*18 الحلقة السابعة عشرة.. عرفت حسن الهضيبي

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (17) عرفت حسن الهضيبي

  • الإفراج عن الأستاذ الهضيبي


وفاة الأستاذ الهضيبي


  • مقارنة بين البنا والهضيبي


  • لقاءاتي مع الهضيبي


  • رأيي في الهضيبي


  • بين الهضيبي والغزالي


  • أداء فريضة الحج


  • مشكلة في مطار الظهران


  • جدال فقهي في الحج


  • نهاية السنة الدراسية 73، 74م


بِتْنا نحنّ إلى قطر

الإفراج عن الأستاذ الهضيبي

أنور السادات

أفرج السادات عن المعتقلين السياسيين، وكانوا -كلهم أو جلهم- من الإخوان، وأغلق أبواب المعتقلات، وحُسب ذلك في سجل حسناته ومنجزاته بلا شك.

لكنه لم يقف هذا الموقف من المسجونين الذين حكمت عليهم محاكم الشعب بمُدد، منها ما طال ومنها ما قصر، منها ما كان حكمه عشر سنوات، أو خمسة عشر عاما، وقد أنهى المدة وخرج. ومنها ما كان محكوما عليه بعشرين سنة، أو خمس وعشرين سنة "أشغال شاقة مؤبدة". وكان المفروض أن يفرج عن هؤلاء في مناسبات كثيرة؛ لأنهم قضوا نصف المدة أو ثلاثة أرباع المدة، كما يفرج عن المجرمين العاديين، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل ربما أنهى بعضهم مدة العقوبة، وخرج من السجن إلى المعتقل.

هؤلاء المحكوم عليهم تركهم السادات في سجونهم في الواحات أو في غيرها، رغم أنه يعلم: من هو القاضي الذي حكم عليهم، وما قيمة حكمه في ميزان العدالة. وهو جمال سالم.

فقد قال عنه السادات: كان جمال سالم -رحمه الله- حاد المزاج، عصبيا إلى حد غير طبيعي، غير متزن في جميع نواحي شخصيته، فلما وجد الناس منصرفة عنه بدأ يثير المعارك هنا وهناك، وفي كل مجال.

محمد نجيب

وقد اندفع مرة في مجلس الثورة ضد محمد نجيب، وأعلن أنه سيقوم بقتله، وتخليص المجلس منه، وعلى المجلس أن يحاكمه بقتله.

وكان من المنتظر من الرئيس السادات وقد مكن الله له في الأرض أن يرد الاعتبار إلى هؤلاء المسجونين الذين حكمت عليهم محكمة يرأسها جمال سالم! لكن لم يحدث هذا الإفراج إلا بعد حرب العاشر من رمضان 1393هـ= 6-10-1973م، وإن كانت معاملتهم قد تحسنت كثيرا في عصر السادات عن العصر السابق الكئيب الذي اشتهر بظلمه وظلامه. ويبدو أن السادات لم ينس أنه كان عضو اليمين في محكمة جمال سالم!

ولكن مما يذكر للسادات أنه لم يمهل الأستاذ الهضيبي حتى يفرج عنه مع سائر المسجونين في قضايا الإخوان.

ففي شهر يوليو من سنة 1971 صدر قرار الإفراج عن الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين الذي أفرج عنه بعفو صحي. واستقبل الإخوان ذلك بالفرح والاستبشار، وزاره الكثيرون مهنئين ومجددين للبيعة والعمل لتبصير الأمة، وإحياء الدعوة، وخدمة الإسلام.

وفاة الأستاذ الهضيبي

المستشار حسن الهضيبي

وفي موسم الحج "سنة 1392هـ = 1972م" خرج الأستاذ الهضيبي لأداء شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام، لينضم إلى الآتين من كل فج عميق "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ" [الحج: 28].

وكان من المنافع المشهودة في ذلك الموسم أن لقيه الإخوان الذين قدموا من أقطار شتى من أنحاء العالم، وسرّ الأستاذ بهم، وسروا به، وانسكبت دموع الأعين؛ فرحا بلقاء الإخوة بعضهم لبعض، ولقاء القائد للجنود، في البلد الحرام، والشهر الحرام.

