*18 الحلقة الثامنة عشرة : فلسطين.. صناعة الموت

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحلقة (18) فلسطين.. صناعة الموت


فلسطين.. الإسلاميون أكثر اهتماماً

كانت قضية فلسطين طيلة المرحلة الثانوية قضية هامة وحية وساخنة في نفوسنا. وكان (الإسلاميون) أكثر اهتماما بها من (الوطنيين). فكثير من الوطنيين لم يكونوا يدركون بوضوح خطورة المشروع الصهيوني على المنطقة، حتى سئل أحد رؤساء الحكومات في مصر يوما عن شيء يتعلق بفلسطين، فكان رده المؤسف: أنا رئيس وزراء مصر، لا رئيس وزراء فلسطين.

ولا عجب أن كنا نُسَيِّر من أجلها المظاهرات، وتدوي الهتافات، ونلقي الخطب النارية، وننشئ القصائد الثورية، ونثير الطلاب والجماهير، لتهتف لفلسطين، وكنا ننتهز فرصة ذكرى وعد بلفور وغيرها لإحياء القضية.

كان الإسلاميون هم الذين يعون تماما الخطر اليهودي وأطماعه وأهدافه في المنطقة العربية، والإسلامية، وكان في مقدمة هؤلاء الإسلاميين الوعاة لهذا الخطر وأبعاده: الشيخ حسن البنا، الذي كان يتابع من قديم ما يجري على الأرض المقدسة من أحداث، وما يُخطط لها من مكايد، وما يقوم به أهلها من ثورات، وما يبذلونه من أرواح.

وكان أهم ما يقوم به حسن البنا وأمثاله من رجال الأمة ودعاتها: مقاومة موجة الغفلة التي غشيت الأمة، وموجة الاتهام والتخوين لأهل فلسطين، الذين أشاعوا عنهم زورا بأنهم باعوا أرضهم لليهود، وأنهم تقاعسوا عن الجهاد، وهذه أكاذيب نفقّها اليهود والمستعمرون، فالواقع أن الذي بيع من أرض فلسطين لا يتجاوز 2% منها، وكان الذين باعوها من الأجانب ومن غير المسلمين، كما أن أهل فلسطين قاوموا المشروع الصهيوني بكل ما في وسعهم، ولكن الانتداب البريطاني على فلسطين كان يقف في سبيلهم، ويمنعهم من امتلاك أي سلاح يدافعون به عن أنفسهم، على حين يتيح لليهود كل أسباب القوة، بل العدوان.

والعجيب أن السياسة الاستعمارية والصهيونية التي استجاب لها العرب وقادتهم هي أن يعزل الشعب الفلسطيني عن قضيته، ويبعد عن ممارسة حقه في الدفاع عن أرضه ومقدساته، على خلاف السياسة المتبعة اليوم، والتي توحي بها بل تفرضها القوى المعادية للإسلام والعروبة، وهي ترك القضية للفلسطينيين وحدهم، بعد أن تحولت (إسرائيل) إلى أخطبوط في المنطقة، وإلى ترسانة عسكرية ضخمة، وهذا في الوقت الذي تعتبر إسرائيل كل يهودي في العالم مسؤولا عنها.

كان حسن البنا على وعي كامل بهذه الحقائق كلها، ويجتهد أن يشيعها بين الناس، وأن يزيح عن الأعين الغشاوات حتى ترى، ويزيل الوقر من الآذان حتى تسمع.

وكان له علاقة برجال فلسطين، وعلى رأسهم المجاهد الكبير الحاج أمين الحسيني. وكان يجند مجلته (النذير) ثم (الإخوان) لإيقاظ الأمة نحو القضية وتطوراتها، وينتهز فرصة ذكرى الإسراء والمعراج، ليذكر بـ (المسجد الأقصى) كما يتخذ من (2 نوفمبر) ذكرى وعد (بلفور) لتعبئة الأمة ضد هذا الوعد الذي صدر ممن لا يملك لمن لا يستحق. والذي علق عليه الحاج أمين بقوله: إن فلسطين ليست وطنا بغير شعب حتى تستقبل شعبا بغير وطن!

وفي سنة 1936م أصدر عددا خاصا من مجلة (النذير) عن ثورة فلسطين، وكتب فيه مقالا عن (صناعة الموت) يحرض الأمة فيه على الجهاد، والاستعداد للموت في سبيل الله، فمن حرص على الموت وهبت له الحياة.

وفي سنة 1946م أرسل العالم الداعية الشيخ عبد المعز عبد الستار، ليطوف بمدن فلسطين مشرقا ومغربا، لتنبيه العقول، وإحياء القلوب، وإشعال المشاعر، وتجميع الصفوف، وقد بقي الشيخ عبد المعز ـ كما سمعت منه ـ شهرين كاملين في فلسطين، ولكنه عاد من هناك يحمل هما كبيرا، ويشفق على مصير فلسطين. فحينما زار المسجد الأقصى لم يجد فيه غير صفين أو ثلاثة، فآلمه ذلك أشد الإيلام، ولما قال لبعض المقدسيين ذلك، قال له: صحيح أن الصلاة ثقيلة عليهم، ولكن إذا ناديتهم إلى المعركة لبوا النداء في سرعة البرق. وقال لهم الشيخ: إن أول الجهاد أن نجاهد أنفسنا، وأن ننتصر عليها. والله تعالى يقول: "استعينوا بالصبر والصلاة" (البقرة:45).

