشفى فورا، ودخلت مستشفى مبرة المحلة، وكان مستشفى جيدا مجهزا، وتولى د. زهير إجراء العملية لي، وتمت بحمد الله، وخرجت من المستشفى بسلام والحمد لله أولا وآخرا.

وفي أثناء وجودي في المستشفى حدث بالمركز العام للإخوان حادث خطير وغريب، فقد احتل بعض الشباب الذين ينتمون إلى النظام الخاص المركز العام؛ انتصارا لرئيس النظام عبد الرحمن السَّنَدي، وانشقاقا على المرشد العام الأستاذ الهضيبي.

وأراد هؤلاء الشباب المخلصون في نياتهم، المغررون في فكرهم أن يفرضوا رأيهم على الجماعة ومرشدها، وهيئاتها الشورية بالقوة والعصيان.

كان النظام الخاص قد بدأ التمرد على الجماعة، واعتبر نفسه دولة داخل الدولة منذ عهد الإمام حسن البنا، مؤسسه ومؤسس الجماعة، كما في حادث مقتل الخازندار، الذي غضب الأستاذ البنا منه أشد الغضب، وكما في حادث نسف محكمة الاستئناف الذي حمل الأستاذ على أن يصدر بيانه الشهير يقول فيه عن هؤلاء: "إنهم ليسوا إخوانا، وليسوا مسلمين".

وحينما اختير الأستاذ الهضيبي مرشدا للجماعة، وعرف بقصة النظام الخاص وتاريخه ونفوذ قادته باستقلالهم عن الجماعة أحس بأن هذا خطر يجب أن يقاوم، فأعلن أول الأمر أن لا سرية في الإسلام.

ثم يبدو أن بعض الإخوان أقنعوه أن الدعوة لا سرية فيها، ولكن بعض التنظيمات تقضي الضرورات التي تعيشها بلادنا أن تكون سرا، ولا سيما مع وجود الاحتلال الإنجليزي، والحكومات الموالية له، وفساد القصر، وتهديد الدولة الصهيونية على حدود مصر… إلخ، فوافق المرشد على بقائه، على أن يحدث فيه بعض التغيير، وخصوصا في القيادة.

ويظهر أن النظام شعر بذلك، فبدأ يقاوم ذلك؛ وهو ما أدى إلى فصل أربعة من كبار أعضائه وقادته، وهم: رئيس النظام عبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال.

وكان ذلك على إثر حادثة غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الإخوان، تمثل جريمة من الجرائم الكبرى التي لا تبرر بحال من الأحوال، وهي قتل أحد الإخوة المخلصين والمهمين الناقمين على قادة النظام، وهو المهندس "السيد فائز"، الذي كان موضع الرضا والقبول من المرشد العام، ومن كل من عرفه؛ لما تميز به من حسن الفهم، وحسن الخلق، والبذل والإخلاص للدعوة.

وكان قتله بطريقة بشعة؛ إذ أرسلت له علبة حلوى بمناسبة المولد النبوي، وكان غائبا عن المنزل؛ فلما عاد وفتح العلبة انفجرت فيه فأودت بحياته، وحياة شقيقه الصغير، وكانت أصابع الاتهام كلها تشير إلى النظام، وإن كان التحقيق الرسمي لم يسفر عن شيء.

وكانت هذه الجريمة النكراء سبب استياء عارم، وسخط عام في صفوف الإخوان؛ فكيف يستحل الأخ دم أخيه، وإن اختلف معه في الرأي؟ وبأي ذنب قُتلت هذه النفس التي حرّم الله، والتي جعل القرآن وكتب السماء من قتلها فكأنما قتل الناس جميعا؟ ومن أفتى هؤلاء بإباحة هذا الدم الحرام؟ أم أنهم جعلوا من أنفسهم المفتي والقاضي والمنفذ؟

ومع هذا لم يكتفِ رجال النظام بما اقترفوا، بل أرادوا أن يقاوموا قرار فصل الأربعة الذي صدر من مكتب الإرشاد العام صاحب السلطة التنفيذية العليا في الجماعة، والذي من حقه أن يفصل الأعضاء بناء على اعتبارات يراها، وليس من الضروري أن يعلن الأسباب، ولا سيما إذا كان ذلك يضر بالجماعة.

أراد رئيس النظام ومن عاونه من شباب النظام أن يحدثوا انقلابا غير دستوري في الإخوان بأن يحتلوا المركز العام بالقوة، وأن يذهب فريق منهم إلى منزل المرشد العام، ويرغموه على الاستقالة، وأن يتولى فريق من كبار الإخوان المركز العام ويديروه حتى يختار الإخوان لهم مرشدا جديدا.

وبالفعل احتلوا المركز العام، وذهب خمسون منهم إلى بيت المرشد، مقتحمين بغير استئناس ولا استئذان، كما هو أدب الإسلام، وطلبوا منه الاستقالة فرفض، وبهذا أخفقوا في هذا البند.

وقد تجاوب معهم من الكبار الأستاذ: صالح عشماوي، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد أحمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، والشيخ سيد سابق، الذي قيل: "إنهم اختاروه مرشدا بدل الهضيبي"!

وقام الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل بدور مهم في محاولة فضّ هذا الأمر، وإقناع الشباب بالانصراف، وقد استجابوا له بالفعل، فلم يأت الفجر حتى كانوا قد رحلوا.

وسرعان ما شعر الكثير منهم بجسامة ما اقترفوا، وسارع بعضهم إلى التوبة والاعتذار، ومنهم الأخوان الكريمان: علي صديق، وفتحي البوز.

وفي المساء امتلأ المركز العام بالإخوان، وتحدث عدد من دعاة الإخوان: عبد الحكيم عابدين، وسيد قطب، وسعيد رمضان، وعز الدين إبراهيم، وخُتم اللقاء بكلمة المرشد العام.

واعتذر د. سليمان، وأعلن ثقته بالمرشد العام، واكتفى منه بذلك، وأحيل الثلاثة الآخرون (عشماوي والغزالي وجلال) إلى (لجنة العضوية) بالهيئة التأسيسية بصفتهم أعضاء بها، لتنظر في أمرهم، وانتهى الأمر بفصلهم، وهي نهاية مؤسفة، ولكن لم يكن بد منها، وكما قال الشاعر:

!فما حيلة المضطر إلا ركوبها



إذا لم يكن إلا الأسنَّةُ مركب

حدثت هذه الأحداث الخطيرة، وأنا في مستشفى المبرة بالمحلة، عرفت بعضها بالتليفون، وبعضها من الإخوة الذين زاروني؟ وقصُّوا عليَّ ما جرى.