*19 الحلقة التاسعة عشرة :حياتي مع الإخوان
الحلقة (19) حياتي مع الإخوان
محتويات
الشيخ البهي الخولي وكتيبة الذبيح.. وقفات لتصفية الروح
ومن أهم من تعرفت عليه في المرحلة الثانوية، واتصلت به عن قرب، واستفدت من حلقاته ومجالسه، والتقطت من لآلئه وجواهره: شيخنا الداعية الكبير البهي الخولي، الذي عرفته في المعهد الابتدائي مدرسا للمحفوظات التي حوّل حصتها إلى ثقافة ودعوة، ولمادة الجغرافيا التي كان يتقن رسم خرائطها، وأنا لا أتقنه.
كان الشيخ البهي هو المسؤول عن نشر الدعوة في مديرية الغربية، أو بتعبير الإخوان: في المكتب الإداري، فقد قسم الإخوان القطر المصري ـ حسب تقسيمه الإداري ـ إلى مكاتب إدارية، في كل مديرية (مكتب)، وتحت كل مكتب (مناطق) في كل مركز إداري (منطقة) وتحت كل منطقة (مراكز جهاد) يضم كل مركز عدة قرى، وفي كل قرية (شعبة) للإخوان.
فكان الأستاذ البهي رجل الدعوة الأول في مكتب إداري الغربية، وكان يقدم المحاضرات في دار الإخوان، بين فترة وأخرى. ثم ضم هذه المحاضرات ونشرها في كتاب قيم فريد في بابه سماه: "تذكرة الدعاة" قدّم له الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان، واعتبره من "رسائل الإخوان المسلمين".
ولا يزال كتاب "تذكرة الدعاة" رغم تقادم العهد، يحتفظ بأصالته وحيويته، ويسد ثغرة في مجال الدعوة إلى الله، مكتوبة بقلم داعية، عاش الدعوة بعقله وقلبه، بفكره وعواطفه وسلوكه، وزامل مؤسسها في "دار العلوم" وبايعه على العمل بها، والعمل لها، منذ مدة طويلة.
وللأستاذ البهي جملة من الكتب أصيلة في بابها، مثل: "آدم عليه السلام" و"الثروة في ظل الإسلام"، و"المرأة بين البيت والمجتمع" الذي ألفه بتكليف من المرشد الثاني للإخوان الأستاذ حسن الهضيبي، واعتبر كذلك من "رسائل الإخوان". ثم وسعه وطوره وسماه: "الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة".
وللشيخ البهي وقفات عميقة مع القرآن، لم تجمع في كتاب، لعلها منثورة في أوارق مختلفة، ليت أبناءه يعنون بها، ويكلفون أحد الشباب بالبحث عنها وإخراجها ونشرها، أو نشر ما يصلح للنشر منها.
كما أن له ذوقا روحيا متميزا، في النظر إلى (التصوف) واستخراج اللآلئ من بحاره العميقة. ولقد تجلى ذلك فيما كتبه عن بعض الرجال الربانيين في مجلة "المسلمون" التي كان يصدرها تلميذه النجيب الداعية الشهير: "سعيد رمضان" في باب (مع العارفين)، وقد كتب فيها عن الإمام الممتحن "أحمد بن حنبل"، وعن "عتبة الغلام" وغيرهما، وإن لم يوقع عليها باسمه.[1]
ولقد فكر الأستاذ البهي أن يصطفي نخبة من خيرة شباب الإخوان، يدنيهم منه، ويربيهم في مدرسته، ويلقنهم فكره وذوقه، ويأخذهم بعزائم السلوك، فقد أكد رجال التربية الروحية حاجة المريد إلى شيخ يأخذ عنه، ويقتبس من نوره، وأن صحبة الشيخ لا يغني عن قراءة الكتب، حتى قال بعضهم: من لا شيخ له فشيخه الشيطان. وقد اختار الشيخ لهذه المجموعة اسم (كتيبة الذبيح).
ويراد بالذبيح: سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، والذي رفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم الخليل، وقد ذكر لنا القرآن الكريم في سورة الصافات قصته مع أبيه بعد أن بلغ معه السعي، وأضحى يرتجى منه ما يرتجى من الشباب في معاونة أبيه. فجاء الامتحان الإلهي البليغ للأب الذي بلغ به اليقين أن ضحى بولده وفلذة كبده، امتثالا لإشارة الوحي من ربه، وللابن الذي بلغ به اليقين أن قدّم عنقه، طاعة لأمر ربه، ولم يتلكأ أو يتردد، بل كان كما قال القرآن: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: 102).