ومما لاحظه الشيخ أن القادة كلهم غائبون، الحاج أمين الحسيني منفي في الخارج، والآخرون متفرقون. كما لاحظ أن اليهود يعملون ليل نهار، وفي غاية من اليقظة والاستعداد، والعرب ليسوا على هذا المستوى، ولهذا حين عاد إلى مصر قال للأستاذ البنا: الحقيقة أن دولة اليهود قائمة بالفعل، ولا ينقصها إلا الإعلان عنها!!

وفي سنة 1947 بدأ الاستعداد بتهيئة الإخوان لمعركة قادمة لا ريب فيها. ولا سيما بعد رفض قرار التقسيم، وبعد استفحال أمر العصابات الصهيونية التي تعمل بدهاء وتخطيط ومكر، في حماية الانتداب البريطاني، الذي أفسح المجال للهجرات الجماعية لليهود من أنحاء أوربا ـ وخصوصا الشرقية ـ وأمريكا وغيرها، ليبنوا مستعمراتهم في سائر أرض فلسطين، ومكنهم أن يسلحوا أنفسهم، في حين حرّم على أهل البلاد من حمل أي سلاح، ولو كان قطعة صغيرة.

وجاءت سنة 1948م والقِدْر تزداد غليانا، ومعسكرات التدريب تستقبل الشباب ليوم معدود، وكان كثير منا متحمسين لخوض المعركة ضد اليهود، ولكن قرار (مكتب الإرشاد) بالقاهرة: ألا يشارك طلاب الثانوي في الجهاد، ويكتفى بطلاب الجامعة وغيرهم من أبناء الشعب.

وكنا نحن دعاة الإخوان نطوف المدن والقرى، نحرض على الجهاد بالنفس وبالمال، وأحيانا نركز على المال لشدة الحاجة إليه لشراء السلاح للإخوان في فلسطين ونجمع لهم السلاح إن وجدناه، ونعبئ مشاعر الأمة وأفكارها، لتستعد لمعركة آنية عن قريب مع بني صهيون، الذين زرعهم الغرب في المنطقة، ولا يزال يساندهم ويؤيدهم عسكريا واقتصاديا وسياسيا.

وقد تجلى ذلك للعيان، حين أعلن قيام الكيان الصهيوني العدواني الذي سمي (إسرائيل) فاعترفت أمريكا بها في الحال، وبعدها بريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرها، وأعلن الجميع أنها خُلقت لتبقى.

عبد الوهاب البتانوني.. أراد الشهادة فنالها

وهنا أذكر قصة زميلي وأخي وحبيبي عبد الوهاب البتانوني، الذي كان ينام ويصحو على الجهاد في فلسطين، كأنما هو قيس، والجهاد ليلاه. وكان عليه أن يتخطى العقبات في سبيل تحقيق رغبته المنشودة.

كان عبد الوهاب شابا تقيا نقيا، صافي الروح صفاء البلور، يحلق في الأجواء الروحية، يكاد يطير بلا جناح، وكان أستاذنا البهي الخولي يقول: كلما رأيت عبد الوهاب لحظت دم الشهادة يترقرق في وجهه. وكان يقول عنه: سيدي عبد الوهاب البتانوني.

كان أمام عبد الوهاب لتحقيق رغبته في الجهاد بفلسطين عقبتان:

أولاهما: رضا أمه، فهي حريصة عليه، وضنينة بحياته، فقد مات أبوه وخلّفه يتيما، هو وشقيقه، وأصبح أمانة في عنقها، فكيف تضحي به؟

ووسطنا عبد الوهاب للذهاب إلى والدته، لنحاول إقناعها بذهابه إلى فلسطين. وذهبت أنا وأخي أحمد العسال، وأخي محمد الصفطاوي إلى قريته (كفر هورين) مركز السنطة، وحدثناها عن أمهات المجاهدين الأبطال في التاريخ الإسلامي، وعن شوق عبد الوهاب للجهاد، وذكرناها بأن الجهاد لا يقدم أجل الإنسان عن موعده، وأن من لم يمت بالسيف مات بغيره، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.. إلى آخر هذه المعاني، التي لم تملك الأم الحنون معها إلا أن تقول: ما دامت هذه رغبة عبد الوهاب، فلن أقف في وجهه، وأسلم الأمر لله، وأدعو الله أن ينصره وإخوانه ويردهم سالمين غانمين.. واستبشر عبد الوهاب وانفرجت أساريره، وقبّل رأس أمه ويدها، وطلب منها أن تدعو له باستمرار.

بقيت (العقبة الثانية) وهي قرار مكتب الإرشاد بعدم السماح لطلبة الثانوي بالسفر للقتال في فلسطين، إلا باستثناء من المرشد العام. فكان لا بد من رحلة إلى القاهرة، لمقابلة المرشد العام لاستثناء عبد الوهاب، وسافرنا نحن الثلاثة: العسال والصفطاوي وأنا، واستطعنا أن نحصل على استثناء من المرشد.

ورجعنا لنبشر عبد الوهاب، وهو لا تكاد تسعه الدنيا من الفرحة، لقد تحققت أمنيته في الذهاب إلى أرض الإسراء والمعراج، أرض أولى القبلتين، وثالث المسجدين العظيمين في الإسلام، ليقاتل أعداء الله، وقتلة الأنبياء: اليهود. وودعناه في يوم مشهود مع عدد من إخوانه المتطوعين من طنطا، وقد ركبوا القطار إلى القاهرة، ومن هناك يرحلون إلى أرض الجهاد، مع إخوانهم من القاهرة والمديريات الأخرى، وكان لقاء الوداع.

وقد أرسل إليّ خطابا من أرض الجهاد يقطر حبا ومودة وحنينا إلى النصر، وقد ظللت محتفظا به مدة من الزمن، ثم ضاع فيما ضاع من أوراق في محن الإخوان.

