*20 الحلقة التاسعة عشرة: نشأة البنوك الإسلامية

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (19) نشأة البنوك الإسلامية


توديع المعهد والتفرغ لكليتَي التربية

ظللت في السنة الدراسية (73-74) محتفظا بوظيفتي في إدارة المعهد الديني، جامعا بينها وبين عملي في كلية التربية، مع ما يكلفني هذا من جُهد وجَهد، فقد كان المعهد جزءا مني، وأنا جزء منه، وكان عزيزا عليَّ أن أودعه وأتركه بعد اثني عشر عاما قضيتها في إرساء دعائمه، وإعلاء بنيانه، وكان إخواني في المعهد يرغبون أن أبقى معهم لمصلحة المعهد وطلابه، والاحتفاظ بما كسب من سمعة طيبة.

والحمد لله، وفقني الله أن أؤدي لكل عمل منهما حقه، ولكن كان هذا على حساب صحتي من ناحية، وأمور أخرى مثل الكتابة والبحث، ولذا استخرت الله تعالى، وتوكلت عليه، وقررت في هذه السنة (74، 75) أن أدع المعهد لأحد إخواني يقوم على إدارته، ورشحت لذلك الأخ الكريم العالم الداعية الشيخ علي محمد جماز، المدرس بالمعهد رحمه الله، ووافقت الإدارة على ذلك، وقام بواجبه خير قيام، ولا سيما أن هناك من الزملاء الأفاضل من يعاونه، مثل الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ مصباح محمد عبده، والأستاذ رشدي المصري وآخرين.

ولم يمنعني هذا أن أزور المعهد بين حين وآخر، للاطمئنان على سير العمل فيه، أو إلقاء محاضرة، أو المشاركة في مناسبة معينة أو نحو ذلك.

عدت إلى كلية التربية -أو كليتَي التربية- وقد زادت سنة، فأصبح الطلاب والطالبات الذين نجحوا فيها في السنة الثانية، وإن كان نظام الكلية لا يحسب بالسنوات، ولكنه يحسب بالساعات المكتسبة. وكان على الطالب أن يكتسب 144 ساعة في مدة دراسته، وهي في الغالب موزعة على ثمانية فصول دراسية، كل فصل 18 ساعة، ومن شعر بصعوبة هذا المقدار من الساعات عليه، يمكنه أن يأخذ أقل، ويقضي بالجامعة مدة أطول، ومن أراد أن يأخذ أكثر فلا يسمح له، إلا إذا عرف أستاذه أو مرشده الأكاديمي، أن لديه استعدادا لذلك، وأن درجاته في الفصول السابقة تشهد له بذلك.

زاد عدد الطلاب والطالبات، كما زاد عدد أعضاء هيئة التدريس، وفي قسم الدراسات الإسلامية ضم إلينا الأخ الصديق، والزميل الكريم الدكتور محمد عبد الستار نصار، المعار من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، والمتخصص في العقيدة والفلسفة، فأصبحنا ثلاثة في قسم الدراسات الإسلامية بدل اثنين.


الخطابة في مسجد أبي بكر الصديق

د. القرضاوي يخطب الجمعة

كنت في السنوات الماضية أخطب الجمعة في بعض المساجد، بصفة غير منتظمة، خطبت فترة في مسجد الشيخ خليفة، وفترة أخرى في مسجد بنّه الدرويش، وفي مساجد متفرقة خطبا متنوعة، ثم شرعت رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية المسئولة عن المساجد، إنشاء جوامع كبيرة تتسع لعدد كبير من المصلين في صلاة الجمعة، وكان مسجد أبي بكر الصديق هو أول هذه المساجد، وقد طلب مني أن أتطوع بخطبة الجمعة فيه، ورضيت بذلك، والتزمت بخطبة الجمعة فيه، ما دمت في الدوحة، إلا مريضا أو على سفر.

وأنا أؤيد سياسة الجوامع الكبيرة التي تجمع ألوف المصلين فيها كل جمعة، فهذا يتفق مع ما كان عليه سلف الأمة، فالأصل أن يبنى المسجد ليسع أهل البلد جميعا، كما رأينا المسجد النبوي في المدينة قد بني ليسع أهلها في الجمعة، فلما كثر الناس في عهد الصحابة وسعوا المسجد.

ولما فتح عمرو بن العاص مصر، بنى مسجده في الفسطاط ليسع أهل الفسطاط، وحين بنى أحمد بن طولون مدينة القطائع بنى مسجده الكبير ليسع أهلها، وحين بنى جوهر الصقلي مدينة القاهرة بنى فيها الجامع الأزهر ليسع أهلها.

وكانت هذه المدن كلها مستقلة بعضها عن بعض: الفسطاط (مصر القديمة) والقطائع والقاهرة، ثم امتد العمران واتسع، ودخل بعضها في بعض، ودخل غيرها، حتى أصبحت القاهرة الكبرى اليوم تشمل مناطق كثيرة كل منها كان يعد مدينة أو قرية منفصلة.

والناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى المساجد الجامعة الواسعة، نظرا للكثافة العالية للسكان، وامتداد المباني إلى أعلى، حتى إن بعض العمارات والأبراج العالية، فيها من السكان ما يقارب سكان قرية قديمة.

المهم أني ظللت أخطب في جامع أبي بكر الصديق، حتى أنشئ مسجد عمر بن الخطاب وكان أرحب منه وأوسع، فطلب مني أن أقوم بالخطبة فيه احتسابا، فلم أملك إلا الترحيب بذلك، وظللت حتى اليوم أخطب في هذا المسجد، وإن كانت كثرة الأسفار والمشاغل، تحرمني من المواظبة على الخطبة فيه. واعتاد تليفزيون قطر أن يذيع هذه الخطبة على الهواء، وأصبح الناس يترقبونها في بقاع شتى، وخصوصا بعد أن تحول تليفزيون قطر إلى قناة فضائية تشاهد في أنحاء كثيرة من العالم، وهذا من فضل الله علينا أن غدت الكلمة الإسلامية الموجهة تسمعها آذان العالم في التو والحال.


