*23 الحلقة الثالثة والعشرون : من الطور إلى هايكستب
الحلقة (23) من الطور إلى هايكستب.. رحلة قاسية لا تنسى
محتويات
من الطور إلى هايكستب .. رحلة قاسية لا تنسى
وبينما كنا نستمتع مع إخواننا بهذه الحياة الإسلامية الفريدة في الطور، مشاركين في النشاط الإسلامي المتعدد الألوان، إذا بنا نفاجأ بالنداء علينا -نحن طلاب الثانوي- لنقلنا إلى القاهرة، أو قريب منها، وقد قيل: "ربما ليفرجوا عنا؛ فالكبار يبدو أنه سيطول اعتقالهم".
ولم نفرح بهذا الخبر، بل كان وقْعُه علينا وقعَ الصاعقة؛ فما كنا نحب أن نفارق إخواننا وشيوخنا، بل كنا نحب أن نبقى إلى جوارهم، يجري علينا ما يجري عليهم.
وهكذا جمعونا -طلبة الثانوي-: أنا، وأحمد العسال، ومحمد الدمرداش ومصباح عبده، الذين كنا في سجن قسم طنطا، ومن انضم إلينا من زملائنا الطلاب: السيد النفاض من محلة أبو علي، وكمال السيد جروين من كفر طبلوها من معهد شبين الكوم بالمنوفية، ومحمد التاجي من معهد أسيوط الديني بالصعيد... وآخرون لا أذكرهم، وقد كان لمعهد طنطا نصيب الأسد في المعتقلين من الطلاب.
وكانت وسيلة نقلنا سيارة نقل للبضائع (لوري) أُلقينا فيها كأننا أبقار أو أغنام ننقل من بلد إلى بلد! والمسافة طويلة من الطور إلى القاهرة، والطريق غير مُعبَّد، وعلينا أن نجتاز بهذه الوسيلة صحراء سينا، وهي قاسية، شديدة شمسها نهارا، شديد بردها ليلا، ولم يكن معنا من الأغطية ما يكفي ويرد عنا عادية برد الصحراء، وأحسب أننا كنا في شهر أبريل، أو نحو ذلك.
وصبرنا على هذه الرحلة القاسية المضنية؛ فقد كنا شبابا، وكانت أجسامنا تحتمل هذا العناء، واستعنَّا بأدعية السفر التي كنا نحفظها: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد، اللهم هوِّن علينا سفرنا واطوِ عنا بُعْدَه، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى". واختلفنا فيما بيننا: هل نختم الدعاء بما أُثر: "آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون"، التي كان يقولها رسول الله في عودته من السفر؛ لأننا لم ندر: هل نحن آيبون وراجعون من سفرنا، أو نحن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة؟ وترجح الرأي الأخير.
ومع احتمال مجموعنا لقسوة الرحلة، كان منا من لم يحتمل لأواءها وشدتها؛ مثل أخينا مصباح الذي أصيب بـ(الروماتيزم) وتعب تعبا شديدا، حتى اجتزنا الصحراء، ووصلنا إلى السويس، واقتربنا من القاهرة، وانفرجت أساريرنا عندما رأينا خضرة القمح والشعير والفول والبرسيم لأول مرة منذ أشهر، فلم نكن نرى غير اللون الأصفر؛ لون الصحراء.
وأخيرا وصلنا إلى معتقل (ها يكستب) بالقرب من القاهرة. و(هايكستب) كان معسكرا للجيش الإنكليزي (كامب) تخلى عنه، فاستخدمته الحكومة المصرية معتقلا لبعض المصريين.
وكان فيه قبل الإخوان: جماعة من الشيوعيين، وبعض الوفديين اليساريين، وكان معظم الشيوعيين من جماعة (حدتّو) وهي اختصار لكلمات: "الحركة الديمقراطية التحررية الوطنية"، وكان زعيم هذه الجماعة ومؤسسها المليونير اليهودي الإيطالي (هنري كوريل) وهو الممول الأكبر لهذه الحركة، ومن العجب أن يحمل هذا المليونير اليهودي الإيطالي قلبا يرفق ويحنو على العمال والفقراء والمستضعفين في مصر!، فمتى كان اليهود يحملون هذه القلوب الرحيمة على البشر؟! ومتى كان الرأسماليون يحنُّون على الطبقات الأخرى، وفلسفتهم قائمة على أن تربح من كل الطبقات ما استطاعت، ولا يهم الرأسمالي أن يشيد قصرا من جماجم البشر، وأن يزخرفه بدمائهم؟! ومتى كان الإيطالي حريصًا على إنقاذ الطبقات المسحوقة في مصر؟! ولحساب من هذا كله؟.
إن الذي يقرأ تاريخ الشيوعية في المنطقة يتبين بوضوح أن الذي حمل لواءها، وقام بنشرها في أول الأمر هم اليهود، ومن المعلوم للدارسين أن الشيوعية بنت اليهودية، ودور اليهودية في قيام الثورة الشيوعية ونجاحها في روسيا دور غير مجهول ولا منكور.
ثم انضم بعض النصارى إلى اليهود في الانضمام إلى الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية، وكان أول مسلم ينضم إلى الحزب الشيوعي هو (خالد بكداش) في سوريا، وكانت فرحة الشيوعيين به لا تقدر؛ فهو أول الغيث.