وقدر الله لعبد الوهاب أن يحقق له الشهادة مع اثنين من إخوانه، طاردهم اليهود حتى لجئوا إلى مصنع للسلاح، للاختباء فيه، ويظهر أنهم رأوا أنهم مقتولون لا محالة، وأن أفضل طريقة: أن يفجروا المصنع على من فيه وما فيه، وإن ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ كامل الشريف في كتابه "الإخوان المسلمون في حرب فلسطين"، وقد كان هو أحد القادة في هذه الحرب. كما فصل ذلك الأخ يحيى عبد الحليم فيما كتبه عن "معركة عصلوج".

وتحقق ما قاله الشيخ البهي: كلما رأيت عبد الوهاب، رأيت دم الشهادة يترقرق في وجهه. رحمه الله ورضي عنه، وجعله شفيعا لأهله ولنا معهم.

حسن الطويل.. باع الجاموسة ليشتري الجنة

ومما أذكره من قصص الجهاد من أبناء مصر الأتقياء، قصة أخرى، لا تقل روعة عن قصة عبد الوهاب، وهي ليست لطالب، ولكن لفلاح.

إنها قصة حسن الطويل، أحد الإخوان الفلاحين من إحدى قرى مركز (بسيون) أظن اسمها (كفر الحمر) وقد كان حسن من المتحمسين لقتال الصهاينة، تحمس عبد الوهاب البتانوني، ولكنه كان يصر أن يذهب بنفسه وسلاحه للقتال، وكان يملك جاموسة تعتبر بمثابة رأس ماله، فباعها، واشترى بها بندقية آلية حديثة. وجاء إلى رئيس منطقته في بسيون الحاج أحمد البس، ليسلم نفسه وسلاحه. فقال له الحاج أحمد: كان يكفيك يا حسن أن تجاهد بنفسك، ويجاهد غيرك بماله، وتدع الجاموسة للأولاد.

قال له: يا حاج أحمد، ألم تعلمونا أن الله تعالى قال: "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" (التوبة: 41)، وأن أربح تجارة في الدنيا والآخرة هي الجهاد بالمال والنفس "وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم" (الصف:11).

قال: بلى.

قال: هل قال الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... بأن لهم الجنة" أو قال: "أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" (التوبة:111).

قال الحاج أحمد: بل قال (أنفسهم وأموالهم).

قال: وأنا أريد أن أسلم الثمن كاملا، حتى أستحق الجنة.

ولم يستشهد حسن الطويل، كما استشهد البتنانوني، ولكن كان جزاؤه المعتقل مع أمثاله من المجاهدين.

هذه نماذج من الذين (استجابوا) للجهاد في فلسطين، ولا أقول: (تطوعوا) فقد كانت نصرة إخوانهم فريضة، ومقاومة الخطر الصهيوني فريضة. فلا ينبغي أن نطلق على هذا لفظ (التطوع) إلا من باب التسامح والتساهل في التعبير.


بطولات الإخوان في فلسطين.. السبب الأول في محنتهم

وقد كان دور الإخوان في قضية فلسطين -على الصعيد الدعوي، وعلى الصعيد السياسي، وعلى الصعيد العسكري- دورا مزعجا للقوى الاستعمارية المساندة للصهيونية، ورأوا في وجود هذه الجماعة واستمرار نشاطها خطرا على المشروع الصهيوني الوليد، الذي يراد له أن يهيمن على المنطقة ويؤثر فيها، ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا. فلا غرو أن اجتمع سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا في (معسكر فايد)، وهو من معسكرات الاحتلال البريطاني في منطقة (قناة السويس)، وطلبوا من رئيس الحكومة المصرية حينئذ محمود فهمي النقراشي باشا الإسراع بحل (الإخوان المسلمين). وهذا ثابت بالوثائق الرسمية، التي كانت سرية، ثم كشفت بعد مرور ثلاثين سنة.

وسرعان ما استجابت حكومة النقراشي لمطالب القوى الاستعمارية أو الاستكبارية، وصدر قرار حل الإخوان في 8 ديسمبر سنة 1948م، معللا بتعليلات أخرى تضمنها مذكرة وكيل وزارة الداخلية عبد الرحمن عمار، التي رد عليها الإمام البنا ردا مفصلا، وإن كان لم يتح له أن ينشر في حينه.

لقد كان همّ القوى التي خلقت الكيان الصهيوني المغتصب الذي سموه (إسرائيل) والتي شدت أزره من أول يوم، وإلى الآن: أن تختفي جماعة الإخوان ـ وهي العقبة الكئود ضد الصهيونية ـ من الساحة، وألا يمر جهادهم وكفاحهم للعدو الغاصب دون عقاب يردعهم، ويخيفهم ومن يؤيدهم في المستقبل، حتى يلزموا بيوتهم، ويعيش كل منهم لأمر نفسه.

وكانت هذه العقوبة هي الاعتقال والمصادرة والتشريد والتنكيل على كل مستوى، حتى أُخذ الشباب المجاهدون من الميدان بلبسهم العسكري إلى المعتقل؛ إرضاء للسادة الذين تعتبر إشارتهم حكما، وطاعتهم غنما.

ولنا في المرحلة القادمة عودة إلى هذا الموضوع بإيضاح وتفصيل.

ومما سجله التاريخ بحروف من نور: مواقف (المتطوعين) من الإخوان في حرب فلسطين، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في حديثنا عن صديقنا الطالب الشهيد عبد الوهاب البتانوني، وعن أخينا الفلاح حسن الطويل.

ذهب (المتطوعون) كما سموهم باختيارهم، مؤدين حق الإسلام وحق الجهاد عليهم، متاجرين مع الله في أربح صفقة، بائعين أرواحهم لله تعالى.