إلهام وسهام تختاران شعبة (العلمي)

بدأت السنة الدراسية (1975، 1976)، وفيها انتقلت كل من إلهام وسهام ابنتَيَّ إلى الصف الثاني من المرحلة الثانوية، وهو الصف الذي ينقسم فيه الطلبة والطالبات إلى شعبتين: علمي وأدبي، وكلتاهما قد اختارتا شعبة العلمي، وأنا لا أحب أن أضغط على أبنائي ولا بناتي في اختيار توجههم التعليمي، ولا أفرض عليهم ما أحب، كما نجد كثيرا من الآباء -مثل الأطباء- يفرضون على أولادهم أن يرثوا مهمتهم، وربما لم يكن لهم أي ميل لهذه المهنة. فلسفتي أن يختار كل امرئ لنفسه بعد أن نشرح له مزايا كل توجه، وعيوبه إن كان فيه عيوب.

وقد عرضت على ابنتي -مجرد عرض- أن ينوعا في اختيارهما، فتختار واحدة العلمي، والأخرى الأدبي، فقالتا في نَفَس واحد: يا أبت إن الأدبي لا يدخله غير البنات الكسلانات! فقلت: وفقكما الله فيما اخترتماه، وجعله خيرا لكما في دينكما ودنياكما.

والحق أن كل بناتي، وكل أبنائي –ما عدا عبد الرحمن- اختاروا العلمي، عبد الرحمن وحده الذي اختار المعهد الديني ليدرس فيه، دون أدنى ضغط مني، مع أني كنت تركت المعهد إلى الجامعة، حتى إني في المرحلة الثانوية قلت له: ادخل القسم العلمي في المعهد، ليكون لك أكثر من فرصة للاختيار، فرفض، وأصر على القسم الأدبي، ليدخل بعده مختارا (كلية الشريعة) بجامعة قطر، ويتخرج فيها بامتياز، ويعين معيدا، فمدرسا مساعدا.

وقد سأله أحد الصحفيين مرة: لماذا شذذت عن إخوتك ولم تدخل العلمي؟ فقال: أنا مشيت على الأصل، هم الذين شذوا وتركوا الأدبي!! يعني بـ(الأصل) أن يسير الولد على سَنن أبيه!.


الحصول على درجة أستاذ

بعد سنتين في الكلية أحسست بفارق الدرجات في الكادر الجامعي، فدرجة المدرس غير درجة الأستاذ المساعد، وهي غير درجة الأستاذ، وقد كنت عينت بدرجة أستاذ مساعد، ولم أبال بذلك يومها، ثم تبين الفرق بينها وبين درجة الأستاذ، لا في الناحية المادية فحسب، ولكن في القيمة الأدبية.

الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني

وكلمت الدكتور كاظما في ذلك، وأن الجامعات السعودية تعطي الدرجات بالأهلية والشهرة العلمية، وليس بالشهادات ولا بالأقدمية، فالشيخ الشعراوي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، والشيخ سيد صقر، والشيخ علي الطنطاوي، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ محمد قطب وغيرهم لا يحملون شهادة دكتوراه، ولكنهم جميعا يعينون في درجة أستاذ، لما تميز به عطاؤهم العلمي. وإذا كانوا محتاجين إلى أبحاث للترقية، فعندي أبحاث جاهزة، وأكثر من المطلوب.

وتجاوب معي الدكتور كاظم، وقال: نزور معا الشيخ قاسم بن حمد وزير التربية، ونكلمه في هذا الأمر، فكانت استجابة الرجل أسرع مما توقعنا، وقال له: يا دكتور، الشيخ يوسف عندنا شيخ الأساتذة!.

وما هي إلا أيام حتى صدر القرار من الشيخ خليفة بن حمد أمير البلاد بتعييني في درجة أستاذ.


د. عبد العظيم الديب في قطر

وفي هذه السنة (1975م، 1976م) أضيف إلى قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية: الأخ الحبيب، والصديق الوفي، والزميل القديم في معهد طنطا: الدكتور عبد العظيم الديب، الذي حصل على الدكتوراه حديثا من كلية دار العلوم، عن فقه إمام الحرمين، الذي حقق كتابه الشهير (البرهان) في أصول الفقه، وعكف على تراث الإمام، لخدمته وتحقيقه وإعداده للنشر.

وقد أشرت في الجزء الأول إلى الصلة الوثيقة التي كانت تربطني بعبد العظيم منذ كان طالبا في المرحلة الابتدائية بمعهد طنطا، وقد فرقت الأيام بيننا حتى التقينا مرة أخرى عند نزولي في سنة 1973 ومناقشتي لرسالة الدكتوراه، وجددنا الذكريات، وأنشدنا قول الشاعر:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا!

وقد اتفقنا بمجرد الفراغ من رسالته، وإنهاء إجراءاته: أن يقدم أوراقه في أسرع وقت إلى قطر. وهذا ما كان.

ومن الطريف أننا حينما كنا في معهد طنطا كنا نناديه بـ(عبد العزيز الديب) ثم فوجئنا بأنه (عبد العظيم الديب) فعرفت أن الاسم الأول هو الاسم الذي سمته به والدته، وهو كان ينادَى به في قريته وبين أصدقائه وإخوانه، والاسم الآخر هو المكتوب في شهادة الميلاد والأوراق الرسمية.

ومنذ جاء عبد العظيم إلى قطر، حمل العبء معي، وكان الساعد الأيمن لي، وقد هضم نظام الساعات المكتسبة، وأصول الإرشاد الأكاديمي، وساهم في تيسير ذلك للطلاب مساهمة فعالة. كما أنه رجل مخلص في تدريسه، يتعب على دروسه، ويعد محاضراته، ويقترب من تلاميذه، ويبتكر في طرائقه، حتى إنه كان يدرس كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) فاخترع له أسئلة على الطريقة الأمريكية، بملء الفراغات، أو الإجابة بعلامة صح أو غلط (بكلمة: نعم أو لا) إلى غير ذلك. ولهذا كان قريبا من الطلبة والطالبات، محببا إليهم، محوطا بعواطفهم، حتى بعد أن يتخرجوا، يظلون على صلة به، وقرب منه، وسؤال دائم عنه. وهذا ما لم أجده إلا عند القليلين من الأساتذة.

