قالب:الجزء الثانى من سورة البقرة
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) وبعد النهي عن فعل القبيح يحبب إليهم فعل الجميل: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله). . ويكفي في حس المؤمن أن يتذكر أن الله يعلم ما يفعله من خير ويطلع عليه , ليكون هذا حافزا على فعل الخير , ليراه الله منه ويعلمه . . وهذا وحده جزاء . . قبل الجزاء . . ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج . . زاد الجسد وزاد الروح . . فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد , يقولون:نحج بيت الله ولا يطعمنا ! وهذا القول - فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجه فيه القلب إلى الله ويعتمد عليه كل الاعتماد - يحمل كذلك رائحة عدم التحرج في جانب الحديث عن الله , ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجون بيته فعليه أن يطعمهم !! ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه , مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . واتقون يا أولي الألباب). . والتقوى زاد القلوب والأرواح . منه تقتات . وبه تتقوى وترف وتشرق . وعليه تستند في الوصول والنجاة . وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى , وخير من ينتفع بهذا الزاد . الدرس السادس:198 - 199 التجارة في الحج والإفاضة لمزدلفة ثم يمضي في بيان أحكام الحج وشعائره , فيبين حكم مزاولة التجارة أو العمل بأجر بالنسبة للحاج . وحكم الإفاضة ومكانها . وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام , واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله , إن الله غفور رحيم). . قال البخاري - بإسناده - عن ابن عباس . قال:كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية . فتأثموا أن يتجروا في الموسم . فنزلت: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)في مواسم الحج . وروى أبو داود - بإسناده من طريق آخر - إلى ابن عباس . قال:كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج , يقولون:أيام ذكر . فأنزل الله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم). . وفي رواية عن أبي أمامة التيمي قال:قلت لابن عمر:إنا نكري . فهل لنا من حج ? قال:أليس تطوفون بالبيت , وتأتون بالمعروف , وترمون الجمار , وتحلقون رؤوسكم ? قال:قلنا:بلى . فقال ابن عمر:جاء رجل إلى النبي [ ص ] فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم). وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر [ رواها ابن جرير ] قال:قلت:يا أمير المؤمنين . كنتم تتجرون في الحج ? قال:وهل كانت معايشهم إلا في الحج ? وهذا التحرج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة , والتحرج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء أو العمل بأجر في الحج . . هو طرف من ذلك التحرج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغا في الجاهلية , وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه . وهي الحالة التي تحدثنا عنها في أوائل هذا الجزء ,
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)
عند الكلام عن التحرج من الطواف بالصفا والمروة .
وقد نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج , وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله:
(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم). .
ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق:إنه لا يرزق نفسه بعمله . إنما هو يطلب من فضل الله , فيعطيه الله . فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة ; وهي أنه يبتغي من فضل الله , وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق . ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه , وهو يبتغي الرزق , فهو إذن في حالة عبادة لله , لا تتنافى مع عبادة الحج , في الاتجاه إلى الله . . ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء . . وكل حركة منه عبادة في هذا المقام .
لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج , فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام:
(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين). .
والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج . . روى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير , عن عطاء , عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي . قال:سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه , ومن تأخر فلا إثم عليه " . .
ووقت الوقوف بعرفة من الزوال [ الظهر ] يوم عرفة - وهو اليوم التاسع من ذي الحجة - إلى طلوع الفجر من يوم النحر . . وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد , وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة . استنادا إلى حديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي . عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال:" أتيت رسول الله [ ص ] بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت:يا رسول الله إني جئت من جبل طيء . أكللت راحلتي وأتعبت نفسي , والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه . فهل لي من حج ? فقال رسول الله [ ص ]:" من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع , وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا , فقد تم حجه وقضى تفثه " .
وقد سن رسول الله [ ص ] للوقوف هذا الوقت - على أي القولين - ومد وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النحر - وهو العاشر من ذي الحجة - ليخالف هدي المشركين في وقوفهم بها . . روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي - بإسناده - عن المسور ابن مخرمة قال:" خطبنا رسول الله [ ص ] وهو بعرفات . فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال:" أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال:أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر . ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس , إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها . وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس , مخالفا هدينا هدي أهل الشرك " . .
والذي ورد عن فعل رسول الله [ ص ] أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة , وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله - في صحيح مسلم - " فلم يزل واقفا - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس وبدتالصفرة قليلا , حتى غاب القرص , وأردف أسامة خلفه , ودفع رسول الله [ ص ] وقد شنق للقصواء الزمام , حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله , ويقول بيده اليمنى:" أيها الناس , السكينة السكينة " كلما اتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا . ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة , ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام . فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا , فدفع قبل أن تطلع الشمس " . .
وهذا الذي فعله رسول الله [ ص ] هو الذي تشير إليه الآية:
(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين). .
والمشعر الحرام هو المزدلفة . والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات . ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم ; وهو مظهر الشكر على هذه الهداية . ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم:
(وإن كنتم من قبله لمن الضالين). .
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها . . لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال . . ضلال في التصور , مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة , ونسبة بنوة الملائكة إلى الله , ونسبة الصهر إلى الله مع الجن . . إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة , التي كانت تنشىء بدورها اضطرابا في العبادات والشعائر والسلوك:من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة . ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها . ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة . . وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية . . تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس). إلى إزالتها كما سيجيء . وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تكن تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي . وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية , والعلاقات الزوجية , وعلاقات الأسرة بصفة عامة . وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع . . وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام .
وحين كانوا يسمعون:
(واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين). .
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ; ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام , والذي هداهم الله إليه بهذا الدين , فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال . .
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل . . من هم بغير الإسلام ? وما هم بغير هذه العقيدة ? إنهم حين يهتدون إلى الإسلام , وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم . ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا , أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي . . وإن البشرية كلها لتتيهفي جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي . . لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان , ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة , ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال !
وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي , على البشرية كلها في جميع تصوراتها , وجميع مناهجها , وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا , ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث , ومن عنت ومن شقوة , ومن ضآلة , ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله ! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله !
فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين , وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى:
(واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين). .
والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع , الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام , متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام , عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة , ولا يميز فردا عن فرد , ولا قبيلة عن قبيلة , ولا جنسا عن جنس . . إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة , ونسب الإسلام هو وحده النسب , وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة . وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها "الحمس" جمع أحمس , ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب . ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات , ولا يفيضون - أي يرجعون - من حيث يفيض الناس . فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام , وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس:
(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس , واستغفروا الله , إن الله غفور رحيم). .
قال البخاري:حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت:" كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة , وكانوا يسمون الحمس , وسائر العرب يقفون بعرفات . فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه [ ص ] أن يأتي عرفات , ثم يقف بها ثم يفيض منها . فذلك قوله:من حيث أفاض الناس " . .
قفوا معهم حيث وقفوا , وانصرفوا معهم حيث انصرفوا . . إن الإسلام لا يعرف نسبا , ولا يعرف طبقة . إن الناس كلهم أمة واحدة . سواسية كأسنان المشط , لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى . ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب , ليلتقوا في بيت الله إخوانا متساوين . فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب . . ودعوا عنكم عصبية الجاهلية , وادخلوا في صبغة الإسلام . . واستغفروا الله . . استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية . واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس , أو نطق بها اللسان . مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال .
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج , على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه . أساس المساواة , وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة , ولا يفرقها جنس , ولا تفرقها لغة , ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعا . . وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع . .
الدرس السابع:200 ذكر الله ودعاؤه في أيام التشريق
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا . فمن الناس من يقول:ربنا آتنا في الدنيا , وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول:ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة , وقنا عذاب
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا , والله سريع الحساب). .
ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز . . وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب ; إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء ومعاظمات بالأنساب . . ذلك حين لم يكن للعرب من الإهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات ! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل . فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام . فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض , ولا ذكر لهم في السماء . . ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة . في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء . . فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة , وأنشأ لهم الإسلام تصورا جديدا , بعد أن أنشأهم نشأة جديدة . . أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير , يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج , بدلا من ذكر الآباء:
(فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا). .
وقوله لهم: (كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا). . لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله , ولكنه يحمل طابع التنديد , ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى . . يقول لهم:إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله . فاستبدلوا هذا بذاك . بل كونوا أشد ذكرا لله وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب , فتجردوا كذلك من الأنساب . . ويقول لهم:إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقا , وليس هو التفاخر بالآباء . فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى . ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه .
ثم يزن لهم بهذا الميزان , ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان:
(فمن الناس من يقول:ربنا آتنا في الدنيا , وما له في الآخرة من خلاق ) (ومنهم من يقول:ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب). .
إن هناك فريقين . فريقا همه الدنيا , فهو حريص عليها , مشغول بها . وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون:اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن , لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا . . وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس . . ولكن مدلول الآية اعم وأدوم . . فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع . النموذج الذي همه الدنيا وحدها . يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء ; لأنها هي التي تشغله , وتملأ فراغ نفسه , وتحيط عالمه وتغلقه عليه . . هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا - إذا قدر العطاء - ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق !
وفريقا أفسح أفقا , وأكبر نفسا , لأنه موصول بالله , يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول:
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). .
إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين . ولا يحددون نوع الحسنة - بل يدعون اختيارها لله , والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون . . وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطىء عليهم . فالله سريع الحساب .
إن هذا التعليم الإلهي يحدد:لمن يكون الاتجاه . ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره , وترك لله الخيرة , ورضي بما يختاره له الله , فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة . ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب . والأول رابح حتى بالحساب الظاهر . وهو في ميزان الله أربح وأرجح . وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال , وفي استقامة على التصور الهاديء المتزن الذي ينشئه الإسلام .
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا . فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا . ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها ; وألا يضيقوا من آفاقهم , فيجعلوا من الدنيا سورا يحصرهم فيها . . إنه يريد أن يطلق(الإنسان)من أسوار هذه الأرض الصغيرة ; فيعمل فيها وهو أكبر منها ; ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى . . ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي . .
الدرس الثامن:203 التعجل والتأخر في أيام التشريق
ثم تنتهي أيام الحج وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله , وإلى تقواه:
(واذكروا الله في أيام معدودات . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه , ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى . واتقوا الله , واعلموا أنكم إليه تحشرون). .
أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده . . قال ابن عباس:الأيام المعدودات أيام التشريق . . وقال عكرمة: (واذكروا الله في أيام معدودات)يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات:الله أكبر . الله أكبر . وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي:" وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " . . وأيام عرفة والنحر والتشريق . كلها صالحة للذكر . اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين . بشرط التقوى:
ذلك (لمن اتقى). .
ثم يذكرهم بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحج ; وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف:
(واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون). .
وهكذا نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية ; وكيف خلعها من جذورها الجاهلية ; وربطها بعروة الإسلام ; وشدها إلى محوره ; وظللها بالتصورات الإسلامية ; ونقاها من الشوائب والرواسب . . وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة . . إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية ; إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد . . إنها لم تعد تقليدا عربيا , إنما عادت عبادة إسلامية . فالإسلام , والإسلام وحده , هو الذي يبقى وهو الذي يرعى . .
الوحدة الثانية عشرة:الصفحات:202 - 219 الآيات:204 - 214 الموضوع:نماذج مؤمنة ونماذج كافرة مقدمة الوحدة توجيهات وتشريعات القرآن منهج للتربية
في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية - التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية - يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجا للتربية , قائما على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية , ومساربها الظاهرة والخفية ; يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها , كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر , واضحة الخصائص جاهرة السمات , حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات , أنه يرى ذوات بعينها , تدب في الأرض , وتتحرك بين الناس , ويكاد يضع يده عليها , وهو يصيح:هذه هي بعينها التي عناها القرآن !
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر:الأول نموذج المرائي الشرير , الذلق اللسان . الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها . والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره . فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق ; ولم يحاول إصلاح نفسه ; بل أخذته العزة بالإثم , واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير . . ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل ! والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله , لا يستبقي منها بقية , ولا يحسب لذاته حسابا في سعيه وعمله , لأنه يفنى في الله , ويتوجه بكليته إليه .
وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافا بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله , دون ما تردد , ودون ما تلفت , ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات , كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة اللهعليها وكفرتها . . ويسمى هذا الاستسلام دخولا في السلم . فيفتح بهذه الكلمة بابا واسعا للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله , والسير على منهجه في الحياة [ كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله ] .
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى , وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا . . يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر , وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال . ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله: (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة). .
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس . وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه . وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين (الناس فيما اختلفوا فيه). .
ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق ; ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل . كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها . وكي تقبل عليها راضية النفس , مستقرة الضمير ; تتوقع نصر الله كلما غام الأفق , وبدا أن الفجر بعيد !
وهكذا نرى أطرافا من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها , تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة , تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية .
الدرس الأول:204 - 207 نموذج المنافق الكاذب والمؤمن الصالح
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا , ويشهد الله على ما في قلبه , وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل , والله لا يحب الفساد . وإذا قيل له:اتق الله أخذته العزة بالإثم , فحسبه جهنم ولبئس المهاد . . ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله , والله رؤوف بالعباد). .
هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس , تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدرا بشريا على الإطلاق . فاللمسات البشرية لا تستوعب - في لمسات سريعة كهذه - أعمق خصائص النماذج الإنسانية , بهذا الوضوح , وبهذا الشمول .
إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات . . وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيا , مميز الشخصية . حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه , وتفرزه من ملايين الأشخاص , وتقول:هذا هو الذي أراد إليه القرآن ! . . إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء !
هذا المخلوق الذي يتحدث , فيصور لك نفسه خلاصة من الخير , ومن الإخلاص , ومن التجرد , ومن الحب , ومن الترفع , ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس . . هذا الذي يعجبك حديثه . تعجبك ذلاقة لسانه , وتعجبك نبرة صوته , ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح . . (ويشهد الله على ما في قلبه). . زيادة في التأثير والإيحاء , وتوكيدا للتجرد والإخلاص , وإظهارا للتقوى وخشية الله . . (وهو ألد الخصام)! تزدحم نفسه باللدد والخصومة , فلا ظل فيها للود والسماحة , ولا موضع فيها للحب والخير , ولا مكان فيها للتجمل والإيثار .
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه , ويتنافر مظهره ومخبره . . هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان . .
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء , وانكشف المستور , وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد:
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها , ويهلك الحرث والنسل , والله لا يحب الفساد). .
وإذا انصرف إلى العمل , كانت وجهته الشر والفساد , في قسوة وجفوة ولدد , تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والأثمار , ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال . . وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد . . مما كان يستره بذلاقة اللسان , ونعومة الدهان , والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح . . (والله لا يحب الفساد). . ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد . . والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس ; ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا , فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر .
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:
(وإذا قيل له:اتق الله أخذته العزة بالإثم . فحسبه جهنم ولبئس المهاد). .
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض ; وأهلك الحرث والنسل ; ونشر الخراب والدمار ; وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد . . إذا فعل هذا كله ثم قيل له: (اتق الله). . تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه . . أنكر أن يقال له هذا القول ; واستكبر أن يوجه إلى التقوى ; وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب . وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن(بالإثم). . فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة , ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به , وامام الله بلا حياء منه ; وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ; ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء !
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة , وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها . . وتدع هذا النموذج حيا يتحرك . تقول في غير تردد:هذا هو . هذا هو الذي عناه القرآن ! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن !
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم ; واللدد في الخصومة ; والقسوة في الفساد ; والفجور في الإفساد . . في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة:
(فحسبه جهنم , ولبئس المهاد !). .
حسبه ! ففيها الكفاية ! جهنم التي وقودها الناس والحجارة . جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون . جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة . جهنم التي لا تبقي ولا تذر . جهنم التي تكاد تميز من الغيظ ! حسبه جهنم (ولبئس المهاد !)ويا للسخرية القاصمة في ذكر(المهاد)هنا . . ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء !
. . . ذلك نموذج من الناس . يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . والله رؤوف بالعباد). .
ويشري هنا معناها يبيع . فهو يبيع نفسه كلها لله ; ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية , ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله . ليس له فيها شيء , وليس له من ورائها شيء . بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن , ولا استبقاء بقية لغير الله . . والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية . .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا , ليعتقها ويقدمها خالصة لله , لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه . فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير:
قال ابن كثير في التفسير:قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة:نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة , وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر لماله , وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ; فتخلص منهم , وأعطاهم ماله ; فأنزل الله فيه هذه الآية ; فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة , فقالوا له:ربح البيع . فقال:وأنتم . فلا أخسر الله تجارتكم . وما ذاك ? فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . . ويروى أن رسول الله [ ص ] قال له:" ربح البيع صهيب " . . قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن إبراهيم , حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه , حدثنا سليمان بن داود , حدثنا جعفر بن سليمان الضبي , حدثنا عوف , عن أبي عثمان النهدي , عن صهيب , قال:لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي [ ص ] قالت لي قريش:يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك ; وتخرج أنت ومالك ? والله لا يكون ذلك أبدا . فقلت لهم:أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ? قالوا:نعم ! فدفعت إليهم مالي , فخلوا عني , فخرجت حتى قدمت المدينة , فبلغ ذلك النبي [ ص ] فقال ":ربح صهيب . . ربح صهيب " . . مرتين . .
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث , أو أنها كانت تنطبق عليه , فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد . وهي ترسم صورة نفس , وتحدد ملامح نموذج من الناس ; ترى نظائره في البشرية هنا وهناك
والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان ; فظ القلب , شرير الطبع , شديد الخصومة , مفسود الفطرة . . والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان , متجرد لله , مرخص لأعراض الحياة . . وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ; ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ; وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن , ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان . ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول , وطلاوة الدهان ; وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة , والنبرة المتصنعة , والنفاق والرياء والزواق ! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان .
الدرس الثاني:208 - 209 دعوة لصدق الإلتزام بالإسلام وتحذير من الشيطان
وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر , ونموذج الإيمان الخالص . يهتف بالجماعة المسلمة , باسم الإيمان الذي تعرف به , للدخول في السلم كافة , والحذر من اتباع خطوات الشيطان , مع التحذير من الزلل بعد البيان .
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة , ولا تتبعوا خطوات الشيطان , إنه لكم عدو مبين . فإن زللتم , من بعد ما جاءتكم البينات , فاعلموا أن الله عزيز حكيم). .
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان . بهذا الوصف المحبب إليهم , والذي يميزهم ويفردهم , ويصلهم بالله الذي يدعوهم . . دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . .
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله , في ذوات أنفسهم , وفي الصغير والكبير من أمرهم . أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور , ومن نية أو عمل , ومن رغبة أو رهبة , لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه . استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية . الاستسلاملليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد ; وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير , في الدنيا والآخرة سواء .
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن . وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية . . وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ; ليخلصوا ويتجردوا ; وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم , وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم , في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام . عالم كله ثقة واطمئنان , وكله رضى واستقرار . لا حيرة ولا قلق , ولا شرود ولا ضلال . سلام مع النفس والضمير . سلام مع العقل والمنطق . سلام مع الناس والأحياء . سلام مع الوجود كله ومع كل موجود . سلام يرف في حنايا السريرة . وسلام يظلل الحياة والمجتمع . سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه , ونصاعة هذا التصور وبساطته . . إنه إله واحد . يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه ; فلا تتفرق به السبل , ولا تتعدد به القبل ; ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر . . فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود . وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح . ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا , وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر . ولم يعد يخشى فوت شيء . ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .
وهو إله عادل حكيم , فقوته وقدرته ضمان من الظلم , وضمان من الهوى , وضمان من البخس . وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات . ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد , ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
وهو رب رحيم ودود . منعم وهاب . غافر الذنب وقابل التوب . يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . فالمسلم في كنفه آمن آنس , سالم غانم , مرحوم إذا ضعف , مغفور له متى تاب . .
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام ; فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه , وما يطمئن روحه , وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام . .
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب . وبين الخالق والكون . وبين الكون والإنسان . . فالله خلق هذا الكون بالحق ; وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة . وهذا الإنسان مخلوق قصدا , وغير متروك سدى , ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده , ومسخر له ما في الأرض جميعا . وهو كريم على الله , وهو خليفته في أرضه . والله معينه على هذه الخلافة . والكون من حوله صديق مأنوس , تتجاوب روحه مع روحه , حين يتجه كلاهما إلى الله ربه . وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به . وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجودالكبير , الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان ! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان !
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة , وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش , وحين يعينها على النماء , وحين يزيل من طريقها العقبات . . هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة . عقيدة تسكب في روحه السلام ; وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ; ويشيع من حوله الأمن والرفق , والحب والسلام .
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ; ونفي القلق والسخط والقنوط . . إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض ; والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . . إن الحساب الختامي هناك ; والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب . فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه . ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس , فسوف يوفاه بميزان الله . ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد , فالعدل لا بد واقع . وما الله يريد ظلما للعباد .
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات . بلا تحرج ولا حياء . فهناك الآخرة فيها عطاء , وفيها غناء , وفيها عوض عما يفوت . وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة ; وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين ; وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود !
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة , وأنه مخلوق ليعبد الله . . من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء . ترفع شعوره وضميره , وترفع نشاطه وعمله , وتنظف وسائله وأدواته . فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله ; وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه ; وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها . فأولى به ألا يغدر ولا يفجر ; وأولى به ألا يغش ولا يخدع ; وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر ; وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة . وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل , وألا يعتسف الطريق , وألا يركب الصعب من الأمور . فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة . . ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع , وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق . فهو يعبد في كل خطوة ; وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة , وهو يرتقي صعدا إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله , في طاعة الله , لتحقيق إرادة الله . . وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار ; والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق ; وبلا قنوط من عون الله ومدده ; وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء . . ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه . فهو إنما يقاتل لله , وفي سبيل الله , ولإعلاء كلمة الله ; ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله . قانونه قانونه , ووجهته وجهته . فلا صدام ولا خصام , ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة . وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته , وتهتدي بالنور الذي يهتدي به , وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله .
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة . لا تتجاوز الطاقة ; ولاتتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ; ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ; ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء . . ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه . يحمل منها ما يطيق حمله , ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام .
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني , في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة , والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال . . كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق . هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره . ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب , تختلف درجة صفائه , ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر , وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية !
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان , واللغات والألوان , وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان . .
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: (إنما المؤمنون إخوة ) . . والذي يرى صورته في قول النبي الكريم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . .
هذا المجتمع الذي من آدابه: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). . (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا , إن الله لا يحب كل مختال فخور). . (ادفع بالتي هي أحسن - فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). . (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم , ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون). . (ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم). .
هذا المجتمع الذي من ضماناته:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) . . (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا). (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). . و . . " كل المسلم على المسلم حرام:دمه وعرضه وماله " . .
