*21 الحلقة العشرون: رحلتي إلى أمريكا

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (20) رحلتي إلى أمريكا


وفد اتحاد الطلبة المسلمين بأمريكا

ومن أهم أحداث هذه السنة "1975م" زيارة وفد من اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا "MSA" لدولة قطر، وكان الوفد يتكون من ثلاثة من الإخوة المسئولين عن الاتحاد، منهم الأخ الدكتور التيجاني أبو غديري وهو سوداني الأصل، والأخ الدكتور جمال برازنجي وهو عراقي الأصل، ونسيت الثالث.

وقد زاروا الأمير الشيخ خليفة بن حمد، وتحدث الأخ جمال البرازنجي؛ فكان حديثه في غاية التوفيق، فلخص له دورهم الذي يقومون به أحسن تلخيص، وعرضه أجمل عرض، كما بين حاجاتهم ومطالبهم التي ينشدونها من قطر، والتي تتحدد في أن تساهم قطر في بناء مركزهم الذي يريدون بناءه في منطقتهم التي اختاروها في ولاية "نديانا بولس"، وأعتقد أن الأمير انشرح صدره لهم، ووعدهم خيرا، وسافروا من قطر ليكملوا جولتهم في بلاد الخليج، وكلفوني أن أتابع الأمر مع الأمير.

وقد وجهوا دعوة بعد ذلك إلى الجامعة لأشارك في مؤتمرهم السنوي الذي يعقد في شهر مايو من كل عام، ووافقت الجامعة على سفري للمؤتمر، وقابلت الأمير، وذكرته بوعده للوفد الذي زاره، فكتب لهم شيكا بمبلغ نصف مليون دولار لبناء مكتبة مركزهم، وتكون باسم أمير دولة قطر.


وسافرت إلى أمريكا

وفي الموعد المحدد تهيأت للسفر إلى أمريكا لأول مرة، ولم يكن معي أي رفيق، وقد سافرت من الدوحة إلى القاهرة، وبت ليلة في القاهرة، ومنها قمت من الصباح الباكر لأسافر إلى لندن؛ حيث ركبت الطائرة الأمريكيةTWA -على ما أذكر- من مطار لندن الساعة الثانية عشرة ظهرا إلى نيويورك، إلى مطار شيكاغو؛ حيث وجدت بعض الإخوة ينتظرونني، لأبيت هناك وألتقي بعض الإخوة الكرام، وتعقد جلسة فكرية روحية طيبة. وفي اليوم التالي سافرت إلى مقر الاتحاد، وسلمت الإخوة الشيك الذي حملني إياه الشيخ خليفة أمير قطر، تسلمه مني الأمين العام لاتحاد الطلبة المسلمين الأخ الكريم الدكتور محمود رشدان الذي كان شعلة متوقدة من الحيوية والنشاط، مع إيمان صادق، والتزام صارم، ووعي بالحاضر، واستشفاف للمستقبل، ومرونة بصيرة في التأمل مع الأحداث.


نشاطاتي في أمريكا

وكان الاتحاد قد مر بدور الطفولة ثم الصبا، وقد بدأ دور الشباب، وهو دور القوة والحيوية والنشاط الدافق، وقد بدأت تنبثق منه جمعيات وأجهزة ومنظمات لها قيمتها ووزنها.

مثل جهاز التعليم الذي يشرف عليه الأخ التيجاني أبو غديري.

ومثل جهاز "الوقف الإسلامي" الذي يشرف عليه الأخ جمال برزنجي.

ومثل جهاز آخر يشرف عليه الأخ الدكتور هشام الطالب.

ومثل رابطة العلماء الاجتماعيين، ويشرف عليها الدكتور إسماعيل الفاروق.

وكذلك الجمعية الطبية الإسلامية، وجمعية العلماء والمهندسين.

وهكذا أطلعني الإخوة على مؤسساتهم وفروع أنشطتهم؛ مما زادني اطمئنانا على سداد خطواتهم، ورشد مسيرتهم.

وقد بقينا في مقر الاتحاد يومين، ثم انتقلنا إلى مدينة "بولمنتو"؛ حيث يعقد المؤتمر، وهي المدينة التي يقيم فيها الأخ مانع الجهني (من طلاب السعودية).