يقول الشيخ البهي، وهو يشرح لنا القصة في أول جلسة: انظر إلى الابن كيف قال لأبيه، وقد عرض عليه ذبحه: (يا أبت افعل ما تؤمر) ولم يقل: افعل (بي) ما تؤمر، فكأنما غاب عن نفسه، وفني عن ذاته، وقال لأبيه: نفذ ما عندك من أوامر الله، ولن تجد مني إلا الطاعة والصبر على أمر الله. ولم يفعل ذلك ادعاء للشجاعة والبطولة، بل وكّل الأمر إلى الله يسدده ويشد أزره، حين قال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
اختار الأستاذ البهي أكثر هذه النخبة من طلاب المعهد الديني، وأقلهم من طلاب المدرسة الثانوية، وأذكر من هذه النخبة: الإخوة: أحمد العسال، ومحمد الصفطاوي، ومحمد الدمرداش مراد، وعبد العظيم الديب، وعبد الوهاب البتانوني، ومحمد وعبد الفتاح الحشاش، من أبناء الأزهر، وعبد المنعم عثمان، وسعيد شنا، وكمال العريان من الثانوية، وآخرين لا أذكرهم الآن.
كان موعد اللقاء قبيل فجر الإثنين ـ على ما أذكر ـ من كل أسبوع، وفي بيت الأستاذ، نصلي معه الفجر، ثم نجلس في حلقتنا الروحية، التي يحلق بنا فيها إلى أجواء ربانية عالية، فنحس بأننا نشف ونصفو حتى نكاد نطير بلا أجنحة.
وكنت -على فطرتي وطريقتي- أناقش وأسأل في كل ما لا يقتنع به عقل، أو يطمئن إليه قلبي، فطرة فطرني الله عليها، وأعتقد أنها نعمة من الله عليّ، بجوار نعمه التي لا تعد ولا تحصى. وقد ظن الشيخ البهي رحمه الله أن لي موقفا مضادا من التصوف وأهله، ثم فوجئ بكتابيّ: "العبادة في الإسلام" و"الإيمان والحياة" فوجد فيهما نزعة ربانية أصيلة، وقال لي بعد أن أهديتهما له: كيف خبأت عنا هذه الروحانية العميقة بمناقشاتك القديمة، التي جعلتنا نفهمك على غير حقيقتك؟ قلت له: يا فضيلة الأستاذ، المناقشة جزء من كياني، وربما يضيق بها الصوفية الذين يقولون: من قال لشيخه: لِم؟ لم يفلح، ويقولون: المريد بين يد الشيخ كالميت بين يد الغاسل، ولكني تلميذك الأمين فيما قررته في كتابك الفريد "تذكرة الدعاة" عن (الروحانية الاجتماعية)، فأنا مع (الربانية) ولست مع (الرهبانية) كما قال الشيخ أبو الحسن الندوي.
حسن البنا والأزهر.. ورحلاته في سبيل الدعوة
لم يكن الأزهر غريبا عن دعوة حسن البنا، بل كان حضوره بأبنائه وإسهامهم في الدعوة واضحا من أول يوم.
فقد كان من المؤسسين الأوائل للدعوة مع الأستاذ البنا: الشيخ "حامد عسكرية"، الذي ذكره الإمام البنا في مذكراته في أكثر من مكان، والذي شهد له كل من عرفوه بأنه كان عالما وواعظا أزهريا متميزا من الرجال المخلصين والمتجردين، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.
وقد قدر الله تعالى أن تخترمه المنية في شبابه، وينتقل إلى جوار ربه والدعوة لا تزال في طورها الأول.
وكان من الأوائل الشيخ أحمد عبد الحميد، وقد كان أحد المعتقلين في الطور 1949م.
ومن علماء الأزهر الذين التحقوا بالدعوة وهم طلاب عدد من الرعيل الأول، من أمثال: الشيخ أحمد حسن الباقوري، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ محمد فرغلي، والشيخ أحمد شريت، والشيخ سيد سابق، والشيخ عبد اللطيف الشعشاعي. وغيرهم ممن كان له باع رحب في الدعوة، لا يجهله أحد.