ولقد دخلت جيوش الدول العربية السبع، التي كانت تتكون منها الجامعة العربية إلى فلسطين، وهي لا تدري تماما الهدف من دخولها؟ ومع كل جيش منها، مشكلة: هذا على رأسه قائد إنجليزي، وهذا يحارب بأسلحة فاسدة كما قيل، وهذا ليس عنده أوامر، ولم يكن ضباط هذه الجيوش أحرارا في اتخاذ قرارهم، حتى قال بعض قادة الجيش المصري: إني لا أخاف من (شرتوك) تل أبيب، بقدر ما أخاف من شراتيك القاهرة! ومعنى هذا أن كثيرا من الضباط الكبار في الجيش المصري، لم يكونوا على دين السياسيين والزعماء المستسلمين، وكان لبعضهم دور مشكور، مثل اللواء المواوي، واللواء صادق، وسيد طه، الملقب بالضبع الأسود.

ومما شكا منه المخلصون الواعون أن الجيوش العربية لم يكن بينها أي قدر من التنسيق، ناهيك بالتعاون والتضامن.

على أي حال لم تستطع جيوش الدول الرسمية أن تقاوم عصابات بني صهيون. وحوصر الجيش المصري في (الفالوجا) وكان فيه جمال عبد الناصر وبعض الضباط الأحرار.

وأسر بعض الضباط المصريين، ومنهم الرائد (الصاغ) معروف الحضري. وكان الذين قاموا بدور ملموس في ذلك الوقت هم المتطوعون الإسلاميون، الذين ضربوا أروع الأمثال في التضحية والفداء والإيثار، سواء منهم من كان تحت قيادة البطل أحمد عبد العزيز، أم تحت قيادات إخوانية مثل كامل الشريف وغيره من قادة الإخوان.

لقد وضع هؤلاء الشباب الأبطال رؤوسهم على أكفهم، ولم يبالوا أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، فهم لا يهابون الموت، بل يسعون إليه، وإنما هي إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة في سبيل الله؟ وهل هناك درجة أعلى من الشهادة في سبيل الله؟

على أنهم يؤمنون أن الأعمار أيام معدودة، وأنفاس محدودة، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، وأن لكل إنسان أجلا مسمى، وأن من لم يمت بالسيف مات بغيره، وأن الموت في سبيل الله هو عين الحياة "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" (آل عمران:169). حتى قال أحد القادة البريطانيين في أول معركة دخل فيها هؤلاء، واستشهد فيها اثنا عشر من شباب الإسلام، كان بينهم بعض طلاب الأزهر من شبين الكوم مثل صديقنا حلمي جبريل وإخوانه: لو كان معي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين.

ولقد حكى الأستاذ كامل الشريف في كتابه التاريخي (الإخوان المسلمون في حرب فلسطين) صورا رائعة، لبطولات فارعة لهؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى. حتى إنه كان إذا أراد واحدا أو اثنين أو ثلاثة لمهمة عسكرية خطيرة، تقدم إليه العشرات، يتسابقون أيهم يقوم بالمهمة، فلا يفصل بينهم إلا القرعة.

ولقد كان أحدهم يصاب في المعركة، فيفقد ساقه أو ذراعه، فينظر إلى العضو المصاب، وهو ينشد ما أنشده الصحابي خبيب بن عدي:

ولست أبالي حين أقتل مسلما


على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ


يبارك عــلى أوصال شلو ممزع

ولقد قال بعض ضباط اليهود للرائد معروف الحضري، وهو أسير لديهم: نحن لا نخاف من الجيوش العربية، ولكننا حقيقة نخاف من جماعة (الله أكبر)، أي من شباب المتطوعين. قال لهم: وما الذي يخيفكم منهم وهم قليلو الخبرة بالأمور العسكرية، وسلاحهم متواضع؟ قال له: نحن لا نخاف من سلاحهم ولا من تدريبهم، ولكن نخافهم لأمر مهم، هو: إننا ـ نحن اليهود ـ جئنا من أقطار شتى إلى هذه الأرض لنعيش، وهؤلاء جاءوا من أقطارهم إليها ليموتوا، فكيف نواجه أمثال هؤلاء؟!


قيام دولة الكيان الصهيوني أخطر أحداث القرن

كان من أعظم أحداث القرن العشرين خطرا، وأبعدها أثرا: قيام دولة الكيان الصهيوني العدواني المغتصب التي سموها (إسرائيل)، وذلك في 15 مايو 1948م، وهي الدولة التي خطط لها (هرتزل) وجماعته، وعقدوا لها مؤتمر (بازل) 1897م . وأعلن فيه أن الدولة اليهودية ستقوم بعد خمسين سنة.

كان هذا حصاد غرس مر طويل، عمل فيه اليهود بمساندة الاستعمار الغربي عقودا مديدة من الزمن، وقاوم الفلسطينيون ما وسعتهم المقاومة، ولكن المؤامرة كانت أكبر من طاقتهم ومن إمكاناتهم المحدودة، وقد كان العرب والمسلمون في غفلة لاهية عما يجري. وكان من مكر اليهود أن كادوا كيدهم لتحطيم القلعة الإسلامية التاريخية التي كانت تصون وحدة المسلمين، وتعبر عن أمتهم، وهي (الخلافة الإسلامية) لأن السلطان عبد الحميد رفض مطالب هرتزل وجماعته، برغم ملايين الليرات الذهبية لخزانة الدولة، ولخزانته الخاصة.