كان الإخوة يستأجرون عادة مساكن إحدى المدن الجامعية في إحدى الإجازات لعدة أيام، ليستفيدوا من حجرات المساكن، ومن المطاعم، والقاعات، والساحات.

وكانت هذه الأيام نشاطا مكثفا فكريا وروحيا ورياضيا واجتماعيا.

وكان كل مؤتمر يدور حول محور معين تُلقَى فيه محاضرات، وتدار حوله الأسئلة والمناقشة، وهناك محاضرات عامة للجميع. وهناك حلقات ولقاءات نوعية خاصة، مثل لقاء للنساء، أو لقاء لذوي اختصاص معين.

وكان التركيز شديدا علي، فكنت أشارك في المحاضرات العامة، وألتقي لقاءات خاصة، ولا سيما مع الأخوات، ونعقد جلسة عامة للإجابة على الأسئلة الفقهية والدعوية، وأقول كلمات موجزة بعد الصلوات، وبخاصة صلاة الفجر.

ونظرا لاختلاف التوقيت في أمريكا عن الدوحة اختلافا شاسعا، فقد أصبح نهاري ليلا، وليلي نهارا، واختلاف نوع الأكل عما اعتدته في قطر، وانشغالي الشديد بالنشاط، فقد نسيت نفسي، فلم أدخل المرحاض للتبرز أكثر من ثمانية وأربعين ساعة، وأصابني إمساك شديد، لم أستطع أن أخرج ما تخرجه أمعائي الغلاظ، رغم تكرار المحاولة والمعاناة، التي جعلتني أتلوى من الألم، ولا أخرج شيئا، وكانت نتيجة ذلك: أن أصبت بشرخ في الشرج، ظللت أشكو منه عدة سنوات، ولم أشف منه إلا بعملية جراحية أجريتها في "مستشفى الرميلة" بالدوحة. أجرها د. النجار، أستاذ الجراحة في طب الأزهر. وكان طبيبا زائرا، استدعاه المستشفى للقيام ببعض العمليات المهمة. وكان من الأطباء المتميزين في الجراحة، وفي هذه العملية خاصة، جزاه الله خيرا.

على أن الإخوة المسؤولين عن المؤتمر أحضروا لي طبيبا ممن يشاركون في المؤتمر -وهم كثر، والحمد لله-، وقد نصح باستعمال الحقنة الشرجية، لتسهيل إنزال المخزون في البطن، وبعد ذلك تمشي الأمور طبيعية، وخصوصا مع مراعاة الإكثار من الخضروات والفواكه ونحوها مما يجنب المرء الإمساك المحظور.


خلاف حول جمع الصلوات

وكان الإخوة قد اعتادوا في مؤتمراتهم أن يصلوا كل صلاة في وقتها، مع أن 99% من المشاركين مسافرون، وكان الإعداد للصلاة يأخذ من الإخوة جهدا ووقتا ليس بالقليل؛ فالمنطقة التي تقام فيه الصلاة مشغولة في العادة بأشياء، فلا بد أن تفرغ من كل ما فيها من نشاط، وأن تفرش، ويطوى الفرش بعد الصلاة.

فقلت للإخوة: لماذا لا نأخذ برخصة الجمع، ونحن في هذا المؤتمر أحوج ما نكون إليها؛ لازدحام الوقت بالنشاط المكثف، ولأن أداء كل صلاة في وقتها يرهقنا من أمرنا عسرا؟

قالوا: إن إخواننا من الهند وباكستان يرفضون الجمع؛ لأنهم أحناف، والمذهب الحنفي -كما تعلم– لا يجيز الجمع إلا في عرفة ومزدلفة في الحج.

قلت: لهم أن يقلدوا غير مذهبهم في هذه القضية، ولا سيما أن القول فيها أرجح، والحاجة إليه ماسة، والله يحب أن تؤتى رخصه، ولا داعي للتعصب المذهبي، والتعسير على سائر الإخوة.

أنا سأدعو إلى الجمع إذا أقمنا صلاة الظهر، ومن قبل قولنا صلى وراءنا، ومن لم يقبل صلى ما شاء بعد ذلك، وعندما أقيمت الصلاة أخبرتهم بما سنفعل، وسكت الإخوة على مضض، وأكثرهم صلى خلفي، ثم ما لبثوا أن صلوا جميعا، وقالوا: ما كان أغبانا! عسرنا على أنفسنا ما يسر الله!!