ولم يقدر لي أن أذهب إلى الحج في هذا الموسم؛ إذ لم يكن لديّ علم بأن الأستاذ على نية السفر إلى الحج، وهكذا قدر الله أن لا أرى المرشد في الحج، ولا ما بعد الحج حتى وافاه الأجل بعد رجوعه في شهر أكتوبر. وأوصى بأن يُدفَن في "مقابر الصدقة" وهو مَن هو مكانة ومنزلة في المجتمع عامة، وفي الإخوان خاصة.

مقارنة بين البنا والهضيبي

حسن البنا

تحدثت عن الأستاذ حسن الهضيبي بمناسبة اختياره مرشدا عاما للإخوان، بعد وفاة مرشدهم الأول حسن البنا، وذكرت كيف عرَّف الأستاذ البنا إخوانه بالهضيبي، حين قدمه في "سجل التعارف الإسلامي" ضمن الشخصيات الإسلامية التي يعرِّف بها القراء في كل عدد من "مجلة الشهاب" التي كان الإمام البنا يصدرها في سنة 1948م، وصدر منها خمسة أعداد.

وكان كبار الإخوان المعروفون قد تنازعوا فيما بينهم: أيهم يقود الجماعة، ولم يتفقوا على واحد منهم؛ فكان اختيار الأستاذ الهضيبي هو الذي حسم النزاع، ووحد الوجهة، ووجدت السفينة ربانا يقودها باسم الله مجراها ومرساها، وإن بقي في بعض النفوس ما بقي، مما لا يسلم منه البشر.

وكانت شخصية الأستاذ الهضيبي مختلفة تمام الاختلاف عن شخصية الأستاذ البنا، التي تتلمذ عليها الإخوان، وعايشوها، وأخذوا عنها طوال عشرين عاما، عاشها الإمام الشهيد مرشدا ومربيا وموجها للجماعة.

كانت شخصية البنا شخصية المعلم الداعية الذي يجيد الخطبة إذا خطب، والمحاضرة إذا حاضر، والمقالة إذا كتب، والتأليف إذا ألَّف، والحديث إذا حدَّث. وكان يأسر سامعه بحسن حديثه، وحلو نكاته. وهو الذي شد هذه الجموع إلى الله، وجنَّدهم لخدمة الإسلام.

وكانت شخصية الهضيبي شخصية القاضي الذي يستمع كثيرا، ويتكلم قليلا، فإذا تكلم كان كلامه حكما صارما، يجب على الآخرين الإذعان له، وينفذه بكل دقة، ولم تكن لديه مؤهلات الخطابة والمحاضرة والتصنيف.

كان البنا ذا ثقافة واسعة، تكونت لديه من الدراسة في دار العلوم، ومن قراءاته الخاصة الطويلة والمتنوعة؛ فهو عالم متبحر في علوم اللغة العربية وآدابها، وفي العلوم الشرعية: العقيدة والفقه والأصول والتفسير والحديث والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وله إلمام جيد بالعلوم الاجتماعية.

وكان الأستاذ الهضيبي حقوقيا متميزا، متفوقا في علم القانون وفروعه، قارئا جيدا في علم الفقه، ولا سيما في "المحلى" لابن حزم.

كان حسن البنا رجلا "شعبيا" قريبا من الناس، يلقاه العامل والفلاح وابن القرية الفقير، فلا يشعر بأنه يكلم إنسانا من طبقة فوق طبقته، بل يندمج معه، ويحس بأنه من البنا، وأن البنا منه.

وكان حسن الهضيبي -بحكم منصبه ودرجته الإدارية والمالية ورتبة "البكوية" التي يحملها- رجلا "أرستقراطيا" كما يقولون، لا تكلفا منه، ولا تعاليا على أحد، لكن هكذا شاءت له الأقدار أن يكون!

كان البنا صاحب قلب حي، وعاطفة جياشة، وكان إذا لقي الإخوان كل أسبوع في "حديث الثلاثاء" يبدأ حديثه بما يسميه "عاطفة الثلاثاء" يوقد فيها جذوة الإيمان والربانية في الصدور، وشعلة الحب والأخوة في القلوب. فإن الحب في الله من أوثق عرى الإيمان.