المهم أن الشيوعيين سبقوا الإخوان إلى (هايكستب)، وكان (كوريل) يأمرهم وينهاهم فيسمعون له ويطيعون كأنهم الخاتم في أصبعه.
على كل حال وصلنا إلى هايكستب، ووُضعنا في أحد عنابره، ووجدنا بعض الإخوان قد سبقونا إليه؛ منهم: الطبيب الأديب الشاعر د.حسان حتحوت الذي تخرج حديثا، ومنهم العالم الداعية الشيخ محمد جبر التميمي، ومنهم العربي الأصيل الأستاذ صالح أبو رقيق، ومنهم الطالب الأزهري الأديب الشاعر عبد الودود شلبي، ومنهم الأخ سعد كمال، والأخ علي الخولي، ومنهم أصغر طالب في المرحلة الثانوية، وهو الطالب النابه محيي الدين عطية، ومنهم عدد من طلبة معهد دمياط الديني الابتدائي، كانوا قاموا بإضراب في المعهد، فاقتادتهم المباحث إلى المعتقل مع الإخوان، ولم يكونوا من الإخوان، وقد أصبحوا منهم بعد ذلك، أذكر منهم أصغر طالب فيهم محمد أحمد العزب، الذي أصبح الدكتور الأديب الشاعر الباحث الإسلامي فيما بعد.
ومن اللطائف التي أذكرها أنا وجدنا المراحيض في هذا المعتقل على الطريقة الإفرنجية، التي لم تكن معروفة ولا مشتهرة بين الناس في هذا الوقت، ولم يسترِح مجموع المعتقلين إليها، وقال الدكتور حتحوت: "إن المرحاض البلدي أصح من المرحاض الإفرنجي؛ فهو أبعد عن نقل العدوى؛ حيث لا يجلس معتقل مكان غيره ويلامسه بجسده، ثم إن الحمام البلدي بجلسة القرفصاء المعتادة يساعد على التفريغ أكثر، وهو يقوي عضلات الساقين". وانتهى الرأي إلى أن نحوِّل (الإفرنجي) إلى (بلدي) بواسطة حجارة موجودة في المعتقل، وقد كان.
وبدأنا ننظم حياتنا في هذا المعتقل، مستفيدين من تجربتنا في الطور، وإن لم تبلغ مبلغ الإخوة هناك، وبخاصة أنه كان بيننا بعض العناصر من غير الإخوان منهم طلبة معهد دمياط، الذين ظلوا في بعض الليل يصيحون ويهرجون، ونحن قد أوينا إلى النوم؛ وهو ما جعلني أثور عليهم، وأهاجمهم مهاجمة عنيفة، ندمت عليها بعد ذلك، وطلبت السماح منهم.
وكنا نصلي الصلوات في جماعة، وقد اختارني الإخوان إمامًا لهم، كما كنت أخطبهم الجمعة، وأحيانا يساعدني بعض الإخوة مثل الأخ العسال، أو عبد الودود.
وكان الأخ مصباح قد اشتد به مرض (الروماتيزم)، وغدا تحت رعاية الدكتور حتحوت، ورغم مرض مصباح فإنه كان مصدرًا للترفيه عن الإخوان وإضحاكهم بنكاته الفطرية، وتعليقاته الهزلية، التي هي نوع من الكاريكاتير الشفهي، وكان من شعره (الحلبنتيشي):
!ولكن أشرب الشاي البلاشا
ولست بشارب شايا بقرش
وكان كلما اشتد به الألم يقول: "الله يخرب بيتك يا اللي في بالي".
وكان كلما صمَتَ الإخوة من حوله، يصدر صيحة يقول: "عبادَك يا كريم"، وكان من طرائفه أنه إذا سئل عن ترتيبه في الدفعة، يقول: أنا والشيخ يوسف نحيط بالدفعة من طرفيها، هو في أولها، وأنا في آخرها، فأنا الأول ولكن في الطرف الآخر!
وكنا نأمل أن يسمحوا لنا بدخول امتحان الشهادة الثانوية؛ بأن يأخذونا تحت الحراسة إلى لجنة الامتحان بمعهد القاهرة، أو يأتوا إلينا بلجنة تمتحننا في المعتقل، وكلا الأمرين حدث لمعتقلين قبلنا، وهو من حقنا.
ولهذا ظللنا نتذاكر المقررات الدراسية في الكتب التي معنا، يسأل بعضنا بعضا، ويعين بعضنا بعضا، حتى اقترب موعد تقديم (استمارات الشهادة الثانوية)، فطلبنا من إدارة المعتقل أن تحضر لنا هذه الاستمارات، فاستجابت لنا، وأحضرتها وملأناها، وبقيت (الصورة الشمسية) التي توضع في الاستمارة، فطلبنا منهم أن يأتوا بمصور يصورنا في المعتقل، حتى تستكمل الاستمارة مقوماتها، فرفضوا. وقدمنا الاستمارات بدون صور.
وبقينا نترقب الامتحان، ونستعد له بقدر ما تسعفنا ظروفنا، راجين أن تنفرج الأمور، فيأذنوا لنا بأداء الامتحان، حتى جاء موعد الامتحان بالفعل، والباب مغلق أمامنا ولم يحدث أي انفراج. فلم نملك إلا أن نقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون".