فمن الأساتذة من يحبه الطالب، ولا يحترمه؛ لأنه طيب القلب، دمث الأخلاق، جياش العاطفة، فمثله يحب، ولكن ليس عنده من العلم والموهبة والشخصية ما يجعل الطالب يحترمه.

ومن الأساتذة من يحترمه الطالب لقوة شخصيته، وسعة علمه، وضبطه لقواعد الدرس، ولكنه لا يحبه، لفظاظته أو كبريائه، أو جلافة طبعه، أو نحو ذلك، مما لا يجذب القلوب إليه.

ومنهم من لا يحترمه الطالب ولا يحبه، فليس عنده من العلم والشخصية ما يحترمه الطالب ويقدره لأجله، ولا عنده من العاطفة، وحسن المعاملة، وانبساط الشخصية: ما يحببه إلى الطالب.

ومنهم من يجمع له الطلاب بين التقدير والحب معا، لما وهبه الله من علم، وما منحه من مواهب، وما يبذل من جهود تفرض على كل من اتصل به أن يقدره ويحترمه، ويعطيه حقه من الإكبار والتقدير، كما أن لديه من الفضائل النفسية، والمكارم الأخلاقية، والسلاسة والعذوبة في الشخصية ما يجعله يألف ويؤلف، ويُحِب ويُحَب.

وأحسب أن عبد العظيم كان ـ إلى حد كبير ـ مع طلابه من هذا الصنف. ليست هذه شهادة صديق لصديق، وإنما هي شهادة رئيس أو عميد لأستاذ.

على أن شهادة الصديق لصديقه ليست دائما موضع تهمة، فالله تعالى يقول: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) [الأنعام: 152].

ومن الأصدقاء من يجور على صديقه، أو لا يعطيه حقه من الثناء إذا كان أهلا لذلك، حتى لا يتهم بالتحيز، وهو بهذا قد ظلم صديقه، وظلم الحق معا. كما قيل: إن بعض القضاة حكموا على بعض الأمراء ظلما ليشتهروا بالعدل! وقد شاهدت بنفسي بعض الأساتذة وأنا عميد لكلية الشريعة ظلم ابني، ولم يعطه الدرجة التي يستحقها، حتى لا يقال: إنه جامل ابن العميد!!.

اشتغل عبد العظيم بالتحقيق أكثر مما اشتغل بالتأليف. مع أنه قادر على التأليف بمنهجية وجدارة، ولقلمه نفحة أدبية ظاهرة، وله اهتمام بالثقافة العامة، وبالتاريخ الإسلامي خاصة، وله فيه دراسات وكتابات جيدة، نشرت له (الأمة) في سلسلة كتبها الدورية كتابا منها، حتى إنه كتب قبل ذلك كتابا عن (أبي القاسم الزهراوي) الطبيب الجراح المسلم المعروف. وقلما يعنى المشايخ بمثل هذه الأشياء!

ولكن الذي استغرق وقته هو تحقيق تراث إمام الحرمين الفقهي، الذي أمسى من المختصين به، أو قل: من العاشقين له، فحقق ونشر من تراثه: (البرهان) في أصول الفقه، و(الغياثي) في السياسة الشرعية، و(الدرة المضية) في الخلاف في الحنفية والشافعية. وأخيرا أنجز عمله الكبير، في تحقيق (نهاية المطلب ودراية المذهب) وهو أعظم أعمال إمام الحرمين، وأحد أمهات كتب الشافعية، وقد عكف عليه أكثر من عشرين سنة، وعانى فيه معاناة لمستها بنفسي، وبخاصة أن بعض أجزائه كان من نسخة واحدة، وهو الآن في سبيل نشره، يسر الله له الأمر.


تأسيس أول بنك إسلامي في دبي

في سنة 1975م أُعلن في إمارة دبي عن تأسيس أول (بنك تجاري إسلامي) أي لا يتعامل بالفوائد الربوية أخذا ولا إعطاء، ويلتزم أن يجري معاملاته وفق أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها. إنه (بنك دبي الإسلامي).

كان إعلان ذلك الحدث في التاريخ الاقتصادي للأمة يعد انتصارا لها في معركة من أخطر المعارك التي تخوضها، لتحرر اقتصادها من رجس الربا، ومن هيمنة الاقتصاد الرأسمالي بفلسفته وتطبيقاته ـ منذ عصر الاستعمار ـ على جميع مصارفها ومؤسساتها المالية.

ولقد كان إنشاء بنك بلا فائدة حلما، فأصبح اليوم حقيقة!.

كان (عبيد الفكر الغربي) كما سميتهم في كتاباتي، وأسرى الاقتصاد الوضعي، يقولون لنا: لا تحلموا ـ مجرد حلم ـ بإقامة بنوك بلا فوائد. فهذا مستحيل. إن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفائدة عصب البنوك، ومن زعم إقامة بنك بغير فوائد، فهو واهم أو مغرق في الخيال!.

وشاء الله أن يتحول الحلم أو الوهم أو الخيال، إلى واقع نشهده بأعيننا، ونلمسه بأيدينا. وكان هذا تطورا محمودا في موقف الأمة من هذه القضايا وأمثالها، وكان هذا تجسيدا للصحوة الإسلامية في ميدان الاقتصاد.


مراحل المواجهة مع الغرب

لقد مر فكر الأمة في مواجهة الغرب الذي غزانا وانتصر علينا بأطوار ومراحل:

أ ـ كان هناك طور الاستسلام والتبعية المطلقة، التي قال فيها طه حسين باتباع الحضارة الغربية في خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.. وحكى زكي نجيب محمود عن نفسه: أنه كان يرى في وقت ما: أن نأكل كما يأكل الغربيون، ونلبس كما يلبسون، ونتصرف كما يتصرفون، ونكتب من الشمال إلى اليمين كما يكتبون! وهؤلاء يرون شرعية اتباع نهج الغرب في كل شيء جهرة لا خفية، وصراحة لا ضمنا.