وكان الشيخ البنا حفيا بالأزهر ورجاله، وكانت علاقته ـ كما علمت ـ طيبة بالأستاذ الأكبر الشيخ المراغي رحمه الله، وبكثير من كبار الشيوخ.
وحين كلف الأستاذ البنا إصدار (مجلة المنار) بعد وفاة مؤسسها العلامة المجدد محمد رشيد رضا، كتب الإمام المراغي مقدمة لأول عدد أصدره البنا، فكان مما قال فيه:
وأذكر أنه في حفل من الاحتفالات التي أقيمت في طنطا، حضر عدد من علماء المعهد، على رأسهم الشيخ محمد أبو طبل وكيل المعهد، وقد رحب الأستاذ بهم ترحيبا خاصا، وقال لهم: أنتم الجيش الرسمي للدفاع عن الإسلام، ونحن الجيش الاحتياطي من ورائكم، فقودوا الركب تجدونا من خلفكم.
كان الإمام حسن البنا في القاهرة، وكنت في طنطا، فلم يكن لقائي إياه ممكنا إلا أن أذهب إلى القاهرة، أو يأتي هو إلى طنطا.
وكم تمنيت أن أستمع إليه ـ ولو مرة واحدة ـ في حديث الثلاثاء، الذي يلقيه في المركز العام للإخوان، في معظم أيام السنة، ولكني لم أظفر بذلك، ولا مرة واحدة، حتى المرات التي كنا نسافر فيها مجانا ـ نحن طلاب المعهد الديني ـ لم نصادف فيها حديث ثلاثاء، إما لأن الدرس كان متوقفا في تلك الفترة لأسباب ما، أو لأن اليوم لم يكن يوم ثلاثاء. ولا يمكننا البقاء في القاهرة إلى الثلاثاء المقبل، ونحن غرباء.
فلم يبق لي سبيل إلى لقاء الشيخ والاستمتاع بحديثه وتوجيهه وفكره إلا بحضوره هو إلى طنطا، أو بعض المدن الأخرى القريبة.
ومن المرات التي حضرها إلى طنطا، وألقى فيها أكثر من حديث، منها حديث مع المعلمين، وحديث مع الطلاب، وقد أوصانا في هذا اللقاء بوصايا ثلاث: الاجتهاد في العلم، والاستقامة في الدين، والمحبة بيننا.
ومن المرات التي زار فيها طنطا، حين اشتعال قضية فلسطين، والتنادي بالجهاد، وتخاذل الحكومات العربية، وقال: ليتهم يمدون أهل فلسطين بالمال والسلاح والمتطوعين، ويكفون أيديهم عنهم.
وفي هذه الزيارة ألقيت قصيدة بين يديه في مدحه، وما مدحت أحدا من الأحياء غيره، وقد وقعت منه موقع الرضا والاستحسان، وأحسبه قال: إنه لشاعر فحل، أو شاعر مطبوع، لا أذكر تماما. وقد أخذ القصيدة مني سكرتيره الأستاذ "سعد الدين الوليلي"، الذي كان يرافقه باستمرار غالبا. ولم تكن عندي منها نسخة أخرى، ولكني كنت أحفظ أكثرها، وحين أراد الأخ الحبيب "حسني أدهم جرار" جمع ما تيسر من شعري، أمليت ما أحفظه عليه منها، ونشرت بعنوان: "يا مرشد قاد بالإسلام إخوانا" في ديواني "نفحات ولفحات".
وأذكر من تعليقاته على بعض الأبيات التي قلتها:
به السنون، فهدت منه جدرانا
أردتَ تجديد صرح الدين إذ عبثت
ومـا هـي أسـه تبنيه بنيانا
فـما وهنت منه أحـجـار ترممه
وترفع الصرح بالأخلاق مزدانا
ترسي الأساس على التوحيد في ثقة
تطل من فـوقها كالبدر جذلانا
حتى بلغـت الأعالي مصلحا بطلا
صبوا عليك الأذى بغيا وعدوانا
وثلـة الهدم فـي السفلى مواقفهم
خـانت أمانتها يا بئس من خانا
ترميك بالإفــك أقـلام وألسنة
يصيبه أو يصيب الطـين أردانا
كــذلك لا بد للبناء مـن حجر
قال: يا رب سلم.