وألقينا كتبنا واعتقدنا أن السنة قد ضاعت منا، ولا بأس بذلك في سبيل الدعوة، وعلى الجميع أن يصبروا على ما أصابهم، ويسألوا الله أن يعوضهم خيرا؛ فهناك من الإخوة من كسدت تجارته وأُغلق محله، ومنهم من أوقف مرتبه، ولا دخل لأهله غيره، ومنهم... ومنهم...، وعلينا -نحن الطلبة- أن نصبر على ما يضيع من سنوات عمرنا.
كان المعتقلون يقضون أوقاتهم في أنشطة مختلفة؛ كان منا من يقرأ بعض الكتب إذا تيسرت، وقد كان معي كتابان اصطحبتهما، وهما: إحياء علوم الدين للغزالي، الذي أهداه إلي جارنا الشيخ بيومي الغزوني وأجزاء من كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه في الأدب. فكنت أستفيد من الوقت بالقراءة في هذا الفترة، وفي ذاك أخرى.. أحيانا وحدي، وأحيانا مع بعض الإخوة.
وكنا نقيم بعض أحفال السمر في الليل؛ للترويح عن الأنفس، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة: "يا حنظلة، ساعة وساعة".
وكما قال الشاعر:
وللهو مني والبطالة جانب
ولله مني جانب لا أضيعه
وكان الشعراء يلقون بعض ما عندهم، مثل الدكتور حسان حتحوت، وقصيدته عن القرآن والسياسة، والتي يقول فيها:
أتراه أمرًا في الكتاب عجيبا
هـذا الكتاب، وإن فـيه سياسـة
ه ونقبوا عـن غـيره تنقيبا
إن كـان تغضبكم سياسته دعــو
أفتى فـغادر نصفه مشطوبا!
أوما عرضوه على الرقيب، فربما
فكـفى برب العـالمين رقيبا
يا قـوم سحقـا للرقيب وأمره
وكذلك الأخ محمد التاجي الشاعر الصعيدي المجيد، وقد أسمعنا بعض قصائده الوطنية، وأذكر من قصيدة قافية منها:
!وإذا غضبت فإن مائي محرق
أنا إن رضيت فإن ناري جنة
وقصيدته بعنوان (أخي) ومطلعها:
وفي خاطري أنت والأضلع
أخي في فؤادي وفي سمعي
ومنها:
!وخلف أخيه لدى المطمع
كلانا إلى الهول بارى أخاه
أي عند الهول يسابق كلانا الآخر، وعند المغنم والمطمع يتأخر كل منهما، ليقدم أخاه، ويمشي خلفه، وهو ما وصف به الأنصار قديما: أنهم يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع.
ومن طرائف شعر التاجي، قصيدته عن حياته في المعهد، ومنها عن (سريره) الذي يقول فيه:
ـر من أيام بيبرس
سـرير نال منه الدهـ
ـب و(البوفيه) والكرسي
هو المضجع والمكتـ
ومما يؤسف له أن يختفي التاجي وشعره المطبوع الجيد، لا لشيء إلا لأنه يعيش هناك في الصعيد، بعيدا عن الأضواء، في حين طفا على السطح كثيرون لا هم في العير ولا في النفير، وهذا من جملة العبر، ودليل على اختلال الميزان عند البشر!!.
ولولا أننا نبهنا عليه الأخوين أحمد الجدع، وحسني جرار، لينوِّها به وبشعره في (شعراء الدعوة الإسلامية) ما سمع به أحد إلا القريبون منه.
وكان الأخ الشاعر عبد الودود شلبي ينشدنا من شعره أحيانا، ومن شعر اليساريين الثائر حينا آخر؛ مثل قوله:
أفـلا تبصرُ قـبرك؟
أيها الشعب تحرَّكْ
ـهبَ بالكرباج ظهْرَك
هاهو الجلادُ قد ألـ
شك أن يُنهي أمرَك
هاهو الخفارُ قـد أو
رك للسجن تحـرَّك
موكب الأحرار أنصا
ـعب لكي تهدمَ قبرَك
فتحرَّك أنت يا شـ
وكنت أشارك في هذه الندوات ببعض شعري القديم، وبعض الحديث مثل نشيد (يا سجون اشهدي)، وقد ألفته في هذا المعتقل:
مرحبًا بالسجون
مرحبًا بالحراب
كل شيء يهون
في سبيل الكتاب
كل ما يُوعِدُون
إننا لا نهاب
!ومُنانا المنون؟
كيف نخشى العذاب
أننا مـؤمنون
حسبنا يا شباب
ولـه مسلمون
نحـن جندُ الإله
لا نَنِي.. لا نخون
همُّنا في رضاه
كائنًا مَن يكون
لا نبالي سواه
أيها الحائرون
فاقبسوا من هُداه
أيها النائمون
وانهـضوا للحياة
قسوة الظالمين
يا سجون اشهدي
صبرَ أهلِ اليقين
واذكـري للغد
وحـماة العرين
فتية المسجد
بالرسولِ الأمين
كـلُّهم مقتدٍ
لا، ولن يستكين
صامد مهتدٍ
وكان من المعتقلين معنا الدكتور أحمد شوقي الفنجري، وكانت عنده هواية التنويم المغناطيسي؛ فكان يمارسها مع المعتقلين، ولا سيما الطلبة، ونراهم ينامون بالفعل، ويسألهم أسئلة يجيبون عنها بما يصيب حينا، ويخطئ أحيانا.