ب ـ وجاءت مرحلة أخف من تلك، وإن كانت أخطر، لأنها تريد أن تأخذ نهج الغرب بعد أن تبرره بفتاوى شرعية، وأسانيد دينية، تجعل حرامه حلالا، ومنكره معروفا، أي أنهم أرادوا أن يلبسوا الخواجة الأوربي (عمامة) بدل (البرنيطة) حتى يقبل إسلاميا.

وفي هذا ظهرت محاولات للقول بإباحة (الربا) الذي تقوم عليه البنوك، عناوين شتى: منها: أنه غير ربا الجاهلية، ومنها: أن المحرم هو ربا الاستهلاك للنفقة الشخصية، وليس ربا التجارات والإنتاج. ومنها: أن المحرم هو ربا الأضعاف المضاعفة، ومنها: أن المجتمع أصبح في وضع ضرورة لهذه الفوائد، والضرورات تبيح المحظورات.

وكل هذه المحاولات باءت بالإخفاق، ورد عليها العلماء الراسخون، وكشفوا عن زيفها من أمثال الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ أبي زهرة، والاقتصاديين من أمثال د.عيسى عبده إبراهيم. ود: محمد عبد الله العربي، ود. محمود أبو السعود، ود. أحمد النجار. وآخرين.

جـ ـ وكانت ردود هؤلاء العلماء على المحاولات التبريرية التي تعبر عن هزيمة نفسية: تمثل طورا جديدا، انضم فيه علماء اقتصاديون، لهم وزنهم وثقلهم العلمي، إلى علماء الشرع، ليعلن الجميع: أن (الربا) لا ضرورة إليه، ولا يمكن أن يحرم الله على الناس شيئا يحتاجون إليه، فضلا عن أن يضطروا إليه. وأن من الممكن إقامة بنوك بلا فوائد. ونشروا في ذلك مقالات ورسائل وكتبا، بأكثر من لغة، فقد ساهم إخواننا الباكستانيون والهنود في ذلك مساهمة طيبة.

د ـ ثم جاء طور آخر تعاون فيه رجال المال والأعمال، مع رجال الشرع، ورجال الاقتصاد الإسلاميين، لينشئوا أول بنك إسلامي، وانفردت إمارة دبي بهذه الفضيلة، وحازت قصب السبق في ذلك، وقد قيل: الفضل للمبتدي، وإن أحسن المقتدي.

وكان ممن له الفضل ـ بعد الله تبارك وتعالى ـ في إقامة هذا الصرح الإسلامي: صاحب الهمة العالية، والعزيمة القوية: الحاج سعيد لوتاه، الذي صمم أن يقيم هذا البنك، رغم تخويف المخوفين له، مما وراء ذلك من مخاطر ومجازفات غير مأمونة، ولكنه توكل على الله، ومضى في الطريق (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم). وكان من رجال الاقتصاد الإسلامي الذين أسهموا بدور أساسي في إنشاء هذا البنك الأستاذ الدكتور عيسى عبده إبراهيم، فيجب أن يُذكَر فيُشكَر.

وأيد الحاج سعيد افتتاح هذا الصرح بإقامة أول مؤتمر علمي شرعي للبنوك الإسلامية، فدعا كوكبة من علماء الأمة في دبي، ليبحثوا عدة موضوعات، ويصدروا فيها فتاوى بالإجماع أو بالأغلبية، ليعمل البنك بموجبها.

وقد اعتبرني الحاج سعيد لوتاه رئيس مجلس إدارة البنك: مستشارا شرعيا غير متفرغ للبنك، فيما يحتاجون إليه، فكانوا يتصلون بي هاتفيا، أو أذهب إليهم بين الحين والحين، على فترات متباعدة.

وكنت أقوم بهذا العمل محتسبا، دون أي مقابل، فقد كان فرحي بقيام هذه المؤسسة الإسلامية، وإسهامي في إنجاحه أعظم عندي من أي أجر أو مكافأة مادية.


شركة الاستثمار الخليجي

الملك فيصل بن عبد العزيز

بدأت فكرة البنوك الإسلامية تتسع، فأنشئ (بنك فيصل الإسلامي) في مصر، و(بنك فيصل الإسلامي) في الخرطوم، وكان يرأس مجلس إدارة كل منهما: الأمير محمد الفيصل آل سعود، الذي تبنى فكرة البنوك الإسلامية، وخدمها ورعاها بماله ونفوذه، ورأى أن يخلد ذكر أبيه، الملك المحبب لدى جمهور المسلمين (فيصل بن عبد العزيز) بأن ينشئ سلسلة من البنوك الإسلامية تحمل اسمه، فنشأ البنكان في مصر والسودان.

ثم اقتُرِح على الأمير محمد أن يؤسس في أقطار الخليج العربي شركة للاستثمار، تجمع فيها أموال من لديه مدخرات يحب أن يستثمرها في الحلال المشروع. فكثير من الناس يجمد أمواله، ولا يستثمرها في حرام. فهذه الشركة فرصة تتيح للناس أن يستثمروا أموالهم وفق صكوك للمضاربة لمدة سنة، أو ثلاث سنوات، ثم يستردونها.

وقامت حملة إعلامية كبيرة لهذه الشركة، ومر الأمير محمد الفيصل ببلاد الخليج: الكويت والبحرين والإمارات، ثم قطر، للدعاية لهذه الشركة الوليدة، وكان معه الأستاذ الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس مجلس الوزراء المصري سابقا، والشيخ محمد خاطر مفتي مصر سابقا، والدكتور إبراهيم كامل أحد رجال المال والأعمال المرموقين، والذي يقيم بجنيف بسويسرا.

وقبل أن يصلوا إلى قطر، اتصلوا بي، وطلبوا مني أن أشد أزرهم في مسيرتهم، فقلت لهم: أنا معكم في وجهتكم في المعركة ضد الربا. فقالوا: نريدك أن تنضم إلينا وتكون أحد المتحدثين الرئيسيين في بلاد الخليج، فوافقت على ذلك.. وأقيمت ندوة حافلة حاشدة في فندق الخليج في قطر، في إحدى القاعات الكبرى، وقد ازدحمت على آخرها. تحدث الأمير والشيخ والدكتور، ثم تحدثت بكلمة قوية شدت الجماهير إليها، ثم بدأ الناس يسألون ويستفسرون، وتجيبهم المنصة عن أسئلتهم.