وكان ضياع الخلافة هو الخطوة الأولى لضياع فلسطين. أجل، لو كان للمسلمين خليفة مطاع مسموع الكلمة، لأصدر نداء عاما للأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها: أن يهبوا لإنقاذ أولى القبلتين، وأرض الإسراء والمعراج، وألا يمكنوا شذّاذ الآفاق من اليهود من الاستيلاء عليها، وأن ينفروا خفافا وثقالا، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وكان المفروض أن يهب المسلمون عن بكرة أبيهم، لإنقاذ أرضهم، ومقدساتهم، وطرد عدوهم، ونجدة إخوانهم.

لم يكن قيام دولة الاغتصاب الصهيوني نكبة للفلسطينيين وحدهم، بل كان نكبة للأمة الإسلامية كلها، عربهم وعجمهم، كما كان نكبة للعرب جميعا، مسلمهم ومسيحهم.

وقد ظل الإعلام العربي ممثلا في صحفه وإذاعاته لا يذكر كلمة (إسرائيل) إلا ويلحقها بوصف (المزعومة) وذلك لعدة سنوات، ثم خجلنا من أنفسنا بعد أن أصبحت هذه المزعومة تعيث فسادا في المنطقة العربية، ولا نجد من يردها أو يؤدبها، فهي تصفع هذه الجهة، وتركل تلك، ونكتفي نحن بالشجب والاستنكار، والشكوى لمجلس الأمن، حتى بلغت شكاوانا عند مجلس الأمن آلافا، عند ذلك تركنا كلمة (المزعومة) بعد أن أوشكنا أن نكون نحن المزعومين!


الصراع مع حزب الوفد

وكانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الإخوان قوة شعبية مؤثرة، وقيادتهم للتيار الوطني باسم الإسلام، كما برز ذلك في الأزهر وجامعته ومعاهده والجامعة والمدارس الثانوية. وكان ذلك مما أدخل جماعة الإخوان في صراع مع حزب الوفد، وهو كره لها.

فقد كان الوفد هو القوة الشعبية الأولى والكبرى على الساحة السياسية، حتى برز الإخوان، قوة فتية متوثبة، يقودها شباب متوثب. وكان الوفد هو البادئ بالاحتكاك دائما أو غالبا، وكان يملك من القدرات المادية والأدبية، نتيجة سيطرته على حكم مصر مرات عدة، ما لا يملك الإخوان، التي يناصرها أبناء الطبقة الوسطى والدنيا، لا الطبقة العليا التي منها البكوات والباشوات والإقطاعيون والرأسماليون مثل حزب الوفد.

وكانت تعليمات الأستاذ البنا لإخوانه وأبنائه تشدد على الالتزام بالصبر والمصابرة، والتعامل بالحسنى، والفرار من المواجهة والصراع ما أمكن ذلك، مؤكدا أن المستقبل للإخوان، ولدعوتهم، وأن هذه الأحزاب كلها إلى زوال "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد:17).

وكان الوفد دائم الحملة على الإخوان في صحفه، وفي اجتماعاته، وهو يحرِّش أتباعه للاصطدام بالإخوان، واستفزازهم وجرهم إلى معارك لا لزوم لها، ولا فائدة منها إلا تفريق الصف، وغرس الأحقاد، في حين تحتاج الأمة إلى تجميع قواها، وتوحيد صفوفها، في مواجهة المحتل المستكبر الجبار.

وكان الطلبة الوفديون في طنطا، في المعهد الديني وفي المدرسة الثانوية يعملون على استفزاز الإخوان، ولكن شباب الإخوان ـ وفق التعليمات ـ يتجنبون الدخول في معارك معهم، فليسوا هم العدو، إنما العدو هم الإنجليز.

إلا أن هذا التحفظ من الإخوان لم يغن شيئا، وحدث الصدام في بعض البلاد، ومنها: شبين الكوم، التي قتل الوفديون فيها طالبا من طلاب الإخوان ـ ولا أذكر كيف تم القتل ـ وهو الطالب صادق سعد مرعي، الذي كان لقتله ضجة كبيرة، وثورة عارمة في نفوس الإخوان، وقد قلت قصيدة في رثائه، نشرتها جريدة (الإخوان) اليومية، لا أذكر إلا مطلعها:

قتلوك شلت كف من قتلوك


يا (صادقا) لهمو، وهم كذبوك!

وفي اليوم التالي نشر الشاعر الطالب بمعهد القاهرة الديني عبد الودود شلبي قصيدة رائعة في رثاء صادق مرعي، نشرت في جريدة الإخوان جاء فيها:

يا أخي فـي الله مـا


مـت ولكـن أنت حيّ

أيّ وحش ذلك الـقـا


تـل يـا صـادق أيّ؟

إنه الـباطــل، والبا


طـل إجــرام وغيّ

بل هي الأحزاب يا قو


م فهل في مصر وعي؟

وكانت صحيفة الوفد (صوت الأمة) تتهكم على حسن البنا، وتقول عنه (مدرس الخط) وتقول: كيف يجترئ مدرس الخط على مخاطبة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا؟

ونشرت صحيفة الإخوان خطابا قديما بعث به حسن البنا إلى النحاس باشا بمناسبة تصريحات أدلى بها إلى بعض الصحف الأجنبية، أبدى فيها إعجابه ـ بلا تحفظ ـ بكمال أتاتورك، ونشرت الجريدة هذا الخطاب القديم تحت عنوان (من مدرس الخط إلى رفعة النحاس باشا) وهو خطاب تتجلى فيه الموضوعية وأدب الخطاب، والتنبيه إلى خطورة ما صرح به النحاس الباشا، وبيان حقيقة أتاتورك وموقفه من الإسلام وشريعته وأمته.