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ; ولا يتبجح فيه الإغراء , ولا تروج فيه الفتنة , ولا ينتشر فيه التبرج , ولا تتلفت فيه الأعين على العورات , ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات , ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا . . هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة , والذي يسمع الله - سبحانه - يقول:
(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون). . (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله , إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ; وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين). . (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا , وأولئك هم الفاسقون). . (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم , ذلك أزكى لهم , إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها , وليضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن , أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن , أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن , أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن , وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). . والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان:(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن , ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى , وأقمن الصلاة وآتين الزكاة , وأطعن الله ورسوله . إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها , ويأمن الزوج على زوجته , ويامن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم , ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم . حيث لا تقع العيون على المفاتن , ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم . فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب . . بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن , ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان !
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا , ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم , ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة , والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع ; حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية .
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع , بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع . فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة , ولا يتسور على أحد بيته , ولا يتجسس على أحد فيه متجسس , ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ; ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة .
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون . كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم , و لا هوى حاشية , ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية , الذي لا يخضع البشر فيه للبشر . إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته ; وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته . فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين , في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين . .
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة . ليسلموا أنفسهم كلها لله ; فلا يعود لهم منها شيء , ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ ; إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقيادوفي تسليم . .
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان , في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام , أو التي عرفته ثم تنكرت له , وارتدت إلى الجاهلية , تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . . هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري , وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو "السويد" . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان , مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . . وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا ? ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله ?
إنه شعب مهدد بالانقراض , فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط ! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط ! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ; ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . . ثم الانتحار . . والحال كهذا في أمريكا . . والحال أشنع من هذا في روسيا . .
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم أسلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة , ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين). .
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . . حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان . فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان . إما الدخول في السلم كافة , وإما اتباع خطوات الشيطان . إما هدى وأما ضلال . إما إسلام وإما جاهلية . إما طريق الله وإما طريق الشيطان . وإما هدى الله وإما غواية الشيطان . . وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه , فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات .
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها , أو يخلط واحدا منها بواحد . . كلا ! إنه من لا يدخل في السلم بكليته , ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته , ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر . . إن هذا في سبيل الشيطان , سائر على خطوات الشيطان . .
ليس هنالك حل وسط , ولا منهج بين بين , ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك ! إنما هناك حق وباطل . هدى وضلال . إسلام وجاهلية . منهج الله أو غواية الشيطان . والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ; ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان . ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم , ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم , تلك العداوة الواضحة البينة , التي لا ينساها إلا غافل . والغفلة لا تكون مع الإيمان .
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210)
(فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم). .
وتذكيرهم بأن الله(عزيز)يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة , وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه . . وتذكيرهم بأنه(حكيم). . فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير , وما نهاهم عنه هو الشر , وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه . . فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام . .
الدرس الثالث:210 - 211 تهديد للمنحرفين والتمثيل ببني إسرائيل
بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان . فيتحدث بصيغة الغيبة بدلا من صيغة الخطاب:
(هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ? وقضي الأمر , وإلى الله ترجع الأمور). .
وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة . ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة ? ماذا ينتظرون ? وماذا يرتقبون ? تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله - سبحانه - في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة ? وبتعبير آخر:هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود , الذي قال الله سبحانه:إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام , ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ?
وفجأة - وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب - نجد أن اليوم قد جاء , وأن كل شيء قد انتهى , وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها:
(وقضي الأمر). .
وطوي الزمان , وأفلتت الفرصة , وعزت النجاة , ووقفوا وجها لوجه أمام الله ; الذي ترجع إليه وحده الأمور:
(وإلى الله ترجع الأمور). .
إنها طريقة القرآن العجيبة , التي تفرده وتميزه من سائر القول . الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة , وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه !
فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم ; وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم ? بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم ! والسلم منهم قريب . السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . يوم يقضي الأمر . . وقد قضي الأمر ! (وإلى الله ترجع الأمور). .
هنا يلتفت السياق لفتة أخرى . فيخاطب النبي [ ص ] يكلفه أن يسأل بني إسرائيل - وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل -:كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا ! وكيف بدلوا نعمة الله , نعمة الإيمان والسلم , من بعد ما جاءتهم:
(سل بني إسرائيل:كم آتيناهم من آية بينة , ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب). .
والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية , فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء ! موقف التلكؤ دون الاستجابة ; وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة ; وموقف التعنت وسؤال الخوارق , ثم
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
الاستمرار في العناد والجحود . . وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها , كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة .
(سل بني إسرائيل:كم آتيناهم من آية بينة). .
والسؤال هنا قد لا يكون مقصورا على حقيقته . إنما هو أسلوب من أساليب البيان , للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل , والخوارق التي أجراها لهم . . إما بسؤال منهم وتعنت , وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة . . ثم ما كان منهم - على الرغم من كثرة الخوارق - من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان .
ثم يجيء التعقيب عاما:
(ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب). .
ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم . أو نعمة الإيمان . فهما مترادفان . والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل , وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار , منذ أن بدلوا نعمة الله , وأبوا الطاعة الراضية , والاستسلام لتوجيه الله . وكانوا دائما في موقف الشاك المتردد , الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة ; ثم لا يؤمن بالمعجزة , ولا يطمئن لنور الله وهداه , والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل , ويجد مصداقه أخيرا فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان .
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة . وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد ; وتجد الشقوة النكدة ; وتعاني القلق والحيرة ; ويأكل بعضها بعضا ; ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه , ويطارها وتطارده بالأشباح المطلقة , وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات , وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح !
ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها:من مائلة برأسها , إلى كاشفة عن صدرها , إلى رافعة ذيلها , إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان ! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل ! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب !
ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة , وأغانيهم المحمومة , وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات ; ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ , أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح . .
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل , لا بل بين الصباح والمساء !
كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام . ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها , وعن حالة "الهروب" من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة , كالذي تطارده الجنة والأشباح .
وإن هو إلا عقاب الله , لمن يحيد عن منهجه , ولا يستمع لدعوته: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). .
وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده , لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب . . والعياذ بالله .
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
الدرس الرابع:212 ميزان المؤمنين وميزان الكفار في وزن القيم والأشخاض
وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة , والتبديل بعد النعمة , يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا ; ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص:
(زين للذين كفروا الحياة الدنيا , ويسخرون من الذين آمنوا , والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة , والله يرزق من يشاء بغير حساب). .
لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا ; بأعراضها الزهيدة , واهتماماتها الصغيرة . زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ; ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها ; ولا يعرفون قيما أخرى غير قيمها . والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن , ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة . . إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها ; لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة , ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها . . ولكن لأنه ينظر إليها من عل - مع قيامه بالخلافة فيها , وإنشائه للعمران والحضارة , وعنايته بالنماء والإكثار - فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الاعراض وأغلى . ينشد منها أن يقر في الأرض منهجا , وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل , وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس , ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع , وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود , الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف , وضخامة الاهتمام , وشمول النظرة .
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض , المستعبدون لأهداف الأرض . . ينظرون للذين آمنوا , فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم , ومتاعهم الزهيد ; ليحاولوا آمالا كبارا لا تخصهم وحدهم , ولكن تخص البشرية كلها ; ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم ; ويرونهم يعانون فيها المشقات ; ويقاسون فيها المتاعب ; ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة . . ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا - في هذه الحال - فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا . عندئذ يسخرون منهم . يسخرون من حالهم , ويسخرون من تصوراتهم , ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه !
(زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا . . .). .
ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان . . إنه ميزان الأرض . ميزان الكفر . ميزان الجاهلية . . أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه . والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه:
(والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة). .
هذا هو ميزان الحق في يد الله . فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان . وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء , وسخرية الساخرين , وقيم الكافرين . . إنهم فوقهم يوم القيامة . فوقهم عند الحساب الختامي الأخير . فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين .
والله يدخر لهم ما هو خير , وما هو أوسع من الرزق . يهبهم إياه حيث يختار ; في الدنيا أو في الآخرة , أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير:
(والله يرزق من يشاء بغير حساب). .
وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء , ويفيض على من يشاء . لا خازن لعطائه ولا بواب ! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه , وليس لهم فيما أعطوا فضل . وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة . . فالعطاء كله من عنده . واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى . .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)
وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس . . تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله ; فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض , واهتمامات الصغار ; وبذلك يحققون إنسانيتهم ; ويصبحون سادة للحياة , لا عبيدا للحياة . . كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر:الذين زينت لهم الحياة الدنيا , واستعبدتهم أعراضها وقيمها ; وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون !
وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين ; مهما أوتوا من المتاع والأعراض . على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون , وأن المؤمنين هم المحرومون ; فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة . وهم أحق بالرثاء والإشفاق . .
الدرس الخامس:213 الإختلاف بين الناس في التصورات والعقائد والإسلام هو الحق
وعلى ذكر الموازين والقيم ; وظن الذين كفروا بالذين آمنوا ; وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله . . ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد , والموازين والقيم ; وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون ; وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون:
(كان الناس أمة واحدة ; فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ; وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم - فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ; والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .
هذه هي القصة . . كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد , وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم , قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى:أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة , ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم , وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها , وتفرقوا في المكان , وتطورت معايشهم ; وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة , التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها , ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات .
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر , وتعددت المناهج , وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . .
(وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه). .
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا ; لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم ; يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة , واستعدادات شتى من الوان متعددة ; كي تتكامل جميعها وتتناسق , وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة , وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ; ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . (ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم). .
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشى ء بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعا حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات ; فلا يقتلها ولا يكبحها ; ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح .
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون ; وحكم عدل يرجع إليه المختصمون ; وقول فصل ينتهي عنده الجدل , ويثوب الجميع منه إلى اليقين:
(فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين , وأنزل معهم الكتاب بالحق , ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه).
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى "بالحق" . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب ; وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل , والقول الفصل , فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد ; وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس ; وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ; ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ; ولا يقوم على الأرض السلام ; ولا يدخل الناس في السلم بحال .
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم ; والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق ; وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
وهو كتاب واحد في حقيقته , جاء به الرسل جميعا . فهو كتاب واحد في أصله , وهي ملة واحدة في عمومها , وهو تصور واحد في قاعدته:إله واحد , ورب واحد , ومعبود واحد , ومشرع واحد لبني الإنسان . . ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ; ووفق أطوار الحياة والارتباطات ; حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام , وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير .
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله , يقوم على القاعدة الأصيلة:قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة , وتتراكم الخرافات والأساطير , حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير . وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة , وتنفي ما علق بها من الانحرافات , وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين , والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون , وهم لا يشعرون , فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور , كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين !
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني , هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق , ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه , في كل زمان , ومع كل رسول , منذ أقدم الأزمان .
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس , وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكنبد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني , وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني , ولا يتأثر بالقصور الإنساني , ولا يتأثر الجهل الإنساني !
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علما غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل , وإلى مستيقن ومظنون ومجهول , وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيدا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد , ومنظور ومحجوب , ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق , ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع .
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة , واستعلاء على النقص , واستعلاء على الفناء , واستعلاء على الفوت , واستعلاء على الطمع , واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله , لا أرب له , ولا هوى , ولا لذة , ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور !
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة , والظروف المتغيرة , والحاجات المتجددة ; ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه , فيدرك خطأه وصوابه , وغيه ورشاده , وحقه وباطله , من ذلك الميزان الثابت . . وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله !
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . .
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية:
إن الإسلام يضع(الكتاب)الذي أنزله الله "بالحق" ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة , وظلت قائمة عليها , فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى , فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعا . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق , وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء , وقولهم لشيء , وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقا إذا كان مخالفا للكتاب ; ولا تجعله أصلا من أصول الدين ; ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين ; ولا تبرره لأن أجيالا متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس ! وفي التاريخ الإسلامي مثلا وقع انحراف , وظل ينمو وينمو . . فلا يقال:إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام ! كلا ! إن الإسلام يظل بريئا من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافا لا يصلح حجة ولا سابقة ; ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله , وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك ; وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب , والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه:
(وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغيا بينهم). .
فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ; والمضي في التفرق واللجاج والعناد .
وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب , القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى , أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق:
(فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه). .
هداهم بما في نفوسهم من صفاء , وبما في أرواحهم من تجرد , وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق . وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة:
(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات , ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . .
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء , ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط ; أولئك يدخلون في السلم , وأولئك هم الأعلون , ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون , ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين !
الدرس السادس:214 الإبتلاء والمحن سنة الدعوات
وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة . . تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب , وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات . . يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة , في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة , وليكونوا لها أهلا:أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ; وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر ; وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ; حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم , لم تزعزعهم شدة , ولم ترهبهم قوة , ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة . . استحقوا نصر الله , لأنهم يومئذ أمناء على دين الله , مأمونون على ما ائتمنوا عليه , صالحون لصيانته والذود عنه . واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل , وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء . فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة , وارفع ما تكون عن عالم الطين:
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة , ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم , مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب). .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى , وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها , وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين , الذين يكل إليهم رايته , وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)
بالله , والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم: (متى نصر الله ?)ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف , تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب , فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: (متى نصر الله ?). .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله , ويجيء النصر من الله:
(ألا إن نصر الله قريب). .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله , وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها , فهم يتطلعون فحسب إلى (نصر الله), لا إلى أي حل آخر , ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة , مستحقين لها , جديرين بها , بعد الجهاد والامتحان , والصبر والثبات , والتجرد لله وحده , والشعور به وحده , وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة , ويرفعها على ذواتها , ويطهرها في بوتقة الألم , فيصفو عنصرها ويضيء , ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية , فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع , وكما يقع في كل قضية حق , يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق , حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها , وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة , والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها , وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون , والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى , وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
الوحدة الثالثة عشرة:الصفحات:219 - 232 الآيات:215 - 220 الموضوع:إجابات على أربعة أسئلة للصحابة تقديم الوحدة
الظاهرة البارزة في هذا القطاع من السورة , هي ظاهرة الأسئلة عن أحكام . . وهي كما قلنا عند الكلام عن قوله تعالى:يسألونك عن الأهلة . . في هذا الجزء . . ظاهرة توحي بيقظة العقيدة واستيلائها على نفوس الجماعة المسلمة إذ ذاك , ورغبة المؤمنين في معرفة حكم العقيدة في كل شأن من شؤون حياتهم اليومية , كي يطابقوا بين تصرفهم وحكم العقيدة . . وهذه آية المسلم:أن يتحرى حكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة من شؤون حياته , فلا يقدم على عمل حتى يستيقن من حكم الإسلام فيه . فما أقره الإسلام كان هو دستوره وقانونه ; وما لم يقره كان ممنوعا عليه حراما . وهذه الحساسية هي آية الإيمان بهذه العقيدة .
كذلك كانت تثار بعض الأسئلة بسبب الحملات الكيدية التي يشنها اليهود والمنافقون , والمشركون كذلك حول بعض التصرفات ; مما يدفع بعض المسلمين ليسأل عنها , إما ليستيقن من حقيقتها وحكمتها , وإما تأثرا بتلك الحملات والدعايات المسمومة . فكان القرآن يتنزل فيها بالقول الفصل ; فيثوب المسلمون فيها إلى اليقين ; وتبطل الدسائس , وتموت الفتن , ويرتد كيد الكائدين إلى نحورهم . .