والحقيقة أن هذه الليلة كانت وراء نجاح شركة الاستثمار الخليجي، ولولاها لفشلت الشركة تماما، فقد تبين أن الذين ساهموا من قطر، كانوا حوالي الثمانين في المائة، أو أكثر، فلم يستجب الناس في بلاد الخليج الأخرى للنداء. ولا أريد أن أزكي نفسي، ولكنها الحقيقة تقال للتاريخ. فلولا ثقة الناس في قطر بي، واستماعهم لكلمتي، وأسئلتهم المتتابعة بعد ذلك لي: هل نشترك أو لا؟ ما قامت لشركة الاستثمار الخليجي قائمة.

وبعد أن قامت الشركة، رأى الأمير محمد الفيصل والمسئولون عن الشركة: أن يؤسسوا لها هيئة رقابة شرعية، تكون موضع ثقة عند الناس. كان رئيسها الشيخ المفتي محمد خاطر، وأعضاؤها الشيخ صديق الضرير، والشيخ عبد الله بن علي المحمود عالم الشارقة، ويوسف القرضاوي.

وكان مقر الشركة في ولاية الشارقة، وقد دعينا لافتتاحها هناك، وكان في يوم الخميس، وقد بتنا هناك وخطبت الجمعة في مسجد الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة وبحضوره، وقد دعانا للغداء عنده.

وكان نجاح هذه الشركة حافزا للتفكير في تأسيس شركة أكبر وأوسع، وهي التي سميت (دار المال الإسلامي) التي قامت في جنيف، ويديرها د. إبراهيم كامل، وسيأتي لها حديث يخصها في حينه.


عضوية مجلس إدارة بنك فيصل

فوجئت في أمسية يوم من الأيام باتصال من الأخ الصديق الأستاذ يوسف ندا، أظنه كان من القاهرة، وقال: إننا نريد أن تكون معنا في مجلس إدارة (بنك فيصل الإسلامي المصري). وقد رشحك أكثر من واحد في المجلس منهم المهندس أحمد حلمي عبد المجيد، ورحب الأمير محمد بذلك. وذكر أنك عاونتهم معاونة كبيرة في إقامة شركة الاستثمار الخليجي، وأن معاونتك كان لها الأثر الأول في قيام الشركة، قلت له: أنا أرحب بكل ما يوسع قاعدة الاقتصاد الإسلامي، ويضيق دائرة الربا في مجتمعاتنا المسلمة. ولكن أخاف أن يجور ذلك على وقتي الذي نذرته للعلم والدعوة. قال: احتسب ذلك في سبيل الدعوة أيضا، ووجود عنصر شرعي مهم في المجلس، على أن المجلس يجتمع كل شهرين مرة. وقلت: على بركة الله. وكان المجلس الأول لا يحتاج إلى جمعية عمومية، ويكفي ترشيح بعض الأعضاء وموافقة أغلبية المجلس.

وأصبحت منذ ذلك الحين عضوا في مجلس إدارة بنك فيصل المصري، وحضرت أول جلسة عقدت بعد الانتخاب، وفيه تعرفت على سائر الأعضاء، ومنهم من لقيته قبل ذلك، مثل الأمير محمد رئيس المجلس، ود. عبد العزيز حجازي نائب الرئيس، ود. توفيق الشاوي، والحاج حلمي عبد المجيد، ود. عمر عبد الرحمن عزام، والأستاذ حيدر بن محمد بن لادن، والأستاذ كمال عبد العزيز المحامي، والأستاذ أحمد ثابت عويضة، ود. أحمد محمد عبد العزيز النجار، والأستاذ علي حمدي. وغيرهم.

وما لاحظته: أن البنوك الإسلامية قد استعجلت في ظهورها، قبل أن تهيئ لها الكوادر المطلوبة على مهل. هذه الكوادر التي تجمع بين العلم المصرفي، والفقه الشرعي، والالتزام الإسلامي، والحماس للفكرة والإيمان بها.. وهذا لم يكن حاصلا.

بل قامت البنوك الإسلامية أول ما قامت على أناس جاؤوا من البنوك الربوية، فليس عند أكثرهم أي فقه شرعي، ولا عندهم أي إيمان بفكرة بنك إسلامي، ولا عندهم أي التزام بخلق إسلامي، حتى كان منهم من لا يقيم الصلاة، ومن تدخل عليه وهو يدخن سيجارة. بل حكى لي بعضهم أن منهم من كان يفطر في رمضان! فهل يؤمن هؤلاء على إقامة مؤسسة إسلامية يأتمنها المسلمون على تنمية أموالهم في الحلال، وهم لا يعرفون حلالا من حرام؟!!.

لقد دخلت على مسئول كبير في البنك يوما فوجدته يلبس في يده خاتما كبيرا من الذهب، فقلت له: هذا حرام على الرجال في الإسلام. قال: إن والدتي أهدته إليَّ حينما تزوجت! قلت: والدتك لم تكن تعرف أنه حرام. قال: ولا أنا أعلم أنه حرام. قلت: سأهديك كتابا يعطيك فكرة معقولة عن الحلال والحرام. فأهديته كتابي (الحلال والحرام في الإسلام). فلما قابلته بعد ذلك. قال: إن كتابك قد علمني كثيرا مما كنت أجهله. لقد كنا في جهالة وعمى، ففتح عيني. ووجدته قد خلع خاتمه الذهبي، ولم يعد في يده.

ومما أذكره: أن أحد الموظفين في إدارة الاستثمار في البنك سألني عندما حضرت في أحد اجتماعات المجلس سؤالا عجيبا، قال: هل يجوز أن يغير طالب المرابحة الشيء الذي اتفق على شرائه بشيء آخر؟ مثلا هو اتفق على شراء سيارة نقل كبيرة، فخطر له أن يغيرها ويشتري بثمنها جرارا زراعيا مثلا، هل هذا يجوز؟.