وكان الهضيبي صاحب عقل يقظ، يزن الأمور والأشخاص والأحداث والمواقف بميزان دقيق، ولم يكن للعواطف عنده كبير اهتمام بحكم تكوينه ومسار حياته.

كان أقرب الناس إلى حسن البنا في الجماعة مكوّنين من طبقات شتى، من علية القوم، ومن أواسط القوم، ومن فقراء القوم، كما يظهر في تكوين مكتب الإرشاد العام الذي يقود الجماعة.

وكان أقرب الناس إلى حسن الهضيبي من كانوا في مثل طبقته، من العِلْية غالبا، وإن لم يبعد الآخرين أو يطردهم، ولكن كما قيل: شبيه الشيء ينجذب إليه، وإن الطيور على أشكالها تقع. هذه سُنة ماضية.

واختلاف ما بين الشخصيتين للمرشدين الأول والثاني كان له أثر -على المدى الطويل- في أنفس بعض الإخوان. وربما كوَّن بعضهم لنفسه فكرة غير صحيحة عن المرشد الثاني، وأنه رجل متكبر أو متعال على غيره.

لقاءاتي مع الهضيبي

وأنا لم أختلط بالأستاذ الهضيبي كثيرا؛ فقد كنت طالبا في كلية أصول الدين وفي تخصص التدريس أيام ولايته، لكني لقيته عدة مرات من قريب، ووجدته رجلا سهلا سمحا، قريبا، على غير ما يُظَن به.

أول ما لقيته كان في مدينة المحلة الكبرى، وقد أقام الإخوان له حفلا كبيرا، كنت من المتحدثين فيه، وكنت شابا متحمسا؛ فكانت كلمتي معبرة عني، وعن شخصيتي في ذلك الوقت.

وعندما تحدث هو بعد خطباء الحفل قال: أنا لا أحسن الخطب الحماسية مثل الشيخ القرضاوي، ولكني أنصحكم بكذا وكذا أو بكذا. فكانت كلماته أشبه بتعليمات محددة.

ودعاه رجل المحلة الأول -رجل البر والخير- عبد الحي باشا خليل في بيته، فذهبنا معه، وكان موضع التجلة والاحترام من هؤلاء الأعيان.

وكذلك ذهبنا معه في اليوم التالي لزيارة مصنع المحلة، فكان الجميع يحترمونه ويقدرونه.

سيد قطب

وزارنا في المحلة مرة أخرى، ومعه سيد قطب، وعبد الحكيم عابدين، فتعرفت به أكثر.

وذهبت معه مرتين قبل الثورة إلى مدينتين من مدن مصر: مرة إلى مدينة كفر الشيخ، ومرة إلى مدينة السويس. وكان معه في كلتا الزيارتين الشيخ أحمد حسن الباقوري؛ فقد كان قريبا منه. وكان الإخوة في قسم نشر الدعوة يريدون أن أحضر مع المرشد والباقوري لأكملهما؛ فكلاهما يحدث الخاصة، ولا يخاطب الجماهير. وكأن الأستاذ المرشد استراح إلى ذلك، فكان يرحب بوجودي.

وفي عودتنا من رحلة السويس كنت رفيقهما في السيارة التي حملتهما، وقد اقتربت أكثر من الأستاذ الهضيبي، واستمعت إلى بعض نكاته، ومنها نكات يعدها بعض الناس خارجة! ويبدو أن الأستاذ الهضيبي -من خلال هاتين المرتين- كوَّن عني فكرة حسنة.

الشيخ أحمد حسن الباقوري

ففي أوائل الثورة في شهر أغسطس أُبلغت بأن الأستاذ المرشد يريدني أن أذهب لزيارة الإخوة في سوريا والأردن، أنا والأخ محمد علي سليم من إخوان الشرقية. وقد تحدثت عن تفاصيل هذه الرحلة في الجزء الأول من هذه المذكرات. وبعد عودتي كتبت له تقريرا عن الرحلة، ولما لقيته في مناسبة بعدها قال لي: قد قرأت تقريرك عن رحلتك إلى بلاد الشام، واهتممت به، وخصوصا ما كتبته عن "حزب التحرير".