لكن جعلت جزاء السوء إحسانا
آذوك ظلما، فلم تجز الأذى بأذى
قـوم، فيرميهمو بالتمر ألـوانا
فكنت كالنخل يُرمى بالحجارة من
وأنت أوسعتهم صفحا وغـفرانا
قـد أوسعـوك أكـاذيبا ملفقة
كـانت خـلائقه روحا وريحانا
ومـن تكـن برسول الله أسوته
إلى كفر المصيلحة
ومن البلاد التي ذهبنا إليها وراء حسن البنا: كفر المصيلحة، بجوار مدينة شبين الكوم، ذهبت في فرقة الجوالة، بلبس الجوالة، وتحدث الأستاذ في ذلك الحفل الكبير ـ على عادته ـ حديثا جامعا استشهد فيه بالشعر كثيرا.
وبتنا هناك، وكانت الليلة ليلة جمعة، ففي اليوم التالي خطب الأستاذ خطبة الجمعة في (المسجد العباسي) وتحدث فيها عن هدفين أساسيين يجب أن تنصب جهود العاملين عليهما، وهما: الفكرة الإسلامية، والأرض الإسلامية، ولا بد أن يكون أكبر همنا: تحقيق الفكرة الإسلامية، وتحرير الأرض الإسلامية. وعدنا بعدها إلى طنطا.
إلى كفر الزيات
وفي إحدى المرات بعد زيارته إلى طنطا، كانت رحلته إلى مدينة (كفر الزيات) من مراكز الغربية، وقد خطب فيها الجمعة، وترك الحديث بعد الجمعة للشاب الداعية المتألق "محمد فتحي عثمان"، الذي كان يصحبه في هذه الرحلة، والذي كانت كلمته موضع القبول والرضا من الحاضرين.
وكان الأستاذ البنا يصطحب بعض هؤلاء الشباب النابهين ليدربهم من ناحية، وليبرزهم للناس من ناحية أخرى. وكان فتحي عثمان صاحب لسان وقلم، فهو خطيب مفوه، وكاتب بارع. كما أنه مترجم من الطراز الأول، فقد بعثه الأستاذ المرشد العام يوما مع السيد "عليم الله الصديقي" وهو داعية باكستاني يتكلم بالإنجليزية ولا يحسن العربية، فكان الذي يترجم له فتحي عثمان الذي أسر الحضور بحسن ترجمته، وحلاوة بيانه، الذي يرتجله.
إلى دسوق
ومن المرات التي سافرنا فيها لنحظى بالسماع للأستاذ البنا: سفرنا إلى مدينة (دسوق)، ونظرا لثقل تكاليف الرحلة علينا، فقد قررنا أن نسافر بقطار الدلتا لرخصه، وإن كان بطيئا، وركبنا الدلتا، أنا والعسال والدمرداش، ووصلنا إلى دسوق، وكان بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي، وكان مع الأستاذ زوج ابنته الداعية المحبوب المعروف الأستاذ سعيد رمضان، وقد ألقى كلمة موفقة قبل كلمة الأستاذ، كما تكلم الدكتور القاضي رئيس الإخوان في دسوق. ثم تكلم الأستاذ فأفاض وأبدع، كما هو المعتاد.
وبتنا في دسوق ضيوفا على الإخوان، ثم عدنا في اليوم التالي إلى طنطا.
ليلة ويوم مع المرشد البنا في المحلة
ومن أهم المرات التي لقيت فيها الأستاذ المرشد حسن البنا: مرة زيارته للمحلة الكبرى، قادما من زفتى.
وقد أقيم له سرادق كبير، دعي إليه جم غفير من المحلة ومما حولها من البلدان. وقد تحدث بعض الإخوة، ثم كان حديث الأستاذ في الختام.
وفي أثناء حديث الأستاذ حدث هرج ومرج، استطاع الأستاذ معه أن يسيطر على الموقف بسرعة، ويمتلك قلوب الحاضرين.
ذلك أن جماعة من الحزبيين بالمحلة أرادوا أن يفسدوا حفل الإخوان، بافتعال معركة مع الإخوان، وبمجرد حدوث ضجة سينفرط العقد، ويختل النظام، ويهيج الناس، فينفض الحفل لا محالة.
هكذا خطط المخططون، وكاد الكائدون، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، فقد تجمعوا يحملون عصيهم وهراواتهم، واقتربوا من الحفل وهم يهتفون هتافات معادية. وكانت الخطة أن يصلوا إلى السرادق، وهم يرددون هتافاتهم متحدِّين للإخوان، فيرد عليهم الإخوان بهتافات ضد هتافاتهم ويصطدم الفريقان، وبمجرد أن يحدث الاحتكاك، سيحدث الاختلال.