وبذلك وفرنا الجهد والوقت، وأصبح هذا هو المعمول به في كل المؤتمرات بعد ذلك، والحمد لله.

كان مؤتمر الاتحاد يضم الإخوة والأخوات، ويحضر الجميع المحاضرات، ويشارك الجميع –رجالا ونساء- في الأنشطة المشتركة، ثم تكون حلقات خاصة للنساء.

وكان الرجال عادة يجلسون في جانب والنساء في جانب، وأحيانا يكون الرجل وعائلته هو وزوجته وأبناؤه وبناته يأخذون مكانهم في أحد الصفوف، وعائلة أخرى بجوارهم؛ فهناك أماكن مخصصة للعائلات، وأماكن أخرى للعزاب، أو للرجال الذين ليس معهم عائلاتهم.


الشيخ الندوي

لم يكن كل الحضور عربا، بل كان منهم الهنود والباكستانيون والماليزيون والأمريكيون وغيرهم ممن لا يعرفون العربية، وكان لا بد من مترجم ينقل معنى كلامي إلى الإنجليزية، وكان هناك أكثر من مترجم، ولكن أفضل مترجم لي كان هو الأخ العلامة الدكتور جمال بدوي؛ فقد كان لجودة معرفته باللغتين العربية والإنجليزية، ولخلفيته العلمية الإسلامية، ولروحه الدعوية، كان ينقل كلامي بمعانيه وأفكاره، وبروحه وحرارته، وقد قال لي الشيخ أبو الحسن الندوي في لكهنو: إننا إذا وجدنا من يترجم معاني كلامك، فأنى نجد من يترجم حرارتك وحيويتك؟ ولكني وجدت الدكتور بدوي يترجم الفكر والروح جميعا، بارك الله فيه، ونفع به.


إلى مدينة نيوجيرسي

بعد انتهاء أيام المؤتمر عدنا إلى مقر الاتحاد، ومن هناك رتب الإخوة عدة زيارات لبعض المدن، ومنها: مدينة "نيوجرسي" التي تعد لنيويورك مثل الجيزة للقاهرة، فهما متصلتان.

وفي نيوجرسي يوجد مركز إسلامي قوي، فيه حركة ونشاط، ويقوم عليه عدد من الإخوة معظمهم مصريون، وإمامه عالم أزهري مصري كبير، هو أستاذنا الدكتور سليمان دنيا، أحد علماء الأزهر المضلعين، وأحد أساتذة العقيدة والفلسفة الذين دخلوا تخصص المادة، وحصلوا على شهادة العالمية من درجة "أستاذ" بامتياز، وابتعث إلى لندن مع زميليه: حمودة غرابة، ومحمد بيصار، لإتقان اللغة الإنجليزية، والحصول على الدكتوراة من لندن، وقد أحيل على التقاعد، واختار أن يقيم في أمريكا إماما ومستشارا دينيا لهذا المركز الإسلامي الكبير، وقد سعدت بالتعرف عليه وجها لوجه، بعد أن كنت أعرفه بالاسم وقراءة كتبه فقط.

كان هذا المركز في الأصل كنيسة اشتراها المسلمون، وحولوها إلى مركز إسلامي، يسع أنشطتهم المختلفة، وأولها: الصلاة، ففيها صالة كبيرة ومنصة، تتحول عند الصلاة إلى مسجد جامع، تتراص فيه الصفوف، وفق علامات معينة، ترسم خطوطا، تحدد القبلة.

وبعد الصلاة يجلس الناس في هذه القاعة الكبيرة التي تتحول إلى قاعة محاضرات، يجلس المتحدثون فيها على المنصة المعدة لذلك من أول الأمر، ويجلس الناس فيها على الكراسي، ويولون وجوههم شطر المنصة.

وهنا وجدنا -كالعادة- بعض الإخوة الذين يجنحون إلى التشديد والتعسير، يعترضون -فيما يعترضون عليه- على جلوس الناس على الكراسي، وتوجههم إلى غير القبلة في الجلوس، وعلى لبس "البنطلونات" ولبس الساعة في اليد اليسرى بدل اليمنى.. إلخ.

نظم الإخوة لي محاضرة في المركز، لا أذكر موضوعها، وبعد المحاضرة كان يخصص وقت للأسئلة للإجابة عنها ما وسعنا الوقت والجهد.