وهذا يصور جانبا من المعركة التي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين , وتارة في صف المسلمين , ضد الكائدين والمحاربين !
وفي هذا الدرس جملة من هذه الأسئلة:سؤال عن الإنفاق . مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون فيه النفقة . وسؤال عن القتال في الشهر الحرام . وسؤال عن الخمر والميسر . وسؤال عن اليتامى . . وبواعث هذه الأسئلة تمثل الأسباب التي ذكرناها من قبل . وسنعرضها بالتفصيل عند استعراض النصوص .
الدرس الأول:215 إجابة على سؤال حول الإنفاق ماذا ينفقون ولمن (يسألونك ماذا ينفقون ? قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل . وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم). .
لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال . فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها ; ثم هو ضرورة من ناحية أخرى:من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة ; وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد , لا يحتجن دونه شيئا , ولا يحتجز عنه شيئا . وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعوريا , إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عمليا .
وهنا يسأل بعض المسلمين: (ماذا ينفقون ?). .
وهو سؤال عن نوع ما ينفقون . . فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق ; ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها:
(قل:ما أنفقتم من خير). .
ولهذا التعبير إيحاءان:الأول إن الذي ينفق خير . . خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب , وتقدمة طيبة , وشيء طيب . . والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه ; وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه . فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس , ثم منفعة للآخرين وعون . وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة , وللنفس التزكية , وللإيثار معناه الكريم .
على أن هذا الإيحاء ليس إلزاما , فالإلزام - كما ورد في آية أخرى - أن ينفق المنفق من الوسط , لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده . ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير , والتحبيب فيه , على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس , وإعداد القلوب . .
أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه:
(فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل). .
وهو يربط بين طوائف من الناس . بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب , وبعضهم رابطة الرحم , وبعضهم رابطة الرحمة , وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة . . وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة:الوالدون . والأقربون . واليتامى والمساكين وابن السبيل . وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين .
ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى , والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديدا ووضوحا كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله [ ص ] قال لرجل:" ابدأ بنفسك فتصدق عليها , فإن فضل شيء فلأهلك , فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك , فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا . . . " .
هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها . . إنه يأخذ الإنسان كما هو , بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته ; ثم يسير به من حيث هو كائن , ومن حيث هو واقف ! يسير به خطوة خطوة , صعدا في المرتقى العالي:على هينة وفي يسر ; فيصعد وهو مستريح , هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته , وهو ينمي الحياة معه ويرقيها . لا يحس بالجهد والرهق , ولا يكبل بالسلاسلوالأغلال ليجر في المرتقى ! ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف ! ولا يعتسف به الطريق اعتسافا , ولا يطير به طيرانا من فوق الآكام ! إنما يصعدها به صعودا هينا لينا وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء , وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى , وروحه موصولة بالله في علاه .
ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته ; فأمره أولا بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها ; وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة . فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية . والرسول [ ص ] يقول:" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى , واليد العليا خير من اليد السفلى , وابدأ بمن تعول " . . وعن جابر - رضي الله عنه - قال":جاء رجل بمثل بيضة من ذهب , فقال:يا رسول الله . أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها . فأعرض عنه رسول الله [ ص ] ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه . فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك , فأعرض عنه . ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك , فأخذها [ ص ] فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته . وقال:" يأتي أحدكم بما يملك فيقول:هذه صدقة . ثم يقعد يتكفف الناس ! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " " . .
ولقد علم الله أن الإنسان يحب - أول ما يحب - أفراد أسرته الأقربين . . عياله . . ووالديه . فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم ; ليعطيهم من ماله وهو راض ; فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه , بل فيه حكمة وخير ; وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناسا هم أقرباؤه الأدنون , نعم , ولكنهم فريق من الأمة , إن لم يعطوا احتاجوا . وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد . وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول ; وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير .
ولقد علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة - بدرجاتهم منه وصلتهم به - ولا ضير في هذا . فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع . فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين , تساير عواطفه وميوله الفطرية , وتقضي حاجة هؤلاء , وتقوي أواصر الأسرة البعيدة , وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة , مترابطة العرى وثيقة الصلات .
وعندما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء - بعد ذاته - فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري , يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة . . وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف ; ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون , ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملا ; ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال , ولكنهم انقطعوا عنه , وحالت بينهم وبينه الحوائل - وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء - وهؤلاء جميعا أعضاء في المجتمع ; والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم , يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها . فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين . يبلغ أولا إلى تزكية نفوس المنفقين . فقد أنفقت طيبة بما أعطت , راضية بما بذلت , متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم . ويبلغ ثانيا إلى إعطاء هؤلاء المحتاجينوكفالتهم . ويبلغ ثالثا إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة , في غير ما تضرر ولا تبرم . . قيادة لطيفة مريحة بالغة ما تريد , محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد !
ثم يربط هذا كله بالأفق الأعلى , فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي , وفيما يفعل , وفيما يضمر من نية أو شعور:
(وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم). .
عليم به , وعليم بباعثه , وعليم بالنية المصاحبة له . . وهو إذن لا يضيع . فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء , والذي لا يبخس الناس شيئا ولا يظلمهم , والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه . .
بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى , وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله . . في رفق وفي هوادة , وفي غير معسفة ولا اصطناع . . وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير . ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان , كما هو , ويبدأ به من حيث هو ; ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة , ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج , في هذا الطريق .
الدرس الثاني:216 الجهاد تلك الفريضة الشاقة
وعلى هذا المنهج ذاته , يجري الأمر في فريضة الجهاد , التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق:
(كتب عليكم القتال وهو كره لكم . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ; وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون). .
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم , وللجماعة المسلمة , وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ; فلا ينكر مشقة هذه الفريضة , ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة , ولا يصادمها , ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر , ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ; ولكن وراءه حكمة تهون مشقته , وتسيغ مرارته , وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ; ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة , المطلع على العواقب المستورة , هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة , وتتفتح منافذ الرجاء , ويستروح القلب في الهاجرة , ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة , لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية , ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة , ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ; ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة , ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها , ويعترف بمشقة ما كتب عليها , ويعذرها ويقدرها ; ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .
وهكذا يربي الإسلام الفطرة , فلا تمل التكليف , ولا تجزع عند الصدمة الأولى , ولا تخور عند المشقة البادية , ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة , فقد يكمن فيها الخير بعد الضر , واليسر بعد العسر , والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب , والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ? وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ? وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ?!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون , وتقلب الأمور , وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر , يعمل ويرجو ويطمع ويخاف , ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل , وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني , لا يقف عند حد القتال , فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس , ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها , ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت , ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين ! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ? والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة . (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال:أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت , وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . قال:ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . .). . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائهاالخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ; ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء , بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
الدرس الثالث:3:217 - 218 القتال في الشهر الحرام وسرية عبدالله بن جحش
ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام:
(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ? قل:قتال فيه كبير . وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ; وإخراج أهله منه أكبر عند الله ; والفتنة أكبر من القتل , ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا , ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله , والله غفور رحيم). .
وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - وكان رسول الله [ ص ] قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين . فلما فتحه وجد به:" إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة - بين مكة والطائف - ترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم . . ولا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك " - وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال:سمعا وطاعة . ثم قال لأصحابه:قد أمرني رسول الله [ ص ] أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منها بخبر . وقد نهى أن استكره أحدا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع , فأنا ماض لأمر رسول الله [ ص ] فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم . فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - رضي الله عنهما - فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون . حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة , فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون , فقتلت السرية عمرا ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير . وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة . فإذا هي في اليوم الأول من رجب - وقد دخلت الأشهر الحرم - التي تعظمها العرب . وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها . . فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله [ ص ] قال:" ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا . فلما قال ذلك رسول الله [ ص ] سقط في أيدي القوم , وظنوا أنهم قد هلكوا ; وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش:قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام , وسفكوا فيه الدم , وأخذوا فيه الأموال , وأسروا فيه الرجال . وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد . . عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله . .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)
عمرو:عمرت الحرب . والحضرمي:حضرت الحرب . وواقد بن عبد الله:وقدت الحرب !
وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية , وتظهر محمدا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب , وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة ! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية . فقطعت كل قول . وفصلت في الموقف بالحق . فقبض الرسول [ ص ] الأسيرين والغنيمة .
(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ? قل قتال فيه كبير). .
نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام , وتقرر أن القتال فيه كبيرة , نعم ! ولكن
(وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله . والفتنة أكبر من القتل). . إن المسلمين لم يبدأوا القتال , ولم يبدأوا العدوان . إنما هم المشركون . هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله , والكفر به وبالمسجد الحرام . لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله . ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون . ولقد كفروا بالمسجد الحرام . انتهكوا حرمته ; فآذوا المسلمين فيه , وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة . وأخرجوا أهله منه , وهو الحرم الذي جعله الله آمنا , فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته . .
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام . . وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل . وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام . ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات ; الذي يتخذون منها ستارا حين يريدون , وينتهكون قداستها حين يريدون ! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم , لأنهم عادون باغون أشرار , لا يرقبون حرمة , ولا يتحرجون أمام قداسة . وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة !
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل . وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه , لتشويه موقف الجماعة المسلمة , وإظهارها بمظهر المعتدي . . وهم المعتدون ابتداء . وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .
إن الإسلام منهج واقعي للحياة , لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية . إنه يواجه الحياة البشرية - كما هي - بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية . يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد . يواجهها بحلول عملية تكافىء واقعياتها , ولا ترفرف في خيال حالم , ورؤى مجنحة:لا تجدي على واقع الحياة شيئا
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون . لا يقيمون للمقدسات وزنا , ولا يتحرجون أمام الحرمات , ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة . يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه , ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء , ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ! . . ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام , ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات , ويرفعون أصواتهم:انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !
فكيف يواجههم الإسلام ? يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة ? إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار منالسلاح , بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح , ولا يتورعون عن سلاح . . ! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا , لأنه يريد مواجهة الواقع , لدفعه ورفعه . يريد أن يزيل البغي والشر , وأن يقلم أظافر الباطل والضلال . ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة , ويسلم القيادة للجماعة الطيبة . ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة , وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة !
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات , ويشدد في هذا المبدأ ويصونه . ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات , ويؤذون الطيبين , ويقتلون الصالحين , ويفتنون المؤمنين , ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان !
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد . . إنه يحرم الغيبة . . ولكن لا غيبة لفاسق . . فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه . وهو يحرم الجهر بالسوء من القول . ولكنه يستثني (إلا من ظلم). . فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول , لأنه حق . ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه !
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة . ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة . . إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم , وإلى قتالهم وقتلهم , وإلى تطهير جو الحياة منهم . . هكذا جهرة وفي وضح النهار . .
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة , وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات . . حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
هذا هو الإسلام . . صريحا واضحا قويا دامغا , لا يلف ولا يدور ; ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة , لا تتأرجح فيها أقدامهم , وهم يمضون في سبيل الله , لتطهير الأرض من الشر والفساد , ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس . . هذا شر وفساد وبغي وباطل . . فلا حرمة له إذن , ولا يجوز أن يتترس بالحرمات , ليضرب من ورائها الحرمات ! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ; في سلام مع ضمائرهم , وفي سلام من الله . .
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة , وتمكين هذه القاعدة , وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم . . يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم , وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم:
(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). .
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ; وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ; بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ; ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل , ويرهبه كل باغ , ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج , ومن منهج قويم , ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون .ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه , ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم , وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين , وتتبع هذا المنهج , وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته , ولكن الهدف يظل ثابتا . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره , وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . . والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام , وينبهها إلى الخطر ; ويدعوها إلى الصبر على الكيد , والصبر على الحرب , وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر , فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل , فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره , وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه , لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر , مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي , وفي الارتداد الحقيقي , بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه , ويرتد عن إيمانه وإسلامه , ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به , ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا:إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة .
وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله ; لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان:
(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله , والله غفور رحيم). .
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدا . . ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق , فجاهدوا وصبروا , حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة . وفازوا بمغفرة الله ورحمته: (والله غفور رحيم). .
وهو هو طريق المؤمنين . .
الدرس الرابع:219 التدرج في تحريم الخمر والميسر
ثم يمضي السياق , يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار . . وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها . يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم , وتسغرق مشاعرهم وأوقاتهم:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
(يسألونك عن الخمر والميسر . قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس . وإثمهما أكبر من نفعهما). .
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر . ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما . إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها , ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها . وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر , ولا تناسبه بعثرة العمر , وبعثرة الوعي , وبعثرة الجهد في عبث الفارغين , الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم , أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر ; أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار ; كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية . أمس واليوم وغدا ! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة . .
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم . فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا . فالخير يتلبس بالشر , والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض . ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر . فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع , فتلك علة تحريم ومنع . وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع .
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم . وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته . ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر .
عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني , أي بمسألة اعتقادية , فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى .
ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد , أو بوضع اجتماعي معقد , فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج , ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة .
فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك:أمضى أمره منذ اللحظة الأولى . في ضربة حازمة جازمة . لا تردد فيها ولا تلفت , ولا مجاملة فيها ولا مساومة , ولا لقاء في منتصف الطريق . لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور , لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام .
فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف . والعادة تحتاج إلى علاج . . فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين , بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى . . ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون). . والصلاة في خمسة أوقات , معظمها متقارب , لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة ! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب , وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي ; إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله . فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها . . حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون). .
وأما في الرق مثلا , فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي , وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق , والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبلتعديل ظواهرها وآثارها . والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية . . ولم يأمر الإسلام بالرق قط , ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى . ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي . ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا , يأخذ به المحاربون جميعا . . فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل .
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله - مع الزمن - إلا الإلغاء , دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها . وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق , وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة .
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء . . ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان . وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد , الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض . ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين , بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك . وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام . . ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل , ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشيء . . لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى , بل قال: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) . . ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم . وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها . فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين , وتتبادل الأسرى من الفريقين , وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين .
وبتجفيف موارد الرق الأخرى - وكانت كثيرة جدا ومتنوعة - يقل العدد . . وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية . فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده . ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك , فيصبح أجر عمله له , وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته - أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا - ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة . والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته . . وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة . كبعض حالات القتل الخطأ , وفدية اليمين , وكفارة الظهار . . وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن , لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها , وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه .
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك ; فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي , شيئافشيئا . وهذه حقيقة . . ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه . . ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه , قليلا أو كثيرا . . ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا . . لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية , ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك . فالإسلام لم يتغير . ولم تضف إلى مبادئه مباديء جديدة . إنما الذي تغير هم الناس . وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم . ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه .
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية , فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ . إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة . .
وهذه الحقيقة مهمة جدا . سواء من وجهة التحقيق النظري , أو النمو الحركي , للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي . ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة , لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية , وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي . ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة . وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي . ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطيء في فهم هذا التاريخ ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين !
ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية:
(ويسألونك ماذا ينفقون ? قل العفو . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة). .