وقد كادت الخطة تنجح لولا موقف الأستاذ البنا، الذي أحس بأن شيئا بالخارج يحدث، فقال للحاضرين: أيها الإخوة، الزموا أماكنكم، فوالله ما نريد بأحد سوءا، ولكن نريد لهذه الأمة أن تنهض من كبوتها، وأن تتوحد من فرقتها، وأن تعتصم بحبل الله جميعا ولا تتفرق. وارتفع صوت الأستاذ، وهو يقول بلهجة ثائرة لم أره ثار مثلها من قبل: إننا أقوياء بالله فلن نضعف أبدا، أعزاء بالله فلن نذل أبدا، أغنياء بالله فلن نفتقر أبدا. إننا نريد أن نؤدب الأمة بأدب جديد هو أدب الإسلام، وأن نربيها على خلق الإسلام، وأن نقودها بمنهج الإسلام، لتسير خلف أعظم قائد، وأشرف قائد، محمد عليه الصلاة والسلام.
هذه الكلمات الثائرة، التي انطلقت من فم حسن البنا كأنها القنابل في دويها، كانت بردا وسلاما على سامعيها، شدتهم إلى الرجل شدا، وأسرتهم أسرا، وبقي كل واحد في موضعه لم يتحرك يمنة ولا يسرة.
في هذه الحالة كان جوالة الإخوان قد أنهوا تلك الحركة المشاغبة، وفرّقوا جمعهم، وأمسكوا ببعضهم، وولى الآخرون هاربين.
وهنا عاد البنا يقول: كنا نتحدث عن كذا وكذا، كأن شيئا لم يكن، وانتهى الحفل على خير حال.
وذهب الأستاذ بعد ذلك إلى دار الإخوان ليلتقي بنواب الشعب، ثم بالعمال، ثم بالطلاب، وظل في اجتماعات إلى أن بقي على الفجر حوالي ساعة، فقال: أستأذنكم لأستريح هذه الساعة، ودخل حجرة ليستريح، وبعد ساعة، وجدناه خارجا، فلا أدري هل نام هذه الساعة أو لم ينم؟ الذين عايشوه قالوا: إنه إذا أراد أن ينام نام، وكان يقول: إذا أحب الله عبدا سخر له النوم!
وجاء الفجر فصلى بنا، وقرأ سورة (ق) في الركعتين.
وبعد ذلك أخلدنا نحن إلى النوم، ولا ندري ماذا فعل الشيخ بعد ذلك.
وعندما استيقظنا في الضحى، علمنا أن الشيخ مدعو إلى قرية (محلة أبو علي) بجوار المحلة، لتناول الغداء فيها، ثم إلقاء محاضرة في أحد مساجدها.
ومن هنا سافرت إلى محلة أبو علي لألتقي بأصدقائي فيها، ولننتظر الشيخ هناك، وقد صلينا العصر في المسجد العباسي مع الأستاذ المرشد، وألقى محاضرة بعد العصر، نوّه في مقدمتها بعلماء البلدة ودعاتها، مثل الشيخ أحمد القط.
وبعد انتهاء المحاضرة ودّع الشيخ إخوانه ومضيفيه في محلة أبو علي، ليولي شطره نحو مدينة (بلقاس) وهي آخر محطة في هذه الرحلة الدعوية، ليعود من جديد إلى القاهرة، ليستعد لرحلة أخرى، فهكذا هو أبدا، حل وارتحال، وحركة وانتقال، وقد سمعته مرة يقول: نحن كالعرب أصحاب الخيام:
لعذيب يوما، ويوما بالخليصاء
يوما بحزوى، ويوما بالعقيق وبا
صحافة (الإخوان المسلمون) .. إعلام بلا إمكانيات مادية
كانت الوسائل الإعلامية للإخوان محدودة؛ لأن هذه الوسائل تحتاج إلى أموال، والإخوان معظمهم فقراء، لهذا كانت وسيلتهم الإعلامية الوحيدة هي المجلة الأسبوعية (الإخوان المسلمون) التي يرأس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي، ويحرر مادتها عدد من كتاب الإخوان ودعاتهم متطوعين، لا يلتمسون أجرا إلا من الله تعالى.