وكان من الأسئلة هذه الأشياء التي يعترض بها الإخوة الذين يوصفون بأنهم "سلفيون"، وقلت للإخوة: إن الإسلام يقوم على التيسير، كما قال تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة: 185]، وقال: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج: 78]، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" [رواه البخاري]، وقال: "يسروا ولا تعسروا" [متفق عليه]، والمسلمون في هذه البلاد خاصة -ومثلهم كل من يعيش خارج المجتمعات الإسلامية- أولى الناس بالتيسير ورفع الحرج عنهم؛ لبعدهم عن دار الإسلام، والله يحب أن تؤتَى رخصه.

والمسلمون ينتهزون يومَي الإجازة: السبت والأحد؛ ليلتقوا في هذا المركز؛ ليتعلموا دينهم، ويتدارسوا أمورهم، ويتفاهموا ويتوادوا، ويقترب بعضهم من بعض، وهم يقضون سحابة النهار في المركز، ويتغدون فيه، ولا بد أن نهيئ لهم أسباب الراحة؛ حتى يمكثوا هذه المدة دون تعب كثير، وتوفير المقاعد والكراسي التي اعتادوا الجلوس عليها مما يساعدهم على ذلك.

والاتجاه إلى القبلة في الجلوس أدب من الآداب، وليس فرضا ولا واجبا ولا سنة مؤكدة، وخصوصا إذا عارضه ما هو أهم منه، وهو ضرورة الجلوس في مواجهة المنصة التي يجلس عليها المتكلمون.

وأما لبس البنطلونات؛ فهو مطلوب في هذه البلاد؛ لأن الأزياء تتغير بتغير الأعراف، والإسلام لم يلزمنا بزي معين نعتبره وحده الزي الشرعي، لكن له مواصفات لا بد من مراعاتها من ستر العورة، وأن لا يشف ولا يصف، وأن لا يكون زيا اختص به الكفار، وهو يريد أن يتشبه بهم، وقد أصبح هذا الزي معتادا في كثير من بلاد العالم، ومنه بلاد المسلمين، فإذا كان في مصر والشام والعراق والمغرب والخليج يلبسون هذا الزي، فكيف لا يلبسه المسلم الذي يعيش في قلب أمريكا نفسها؟ بل الأولى أن يلبس لبسهم -مادام غير محرم- حتى يكون قريبا منهم، غير مخالف لهم؛ فهذا أدعى إلى تأثيره فيهم، وتجاوبهم معه.

وهنا سأل أحد الإخوة الأمريكيين الجدد سؤالا حول أمر الصيام، وهو: لماذا اختار الإسلام للصيام شهرا قمريا يتنقل بين الفصول الأربعة، ولم يثبته في شهر شمسي بحيث يظل ثابتا لا يتغير؟

وقبل أن أجيب عن السؤال قام شيخنا إمام المسجد –رحمه الله– فقال للسائل: كل من له سؤال في العبادات يحتفظ به؛ لأننا ندرس فقه العبادات للمسلمين الجدد كل يوم ثلاثاء، هنا في المركز، ونحن ندرس الفقه في كتاب يدرس في القسم الثانوي بمعاهد الأزهر الشريف، وهو "الشرح الصغير على الدردير"، وسكتُّ، ولم أعلق على كلام شيخنا، فلم يكن من اللائق أن أرد عليه أمام الناس، ولكني بعد ذلك أشرت إلى أن هذا الكتاب يستصعبه طلاب الأزهر؛ فكيف يسهل على مسلمين جدد غير متخصصين يدرسونه بغير العربية؟ وإذا كان الشيخ يُدرسهم الآن فقه الطهارة؛ فمتى يصل إلى الصوم؟ على أنه لو وصل إليه فلن يجد فيه جواب السؤال الذي طرح.

وجواب السؤال واضح، وهو: أن يتعبد المسلم لربه سبحانه بالصيام في كل فصول السنة؛ ما كان فيها حارا، وما كان باردا، وما كان معتدلا.. ما كانت أيامه قصيرة، وما كانت أيامه طويلة، وهذا يدل على قوة الإذعان والطاعة والاستجابة لأمر الله في سائر الأحوال.