وعندما أنشأ عبد الناصر "هيئة التحرير" لتكون سنده الشعبي، بدلا من الإخوان، وبدأت تُحدث تحديا وصدامات في بعض البلدان، أرسلني الأستاذ المرشد لأجوب مدن الصعيد كلها من الفيوم إلى أسوان؛ لألقى الإخوان، وأحثهم على أن يتمسكوا بدعوتهم، ولا يذوبوا في أية جماعة أخرى، وألا يصطدموا بأحد يريد أن يجرهم إلى الصدام بوسيلة أو بأخرى.

وفعلا قمت بهذه الرحلة، وكانت من أخصب الرحلات، وأكثرها بركة.

وعندما اعتُقلنا في المرة الأولى في عهد الثورة في يناير 1954م، وأخذنا إلى العامرية، ثم نقلونا -أنا وخمسة من الإخوان- إلى السجن الحربي أنزلونا في سجن رقم 4، وكان فيه الأستاذ الهضيبي وكبار الإخوان، وكانوا يغلقون الزنازين في أول الأمر علينا، ثم فتحوها لنا. فكنا نصلي جماعة. وهنا أمرني الأستاذ أن أؤم الإخوان، وقد أطلت في بعض الصلوات الجهرية، فنصحني أن لا أطيل، مراعاة للكبير والمريض وذي الحاجة.

ثم نقل الأستاذ وكبار الإخوان إلى عنبر الإدارة، وكان هذا آخر عهدي به، حتى إني لم أحضر اللقاء الكبير الذي أقيم في المركز العام يوم خروج الإخوان من السجن الحربي، بعد أن اصطلحوا مع عبد الناصر؛ فقد كنت المعتقل الوحيد الذي تأخر الإفراج عنه يوما واحدا، كما حكيت في الجزء الثاني من هذه المذكرات.

حتى إني حين اعتقلت في المرة الثانية بعد حادث المنشية بقيت فترة في حجز مباحث المحلة الكبرى التي تولت التحقيق معي؛ فلم أصل إلى السجن الحربي إلا يوم خروج الأستاذ الهضيبي منه بعد أن صدر الحكم عليه وعلى ستة معه بالإعدام!

وقد تحدثت في الجزء الماضي عن الخلاف الذي حدث بين الأستاذ الهضيبي وجماعة من الإخوان القدامى، على رأسهم الأستاذ البهي الخولي، والمشايخ: الغزالي وعبد المعز عبد الستار وسيد سابق ومحمد جودة وآخرون، وأني كنت -أنا وأخي

د. أحمد العسال

العسال والدمرداش وآخرون- أقرب إلى صف المشايخ؛ لاعتبارات ذكرتها هناك. فلما وقعت الواقعة انضممنا إلى ركب الجماعة، وحوكمنا مع من حوكموا، وعُذبنا مع من عذبوا، ونرجو أن يكون ذلك في ذات الله تعالى، وأن لا نُحرم أجره عند الله.

رأيي في الهضيبي

لا يختلف اثنان من الإخوان حتى من المعارضين في أن الأستاذ الهضيبي مسلم عظيم، وأنه من الذين أخلصوا دينهم لله؛ فليس من المتاجرين بالدين ولا بالدعوة، ولا يريد من وراء عمله للإسلام جزاء ولا شكورا، وأنه رجل نظيف لا يماري أحد في نظافته، وأنه لم يسع إلى قيادة الإخوان، لكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وأنه لم يستفد لنفسه ولا لأسرته من وراء الدعوة شيئا ماديا قط، إلا ما أصابه من لأواء في سبيل الله، وأنه رجل صلب لا يداهن في دينه، ولا يجامل أحدا في أمر الدين، وهو يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم، وأنه أوذي في الله مع كبر سنه فما وهن ولا ضعف ولا استكان، ولا طأطأ رأسه لمخلوق، وأنه كان يعامل عبد الناصر ورجال الثورة بعزة واستعلاء، معاملة الند للند، والسيد للسيد، اعتزازا منه بأنه يمثل دعوة الإسلام.

ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي جعلت بعض الإخوان يقولون: إن موقف الأستاذ الهضيبي من رجال الثورة عامة، ومن عبد الناصر خاصة هي التي ولّدت هذه الجفوة بين الطرفين التي انتهت إلى خصومة، وانتهت إلى صراع بين الطرفين. ويقولون: لو كان حسن البنا في موقف حسن الهضيبي لكان له موقف آخر، ولاستطاع برفقه وتلطفه ولين طبعه أن يجذبهم إلى ساحته، وأن يأخذهم بالتي هي أحسن، وأن يهتدي بقول الله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159]، ولكنه نفر منهم ونفروا منه، وأغلظ عليهم وأغلظوا له، وساء ظنه بهم، فساءت ظنونهم بالجماعة.

هكذا رأيت بعض الإخوان يفكرون، وسمعتهم يتكلمون، فهل هذا المنطق مسلّم؟ ومن يدري ماذا كان سيفعل حسن البنا لو كان حيا، فهذا علمه عند الله، ولا يملك أحد أن يقوّل غيره في ذلك ما لم يقل.

على أن الذي يبدو لي من تسلسل الأحداث ومما أظهره عبد الناصر من أفكار وتوجهات أن الرجل لم يكن يريد لأحد -لا الإخوان ولا غيرهم- أن يشاركه في الحكم، ولو بالمشورة والتسديد. وقد أعلن في الأيام الأولى للثورة أنها مستقلة ولا وصاية لأحد عليها.. وقال بصراحة للإخوان: إنه يريد أن يضغط على زر فتتحرك مصر من الإسكندرية إلى أسوان، ويضغط على زر آخر، فتتوقف مصر من الإسكندرية إلى أسوان!

كان في إهاب (جلد) عبد الناصر "دكتاتور" يريد أن يستبد بالأمر، ولا يكون لأحد معه رأي ولا قول، إلا ما كان يسير في ركبه، ويدور في فلكه. ومثل هذا الطاغية المتجبر في الأرض لا يمكن أن ينسجم مع أي رجل ينصح له، أو يقول له كلمة حق، أو يأمره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، سواء كان حسن البنا أم حسن الهضيبي.

بين الهضيبي والغزالي

الشيخ محمد الغزالي

وربما تساءل بعض الإخوة هنا عن موقف الشيخ الغزالي وما كان من خصومة بينه وبين الأستاذ الهضيبي، اشتد لهيبها بعد فصل الشيخ من الجماعة، فأطلق لقلمه العنان، فقال ما قال.

وكان ذلك من آثار الفتنة التي بذر عبد الناصر بذورها بين الإخوان بعضهم وبعض. ومما هيج الشيخ أكثر، واستثار غضبه أن بعض المتحمسين من الإخوان تحداه، وهدده بالقتل إن تكلم أو كتب.

ومع هذا حين تبين له طغيان عبد الناصر، وسوء موقفه من الإسلام، ومن دعوة الإخوان، وسمع ما سمع عن التنكيل والتعذيب الذي تجرع مرارته إخوانه في السجون والمعتقلات، وعن صلابة الأستاذ الهضيبي وثباته في وجه الجبابرة، وأنه لم يحن لهم رأسا، ولم يوطئ لهم ظهرا.. غيَّر موقفه من المرشد الهضيبي ونوه بموقفه، وأشاد بإيمانه ورجولته. وحين أفرج عنه، سارع بالذهاب إلى منزله، ليهنئه ويصافحه ويعانقه بحرارة وإخلاص، وقد قابله المرشد بنفس الحرارة، وروح الأخوة التي كانت دائما إحدى السمات الأولى المميزة لعلاقات الإخوان بعضهم ببعض.

بعد أن كتب الغزالي ما كتب من مقالات -في فترة الغضب بعد فصله من الجماعة- رأى أن يطوي بعضها فلا ينشره في كتاب، ونشر بعضها ثم حذفه، بعد أن هدأت نفسه، واستجابت لنصح بعض إخوانه.

وأبقى بعض الأشياء -على ما فيها من آثار الحدة والغضب- للتاريخ، ومع هذا عقب في إحدى الحواشي عليها بقوله: "في هذه الصفحات مرارة تبلغ حد القسوة، وكان يجب ألا يتأدى الغضب بصاحبه إلى هذا المدى، بيد أن ذلك -للأسف- ما حدث. وقد عاد المؤلف إلى نفسه يحاسبها وتحاسبه في حديث أثبته آخر هذا الباب".