وكانت هذه المجلة تقوم بدور طيب في توعية الإخوان وتثقيفهم. وعن طريق هذه المجلة ومقالاتها تعرفت على عدد من دعاة الإخوان، الذين صار لهم شأن فيما بعد، أولهم الشيخ محمد الغزالي، الذي سماه بعضهم (أديب الدعوة الإسلامية) والذي كانت مقالاته قطعا من الأدب الإسلامي النابض بالحياة، الذي يشف ويصفو كأنه البلور، ويتوقد غيرة وثورة كأنه التنور. ولقد انعقدت بيني وبينه مودة عميقة، وإن لم أره.
والعجيب أني لم أكن أحسب محمد الغزالي من مشايخ الأزهر، فقد قرأت لعلماء الأزهر في مجلة (الإسلام) وغيرها، فكانت موضوعاتهم غير موضوعاته، وأسلوبهم غير أسلوبه، وروحهم غير روحه. ولم أعرف أنه أزهري حتى وقع مرة على إحدى مقالاته: محمد الغزالي الواعظ. وحسبت أن كلمة (الواعظ) هذه لقبا لعائلته، فقالوا لي: إنه شيخ أزهري معمم معروف.
وثاني هؤلاء الدعاة الذين عرفتهم عن طريق المجلة: الأستاذ عبد العزيز كامل، الذي كان يكتب تحت عنوان (في صميم الدعوة) مقالات توجيهية تربوية، تهدف إلى تصحيح مفاهيم الدعوة عند الإخوان، ودفعهم إلى السلوك القويم، والبذل من أجل الدعوة والتآخي عليها. وكان له نفس خاص في مقالاته، لا يكاد يوجد عند غيره.
وكان الأستاذ البنا أحيانا ما يكتب افتتاحيات هذه المجلة بمقالات دعوية حية بأسلوبه السهل الممتنع، فتنير العقول، وتثير العواطف، وتدفع الهمم إلى العمل.
وغالبا ما كان يكتبها الأستاذ صالح عشماوي بأسلوبه الصحفي السلس، معلقا على أحداث الساعة في الساحة الإسلامية.
وبعد اشتعال القضية الوطنية، قضية الجلاء ووحدة وادي النيل، والقضية العربية وعلى رأسها قضية فلسطين التي يزداد كل يوم إحكام فتل الحبل حول عنقها من الصهيونية العالمية، المؤيدة بالاستعمار الغربي بشقيه الرأسمالي والشيوعي، والقضية الإسلامية في أرجاء الوطن الإسلامي من المحيط إلى المحيط، الذي هب من رقدته ينشد التحرر من نير الاحتلال الأجنبي.. بعد اشتعال القضايا كلها، وبروز الإخوان قوة إيجابية فاعلة على هذه الساحات، كان لا بد لهم من منبر إعلامي يومي، يجلي مواقفهم، ويعبر عن وجهة نظرهم، ويدافع عنها، فكانت صحيفة (الإخوان المسلمون) اليومية التي ظهر أول عدد منها في ...
وكتب الأستاذ البنا افتتاحيتها (مطلع الفجر) أعلن فيها عن فلسفة الجريدة وسياستها.
كما كان الأستاذ يلقى القراء فيها صباح كل جمعة بحديث الجمعة، وهو حديث نوراني، يحمل نفحة روحية، تخاطب القلوب، وتزكي النفوس، وتسعى إلى الرقي بالإنسان من دنيا الطين والحمأ المسنون إلى عالم "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر: 29)
كما كان يلقاهم، كلما جد الجد، وحزب الأمر، واقتضى سير الأحداث أن يصدر بيانا، أو يكتب شيئا يوضح الحقائق، ويزيح الشبهات.
وقد قام برئاسة تحريرها الكاتب الإسلامي المعرفة، العالم المحقق السيد "محب الدين الخطيب"، صاحب مجلة "الفتح" ومجلة "الزهراء" الإسلاميتين الرائدتين في عالم الصحافة الإسلامية.
وقد فرحنا نحن الإخوان بهذه الجريدة، وسعينا إلى شرائها، برغم أن معظمنا لا يملك قرش الصاغ الذي هو ثمنها، فيما أذكر.
وكانت هذه الجريدة عبئا على الجماعة، فمن المعلوم أن مثل هذه الصحف اليومية لا تستطيع أن تستمر وتصمد إلا بأمرين:
أولهما: الإعلانات المكثفة، التي تغطي نفقاتها الكثيرة.