رسالة من الشيخ المجذوب

الشيخ مصطفى السباعي

كان الشيخ محمد المجذوب من دعاة سوريا الذين يجمعون بين العلم والأدب والشعر. وكان قد ترك سوريا، كما تركها كثير من أبنائها المخلصين من أهل العلم والدعوة؛ فرارا من طغيان حكم البعث النصيري المغتصب. وكنت قد لقيت المجذوب، وتعرفت عليه عند الشيخ العلامة الدكتور مصطفى السباعي، حينما لقيته في المدينة في موسم الحج سنة 1384هـ - 1964م. كما تعرفت عليه في المدينة المنورة مع أخي في الدعوة وزميلي في معهد طنطا العالم الداعية الشيخ محمد السيد الوكيل رحمهما الله.

كما سمع الشيخ المجذوب عني من الإخوة السوريين الذين يعملون في قطر، ولا سيما زوج ابنته "أبو العز" الأستاذ محمد نعسان عرواني، مدرس التاريخ، وزميلنا في قطر لعدة سنوات، وقد كان مثالا عاليا في الأدب وحسن الخلق، وسلامة الذوق، وحسن التعامل مع إخوانه.

وقد أراد الشيخ المجذوب أن يصنف كتابا بعنوان "علماء ومفكرون عرفتهم" وخطط لأن يكون اسمي فيهم، وأرسل إليَّ رسالة مطولة، يرجوني فيها أن أجيب عن أسئلته التي أرسلها إلى كل من سيكتب عنهم؛ لتعينه على استكمال فكرته عن الشخص، ورسم صورة له أقرب ما تكون إلى الحقيقة.

وكنت في أول أمري متثاقلا أو متكاسلا عن إجابة الشيخ، ولكنه استعان عليّ بصهره وإخوانه في قطر؛ فدفعوني إلى تحقيق ما طلب، وأجبته عن أسئلته إجابة مفصلة بعض التفصيل، وقد سُر بها، وشكرني عليها. وصدرت في الجزء الأول من كتابه المذكور الذي ضم عددا من أعلام العلم والفكر والدعوة، وكنت عندما أرسل إليّ كتابه أخطو إلى الخمسين من عمري.


رسالة مهمة من الشيخ ابن باز

ومما أذكره من وقائع تلك المدة من الزمن أني تلقيت رسالة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، خلاصتها: أن وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي "الحلال والحرام في الإسلام"؛ لأن بعض الناشرين طلبوا من الوزارة أن "تفسح" له، وكلمة "الفسح" غدت مصطلحا معروفا في المملكة يقصد به الإذن بنشر الكتاب ودخوله في السعودية.

وكان الشيخ صالح الفوزان -من شباب علماء المملكة- قد أثار ضجة بما كتبه في الصحف، وأصدره في كتاب سماه "الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام"، وهو يمثل وجهة النظر السلفية في المسائل الخلافية المعروفة من قديم، مثل تغطية وجه المرأة هل هو واجب أو لا؟ وحكم خروج المرأة للتعلم والعمل، وحكم الغناء بآلة وبغير آلة، وحكم التصوير الزيتي والفوتوغرافي، وغير ذلك، مما تتفاوت فيه فتاوى المفتين بين ميسر ومعسر، وبين من يميل إلى الظاهر، ومن يرجح الالتفات إلى المقاصد.

فلا غرو أن ذكر الشيخ ابن باز بأدب العالم الكبير، ورفق الداعية البصير أنه يريد أن يفسح الكتاب لما فيه من نفع للمسلمين لسلاسته وجمال أسلوبه، وأخذه بمنهج التيسير، ولكن المشايخ في المملكة خالفوه في ثماني مسائل. وسرد الشيخ رحمه الله هذه المسائل الثمانية، ومنها: ما يتعلق بزي المرأة وعملها، وما يتعلق بالغناء والسماع، وما يتعلق بالتصوير، وما يتعلق بالتدخين وأني لم أحسم الرأي فيه بالتحريم، وما يتعلق بمودة غير المسلم... إلخ.

وقال الشيخ رحمه الله: وإن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس، ولذا نتمنى لو تراجع هذه المسائل لتحظى بالقبول الإجماعي عند المسلمين.

والواقع أني ظللت محتفظا بهذه الرسالة سنين طويلة ثم اختفت مني، ويبدو أنها غرقت في بحر الأوراق الخضم الذي عندي، والذي قل أن ينجو ما غرق فيه!