وأذكر أننا سمعنا نبأ انقلاب في سوريا، قام به أحد الضباط الكبار في الجيش السوري، اسمه حسني الزعيم، ولم تكن الصحف تدخل إلينا، ولا سماع الإذاعة يجوز لنا؛ فلم نكن ندري عن أخبار الدنيا في الخارج، وخصوصا الأحوال السياسية شيئا.
وطلب بعض الإخوة من الفنجري أن ينوم أحدهم، ليسأله عما يجري في سوريا، وكنت أؤمن أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن التنويم المغناطيسي وغيره لا يكشف الغيوب المستورة عن الخلق، وقد قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59)، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ} (النمل: 65). فإذا كنا نمارس التنويم على أنه (طرفة) نسلي بها الوقت فلا مانع، وأما أن نمارسه على أنه وسيلة لمعرفة الغيب؛ فهو مرفوض شرعًا.
وكان بجوارنا جماعة من كبار الإخوان، اعتقلوهم بعيدا عنا، تنكيلا بهم، وتكديرا لهم، وعلى رأسهم الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان، وصهر الأستاذ البنا (زوج أخته) والشيخ الداعية عبد المعز عبد الستار. وقد ضيقوا عليهم في المأكل والمشرب، حتى سمعت من الشيخ عبد المعز أنه قال: "حاولنا يوما أن نشرب من الماء المخزن في (سيفون) المرحاض، فوجدناه كأنه طين لا يمكن شربه".
وكنا سمعنا أنهم ركبوا لهم (أجهزة تسجيل) خفية، تسجل أحاديثهم بعضهم مع بعض، فأردنا أن نبلغهم بذلك، فأبلغناهم بذلك بطريقة ملحنة كأنما نقرأ القرآن، حتى لا يحس الحراس، وقد فهموا عنا ما أردنا.
علقة ساخنة.. ولا ندري السبب حتى الآن!
ومن الأحداث المهمة والأليمة التي لا تنسى في معتقل (هايكستب) حادثة (العلقة) الساخنة التي تلقيناها في أحد الأيام، والتي سُلِّط علينا فيها جنود (بلوك النظام)، وهم جنود تابعون للشرطة، يجندون عند الأزمات فقط؛ لفضّ المظاهرات، أو مقاومة الشغب، أو نحو ذلك، وهم في غالبهم أميّون قساة، كأنما هم أدوات في أيدي قادتهم، ينفذون بهم ما أرادوا.
ولا ندري حقيقة السبب الذي استدعي من أجله هؤلاء الجنود للانقضاض علينا، كأنهم وحوش مفترسة، أو كأنما يهاجمون عدوا قد اعتدى على أرض الوطن، وانتهك حرماته!.
قيل: إن الأخ عبد الودود شلبي -الذي كانوا يغلطون في اسمه إذا نادوه، ويقولون: "عبد الوِدّ وِدّ"- تشاجر مع إدارة المعتقل لسبب من الأسباب، فأراد الضابط المسؤول -واسمه فريد القاضي- أن ينتقم من الجميع، ويعلمهم أدب التعامل مع القادة.
أيا كان السبب، فقد فوجئنا بالجنود يدخلون علينا عنبرنا الرئيس كالتتار، يحملون العصي الغليظة والهروات الطويلة، يضربون بها الكبير والصغير، والصحيح والمريض، لا يتحاشون أحدا.
ولا ننسى موقف الأخ صالح أبو رقيق، وهو يحامي عن الإخوة صغار السن، ويتلقى الضربات عنهم، وموقف الأخ حسان حتحوت، وقد أصيب في أصبعه. كما لا ننسى موقف الأخ عبد الودود حين نزلت عليه الضربات، وهو يصيح ويقول: عثمان بن عفان، شهيد الدار من جديد!
ولا موقف الأخ مصباح ـ على مرضه ـ ينكت ويقول:
وسط العنابر بالعصا يا سوسو
ولقد ذكرتك والجنود تعجنني
على غرار ما قاله عنترة لعبلة:
مني، وبيضُ الهند تقطرُ من دمي
ولقد ذكرتُكَ والرماح نواهل
لـمعتْ كـبارق ثغـرك المتبسِّمِ
فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها
بهذه الروح العذبة المستخفة واجهنا هذه المعركة التي سميتُها في قصيدة لي (معركة بغير قتال) .
وكان بجوارنا العنبر الآخر الذي فيه عدد من كبار الإخوان، عزلوهم عنا، منهم الأستاذ الشيخ عبد المعز عبد الستار، والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وعدد من الإخوة، كما أشرت من قبل.
وكان الجنود يوجهون ضرباتهم إلى الشيخ عبد المعز وهو يصرخ فيهم: "اضربوا يا أنذال، اضربوا يا كلاب".
وانفضت المعركة المفتعلة بقليل من الإصابات والجراحات الخفيفة، وكثير من العجب والاستغراب لما حدث، ولكن في عهود الظلم والاستبداد لا يُستغرب أي شيء يقع؛ لأنه لا يوجد من يحاسب الظالم، ولا من ينصف المظلوم.