وثانيهما: الدعم الخارجي من جهة من الجهات.
أما الأول، فقد كان محدودا جدا، لأن صحيفة الإخوان لا يمكن أن تعلن عن شيء محرم، أو يشتمل على محرم، أو حتى مختلف فيه كالسجائر ونحوها. وكثير من أصحاب الإعلانات يذهبون إلى الصحف الكبرى كالأهرام.
وأما الثاني، فلم تكن هناك أي جهة تدعم الإخوان، وكيف يتصور ذلك والحكومة تحاربها، والاستعمار يحاربها، وكل القوى الخائفة من الإسلام والحاقدة عليه تحاربها؟
ولو تقدمت جهة من هذه الجهات للإخوان بالمساعدة لرفضتها يقينا.
ولهذا حين صادرت الحكومة هذه الجريدة بعد زمن، حزن الإخوان ظاهرا، وحمدوا الله باطنا، فقد انزاح من فوق ظهورهم حمل ثقيل.
مجلة الشهاب
في سنة 1947م فكّر الأستاذ البنا في إصدار مجلة علمية شهرية، تخلف مجلة (المنار) الشهيرة التي كان يصدرها السيد رشيد رضا، وتولى إصدارها من بعده الأستاذ البنا، وأخرج منها ستة أعداد ثم توقفت بقرار من الحكومة المصرية بسبب الحرب.
يبدو أن الإمام البنا عليه رحمة الله، شعر بأن الإخوان في حاجة إلى (ثقافة إسلامية معمقة) تملأ الفراغ الثقافي لدى الإخوان، الذين اكتفى كثير منهم بما قرأه في رسائل الأستاذ، وفي الصحيفة اليومية، والمجلة الأسبوعية.
وبين الأستاذ في مقدمة المجلة أن أول ما نعنى به من القضايا:
1- محاولة عرض الأحكام الإسلامية عرضا مبسطا شاملا، يوافق أسلوب العصر.
2- ومحاولة تقديم الإسلام كنظام اجتماعي كامل (في مقابلة الرأسمالية والشيوعية) لا مجرد دين نظري لاهوتي.
3- والدفاع عن أحقية عقيدة (الإيمان بالله) (في مواجهة الفلسفات المادية).
4- والانتصار للروح الإنساني (في مقابلة من يعتقد أن الإنسان مجرد حيوان متطور).
وبهذا تسهم المجلة في توسيع وتعميق ثقافة الإخوان، ومن يتأثر بهم من المسلمين.
وأعتقد أن الأستاذ كان صائب الفكرة في ذلك، فقد طغى الجانب التكويني العملي والسلوكي لدى الإخوان على الجانب العلمي والثقافي. أقصد الثقافة العميقة والمنهجية.
ومن قرأ العدد الخاص الذي أصدرته جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية، بمناسبة مرور عشرين عاما على تأسيس دعوة الإخوان، ولاحظ قائمة الإنتاج الثقافي والعلمي لدى الجماعة، وجدها متواضعة جدا، بالنظر إلى جماعة واسعة الانتشار كالإخوان، عدها المؤرخون (كبرى الحركات الإسلامية الحديثة) كما قال الدكتور "إسحاق موسى الحسيني".
ولم يكد يوجد بعد رسائل الأستاذ، وهي رسائل دعوية صغيرة الحجم، معظمها كتب بوصفها مقالات توجيهية، إلا كتب علمية محدودة، مثل: "تذكرة الدعاة" للبهي الخولي، و"الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية"، و"الإسلام والمناهج الاشتراكية" للشيخ محمد الغزالي، وجل الكتابات الأخرى خفيفة الوزن، مثل كتابات الأساتذة "أحمد أنس الحجاجي"، و"محمد لبيب البوهي"، و"صابر عبده إبراهيم" وأمثالهم، على ما لهم من فضل، رحمهم الله وجزاهم خيرا.
من أجل هذا صدرت مجلة الشهاب على أساس أن تكون شهرية، وكان الأستاذ البنا صاحب الامتياز ورئيس التحرير المسؤول.
وكلّف تلميذه وزوج ابنته الداعية المعروف الأستاذ سعيد رمضان بإدراة تحريرها.