هذا وقد رددت تحية الشيخ بأحسن منها، وكتبت له رسالة رقيقة، تحمل كل مودة وتقدير للشيخ، وقلت له: لو كان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام، ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافا في إطار الأصول الشرعية، والقواعد المرعية، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار؛ فما ضرهم ذلك شيئا؛ اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلى بعضهم وراء بعض.

والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم، منها ما كان الخلاف فيها قديما، وسيظل الناس يختلفون فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن، وقد بين العلماء أسباب الاختلاف وألفوا فيها كتبا، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".

ومن هذه المسائل ما لم يفهم موقفي فيها جيدا، مثل موضوع التدخين؛ فأنا من المشددين فيه، وقد رجحت تحريمه في الكتاب بوضوح، إنما وهم من وهم في ذلك؛ لأني قلت في حكم زراعته: حكم الزراعة مبني على حكم التدخين؛ فمن حرم تناوله حرم زراعته، ومن كره تناوله كره زراعته، وهذا ليس تراجعا عن التحريم.

وأما مودة الكافر فأنا لا أبيح موادة كل كافر؛ فالكافر المحارب والمعادي للمسلمين لا مودة له، وفيه جاء قوله تعالى: "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" [المجادلة: 22]، ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، ولكنها المشاقة والمعاداة.


الشيخ الألباني

وتعلم سماحتكم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج كتابية، كما في سورة المائدة "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب" [المائدة: 5]، فهل يحرم على الزوج أن يود زوجته، والله تعالى يقول: "وجعل بينكم مودة ورحمة" [الروم: 21]، وهل يحرم على الابن أن يود أمه الكتابية؟ أو يود جده وجدته، وخاله وخالته، وأولاد أخواله وخالاته؟ وكلهم تجب لهم صلة الرحم، وحقوق أولي القربى.

على كل حال أرجو من فضيلتكم ألا يكون الاختلاف في بعض المسائل الاجتهادية الفرعية حائلا دون الفسح للكتاب، وها هو الشيخ الألباني يخالفكم في قضية حجاب المرأة المسلمة.. فهل تمنعون كتبه؟

وختمت الكتاب بالتحية والدعاء.. وأعتقد أن الشيخ استجاب لما فيه، وفسح لكتاب "الحلال والحرام" ولغيره من كتبي، والحمد لله.


مسابقة القرآن الكريم للمدارس

ذكرت فيما سبق أن من السنن الحميدة التي سنتها وزارة التربية والتعليم في قطر –باقتراح من فضيلة الشيخ عبد الله بن تركي رئيس تفتيش العلوم الشرعية- إقامة مسابقة في حفظ القرآن وتلاوته، مفتوحة لجميع الطلاب والطالبات في جميع مدارس قطر بالدوحة، وغيرها من مناطق قطر.

وكان الفائزون الأوائل الثلاثة من كل فصل يأخذون جوائز نقدية تشجيعية، وكانت المدارس تتنافس في ذلك، كما يتنافس الأبناء والبنات في حفظ كتاب الله تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون". وقد أدى ذلك إلى تسابق كثير من الطلاب والطالبات في حفظ القرآن، وأن تجد البيوت قبيل الامتحان مشغولة بالقرآن.

كما فتحت الوزارة -جزاها الله خيرا- باب التسابق للطلاب ولغير الطلاب في حفظ القرآن كله، أو نصفه، أو أجزاء منه، ويعطَى الحافظ جائزة قيمة على قوة حفظه وحسن تلاوته.

وكانت بناتي إلهام وسهام وعلا ثم أسماء بعد يدخلن كل عام هذه المسابقة ويفزن فيها، ويحصلن على جائزتها.

بل دخلت إلهام هذه المسابقة في الأجزاء الخمسة الأخيرة، ونجحت فيها، وحصلت على جائزتها، ودخلت سهام في ثلاثة أجزاء، وأسماء في جزأين.


عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية

وفي شهر ذي القعدة من سنة 1395هـ - 1975م وصلتني رسالة من فضيلة الشيخ الدكتور عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هذا نصها:

فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، الأستاذ بكلية التربية – قطر، حفظه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

يسرني أن أبلغ فضيلتكم أنه صدر الأمر الملكي رقم أ/233 في 29/9/1395هـ بتعيينكم عضوا بالمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية -بالمدينة المنورة- لمدة ثلاث سنوات طبقا للمادة "13" من نظام الجامعة.