وفي آخر كتاب الشيخ البنا ختمه بكلمات تلمس أوتار القلوب، وتهز مشاعر أهل الإيمان حين قال: (وسنستعدي على الباغين سهام القدر، ودعاء السحر، وكل أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره).

وما زال الوفد يكيد للإخوان، حتى استطاع أن يؤثر في وكيل الإخوان الأستاذ أحمد السكري، الذي كانت له ميول وفدية معروفة، حتى خرج من الإخوان، وبدأ يهاجمهم بعنف، ويصب جام غضبه على مرشدهم خاصة، وفتحت صحيفة الوفد له أبوابها لينشر فيها مقالات في صفحتها الأولى، بعنوان: (كيف انزلق الشيخ البنا بدعوة الإخوان المسلمين؟).

وكانوا يظنون أن هذه المقالات ستشق الصف الإخواني، وينشق الجم الغفير منهم، ليسير في ركب السكري، والواقع أن السكري خرج من الإخوان كما تخرج الشعرة من العجين، لم تبك عليه عين، ولم ينعه ناع، وإنما ودع بالإشفاق عليه والإعراض عما يكتبه، كما قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" (القصص:55).

لم يتبع السكري إلا بضعة أفراد، لم يأبه بهم أحد، ولم يُرفع لهم علم، منهم أحد طلاب جامعة الأزهر، وقد كان في معهد طنطا: مصطفى نعينع، ويبدو أنه خرج ولم يعد، فلم يسمع له بعد ذلك صوت.

لم يرد الأستاذ البنا على السكري، وإنما كتب له مقالة، يذكر فيها أنه كان يتمنى أن يكون الفراق بينهما بمعروف، وألا ينسوا الفضل بينهم، وأن يبقى الود موصولا، وإن اختلف الطريق، لا أن تستخدم سياسة وخز الإبر، وتسميم الآبار، وأعلن الأستاذ البنا أنه يربأ بنفسه أن يدخل في معركة من هذا النوع، وإنما يكل أمره إلى الله، خاتما رسالته بهذه الآية: "الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير" (الشورى:15).


المرحلة الثانوية.. نشاط دعوي مكثف

كانت المرحلة الثانوية بالنسبة لي منطلق النشاط الدعوي الإخواني المكثف، فقد كنت أعمل في الإخوان في ميدانين أو قسمين أساسيين: قسم الطلاب، وقسم نشر الدعوة.

وكنت أتحرك في نشر الدعوة على مستوى مديرية الغربية. وكانت الغربية في ذلك الوقت تشمل كل ما يسمى اليوم (محافظة كفر الشيخ) وكذلك محافظة دمياط، ما عدا مدينة دمياط نفسها، وجزءا مما دخل اليوم في محافظة الدقهلية.

وكانت طلبات البلاد المختلفة تأتي إلى قسم الدعوة بطنطا تلح عليهم بإرسال (الداعية المحبوب) يوسف القرضاوي. وكان الإخوة المسؤولون عن الدعوة في طنطا يقولون لي: ماذا نفعل أمام هذه الطلبات المتكاثرة والمتكررة، وقد رزقت حب الناس؟

وكانت هذه نعمة جزيلة من الله تبارك وتعالى عليّ، أن منحني حب عباده، فضلا منه ومِنَّة عليّ، مع أني في قرارة نفسي لا أراني أهلا لهذا الحب الكبير، وأسأل الله تعالى أن يغفر لي ما لا يعلمون، ولا يؤاخذني بما يقولون. وكان بعض البلاد أكثر طلبا لي من غيرها، مثل كفر الشيخ وبسيون والمحلة الكبرى. بل زرت بلادا خارج الغربية، وخصوصا في (المنوفية) مثل شبين الكوم، وتلا، وقويسنا، كما زرت مدينة المنصورة وغيرها من الدقهلية، وزرت الزقازيق عاصمة الشرقية.


ذكريات دعوية لا أنساها.. أسير 11 كم من أجل قرشين!!

ومن الوقائع التي لا تنسى في مجال الدعوة: ما وقع لي في أحد (الرمضانات) وقد كنت في الإجازة الصيفية مقيما في القرية، وأرسل إليّ الإخوة في طنطا: أن الإخوان في كفر الشيخ يطلبونك لخطبة الجمعة في أحد البلاد هناك، وسينتظرك أحدهم في موقف الأوتوبيس القادم من المحلة إلى كفر الشيخ، ونهضت مبكرا لأسافر إلى المحلة، ثم أذهب إلى موقف الأوتوبيسات الذاهب إلى كفر الشيخ، لأستقل واحدا منها إلى تلك المدينة. وقد كان، ووصلت إلى الموقف، فوجدت أحد الإخوة، وركبنا أتوبيسا آخر إلى قرية بجوار (سخا) وكان الحر شديدا، وجسمي يتصبب عرقا، ولكنا في عصر الشباب لم نكن نبالي بهذه المتاعب الصغيرة، بل لا نكاد نحس بها كما يحس الآخرون. وقد ألقيت الخطبة في القرية التي احتشدت لذلك، ثم كلمة قصيرة بعد الصلاة. ثم استأذنا في الانصراف، فلا مجال لضيافة، فنحن في رمضان، وقد طلب إليّ أهل القرية أن أبقى عندهم إلى الإفطار، فاعتذرت. وقد نسيت اسم هذه القرية، وهي تابعة لمركز كفر الشيخ.