ثم عاد آخر الباب إلى الحديث عن الأستاذ الهضيبي -رحمه الله وأكرم مثواه- فقال: "إنه ما ادعى لنفسه العصمة، بل من حق الرجل أن أقول عنه: إنه لم يسع إلى قيادة الإخوان، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وإن من الظلم تحميله أخطاء هيئة كبيرة مليئة بشتى النزعات والأهواء.

ومن حقه أن يعرف الناس عنه أنه تحمل بصلابة وبأس كل ما نزل به، فلم يجزع ولم يتراجع، وبقي في شيخوخته المثقلة عميق الإيمان، واسع الأمل، حتى خرج من السجن.

الحق يقال، إن صبره الذي أعز الإيمان، رفعه في نفسي، وإن المآسي التي نزلت به وبأسرته لم تفقده صدق الحكم على الأمور، ولم تبعده عن منهج الجماعة الإسلامية منذ بدأ تاريخنا.. على حين خرج من السجن أناس لم تُبق المصائب لهم عقلا.

وقد ذهبت إليه بعد ذهاب محنته، وأصلحت ما بيني وبينه، ويغفر الله لنا أجمعين" أ.هـ.

وكان مما هز الشيخ الغزالي وقدره من مواقف للأستاذ الهضيبي أنه أوصى في مرض موته أن يدفن في مقابر الصدقة التي يدفن فيها الفقراء والغرباء! وهو مَن هو منزلة ومنصبا وجاها. فهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الرجل من الله بمكان أي مكان! ولم يكن من عبّاد المظاهر التي فتنت الكثيرين، ولا أزكيه على الله.

رحم الله حسن الهضيبي وغفر له، وأجره أجر المجتهدين على ما أخطأ فيه، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي الدعاة الصادقين الذين صبروا وصابروا ورابطوا، والذين أوذوا في أنفسهم وأهليهم وإخوانهم، "فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [آل عمران: 146- 148].

أداء فريضة الحج

وفي سنة 1393هـ (1973م) جاءتني دعوة من لجنة التوعية بالحج، وكانت قد تكونت عن طريق وزارة الحج والأوقاف، أو طريق الرئاسة العامة للإفتاء والبحوث والدعوة والإرشاد، لا أذكر.

المهم أنني استجبت للدعوة، وكنت لم أحج من سنة 1384هـ (1964م)، وكان الوقت مناسبا بالنسبة للجو؛ فقد كان في فصل الشتاء، وهو مما يغري الناس بالإقبال على الحج، لأن جو مكة دائما أقرب إلى الحر.

وقد كان معي وفد إعلامي مسافر من قطر، يمثل الإذاعة والتلفزيون. وكنا نسافر على ثلاث مراحل: من الدوحة إلى الظهران، وفيها نتمم إجراءات الجوازات، وندخل المملكة، ومن الظهران إلى الرياض، ثم من الرياض إلى جدة. فكانت الرحلة إلى جدة تستغرق حوالي يوم كامل، خصوصا أننا ننتقل في الظهران من مطار إلى آخر، أي من الطيران الخارجي أو الدولي إلى الطيران الداخلي، وهذا يقتضي أن نتسلم حقائبنا ونحملها إلى المطار الآخر.

مشكلة في مطار الظهران

وفي مطار الظهران حدثت مشكلة، فبعض الإخوة من وفد قطر الإعلامي كانوا فلسطينيين يحملون "وثائق سفر" قطرية، فتوقفوا معهم وقالوا: نريد جوازاتكم الأصلية، وقالوا لهم: ليس معنا جواز أصلي. قالوا: أنتم فلسطينيون، فلا بد أن معكم جوازا آخر.. وقال الإخوة: لا بد أن نتصل بالدوحة، ونبحث عن حل للمشكلة مع القوم.

وجاء الدور عليّ، فنظر المسئول عن الجوازات في الجواز الذي معي، وهو جواز قطري، وقال: أين جوازك الأصلي؟

قلت له: هذا جوازي الأصلي!