وأبعث مع كتابي هذا إليكم بصورة من الأمر السامي المشار إليه، ومن نظام الجامعة، وتوزيع الاختصاصات والصلاحيات التي وردت به.

وسوف نخطركم بموعد الدورة الأولى لانعقاد المجلس الأعلى في وقت لاحق إن شاء الله، نأمل أن يكون قريبا.

وإني لأسال الله تبارك وتعالى أن يعينكم ويسدد خطاكم، وأن يوفقنا جميعا لخدمة هذه الجامعة والنهوض برسالتها السامية رسالة الإسلام الخالدة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نائب رئيس الجامعة الإسلامية

عبد المحسن بن حمد العباد

الشيخ الغزالي

ومع الخطاب الأمر الملكي الصادر من الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود بتعيين ثلاثة عشرة عضوا، بعضهم بشخصه، مثل الشيخ الندوي، والشيخ الغزالي، والشيخ الألباني، والشيخ ابن الخوجة، والشيخ غوشة، ود.كامل الباقر، ود.أحمد الكبيسي، والشيخ صالح الحصين، والفقير إليه تعالى، وبعضهم لوصفه، مثل مدير جامعة الأزهر، ومدير جامعة الرياض، ومدير جامعة الملك عبد العزيز.

وكان يمثل هذه الجامعات في هذه الدورة الشيخ محمد فايد عن الأزهر، والدكتور عبد العزيز الفدا عن الرياض، ود. محمد عمر زبير عن الملك عبد العزيز.

وكان رئيس المجلس الأعلى هو الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد -في وقتها- والنائب الأول لرئيس الوزراء. وقد التقينا به أكثر من مرة في المجلس.

المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي

أقيم المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة، تحت رعاية جامعة الملك عبد العزيز، وكانت الجامعة تضم كليات في جدة، وأخرى في مكة، وهي التي استقلت بعد ذلك، وضمت إليها كليات جديدة، وبها ظهرت جامعة "أم القرى".

أعدت الجامعة لهذا المؤتمر الكبير إعدادا جيدا، واستعانت بعدد من المعنيين والمختصين في الاقتصاد الإسلامي، وكان المدعوون من قارات العالم كله، من الغرب والشرق، من العرب والعجم، من علماء الاقتصاد، وعلماء الشرع، من رجال النظر، ورجال التطبيق.

وقد اختيرت الموضوعات بعناية، وكلف بها أخص الناس ببحثها، وأوصلهم رحما بمعرفتها.


الملك فيصل

وكانت دعوة الباحثين قبل المؤتمر بمدة كافية، وقد حدد موعد المؤتمر، ثم اضطروا إلى تأخيره بسبب حادث جلل، وهو اغتيال رجل الأمة، وبطل المرحلة، الملك الصالح فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمة الله عليه الذي اجتمعت الأمة على حبه وتقديره؛ لما لمسته فيه من إخلاص وتفان في خدمة الإسلام، ومقاومة أعدائه. لهذا حزنت الأمة كلها من المحيط إلى المحيط على وفاته.

وكان في هذا التأجيل فرصة لمزيد من الإنضاج وحسن الإعداد أكثر وأكثر.

كان مدير جامعة الملك عبد العزيز في ذلك الوقت صديقنا الحبيب الرجل الشعلة الذي يعمل ولا يكل ولا يمل ولا يهدأ، من أجل خدمة الإسلام، ونصرة قضايا الإسلام. إنه الدكتور محمد عمر زبير الذي وفقه الله للإعداد الجيد لهذا المؤتمر، بمن معه من الأعوان الصادقين من عمداء الكليات، وأساتذة وإداريين.

وقد عقد المؤتمر في فندق "إنتر كونتيننتال مكة" وكان فندقا جديدا وواسعا، وفيه قاعات تسع المؤتمرين والضيوف، وقاعات فرعية للحلقات المتخصصة، ومسجد جامع كبير للصلاة، وهناك فرصة لمن يريد الصلاة بالحرم الشريف، تنقله إليه "باصات" وسيارات خاصة، مهيأة للضيوف.