وقد نظمت قصيدة بهذه المناسبة، قلت فيها:
!ما كنت بالباغي ولا المحتالِ؟ !متوثِّبين كهجمةِ الأغوالِ؟ !ببسالة للثأر من أمثالي ومضوا كسيل من كل مكان عال !حرسٍ، كأن اليوم يوم نزال؟ !إضرامُ معركة بغير قتال !عقلٍ، سوى تنفيذ أوامر الوالي لكن لمن يشكو أذى الجهال؟ يعدو الجهول عليه غير مبال لم ينجُ من ضرب وسوط نكال يحمي الضعاف بعزة وجلال وأخي الدمرداشي والعسال رغم الضنى في الجسم والأثقال في الجند يصرخ صرخة الرئبال ضـرب الـخسيس لشامخ متعـال
إمهـال ربـي ليس بالإهـمـال فمآلُكم واللهِ شرُّ مآل حتما، ويؤذَنُ ظلُّكم بزوال وإذا غضبن فما لكم من وال يوما، وما أعتاه من زلزال وإن احتمـى بالـجند والأمــوال
ببذيء أقوال، وسوء فعال ما ازددت غير تمسك بحبالي إيذاء عمار، وجلد بلال من شيمة الأوغاد لا الأبطال مادم في الأقفاص والأغلال أن تستطيعوا ساعة إذلالي؟ نفسا تعز على أذى الأنذال
ما للجنود ذوي العصيّ ومالي؟ ما بالهم هجموا علينا بغتة قد كشّروا عن نابِهم، وتقدّموا حملوا العصيّ غليظة كقلوبهم لم كلُّ هذا الحشد من جندٍ، ومن وإذا عجبتُ فإن أعجبَ ما أرى ضربٌ بلا هدف، ولا معنىً، ولا كم بيننا من ذي سقام يشتكي كم بيننا شيخ ينوء بعمره كم بيننا من يافع ومُرفَّه لم أنسَ وقفة (صالح) بشجاعة وثباتَ حسَّان ومحيي حوله ومزاح مصباحٍ وحلو نِكاته وبقربنا شيخ يجلجل صوته عبد المعزِّ يقولُ: دونكمو اضربوا
قـل للطغاة الحـاكمين بأمـرهم إن كان يومكمو صحت أجواؤه ستدور دائرة الزمان عليكمو سترون من غضب السماوات العلا وتزلزل الأرض التي دانت لكم البغي فـي الـدنيا قـصير عمره
يا جند فرعون الذين تميَّزوا لا تحسبوا التعذيبَ يخمد جذوتي إن تجلدوا جسدي فحسبيَ أسوةً ضربُ الرجالِ وهم أسارَى قيدهم والليثُ ليس يعيبه إيذاؤه يا قادرين على الأذى ليَ، هل لكم الجسم قد يؤذى، وليس بضائر
مسرحية ابن جبير والحجاج.. بدايتها من الهايكستب
وكان مما كتبته في هذه الفترة في (هايكستب) مشروع مسرحية عن الإمام "سعيد بن جبير"، ومواجهته للحجاج، وكان هذا من ثمرة قراءتي للعقد الفريد، وقد كتبتها في مسودة في كراسة، وقد صحبتها معي إلى الطور بعد عودتنا إليه مرة أخرى، وحين أُفرج عني تركتها مع بعض الإخوة، وقد علمت أنهم مثلوها في المعتقل، عقب الإفراج عني وتحسن الأحوال كثيرا، وذلك بعد أن أضافوا إليها بعض اللمسات؛ وهو ما دفعني أن أعود إلى الفكرة بعد ذلك، وأعيد كتابة الموضوع تحت عنوان (عالم وطاغية)، وهي مسرحية مثلت في أكثر من بلد ولقيت قبولا عاما.
العودة إلى الطور
وكما فوجئنا بالنداء علينا لنرحَّل من الطور إلى هايكستب، فوجئنا في أحد الأيام بالنداء علينا لنرحّل من هايكستب إلى الطور، ونعود إلى قواعدنا سالمين، وكنا فرحين بهذه العودة، لنأخذ مكاننا في القافلة الإخوانية الكبرى، ونستقبل رمضان فيها في رحاب الطور، ونسعد بالحياة الإسلامية التي عشناها من قبل.
نقلتنا السيارات إلى الطور، ومما أذكره في هذه الرحلة: أننا مررنا بمنطقة تسمى (أبو زنيمة) بها مصانع للمنجنير، وبها عدد من العمال يشتغلون بها، وقد توقفنا عندها قليلا للاستراحة، ولنشم نفسنا، وكان مما لفت نظري: أن وجدت قسيسًا قبطيا بعثت به الكنيسة إلى عمالها هناك، فقلت في نفسي: "تذكرت الكنيسة القبطية أن لها أبناء في هذه المنطقة البعيدة، فأرسلت إليهم قسيسا يعظهم، ويصلهم بكنيستهم ورجالها؛ فهل تذكر الأزهر أو تذكرت وزارة الأوقاف أن هنا عمالا مسلمين يحتاجون إلى من يرشدهم ويعلمهم ويفقههم في دينهم؟ هل تذكرهم الأزهر، وأرسل إليهم واعظا؟ وهل تذكرتهم وزارة الأوقاف لترسل إليهم إماما وخطيبا؟ هل فكرت أصلا في بناء مسجد لهم من أوقاف المسلمين وهي كثيرة بحمد لله؟
كلا، لم نجد أثرا لا للأزهر ولا للأوقاف، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته" (متفق عليه عن ابن عمر).