وبعد ذلك قال لي الأخ المرافق: يمكنك أن تعود إلى كفر الشيخ، وتركب أوتوبيسا من هناك، إلى المحلة كما جئت، ويمكنك أن تمتطي قطار الدلتا من هنا، من سخا إلى المحلة مباشرة، قلت له: كم ثمن التذكرة من هنا إلى المحلة؟ فقال: نسأل عنها، ثم سأل، وقال لي: ثمنها ستة قروش. قلت: الحمد لله. ذلك أن كل ما كان معي من نقود هو ستة قروش ونصف. فقلت: أسافر إلى المحلة، ويقضي الله ما يشاء، فقد خرجت من البيت بكل ما أملك من النقود في ذلك الوقت. وكان المفروض أن يرسل لي الإخوة من طنطا نفقات هذه الرحلة، فأنا طالب ولست موظفا، ويبدو أنهم اتكلوا على الإخوة في كفر الشيخ، والإخوة هناك اتكلوا عليهم، وضعت أنا في الوسط. فالأخ الذي رافقني من كفر الشيخ خالي الذهن تماما عن هذا الموضوع.

وركبت قطار الدلتا من محطة (سخا) وهو قطار صغير بطيء، كان الناس يتندرون به، ويقولون: تستطيع أن تشير إليه فيقف لك!

وقد وصل القطار المتهادي إلى مدينة المحلة، قبيل الغروب بقليل، وكنت معتمدا ـ بعد الله تعالى ـ على قريب لي يسكن في المحلة لأفطر عنده، وآخذ منه أجرة سفري إلى صفط قريتي. وقد صحبني إلى بيته مرة واحدة، قبل ذلك، وعلامة البيت أنه قريب من مسجد التوبة.

وذهبت إلى هذا الحي، وعند مسجد التوبة، وذرعت المنطقة يمينا وشمالا، لأهتدي إلى البيت، أو أستدل عليه، فلم أوفق. وأذن المغرب، فلم أجد بدا من أن أذهب إلى المسجد لأصلي فيها المغرب، وأفطر على الماء.

ثم ذهبت بعد ذلك إلى دار الإخوان بالمحلة، وبعد قليل حضر عدد منهم، فرحبوا بي وطلبوا لي (الكازوزة) لأشرب، وعلام أشرب وبطني فارغ، ومعدتي خاوية؟ كدت أقول لهم: إنني لم أفطر بعد، ولكن منعني الحياء، وهو خلق فطري عندي. وقد وصف الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها. فهذا الخلق المحمدي هو الذي حال بيني وبين مصارحة الإخوة بأني خالي البطن بعد يوم حافل بوعثاء السفر، وشدة الحر، ومتاعب الطريق، وهو الذي منعني أن أطلب من مرافقي في كفر الشيخ أن يقطع لي هو تذكرة السفر من سخا إلى المحلة كما تقتضيه الأصول، حتى لا أظهر بمظهر من يتكسب بالدعوة.

وحاولت أن أغالب حيائي وأطلب من الإخوة في شعبة المحلة أجرة السفر إلى صفط ـ وهي قرشان ـ فلم أستطع، وكان حيائي أقوى من حاجتي. ولم تكن صلتي بأحدهم وثيقة.

وودعت الإخوان، وخرجت إلى الطريق، عازما على أن أقطع مسافة أحد عشر كيلومترا ماشيا، إن لم أجد من يركبني معه احتسابا.

وفي منطقة تسمى (الشون) في أطراف المحلة، حاولت أن أجد من أصحاب السيارات من يركبني معه، وبخاصة أن لدي اجتماعا مهما في القرية بعد انتهاء صلاة التراويح. ولكن عرضت على سيارتين من سيارات النقل، فلم يستجيبا، ولاحظ أحد الرجال ذلك، وأنا ألبس الجبة والعمامة، فسألني: مالك لم تركب؟ قلت: بصراحة، ليس معي أجرة الركوب، قال: وما هي؟ قلت: قرشان. فقال: هاهما. فقلت له: جزاك الله خيرا، فقد نفّست كربتي.

وعدت إلى القرية، وأنا شديد الجوع، فكان أول ما فعلته أن آكل. ولكني كنت قوي العزم لحضور الاجتماع، فلم يؤثر في تعب النهار، ليحجزني عن عمل الليل. وكان الاجتماع مهما، وذلك للتشاور في تأسيس شعبة للإخوان في صفط تراب، وكان المفروض أن يكون ميلاد هذه الشعبة في تلك الليلة من شهر رمضان المبارك، ولكنها تأخرت لبعض الظروف، وقامت الشعبة بعد ذلك على كواهل عدد من شباب البلدة المخلصين، على رأسهم الشيخ عبد الستار نوير، ومعه الإخوة إبراهيم حبيب وغازي الزغلول، وأبو اليزيد عسقول، ومحمد الزكي، وبهجت الشناوي، وحمزة العزوني، وآخرون لا أذكر أسماءهم الآن. وقد حوكم بعضهم بعد ذلك في عهد الثورة وحكم عليهم بالسجن سنوات متفاوتة، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. وكانوا رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.


محلة أبو علي:

في هذه المرحلة تعرفت على عدد من الإخوة من قرية (محلة أبو علي) المجاورة للمحلة الكبرى، كان أول هؤلاء الإخوة هو (مصباح محمد عبده) الذي كان زميلا لي في المعهد، وفي نفس السنة، وإن كان شافعي المذهب، وكان يتميز بالنكتة وخفة الروح، وسلامة الفطرة، والغيرة على الدعوة.

وقد دعاني الأخ مصباح لزيارة قريته، فذهبت إليها في إحدى إجازات الصيف، وحاضرت في شعبة الإخوان فيها، وألقيت خطبة الجمعة بالمسجد، وتعرفت على عدد من أهلها من شباب الإخوان، مثل: رمزي (أو طلبة) الدمنهوري، والسيد الغضبان، وحمدي شبند والسيد النفاض، وعلي عبد المقصود خفاجة، وعبد المجيد بقلوله وغيرهم. كما تعرفت على بعض الرجال الكبار في القرية أمثال الحاج عبد الغني الدمنهوري، والحاج محمد الغضبان، وغيرهما.

