*22 الحلقة الحادية والعشرون: اعتذرت عن منصب الإرشاد

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (21) اعتذرت عن عدم قبول منصب الإرشاد


اجتماع تاريخي مع الإخوان

المستشار حسن الهضيبي

وكان من أهم الأحداث التي وقعت لي خلال المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة أن التقى بي ثلاثة من كبار الإخوان، هم الأستاذ هارون المجددي، الذي كان مسئولا عن الإخوان المصريين في الخارج أيام محنة 1965م وأعقابها، والأستاذ صالح أبو رُقَيِّق عضو مكتب الإرشاد، وأحد القيادات التاريخية في الإخوان، والذي كان قريبا من الأستاذ الهضيبي، والأستاذ محمود أبو السعود عضو الهيئة التأسيسية، وأحد الإخوان القدامى، والاقتصادي الإسلامي البارز، وقد عرضوا عليَّ أمرا في غاية الأهمية، قالوا: إن الأستاذ الهضيبي المرشد الثاني للإخوان قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، وأصبحت الجماعة في فراغ من القيادة، والإخوان في هذه المرحلة في حاجة إلى قيادة شابة واعية مؤمنة، تجمع بين فقه الشرع، وفقه العصر، والإخلاص للدعوة، وتجتمع عليها كلمة الإخوان، ولم نجد أحدا تجتمع فيه هذه الصفات غيرك، ونحن نتحدث بلسان من وراءنا من الإخوان، وهم كثيرون، فإن كنت حريصا على مصلحة الدعوة التي نشأت فيها، وأفنيت زهرة شبابك في إعزازها ونشرها والذود عنها، حريصا على جمع كلمة أبنائها، حريصا على أن تستمر الدعوة وتتقدم إلى الأمام بوعي وبصيرة وثبات وقوة، فتوكل على الله، واقبل هذا الأمر، محتسبا عند الله، مبتغيا الأجر منه، لتكمل الطريق الذي بدأه حسن البنا، وخلفه حسن الهضيبي!.

واستمر الإخوة يتحدثون بعضهم وراء بعض، ليقنعوني بقبول ما عرضوه علي، وأن في ذلك الخير للإسلام ودعوته وأمته إن شاء الله، وإنما لكل امرئ ما نوى.

قلت للإخوة: إن ما عرضتموه عليَّ ليس بالأمر الهين، بل هو أمر جلل، وهو قيادة دعوة عالمية في ظروف غير مواتية، وقد فاجأتموني بهذا الطلب، الذي ما فكرت فيه قط، فما كنت في الجماعة إلا جنديا من جنودها، لم أتطلع يوما إلى زمام القيادة، لتكون في يدي، وهذه منة من الله علي، أني لست من الذين يجرون خلف سراب الزعامة، وكأنها طبيعة فيّ لا متكلفة ولا مفتعلة.

قال الإخوة: وهذا مما يزيدنا تمسكا بك، وإصرارا عليك، وأنت تعرف الحديث الذي يقول ما معناه: "إن أعطيتها بغير سؤال أعنت عليها، وإن أخذتها بسؤال وكلت إليها".

قلت لهم: أعطوني مهلة أفكر فيها على مهل، أشاور نفسي، وأراجع حساباتي، وأستخير ربي، وأستشير بعض إخواني، ثم أرد عليكم. وإن كنت مبدئيا لا أراني أهلا لهذا الأمر.

قالوا: نعطيك شهرين للتفكير والمراجعة.

قلت: لا بأس بذلك.

قالوا: ليكن ردك على الأستاذ أبو السعود؛ لأنه يعيش في أمريكا، فالرد عليه أضمن وأحوط من الرد على من يعيشون داخل مصر.


الوصول إلى قرار

وبعد طول تفكير، واستخارة، واستشارة، على ما جاء في الأثر: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، وإن كنت لم أستشر إلا قليلين جدا، لأن جُل من أستشيرهم يحثونني على القبول، ولكني لم ينشرح صدري لهذا الأمر، وكتبت إلى الدكتور أبو السعود الرسالة التالية:

أخي الدكتور محمود أبو السعود حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(وبعد)

فلقد كانت فرصة طيبة تلك التي جمعتنا في ظل المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في رحاب مكة المكرمة، وبجوار بيت الله الحرام، وكانت أياما مباركة تلك التي سعدت فيها بلقائكم بعد غيبة أكثر من عشرين عاما، افترقت فيها الأبدان، ولم تفترق القلوب.

وأسأل الله تعالى أن يديم هذه الأخوة التي انعقدت أواصرها على دينه وفي سبيله، حتى يظلنا بها في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

هذا وقد فكرت طويلا فيما عرضتم علي عند لقائنا ذاك، وقلبت الأمر على وجوهه، كما استخرت الله تعالى في الأمر، وتبين لي بعد ذلك ما سبق أن أبديته لكم لأول وهلة، وهو أني لست الرجل المنتظر للمسؤولية التي تحدثت عنها، ولا أرى نفسي أهلا للقيام بها. ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه.