قلت له: يا بني هذا لا يتصور أصلا، لأن طالب المرابحة لا يعطيه البنك نقودا في يده يشتري بها ما يريد، حتى يفكر في تحويلها من سلعة إلى أخرى. لكن البنك هو الذي يشتري له البضاعة التي أمر البنك بشرائها له، ولا بد أن يشتريها البنك لنفسه، ويتملكها ويحوزها، ثم يبيعها له بعد ذلك، حتى لا يبيع ما لا يملك. فإذا كنت أعطيته النقود في يده، فهذا لا يجوز شرعا، وقد خالفت ما أفتت به هيئات الرقابة الشرعية جميعا، وخنت الأمانة التي ائتمنت عليها. فقال: والله ما كنت أعرف ذلك. ولن أفعلها بعد ذلك.

وحكيت ذلك لنائب محافظ البنك الأخ الكريم الأستاذ أحمد عادل كمال، فقال لي: يجب أن نجمع لك الموظفين لتشرح لهم هذه المسألة وغيرها من مسائل المعاملات التي يغلطون في تطبيقها، ويسيئون إلى سمعة البنك، ويطعمون الناس الحرام.

وبالفعل جمع لي الموظفين، وجلست معهم وقتا طويلا، أشرح لهم بعض ما غمض عليهم، وأجيب عن استفساراتهم حول معاملات البنك، وما قد يقعون فيه من أخطاء.

ومن ذكريات بنك فيصل: ما كان يحدث في اجتماع الجمعية كل عام، من صراع على مقاعد المجلس، فقد كان هناك فئة لها مجموعة كبيرة من أسهم البنك من آل عزام ومن يلوذ بهم، وكانوا على خلاف مع الأمير محمد على ما بينهم من قرابة، وكانوا كل سنة يثيرون غبارا ودخانا في جلسة الجمعية العامة، ويقدمون الأسئلة المحرجة، ويرفعون درجة التوتر إلى أقصاها، ويزداد هذا ويتضاعف كل ثلاث سنوات، حين يكون هناك انتخاب مجلس جديد، فتراهم يرسلون إلى كل مساهم خطابات مطولة، فيها اتهامات وانتقادات، وربما شتائم لمجلس الإدارة، ولإدارة البنك.

وعند عقد الجمعية، يتكتلون في القاعة، ويبدءون المشاغبة، ويدفعون بعض الناس معهم ليقوموا بذلك.. ونظل أحيانا معظم الليل في هذا الجو الخانق المؤلم من الصراع.. ثم ينتهي الأمر دائما بفوز مجموعة الأمير محمد، لأنها تملك معظم أسهم البنك! وهم يعلمون ذلك تماما، ولكنهم يقولون: العيار الذي لا يصيب يترك دويا.

وكثيرا ما كنت أستأذن وأنصرف قبل أن تنتهي الجلسة، لأني لم أعد أطيق البقاء في هذا الجو الساخن. وكان الأمير محمد يلقى هؤلاء بالحلم والابتسامة والصبر الطويل، وبمثل هذا الحلم يسود من يسود.


بنك فيصل الإسلامي بالخرطوم

وكما قام بنك فيصل الإسلامي بالقاهرة قام نظيره في الخرطوم، ولكن كان حظه في التهيئة والإعداد البشري أفضل من حظ بنك القاهرة. فقد كان المتحمسون لإنشائه من الإسلاميين المتمرسين، وممن يجمعون بين الوعي الفكري والقدرة على الحركة معا. وهذا كان له أثره في حسن نشأة البنك أول الأمر.

فهم لم يقبلوا كل من تقدم إليهم، بل انتقوا منهم أفضل العناصر الملائمة للعمل المنشود، عن طريق إجراء امتحانات تحريرية، ومقابلات شفوية، تنبئ عن قدرات الشخص المتقدم: الذهنية والمعرفية والمهنية والسلوكية.

ولقد اشترك في وضع هذه الاختبارات رجال من ذوي الدراسة والكفاية من الشرعيين والاقتصاديين والإداريين والتربويين، منهم الأستاذ الدكتور جابر عبد الحميد وكيل جامعة قطر فيما بعد، والأخ محمود نعمان الأنصاري مساعد الأمين العام لاتحاد البنوك الإسلامية، وكان الأمين العام هو الدكتور أحمد النجار، المتحمس لفكرة البنوك الإسلامية وترويجها.

ولم يكتف بهذا الامتحان التحريري، فلا بد للمتقدم أن يجتاز مقابلة شخصية، للجنة مختصة، يظهر فيها ما لا يظهر في الامتحان التحريري.

ومن ينجح في الامتحانين يختار منهم الأفضل فالأفضل، والعرب تقول: من أخصب تخير.

ولم يقف الإخوة في السودان عند هذا الحد، بل أقاموا دورة لعدة أسابيع لتثقيف المختارين، بإعطائهم جرعات مركزة في كل الجوانب التي يحتاج إليها العاملون في البنك: شرعية واقتصادية وإدارية ومحاسبية وسلوكية، يختار لها خبراء متخصصون في سائر هذه الجوانب من داخل السودان ومن خارجها. وقد دعيت للمشاركة في هذه الدورة النافعة، وبقيت في الخرطوم عدة أيام لإلقاء عدد من المحاضرات، والإجابة عن الأسئلة التي يثيرها الدارسون حول النواحي الشرعية.

بهذا كان حظ بنك فيصل السوداني من إعداد العنصر البشري أفضل من سائر البنوك. ولا أدري لماذا لم تستفد البنوك الإسلامية من هذه التجربة الفذة، كلما أرادوا أن ينشئوا بنكا إسلاميا جديدا!

إن العنصر البشري هو المؤثر الأول في نجاح أية مؤسسة، فكيف إذا كانت مؤسسة إسلامية ذات رسالة ربانية إنسانية أخلاقية، بجوار رسالتها الاقتصادية؟

والقرآن يحدد الصفات الأساسية في العنصر البشري المطلوب، بقوله تعالى: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) [القصص: 26].

فالقوة: تمثل القدرة على إنجاز العمل والخبرة فيه، وما يتطلبه ذلك من معرفة وثقافة ومهارة.