قال: ألست أنت الشيخ يوسف القرضاوي الذي نشاهده في التلفزيون ونترقب برنامجه بشغف؟

قلت: بلى، أنا هو.

قال: ألست مصريا؟

قلت: أنا الآن قطري.

قال: ولكنك مصري، ونريد جوازك الأصلي.

قلت: يا أخي، لقد اختلط عليك الأمر، الإخوة الذين أوقفتهم من الفلسطينيين يحملون "وثائق سفر" صالحة لسفرة واحدة أو لمدة سنة. أما أنا فأحمل "جواز سفر" كاملا. فلأكن مصريا أو أستراليا أو من أي جنس كان!! أنت تتعامل مع الأوراق. أمامك ورقة رسمية صادرة من قطر، ومن صاحب العظمة حاكم قطر. ودعك من أنك تعرفني أحمل جنسية أخرى من قبل. وهذا جواز زرت به بلاد العالم كلها، ولم يوقفني أحد كما أوقفتني أنت، لأنك تعرفني وتشاهدني في التلفزيون!

قال: وهل دخلت به المملكة من قبل؟

توقفت قليلا، ثم تذكرت، وقلت: نعم، دخلت به المملكة من قبل، ومن هذا المطار نفسه! وفعلا نظروا في الجواز فوجدوا فيه ختم دخول المملكة من الظهران. وقال الرجل: أنا آسف. أنا والله من المعجبين بك، والمتابعين لبرنامجك.

قلت له: متابعتك هذه ضرتني ولم تنفعني، وكادت تعطلني بلا مبرر، ولو كنت شخصا عاديا لمر بسلام.

وكانت الطائرة قد كادت تطير، وتدعني، ولكن الله سلَّم، وأدركتها في آخر لحظة، وانتقلت إلى الرياض، لننزل فيها فترة من الزمن، لنذهب منها إلى جدة، ومنها إلى بلد الله الحرام مكة المكرمة، لأداء العمرة، ثم التحلل منها متمتعا بالعمرة إلى الحج.

جدال فقهي في الحج

وقد انضممت إلى العلماء الذين دُعوا إلى ما دُعيت إليه، وكان منهم الشيخ محمد الراوي وقد قدم من الرياض، والشيخ محمد السيد الوكيل وقد قدم من المدينة، وبعض الإخوة من مشايخ السعودية وغيرهم. وكنا نقوم بإلقاء محاضرات لتوعية الحجيج، في خيم كبيرة، خصوصا في أيام منى.

وكان بيني وبين الإخوة من مشايخ السعودية جدل لا ينقطع حول بعض مسائل الحج؛ فأنا من دعاة التيسير عموما، وفي مسائل الحج خصوصا، ولا سيما في هذه السنين التي يشتد فيها الزحام في موسم الحج، حتى ليبلغ الحجاج مليونين أو أكثر في بعض السنين، وهذا يقتضي منا التيسير على عباد الله، ورفع الحرج عنهم، فما جعل الله في هذا الدين من حرج، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عن أمور كثيرة مما يتصل بالحج، فما سئل عن أمر قُدِّم ولا أُخِّر، إلا قال: "افعل، ولا حرج".

الملك فيصل بن عبد العزيز

وهذا الزحام الهائل هو الذي حفز الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- أن يتنازل هو ومن حوله عن الحج في أحد الأعوام، مخالفا سنة من سبقوه؛ ليؤثر الحجاج الوافدين، وليكون قدوة لغيره من أهل المملكة.

وكان من أهم النقاط التي احتد فيها الجدل مسألة الرمي قبل الزوال، وأنا أفتي بمشروعيته، وقد أفتى بذلك من فقهاء التابعين عطاء وطاووس، كما أفتى بذلك أبو جعفر الباقر من أئمة آل البيت. وأفتى بذلك بعض علماء الشافعية المتأخرين. وأفتى به من المعاصرين الشيخ عبد الله بن زيد المحمود في قطر، والشيخ مصطفى الزرقا في سوريا.