وقد انعقدت بيني وبين (محلة أبو علي) مودة عميقة، وصلة وثيقة، حتى أصبحت كأنها بلدتي الثانية، وأصبحت كثير الذهاب إليها، والمبيت فيها، وغدا يعرفني كبارها وصغارها، ورجالها ونساؤها، كأني واحد من أهلها.


محلة زياد:

ومن القرى التي زرتها مرارا أيضا، وكان لي صلة بأهلها: قرية (محلة زيّاد) من قرى مركز سمنود، وقد تعرفت فيها على عدد من الإخوة، منهم الرجل الفاضل الشيخ زكي النجار، الذي فتح لي داره، وأبى أن أبيت إلا عنده، كلما جئت إلى محلة زياد، وابنه الأخ الصالح المدرس الشاعر محمد زكي النجار، وكان رجلا نقي السريرة، محمود السيرة، عذب الشعر، ومما أذكر من شعره:

مجد الجدود عزيز أن نضيّعه


مستعبدين، وقد شادوه أحرارا

هيا بنا معشر الإخوان نرجعه


مهاجرين كما كانوا وأنصارا

وقد عرفت فيها الأخ الحبيب الشيخ عبد الوهاب الشاعر، وكان في المرحلة الابتدائية، والأخ مصطفى دراج، وبعض شباب الأزهر منهم الشيخ منصور الرفاعي عبيد.


السملاوية:

ومن القرى التي زرتها أكثر من مرة، ومكثت في كل زيارة عدة أيام: قرية (السملاوية) من قرى مركز السنطة، وهي قرية أخي وحبيبي ورفيقي في الدراسة والدعوة والمسكن: محمد الدمرداش سليمان مراد. وقد تعرفت على عدد من أهل هذه القرية، منهم الحاج عبد الحليم أبو النصر المعلم المحبوب في القرية، والشاعر المطبوع، الذي ضاع شعره كما يضيع شعر كل شعراء القرى المغمورين والمنسيين، والشيخ أحمد عمارة المدرس المتصوف، والحاج أحمد عمارة التاجر الأمين، والأخ عبد العزيز أبو سعدة الفلاح المستنير، والأستاذ إبراهيم أبو سعدة المدرس، الذي أصهر إليه الأخ الدمرداش بعد ذلك، وتزوج ابنته.. وعدد آخر من الأفاضل أذكر صورهم ومواقفهم، وغابت عني أسماؤهم أو ألقابهم، ورحم الله شوقي إذ قال في سينيته:


اختلاف النهار والليل ينسي!


وكنا نسهر في منزل الأخ الدمرداش، ويجتمع هؤلاء الأحبة وغيرهم في أحاديث دينية وعلمية وأدبية وتاريخية، ومناقشات قد تسخن أحيانا.

ومن هذه المناقشات ما حدثناه أحد الحاضرين عن شيخه ولي الله الذي أخذ عليه البيعة، وعن فضائله وكراماته، ثم فاجأنا بقوله: ولكنه يتناول (الأفيون)!

قلت له: كيف يكون وليا لله، وهو يتناول هذا المخدِّر، وهو أخو الخمر، أو هو جزء منها، فالخمر كل ما خامر العقل، وقد نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر؟

قال: لعله يستعين به على قيام الليل وصلاة الأسحار؟

قلت له: هل يجوز الاستعانة بمحرم على طاعة هي نافلة؟

وهنا سكت الأخ، وقال: ولكن قلبي يحدثني أنه ولي لله؟

قلت له: وهل تأخذ أحكام الشرع من حديث قلبك أو من وحي ربك؟

قال: بل من وحي ربي.

قلت له: وحي ربك يحرم هذا، ولا يجيز اتباع من يرتكب مثل هذا، فإنه لا يؤمن على تربية الناس وهدايتهم إلى الله، وفاقد الشيء لا يعطيه، وقد ضل من كانت العميان تهديه!


الفرستق وبسيون:

ومن القرى التي زرتها أكثر من مرة: قرية (الفرستق) بالتاء لا بالدال، وهي قرية أخي الحبيب ورفيق دربي أحمد محمد العسال، وهي من قرى مركز بيسون، وتقع على شاطئ فرع النيل الغربي (فرع رشيد) وتقابلها على الجانب الآخر في مديرية البحيرة: قرية (نكلا العنب) التي أنجبت الشيخ الغزالي، فهذه أنجبت العسال، وتلك أنجبت الغزالي.

وقرية (الفرستق) تقع بالقرب من قرية (القضابة) وكان بها عدد من الإخوة عبد المجيد الخلالي ومحمد الحشاش وأخوه عبد الفتاح الحشاش.

وهذه كلها تابعة لبسيون التي كان لي فيها صولات وجولات، وزيارات تلو زيارات، وقد توثقت الصلة مع رئيس الإخوان فيها الحاج أحمد البس، وكان رجلا مربيا مجمعا، تلتقي عليه القلوب، لبشاشة وجهه، وحلاوة حديثه، وحسن تصرفه. وكان معه عدد من الإخوة الأفاضل أذكر منهم الحاج إبراهيم الباجوري التاجر.

كما تعرفت على عدد من طلاب الثانوي الغيورين الوعاة المتوثبين، أذكر منهم الطالب جمال بدوي، الكاتب المعروف اليوم، الذي رأس تحرير (الوفد) عدة سنين.