وعدنا إلى الطور لنستقبل فيه شهر رمضان المبارك، ومن حسن حظنا أن وضعنا في حذاء رقم (2) الذي يؤمه الشيخ الغزالي، واستمتعت بصلاة التراويح خلفه، ثماني ركعات يتلو فيها جزءا من القرآن؛ بحيث يختم القرآن في آخر ليلة، كما استمتعنا بخطبه للجمعة، ومواعظه القصيرة في الترويحة كل ليلة، وكان إمام حذاء رقم (1) هو الشيخ عبد المعز عبد الستار، وإمام حذاء رقم (3) هو الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي الداعية الكفيف، وكان من أحلى الشهور الرمضانية التي قضيناها في حياتنا صياما وقياما وتلاوة وذكرا ونشاطا.
أول دروسي العلمية في معتقل الطور
وفي بعض الأيام طلب مني الشيخ الغزالي أن ألقي درسا بالنيابة عنه، فألقيت درسا ما أزال أذكر عنوانه "لا ندم على الماضي، ولا جزع من الحاضر، ولا يأس من المستقبل".
واستدللت بالقرآن والحديث والحكم والشعر على ما أوردت من مفاهيم، ومما أذكره ما قلته في الندم على الماضي: التذكير بالحديث الصحيح "استعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم. وقد نهانا القرآن أن نتشبه بالكفار في استعمالهم (لو) المتحسرة، التي لا ترد ما فات، ولا تحيي ما مات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 156).
وقال الشاعر :
(فأرح فؤادك من (لعل) ومن (لو
سبقت مقادير الإله وحكمه
ويقول الآخر:
(بـ (لهف) ولا بـ(ليت) ولا (لو اني
وليس براجع ما فات مني
ويقول الآخر:
إن (ليتًا) وإن (لوًا) عناء
(ليت شعري وأين منّيَ (ليتٌ
وقد استقبل الإخوان هذا الدرس بقبول حسن، وأكثروا من الثناء عليه، وكان هو أول درس عام ألقيه في الطور.
قصيدتي في الاحتفال بليلة القدر
دخلنا في العشر الأواخر من رمضان، وهي أفضل لياليه، وهي ختام الشهر، والأعمال بالخواتيم، وفيها تُلتمس ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، وهي أفضل ليالي العام بإطلاق، وفيها أُنزل القرآن. وكان الرسول الكريم إذا دخل العشر، شد المئزر، وأحيا ليله -أي كله-، وأيقظ أهله.
لهذا توفّرت الهمم للتفرغ للعبادة والطاعة وذكر الله في هذه الليالي المباركة، وكثر فيها دعاؤنا وتضرعنا إلى الله تعالى، ولا سيما في ساعات الأسحار والثلث الأخير من الليل، إلى جانب الدعاء عند الإفطار، وللصائم عند فطره دعوة لا تُرد، وقد روى الترمذي حديثا وحسنه: "ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حين يفطر -أو حتى يفطر-، والإمام العادل، ودعوة المظلوم؛ يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: لأنصرنك ولو بعد حين". ونحن صائمون ومظلومون، فأخلِقْ أن يُستجاب لنا، وفينا رجال صالحون -إن شاء الله- يُستنزل بهم الغيث!.
ولقد اتجه تفكير الإخوان ونيتهم إلى أن يحتفلوا بـ(ليلة القدر) على عادة أكثر المسلمين في ليلة السابع والعشرين من رمضان، وأبلغوني قبلها بيومين أن أُعدَّ قصيدة لهذه المناسبة، وقد كان.
وفي ليلة 27 تحدث الشيخ الغزالي، وتحدث بعض الإخوة، ثم قدمت لألقي قصيدتي، وكانت قصيدة نونية من بحر "البسيط"، الذي يحلو لي كثيرا هو وبحر "الكامل"، مطلعها:
فقمت أعزف فيها عذب ألحاني
عشقتُها فاسترَقَتْ قلبي العاني
آهات قلبي وإحساسات وجداني
سموه شعرا، وإني لا أراه سوى
ومنها:
تنزيله في دجاها نور قرآن يبقى وإن زال هذا العالم الفاني إن الرجولة من نور ونيران وصار سلمان شيئا غير سلمان منهم ترى مَلكا في زي إنسان ومن يداني عليا وابن عفان؟
شمسا تضيء ولكن بين عميان وفيه حرز الورى من كل خسران وليس يحكم في حي بديوان أمسى نجر عليه ذيل نسيان؟
يا ليلة زانها ربي وشرفها دستور حق وتشريع وتربية ربى رجالا ميامين اهتدوا وغزوا أمسى بلال به من ذلة مَلِكا لله فتيان حق لو رأيت فتى فمن يداني أبا بكر وصاحبه؟
هذا الكتاب غدا في الشرق واأسفا يحاط بالطفل حرزا من أذى وردي يتلى على ميت في جوف مقبرة فكيف ترقى، ومعراج الرقي لنا
ومنها:
فجمّعونا عـلى حب وإيمان
قالوا: اسجنوا واغمروا الأقسام واعتقلوا
أن يحجزوا رزق رزاق ورحمـان
وصادروا مالنا مـن جهلهم، ونسوا
وعـُكِّر النيل من هامانه الثاني
وأسرفوا وعلوا في الأرض واضطهدوا
وعزت النفس أن تعنو لسلطان
وعذبوا كـي يذلوا أنفسًا طمحت
وإن تحكـم فيه ألـف سجـان
والليث لن تحني الأقفاص هامته
فبعـده يتهــاوى كـل بنيان
قالوا: اقتلوا المرشد البناء وانتظروا
فكلنا حـسن مـن بعـده بـان
كـذبتمو، سيظل الصرح مرتفعا
وفي ختام القصيدة كانت مناجاة وتضرع إلى الله:
بغيَ الذئاب على قطعان حَملان تشكو تجبر فرعون وهامان دانوه بالسجن، والقاضي هو الجاني يبكي كضِفدعة في ناب ثعبان وانصر، فنصرك من أهل الهدى دان
يا رب إن الطغاة استكبروا وبغوا يا رب كم أسرة باتت مشردة يا رب كم يوسف فينا نقي يد يا رب كم من صغير صفدوا، فمضى يا رب رحماك أنجز مـا وعـدت به
وكان للقصيدة قبول حسن من الإخوة الذين سمعوها في حذاء (2)، وطلبها الإخوة في الحذاءات الأخرى، وظل عدد من الإخوان يحيون تلك الليلة بالذكر والدعاء، والاستغفار والتلاوة حتى مطلع الفجر.