وقد صدر العدد الأول منها حافلا بالمقالات العلمية والفكرية في شتى أبواب الثقافة الإسلامية المعروفة، من العقيدة والتفسير والحديث وعلومه، والفقه والتشريع، وأصول الإسلام كنظام اجتماعي.
وقد حرر الأستاذ البنا بقلمه معظم الأبواب، فكتب في العقيدة بادئا بالعقيدة في (الله) والأدلة على وجوده.
وكتب في التفسير بادئا بمقدمة فيه، ثم بدأ بفاتحة الكتاب ثم البقرة، بعد أن كان قد بدا له أن يبدأ من حيث انتهى الشيخ رشيد رحمه الله.
وكتب في علوم الحديث في (الرواية والإسناد). وترك لوالده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا صاحب ترتيب المسند (الفتح الرباني) أن يأتي بمختارات من متون الحديث في كل عدد، مبتدئا بأحاديث فضل الجهاد في سبيل الله.
وكتب في (أصول الإسلام كنظام اجتماعي) مفتتحا بـ (السلام في الإسلام) ومشروعية الجهاد فيه.
كما كتب في التاريخ في فتح بيت المقدس (على أسوار إيلياء).
وترك لإخوانه في مصر والبلاد العربية أن يكتبوا في الموضوعات الأخرى، فكان القاضي الفاضل الفقيه الأستاذ "عبد القادر عودة" يكتب في (الفقه الجنائي) وأسرار التشريع فيه. وقد أصدر فيه بعد ذلك موسوعته الشهيرة (التشريع الجنائي الإسلامي) في مجلدين.
أما مصادر التشريع فقد كان يكتب فيها المستشار "محمد الشافعي اللبان".
وقد ابتكرت المجلة بابا نافعا، سمته (سجل التعارف الإسلامي) تذكر في كل عدد منها جملة أسماء لأعلام في العلم والدعوة والفكر مع صورة شمسية لكل واحد منهم، وتحت الصورة تعريف موجز مركز عن هذه الشخصية.
من هؤلاء الأعلام الأساتذة: "حسن الهضيبي"، و"محمد أبو زهرة"، و"علي الخفيف"، و"مصطفى السباعي"، و"مصطفى الزرقا"، و"عباس العقاد"، و"محب الدين الخطيب"، و"عبد القادر عودة"، والأستاذ "معروف الدواليبي"، و"محمد المبارك"، وغيرهم.
وقد حيا عدد من الشعراء المجلة بقصائد حية، منهم الشيخ "الباقوري"، والأستاذ "محمد الأبشيهي"، والأستاذ "أبو النجا"، وكانت أهم هذه القصائد قصيدة الشاعر الكبير "محمود غنيم"، والتي يقول فيها:
أرسل وميضك يا شهاب
واكشف عن الحق الحجابْ
رنت المحاجر واشرأبت
نـحـو مـطلعك الرقـاب
إلى أن قال:
حـييت فـيك عصـابة
لبسـوا على الطهـر الثياب
ومضوا على سنن الهدى
والدين في شـرخ الشـباب
وفي الكـريهة أُسْـدُ غـاب
وفي الكـريهة أُسْـدُ غـاب
ليـس الـدين عـندهـم
محض السـجود والاقتراب
وتبتّل الـرهـبـان فـي
ربـع مـن الـدنيا خـراب
الدين زهـد واحـتسـاب
وهـو ســعي واكتسـاب
الـدين أجـنحـة محلقـة
عـلى مـتن السـحــاب
الدين كل الدين تـحـريـر
الحـمى مـن الاغـتصـاب
صدر من هذه المجلة المباركة خمسة أعداد، ولم تكن ملتزمة بمواعيدها المقررة للصدور، لانشغال الأستاذ البنا؛ ولأن الأمور بدأت تتطور تطورا خطيرا، ولا سيما في قضية فلسطين، وبدأت الحكومة تشدد الخناق على الإخوان، وترهقهم عسرا، تمهيدا للكيد الكبير الذي يكاد لهم. والله من ورائهم محيط.
[1] وقد نشرته دار التوزيع والنشر والإسلامية بالقاهرة، بنفس عنوان الباب (مع العارفين) دون ذكر لاسم المؤلف، لعدم معرفتهم بمن كتب المقالات، وقد نبهتهم على أن الأستاذ البهي كتب عددا من هذه المقالات، وكتب المجلة بقيتها، ووعدوا بتدارك ذلك في الطبعات القادمة.