كان المؤتمر جامعا لكل من تحب أن تراه من كبار رجال الفقه والشريعة والدعوة، ورجال الاقتصاد والمحاسبة والإدارة: الشيخ ابن باز، والشيخ الزرقا، والشيخ الندوي، والأساتذة: عيسى عبده، ومحمد المبارك، ومعروف الدواليبي، والبهي الخولي، ومحمود أبو السعود، وأحمد النجار، ومناع القطان، وعبد العزيز حجازي، وخورشيد أحمد، وحسين حامد حسان، ومحمد نجاة الله الصديقي، ومحمد صقر، وأنس الزرقا، ومنذر قحف، وشوقي الفنجري، وعبد الرحمن يسري، ورفيق يونس المصري، وآخرين لا أستطيع أن أتذكرهم؛ فقد كانوا نحو ثلاثمائة أو أكثر.

وهناك عدد من الإعلاميين المرموقين قد دعوا ليغطوا هذا المؤتمر، بعد أن يشاركوا فيه، ويروه رأي العين، أذكر منهم الأستاذ فهمي هويدي.

كان في المؤتمر محاضرتان عامتان، يدعى إليهما أعضاء المؤتمر وغيرهم: محاضرة في أول المؤتمر، ألقاها الداعية الإسلامي الكبير الأستاذ محمد قطب، ومحاضرة في خواتيم المؤتمر يلقيها الفقير إليه تعالى يوسف القرضاوي.

كانت جلسات المؤتمر غنية بالبحوث الأصيلة في بابها، والمناقشات الحرة المستفيضة حولها، وكان بحثي الذي كلفت بكتابته حول "دور الزكاة في علاج المشاكل الاقتصادية".


الشيخ مصطفى الزرقا

وكان من البحوث التي احتد فيها النقاش بحث "التأمين بين الحل والحرمة" وقد كتب فيه عدة أشخاص، وكان جل النقاش بين العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، والأستاذ الدكتور حسين حامد حسان؛ حيث يميل الزرقا إلى الإباحة بقيود، ويميل حسان إلى التحريم.

ومما ذكره الأستاذ فهمي هويدي أنه حضر منذ سنوات مؤتمرا في "كوالالمبور" في ماليزيا؛ فرأى الحضور هناك انقسموا إلى قسمين: قسم يحرم فوائد البنوك، وقسم يحاول تبرير الفوائد بإيجاد سند شرعي لها، ولكن هذا المؤتمر لم تثر فيه هذه القضية قط، بل هو مجمع على تحريم الفوائد تحريما باتا.

قلت له: وأضيف إليك ملاحظة أخرى، وهي أن رجال الاقتصاد هنا كانوا أشد حماسا للتحريم من رجال الشريعة!

شهادة من الأستاذ البهي الخولي

كان من حضور المؤتمر أستاذنا البهي الخولي الذي شارك في المؤتمر بالمناقشة، وبكلمة شفوية ألقاها في إحدى الجلسات، وقد حضر هو وزوجته، واقتضت ظروفه الصحية أن يسافر قبل انتهاء المؤتمر، وعند موعد سفره زرته في حجرته لأودعه، وأبيت إلا أن أحمل حقيبته التي فيها حاجياتهما، وهو يأبى عليَّ، وأنا مُصِر، وهنا تطلع إلى زوجته وقال لها يا أم مجيد، أتعرفين من يحمل حقيبتك؟ إن من يحملها هو فقيه العصر! قلت: يا مولانا إنما نحن تلاميذك، ومن غرس يدك.

وختم المؤتمر جلساته بالجلسة الختامية، وفيها توصيات وقرارات مهمة مما اتفق عليه المؤتمرون، تتعلق بالموضوعات التي بحثت، ومنها: التوصية بإنشاء مركز عالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، توفر له الإمكانات المادية والبشرية؛ ليقوم بمهمته وسط الصراع العالمي الذي اتخذ طابعا أيديولوجيا محوره الاقتصاد؛ ليظهر الاقتصاد الإسلامي: الاقتصاد الوسط الذي يقيم الموازين القسط بين الاقتصادين الفردي "الرأسمالي" والاقتصاد الجماعي "الشيوعي".

والحمد لله قام هذا المركز في جامعة الملك عبد العزيز، ودعيت له أكثر من مرة، وقام عليه إخوة كرام، على رأسهم أ.د.الزبير الذي تفرغ له حينا من الدهر، ود.أنس الزرقا، ود.منذر قحف، ود.رفيق المصري، وآخرون من أفاضل العلماء.