والأمانة: تمثل الجانب الأخلاقي، الذي يرعى حدود الله، وحقوق الناس، والذي يدفع لإحسان العمل، لإرضاء الله، لا إرضاء الناس، ويجعله يراقب الله في عمله قبل أن يراقب البشر.

وهذا يحتاج إلى حسن الاختيار والانتقاء من أول الأمر، فيختار العنصر الصالح، دون محاباة ولا محسوبية، ولا لأي اعتبار غير الكفاية والأمانة.

وبعد ذلك: يكون التدريب المستمر والتوعية الدائمة، ليظل المرء في حالة ترقٍّ أبدا من حسن إلى أحسن، ومن أحسن إلى الأحسن. كما شأن المؤمن دائما ينشد الأحسن، كما قال تعالى: (فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) [الزمر: 17، 18].


اتحاد البنوك الإسلامية

ولقد شعر اتحاد البنوك الإسلامية الذي كان يرأسه الأمير محمد الفيصل، ويقوم بأمانته الدكتور أحمد النجار، بحاجة العاملين في المصارف الإسلامية إلى ثقافة شرعية واقتصادية، فشرع في عمل (موسوعة للبنوك الإسلامية) ضمنها كثيرا من التوجيهات والدراسات، التي كانت مهمة في بداية نشأة البنوك. وإن كانت البحوث والدراسات المصرفية الإسلامية، قد تجاوزتها كثيرا.

كما اجتهد الدكتور النجار ـ برعاية الأمير محمد ـ أن ينشئ معهدا لتثقيف العاملين في هذه البنوك، وكان مقره (قبرص) الإسلامية التركية، وظل عدة سنوات، يرسل إليه أفرادا لتدريبهم وتخريجهم، ثم توقف لما يتطلبه من تكاليف للدارسين والمحاضرين، وكان الأولى أن يكون في مصر لا في قبرص.

والمهم هنا هو الشعور العام بالحاجة إلى إمداد العاملين في المصارف ـ أو البنوك ـ الإسلامية بما لا بد منه من المعارف والثقافات اللازمة لمن يعمل في هذا الميدان، وهي معارف تنمو وتتطور يوما بعد يوم، وفي حاجة إلى من يلاحقها ويساير ركبها.


مهرجان ندوة العلماء بالهند

كان من أهم ما حدث في تلك السنة (أواخر شهر أكتوبر سنة 1975م): المشاركة في (مهرجان ندوة العلماء) بلكهنو بالهند، الذي دعا إليه الداعية الإسلامي الكبير حبيبنا العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رئيس ندوة العلماء، وذلك بمناسبة مرور خمسة وثمانين عاما على تأسيس ندوة العلماء، التي قامت بدور مذكور مشكور، معروف غير منكور، في إقامة تعليم إسلامي يأخذ من التراث ما صفا، ويدع ما كدر، يرحب بكل جديد نافع، ويحرص على كل قديم صالح، يؤمن بثبات الأهداف ومرونة الوسائل، هو في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير.

قام على هذه الندوة منذ تأسيسها رجال كبار، جمعوا بين النقل الصحيح، والعقل الصريح، واغترفوا من التراث، ولم يغفلوا عن العصر: جمعوا بين عقلانية الفيلسوف، وروحانية المتصوف، وانضباط الفقيه، ولم يكتفوا بالرواية عن الدراية، ولا بالدراية عن الرواية، من هؤلاء الرجال الأفذاذ: العلامة شبلي النعماني، مؤسس (دار المصنفين) في أعظم كره، ومؤلف (السيرة النبوية) الشهيرة، التي كتبها بالأردو، والعلامة سليمان الندوي مكمل سيرة النعماني، وصاحب المؤلفات القيمة، والتي نقل إلى العربية منها محاضراته في مدراس عن (السيرة النبوية) وخصائصها، والعلامة الشيخ عبد الحي الحسني والد الشيخ أبي الحسن مصنف كتاب (نزهة الخواطر) في أعلام الهند.. وغيرهم من الرجال الربانيين الذين علموا وعملوا وعلّموا.

فكانت ندوة العلماء ومؤسساتها التعليمية مثل (دار العلوم) وكلياتها المختلفة في علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية، ومعهد الفكر الإسلامي وغيرها نموذجا يحتذى في الجمع بين الأصالة والمعاصرة. أراد العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي أن يجمع كبار علماء الأمة ودعاتها بهذه المناسبة، ليروا هذه المؤسسة الفريدة بأعينهم، ويلمسوا آثارها بأيديهم، ويتحسسوا حاجاتهم بأنفسهم، ويساهموا في إقامة مشروعاتها المستقبلية.

ولهذا لم يسعنا حين وصلتنا دعوة الشيخ إلا أن نلبي النداء، ونهرع إلى هناك، وكنا وفدا من قطر مكونا من فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، وفضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، والفقير إليه تعالى، وقد دعي عدد من الإمارات على رأسهم فضيلة الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك رئيس القضاء الشرعي، وعدد من علماء المملكة العربية السعودية ورجالها، ومن الكويت والبحرين ومصر وغيرها،


د. عبد الحليم محمود أقصى اليمين في اجتماع مع د. القرضاوي

وكان على رأس الوفد المصري الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، وفضيلة الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف.

وصلت الوفود إلى دلهي، فاستقبلنا إخوة من الندوة في مطار دلهي، ومن دلهي ركبنا الطائرة إلى لكهنو، حيث وجدنا استقبالا حافلا في المطار، وقد ألبسونا عقودا من الزهور والورود، على عادة أهل تلك البلاد. ثم رأينا الاستعدادات الضخمة في مقر ندوة العلماء لاستقبال الضيوف، ونزلنا في فنادق من الدرجة الأولى في المدينة، وكان مسلمو المدينة (لكهنو) ومسلمو الهند عامة في خدمتنا، فما من مدينة في الهند إلا أرسلت ممثلين لها، وكأنا كنا ضيوفا على مسلمي الهند جميعا، فبالغوا في إكرامنا، حتى قال أخونا وصديقنا الدكتور محمد المهدي البدري مازحا: لم يبق على الشيخ الندوي إلا أن يزوج كل ضيف هندية مسلمة!