سقطت وزارة عبد الهادي.. وسجدنا سجدة الشكر
وقبل ليلة العيد، أذيع النبأ السعيد: "سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي، هدية من الملك إلى الشعب بمناسبة عيد الفطر"، وذهبت الوزارة التي اقترفت ما اقترفت من المظالم، مشيعة بلعنات الناس من كل الفئات والطبقات، وقال القائل:
ألا سحقا لها سحقا
تولت دولة الزرقا
فبات رجالها غرقى
تفتت أثر فرعون
وحين سمع الإخوة الخبر خروا لله ساجدين سجدة الشكر، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (أنعام: 45)
وجاءني الإخوة، يقولون لي: مناجاتك في ليلة القدر لم تذهب هباء، وإن الله يمهل ولا يهمل، وفي الحديث الصحيح: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم تلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102).
ومن اللطيف أن أحد إخوان زفتى –اسمه حسين بطة- كان دائم الدعاء طوال الشهر قائلا: "اللهم اجعل لنا نصيبا من رمضان بين أهلينا وأولادنا"، إلى أواخر أيام رمضان وهو لا ييئس من ترداد هذا الدعاء، والإخوة يقولون له: "يا شيخ حسين، هل يُعقل أن تقضي شيئا من رمضان مع أهلك، ولم يبق منه إلا أيام؟!" فيقول: "أنا لا أسألكم، ولا أسأل الحكومة، ولكني أسأل ربا كريما قادرا يقول للشيء: كن فيكون"! فيبتسم الإخوان، ويسلمون له.
فلما سقطت حكومة عبد الهادي انتعش الأخ حسين بطة، وقال: "كنتم تسخرون مني، وأنا أقول: اللهم اجعل لنا نصيبا من رمضان بين أهلنا وأولادنا، فانظروا ماذا صنع الله؟ لكأني الآن بين أهلي وأولادي".
كان سقوط وزارة عبد الهادي التي قتلت حسن البنا، ومنعت تشييع جنازته، وشردت الإخوان كل مشرد، وزارة (العسكري الأسود) والتعذيب داخل السجون، كان سقوطها نعمة من الله على الإخوان، جزاء صبرهم ومصابرتهم وثباتهم على حقهم {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 146-148). فكان سقوط وزارة الطغيان من ثواب الدنيا، الذي أثاب الله به الإخوان، وهم يرجون حسن ثواب الآخرة.
وأصبح باب الأمل مفتوحا للإفراج عن المعتقلين، بعد سقوط وزارة السعديين من يوم إلى آخر.
وقد قامت ثورة يوليو 1952م بعد ذلك، وحاكمت عبد الهادي، وحُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف إلى المؤبد، وفضح الدفاع والشهود حكمه الأسود، وبينوا أنه تضاعفت ثروته عشر مرات منذ تولى المناصب الكبرى في مصر، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.
الإفراج في الفوج الأول.. إن مع العسر يسرا
ولم تمضِ أيام حتى جاء أول كشف يتضمن أسماء المفرج عنهم، الذين يمثلون الفوج الأول، وكان اسمي ضمن هؤلاء، ومعي عدد من الزملاء: محمد الدمرداش، مصباح عبده، السيد النفاض، وعدد من الإخوان من مختلف المديريات.
وكان من الذين أُفرج عنهم معنا الأستاذ حسني الزمزمي، ولم تفارقنا طرائفه، طوال رحلتنا من الطور إلى القاهرة ثم إلى طنطا. إنه أبدا ساخط ثائر، إنه يعترض على ترحيلنا في وسائل نقل غير مريحة وغير مناسبة، ثم عندما وصلنا إلى القاهرة، بيتونا في أحد أقسام الشرطة (هو قسم الخليفة)، وقد وضعنا في حجز القسم، وكان رديئًا جدا، فلم يحتمل الأستاذ الزمزمي هذا الجو الخانق، وهذا المكان غير النظيف، فكان يقول عن قسم الخليفة هذا: لعن الله خليفة هذا قسمه، هذه صدقة ملوثة بالدم، هذا بمثابة من يتصدق عليك ثم يصفعك على قفاك، وهكذا هؤلاء أفرجوا عنا ثم وضعونا هذا الموضع المزري!!.