وهذا ما دفعني أخيرا أن أخرج كتابا حول الحج بعنوان "مائة سؤال عن الحج والعمرة والأضحية" ضمنته ما أراه من رخص وتيسيرات في أمر الحج، مثل النفرة من عرفة قبل الغروب، كما هو مذهب الشافعية، والبقاء في مزدلفة بمقدار الصلاة والتقاط الحصى، ورمي جمرة العقبة من بعد منتصف ليلة العيد، وعدم المبيت بمنى لمن يشق عليه ذلك، ورمي الجمار قبل الزوال في الأيام كلها.

وهو ما أصبح كثيرون من العلماء يميلون إليه ويفتون به، ممكن كانوا يعارضونه، وإنما ألجأهم إليه ما لمسوه من ضرورات الناس وحاجاتهم. والضرورات تبيح المحظورات، فكيف بأمور أجازها بعض الفقهاء في غير ضرورة ولا حاجة؟!

نهاية السنة الدراسية 73، 74م

انتهت السنة الدراسية 1973-1974م، وامتحنا طلاب كلية التربية وفق الفلسفة التعليمية الجديدة، لا سرية ولا كنترول، ولا شيء من ذلك. فالامتحانات مستمرة طوال السنة في فصليها الدراسيين، هناك امتحانات سنوية، وامتحانات تحريرية، وتكليف ببحوث ينجزها الطلاب بأنفسهم، وإن كنت لاحظت أن بعض الطلاب يستعينون بآخرين يكتبون لهم البحوث من ألفها إلى يائها، وكثيرا ما يُعرَف هذا بسؤال الطالب في بعض ما كتب في بحثه، فإذا هو لا يعرف عنه شيئا، كمثل الحمار يحمل أسفارا!!.

ومن الطرائف أن الدكتور إبراهيم كاظم عميد الكلية كان يقول في اجتماعاته مع الأساتذة: إن الامتحان لا يخصص له وقت معين، إنما يكون في المحاضرة الأخيرة؛ يقصد في وقت المحاضرة الأخيرة.

لكن زميلي في قسم الدراسات الإسلامية الدكتور أحمد سكّر فهم أن الامتحان في آخر محاضرة فقط؛ يعني أن الطلبة لا يمتحنون ولا يسألون في كل ما أخذوه مدة الفصل الدراسي، ولكن في المحاضرة الأخيرة، وأبلغ الطلبة ذلك، ووضع الأسئلة على هذا الأساس، وأخذ جميع الطلبة درجة "أ" أي امتياز!!

وفي هذا العام حصلت ابنتاي "إلهام" و"سهام" على الشهادة الإعدادية، وتهيأتا لدخول المرحلة الثانوية، وانتقلت "علا" إلى السنة الثانية الإعدادية، أما أسماء فلا تزال في المرحلة الابتدائية، وأما محمد فقد نجح في السنة الأولى الابتدائية، وكان ترتيبه الأول، وقد أدخلته مدرسة أبي بكر الصديق، بجوار المعهد الديني.


بِتْنا نحنّ إلى قطر

بعد أن قضينا الإجازة الصيفية في مصر، واستمتعنا برؤية الأهل والأقارب والأحباب، وودعنا "أم الدنيا" كما يسمونها، وعدنا إلى قطر، وقد بتنا نحِن إلى قطر، ونشتاق إليها؛ فقد أصبحت لنا وطنا ثانيا، وكيف لا، وقد ولد فيها خمسة من أولادي، واثنتان من بناتي، قدمتا إلى قطر، وإحداهما لم تكمل السنة، والأخرى لم تكمل السنتين؟

والإنسان بطبيعته المدنية والاجتماعية يألف المكان وأهله، كما يألفه المكان وأهله، والمرء المؤمن تقوم بينه وبين البيئة من حوله ألفة وصلة ودودة، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد: "هذا أحد جبل يحبنا ونحبه!"، فانظر كيف عبر عن الجبل أنه يحبهم، كأن له قلبا تصدر عنه مشاعر الود، وعواطف الحب كالإنسان! وقد عدنا إلى قطر قبل أن تنتهي الإجازة تماما لأتهيأ لرحلة مهمة إلى بلاد الشرق الأقصى. وهي بلاد سأزورها لأول مرة، فما أشوقني إلى رؤيتها والتعرف عليها!.


اقرأ في الحلقة القادمة:

  • غيبة العلماء عن الوعي بالعصر


  • غارة تنصيرية على إندونيسيا