وفي مقر الندوة أقيم سرادق ضخم يسع ألوفا مؤلفة؛ لأن الندوة بدأت في أطراف المدينة، وأخذت منطقة واسعة، فأمكنها أن تقيم حفلها الكبير بها.

كان الحفل يضم المسلمين وغير المسلمين، فقد بهر الهندوس هذا الاستعداد الكبير، وعلموا أن شيوخا كبارا من العالم العربي والعالم الإسلامي سيحضرون، فرغبوا في المشاركة، وحضر ألوف منهم في المهرجان. كما أن كثيرا منهم حضروا إكراما للشيخ الندوي، لما له من مكانة كبيرة في الهند كلها.

وسمح الشيخ الندوي لأول مرة للمصورين أن يحضروا، ويلتقطوا الصور للحفل وللضيوف، وللمتكلمين، وقال الشيخ: إن علماء الهند لا يجيزون التصوير، ولكن لأجل خاطر إخواننا من علماء العرب سمحنا بالتصوير، نزولا على رأيهم في إباحته.

وكان المتبع في مثل هذه الأحوال: أن يكون الشيخ أبو الحسن الندوي هو رئيس هذا المهرجان أو المؤتمر، ولكنه أبى إلا أن يكون الرئيس هو شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود.

وتحدث عدد من المدعوين، يقدمهم عريف الحفل، ولكن اثنين منهم حرص الشيخ الندوي على أن يقدمهم للجمهور بنفسه، أحدهما: العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، الذي يعرفه علماء الهند بآثاره العلمية، والذين له عناية خاصة بعلماء الهند وآثارهم العلمية، ولا سيما عالم لكهنو الشهير الشيخ عبد الحي اللكنوي، الذي نشر الشيخ آثاره مثل (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل) وغيرها، وعلق عليها تعليقات ضافية.

والثاني، هو: يوسف القرضاوي، الذي ألبسه الشيخ ثوبا فضفاضا، وأضفى عليه من الصفات والمحاسن ما يليق بالمقدِّم لا المُقدَّم.

ارتجلت في الحفل الكبير الذي لا تكاد ترى آخره؛ كلمة قوية مركزة، أثرت في الحضور، حتى الذين لا يعرفون العربية تأثروا بها، ربما لأنها خرجت من أعماق القلب، فأثرت في القلوب، حتى قال لي الشيخ أبو الحسن: لعلك تعجب إذا علمت أن الهندوس الذين حضروا الحفل تأثروا بكلامك وإن لم يفهموه!! قلت له: إنها نفحات ندوة العلماء وشيوخها هبت علينا، فما كان في كلامنا من خير، فهو منكم وإليكم.

وقد قسم أعضاء المؤتمر إلى لجان، شاركت في إحداها، أظنها: لجنة التربية والتعليم، كما شاركت في لجنة الصياغة العامة لتوصيات المؤتمر.

كانت أيامنا في (لكهنو) أياما طيبة، حافلة بالخير، فياضة بالحب، سعدنا فيها بإخوتنا وأحبابنا في الندوة، الذين عرفناهم من قبل، والذين لم نعرفهم: الشيخ محمد الرابع، والشيخ واضح رشيد، والشيخ سعيد الأعظمي، وغيرهم من العلماء والدعاة من أرباب القلم واللسان.

وكانت دولة الهند إكراما للشيخ أبي الحسن واعترافا بمنزلته في العالم الإسلامي، قد استضافت عددا من الضيوف، وهيأت لهم زيارة بعض المناطق السياحية، في دلهي، وفي تاج محل وغيرهما.

وكان الشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ الذهبي، والشيخ الأنصاري، والشيخ عبد المعز، وأنا، ممن نزلوا ضيوفا على الدولة، وذهبنا للسلام على رئيس الجمهورية، وكان مسلما، وهو الدكتور ذاكر حسين، والمعروف أن رئيس الجمهورية في الهند ليس له سلطات تذكر، وإنما السلطة في قبضة رئيس الوزراء، على غرار النظام الإنجليزي.

وقد دعانا رئيس الجمهورية على الغداء، ثم رافقنا عدد من رجال الحكومة لزيارة بعض الأماكن المهمة التي يحرص السياح عادة على زيارتها، فزرنا القلعة الحمراء في دلهي، ومنارة قطب الدين، وغيرهما.

وكان أهم معلم سياحي زرناه هو (تاج محل) الذي هيئت لنا زيارته بسيارات خاصة، وحجز لنا في أحد الفنادق هناك، وهو فعلا تحفة هندسية معمارية فنية لا نظير لها، وهو يعد من عجائب الدنيا السبع، وقد أعده أحد الملوك ليكون قبرا لزوجته التي يحبها.

ومن المهم أن نعلم أن كل المعالم السياحية التي تباهي بها الهند وتفخر: هي معالم إسلامية، فلم نكد نجد شيئا له قيمة يمكن أن يزار غير ما خلفه المسلمون.

كانت هذه أول مرة أزور فيها الهند، وهي زيارة لا شك نافعة، تعلمت منها الكثير، ورأيت فيها الكثير، وفي ختامها دعانا سفير قطر في الهند ـ ولا أذكر: أكان الأستاذ شريدة الكعبي أم الدكتور حسن نعمة ـ على الغداء في بيته، وشكرنا له حسن ضيافته، وطلبت منه أن يحجز لي للعودة إلى قطر، فأنا مرتبط بعملي الجامعي، ولا أستطيع أن أتغيب عنه كثيرا.

وحجزت السفارة العودة عن طريق (بومباي) التي بت فيها ليلة في ضيافة القنصلية القطرية هناك، ورأيت في بومباي ما رأيته في دلهي: مناطق تراها غاية في النظافة والرقي والتحضر، وأخرى غاية في الفقر والقذارة حتى ليكاد الناس لا يجدون ما يسترهم، وقيل لي في بومباي: إن هنا أناسا يولدون ويعيشون ويموتون في الشارع لا بيوت لهم!! إنها الطبقية الصارخة، التي تجعل بعض البشر كالآلهة، وبعضهم أدنى مرتبة من الحيوان!!.