ويبدو أن الوزارة تغيرت، ولكن رجال القسم المخصوص (أمن الدولة) لم يتغيروا، فما زالوا هم المتحكمين.
وبعد هذه الليلة المتعبة في قسم الخليفة، نُقلنا إلى طنطا، وأُخذ علينا تعهد ألا نمارس أي نشاط سياسي، ثم فُكَّ أسرنا، وذهب كل منا إلى موطنه أو منزله.
إلى قريتنا
وعدت إلى قريتي (صفط تراب) بعد غياب هذه الأشهر، وجاء الناس إلى دارنا ليسلموا علي ويهنئوني بالعودة، وحسب بعض الناس أنهم سيجدون إنسانا قد قهره الاعتقال، وأخرس لسانه، وهدّ كيانه، ولكنهم فوجئوا بأني أحدثهم عما صنع الإخوان في المعتقل، وكيف حولوه إلى جامع وجامعة وجمعية ومنتدى، حتى أسرَّ بعضهم إلى بعض قائلا: "إن الاعتقال لم يغيره"، وبعضهم خشي على نفسه أن يسمع مثل هذا الكلام، ويسكت عليه فأسرع بالقيام، حتى لا يتهم بأنه سمع هذا.
ولم أبقَ في القرية غير يومين فحسب، فقد كان ورائي أمر مهم جدا، وضروري جدا، وهو الاستعداد لدخول امتحان الدور الثاني للشهادة الثانوية، فلم يبقَ على موعد الامتحان سوى خمسة عشر يوما، لا بد أن أتفرغ فيها لمراجعة المقررات الدراسية، متوكلا على الله تعالى، مستمدا منه التوفيق، وما توفيقي إلا بالله.
المركز الثاني على الثانوية في القطر المصري
وهنا سافرت إلى طنطا، لأتفرغ تفرغا تاما لمراجعة الكتب المقررة في هذه المدة القليلة، وبخاصة أني كنت قد ألقيت هذه الكتب جانبا، بعد أن حُرمنا من دخول امتحان الدور الأول، وبارك الله في هذه الأيام القليلة، وواصلت الليل بالنهار، لا أكاد أنام إلا القليل.
وقد بدأ الامتحان بمادة (الفقه) -كما كان هو المعتاد في معاهد الأزهر-، ومن قدر الله أن الأستاذ الذي كان يراقب فصْلَنا لاحظ أن استمارتي ليس فيها صورة شمسية، فسألني عن سبب ذلك، فقلت له: "ظرف خارج عن إرادتي" فقال: "أي ظرف يمنع من إلصاق صورة بالاستمارة؟" قلت: "بصراحة كنت معتقلا".
وهنا قال الشيخ -واسمه أحمد ربيع-: "كنتَ في جبل الطور؟" قلت: "نعم". قال: "حدثني حديثا حزينا أو جميلا عن الطور وبعض ما وقع فيه"، والرجل يصغي إلي بتأثر وإعجاب، ونسيت ونسي الشيخ ربيع أني في امتحان، وأني في حاجة إلى الوقت، وهنا أدرك الشيخ أن الوقت قد ضاع منه الكثير، فقال: "أنا آسف يا بني، توكل على الله واكتب".
وأنا عادة أطيل الكتابة في إجابة الأسئلة الأولى، وكانت الأسئلة أربعة، ولما كنت في نهاية إجابة السؤال الثالث، دق الجرس، ولم أجب عن السؤال الرابع، وكان في الميراث، وأنا أعرف الإجابة تماما.
لقد خرجت من الحصة الأولى في غاية الهم والحزن على ما ضاع مني من أسئلة الفقه، الذي كنت كثيرا ما أحصل فيه 40 من 40.
وقد بدا ذلك على وجهي حينما خرجت من الحصة الأولى، وقد ركبني من الغم ما ركبني، وحاول إخواني أن يهونوا عليّ الأمر، وظنوا أني حزين على عدم النجاح، وقالوا: "إن الكل يعرف ظروفك، وإنك أول الفصل، فإذا لم توفق في سنة ما، لظروف خارجة عن إرادتك، فلا جناح عليك، ثم ألا تحصل على عشرين درجة -النهاية الصغرى-؟" قلت لهم: "أنا ضامن نحو ثلاثين درجة، أو تسعا وعشرين".
قالوا: "وتضمن هذا ثم تكفهر وتتكدر هذا التكدر؟!" قلت: "إني حريص على التفوق حرصي على النجاح".
وهذا جعلني أهتم برعاية الوقت في جميع حصص الامتحان القادمة، ووفقني الله تعالى غاية التوفيق.
وحينما ظهرت النتيجة كانت المفاجأة السارة، وهو أني حصلت على الترتيب الثاني في الشهادة الثانوية على طلاب المعاهد الدينية في المملكة المصرية في الدورين الأول والثاني، ولم يكن بيني وبين الطالب الأول إلا نصف درجة، وكان الأول من المحلة أيضا هو صديقنا "حامد محمود إسماعيل". (الدكتور حامد الآن).
وكان هناك مكافأة للأول والثاني اقتسمناها معا بالتساوي، وكانت حوالي ثلاثة وثلاثين جنيها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!.