أخي، إن الله تعالى قد وزع المواهب والقدرات على عباده، فمنهم من فتح له في مجال العلم، ومنهم من فتح له في مجال السياسة، ومنهم من فتح له في مجال الإدارة، ومنهم من جمع له أكثر من موهبة، وهو سبحانه يختص برحمته من يشاء، وأحسب أني - إن كان لي موهبة - فهي في المجال الأول، والحمد لله على ذلك أولا وآخرا، وقد قيل: من بورك له في شيء لزمه، وذلك ليكون أقدر على إتقانه والتفوق فيه.

وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم خصائص أصحابه، فوضع كلا في المكان اللائق به، فلم يضع حسانا ولا أبا هريرة في مكان خالد، أو زيد بن حارثة، ولم يضع أبا ذر في مكان عمرو بن العاص، وإن كان أبو ذر أحب إليه، وأعز عليه، وآثر لديه.

ولما سأله أبو ذر أن يوليه على بعض أعماله، قال له بصراحة: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها.

فهذا توجيهه - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر، وهو الذي قال فيه: "ما أقلّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر".

إن دعوتنا - وان كانت دينية المصدر والغاية - فهي سياسية من حيث الوسيلة والمواجهة، ولذا تحتاج إلى رجل يعرف السياسة وألاعيبها وأغوارها بجوار معرفته للدين ومصادره، وأنا لا أحسن هذا الفن، إلا في خطوطه العامة، ولم أتمرس به، ولا أظن طبيعتي تصلح له. ولا أرضى لنفسي - ولا ترضى لي أنت أيضا - أن أكون جهازا في أيدي آخرين، يحركونه فيتحرك، ويوقفونه فيتوقف!.

وفضلا عن هذا كله، فإن هذه الدعوة الربانية التي جعلت شعارها من أول يوم (الله غايتنا) تحتاج أن يكون على قمتها رجل غامر الروحانية، عامر القلب بالخشية والتقوى، متألق الجوانح بمعاني اليقين والإنابة، ليستطيع أن يفيض من قلبه على قلوب من حوله، وأراني دون هذا الأفق بمراحل، وفاقد الشيء لا يعطيه.

لا تظن يا أخي أن ما أقوله لك من باب التواضع أو هضم النفس، فإنما هو من باب تقرير الحقائق، ووصف الأشياء بما هي عليه، وقديما قالوا: "من سعادة جدك، وقوفك عند حدك".

وقد تقول: إن تقدير كفايتك وأهليتك لعمل ما ليس من شأنك أنت، وإنما هو شأن أهل الحل والعقد الذين وكل إليهم الاختيار، وهم الذين يقولون: هذا يصلح، وهذا لا يصلح، فإذا رشحوك فهم أعرف بك، وأقدر على تقويمك، وأقول: إن كل إنسان أدرى بعيوب نفسه، ونقاط ضعفه، والناس تحكم بما يطفو على السطح لا بما يرسب في الأعماق.

ومن النعم التي أحمد الله عليها أنه رزقني السلامة من الانتفاخ الكاذب، والغرور بالباطل، ولعل هذا هو فضلي الوحيد: أن مرآتي لم تصدأ ولم تتغير حتى أرى فيها وجها غير وجهي، أو شخصا غير شخصي، ولهذا أرى نفسي على حقيقتها بضعفها وغفلاتها وبمواهبها المحدودة، دون تضخيم أو تزييف.

وقد قال ابن عطاء في حكمه: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاما لنفسك لما تستيقنه منها. أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس!.

إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.

وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت عليَّ العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل.

إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله.

والله يتولى الجماعة ويرعاها بعينه التي لا تنام، وهو ولي الصالحين.

                                                        أخوكم
                                                   يوسف القرضاوي


وقد علق الأستاذ محمود أبو السعود برسالة، جاء فيها:

الأخ الكريم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي..

وعليكم من الله السلام والرحمة والبركات ـ أعزك الله، ونفعك ونفع بك، وأعانك على ما فرغت له نفسك من خير وعلم، وجعلك أبدا مهوَى القلوب، ومقصد الحق، وعقد واسطة الأخلاء.

يا أخي: "لقد أسكتت جهيزة قول كل خطيب" ولم يعد لي ما أقول. وما حدثتك فيه أمر تمناه غيري كما تمنيته، أما وقد قطعت فيه برأي، فالخيرة ما اختاره الله، وإني لأعلم كما تعلم أنت أن ليس لما دعوناك إليه من يرتضيه الخاص والعام، ولا من أوتي ما أوتيته من تجرد وفضل، وعلم وخلق، لا أمتدحك سعيا وراء مغنم، وإنما هكذا عهدناك وخبرناك، والأغلب أن يظل الوضع الراهن كما هو حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. على كل حال يا أخي شكر الله لك، وجزاك بنيتك أضعاف ما يجزيك بحسن عملك.

                     الفقير إلى ربه
                      محمود أبو السعود
                       20 ربيع أول سنة 1396
                      20/4/1976

انتهى بحمد الله الجزء الثالث من المذكرات، وإلى اللقاء في الجزء الرابع إن شاء الله.