لقد سألوا مرة:ماذا ينفقون ? فكان الجواب عن النوع والجهة . فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة . . والعفو:الفضل والزيادة . فكل ما زاد على النفقة الشخصية - في غير ترف ولا مخيلة - فهو محل للإنفاق . الأقرب فالأقرب . ثم الآخرون على ما أسلفنا . . والزكاة وحدها لا تجزيء . فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى:فالزكاة لا تبريء الذمة إلا بإسقاط الفريضة . ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما . إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله , وتنفقها في مصارفها المعلومة , ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله . والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله , والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح ; ولقوله عليه الصلاة والسلام:" في المال حق سوى الزكاة " . . حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله - وهذا هو الأكمل والأجمل - فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله , أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة . كي لا يضيع في الترف المفسد . أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل .
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة). .
فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة . فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني . وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها . ولا ينشىء تصورا صحيحا للأوضاع والقيم والموازين . فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر . وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح . . ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة . فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه , وزكاة
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
لمشاعره . كما يرد عليه صلاحا للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاما وسلاما . ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد . وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء , وما فيها من قيم وموازين , مرجحا لكفة الإنفاق , تطمئن إليه النفس , وتسكن له وتستريح . ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق .
الدرس الخامس:220 الإحسان إلى اليتامى والحرص على أموالهم
(ويسألونك عن اليتامى ? قل:إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح . ولو شاء الله لأعنتكم , إن الله عزيز حكيم). .
إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي . والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها . واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها . رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم . ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم . وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا ; وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى . فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام . عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم . فكان الرجل يكون في حجره اليتيم . يقدم له الطعام من ماله . فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح ! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام . فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم . فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور ; وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته . فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم . والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم . فاليتامى أخوان للأوصياء . كلهم أخوة في الإسلام . أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة . والله يعلم المفسد من المصلح , فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله . ولكن نيته وثمرته . والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم . ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت . ولكنه لا يريد . وهو العزيز الحكيم . فهو قادر على ما يريد . ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح .
وهكذا يربط الأمر كله بالله ; ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة , وتدور عليه الحياة . . وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة . فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج , إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير . .
الوحدة الرابعة عشرة:الصفحات:232 - 259 الآيات:221 - 242 الموضوع:أحكام وتشريعات في تنظيم الأسرة المسلمة تقديم الوحدة
نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة . جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة , ويقوم عليها المجتمع الإسلامي . هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة , واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدا كبيرا , نراه متناثرا في سور شتى من القرآن , محيطا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى .
إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة - بما أنه نظام رباني للإنسان , ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها .
وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة , وقاعدة التكوين الأولي للأحياء جميعا وللمخلوقات كافة . . تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى:(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). ومن قوله سبحانه:(سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون). .
ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان , ثم الذرية , ثم البشريةجميعا:(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء , واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا). . (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). .
ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين , لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). . (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقو الله واعلموا أنكم ملاقوه . وبشر المؤمنين). . (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا). .
فهي الفطرة تعمل , وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان . ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني . بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون . على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله . ومن بينه هذا الإنسان . .
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها ; وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها ; وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل , وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة ; وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة , وتفسر الحياة , وتتعامل مع الحياة .
والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة . تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للإحياء الأخرى . ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته . ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة , ودوره في الأرض هو أضخم دور . . امتدت طفولته فترة أطول , ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل . . ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر . وكانت الأسرة المستقرة الهادئة الزم للنظام الإنساني , وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة .
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها , ولا يقوم مقامها , بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته , وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشادرة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان . أو التي اضطرت بعض الدول الأوربية اضطرارا لإقامتها بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني , والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام ! أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشؤوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل , تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان . هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظل الأسرة , لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن , التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي , فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات . . وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية ! وهو هو هذا النظام الملعون , الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة علىوجه الأرض . . الأطفال . . رصيد المستقبل البشري . . وفي مقابل ماذا ? في مقابل زيادة في دخل الأسرة . أو في مقابل إعالة الأم , التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل , بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه هذه الأرض .
ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي , الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم , وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل . . يقوم على أساس الأسرة , ويبذل لها من العناية ما يتفق مع دورها الخطير . . ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام . وهذه السورة واحدة منها . .
والآيات الواردة في هذه السورة تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة . والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة . والرضاعة والحضانة . .
ولكن هذه الأحكام لا تذكر مجردة - كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون . . كلا ! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية ; وأصلا كبيرا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي . وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة . موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس , ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان . ومن ثم فهو موصول بغضبه ورضاه , وعقابه وثوابه , وموصول بالعقيدة وجودا وعدما في حقيقة الحال !
ومنذ اللحظة الأولى يشعر الإنسان بخطر هذا الأمر وخطورته ; كما يشعر أن كل صغيرة وكبيرة فيه تنال عناية الله ورقابته , وأن كل صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصدا لأمر عظيم في ميزان الله . وأن الله يتولى بذاته - سبحانه - تنظيم حياة هذا الكائن , والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصة تحت عينه , وإعدادها - بهذه النشأة - للدور العظيم الذي قدره لها في الوجود . وأن الاعتداء على هذا المنهج يغضب الله ويستحق منه شديد العقاب .
إن هذه الأحكام تذكر بدقة وتفصيل . . . لا يبدأ حكم جديد حتى يكون قد فرغ من الحكم السابق وملابساته . ثم تجيء التعقيبات الموحية بعد كل حكم , وأحيانا في ثنايا الأحكام , منبئة بضخامة هذا الأمر وخطورته , تلاحق الضمير الإنساني ملاحقة موقظة محيية موحية . وبخاصة عند التوجيهات التي يناط تنفيذها بتقوى القلب وحساسية الضمير , لأن الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن بغير هذا الوازع الحارس المستيقظ .
الحكم الأول يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة , وعن تزويج المشرك من مسلمة . والتعقيب: (أولئك يدعون إلى النار , والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه , ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون). .
والحكم الثاني يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض . . وتتوالى التعليقات في هذا الأمر فترفع أمر المباشرة وأمر العلاقات بين الجنسين عن أن تكون شهوة جسد تقضي في لحظة , إلى أن تكون وظيفة إنسانية ذات أهداف أعلى من تلك اللحظة وأكبر , بل أعلى من أهداف الإنسان الذاتية . فهي تتعلق بإرادة الخالق في تطهير خلقه بعبادته وتقواه: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم , وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه . وبشر المؤمنين). .
والحكم الثالث حكم الإيمان بصفة عامة - تمهيدا للحديث عن الإيلاء والطلاق - ويربط حكم الإيمان بالله وتقواه , ويجيء التعقيب مرة: (والله سميع عليم). . ومرة: (والله غفور حليم).
والحكم الرابع حكم الإيلاء . . والتعقيب: (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم . وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم). .
والحكم الخامس حكم عدة المطلقة وترد فيه تعقيبات شتى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن . إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر). . (والله عزيز حكيم). .
والحكم السادس حكم عدد الطلقات . ثم حكم استرداد شيء من المهر والنفقة في حالة الطلاق , وترد فيه التعقيبات التالية: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا , إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله , فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به). . (تلك حدود الله فلا تعتدوها , ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). . (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا , إن ظنا أن يقيما حدود الله , وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). .
والحكم السابع حكم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد الطلاق . ويرد فيه: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا , ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ; ولا تتخذوا آيات الله هزوا ; واذكروا نعمة الله عليكم , وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ; واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم). . (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون). .
والحكم الثامن حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر . ويعقب على أحكامه المفصلة في كل حالة من حالاته بقوله: واتقوا الله , واعلموا أن الله بما تعملون بصير . .
والحكم التاسع خاص بعدة المتوفى عنها زوجها . ويعقب عليه بقوله: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف , والله بما تعملون خبير). .
والحكم العاشر حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدة . ويرد فيه: (علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا , إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله , واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه , واعلموا أن الله غفور حليم). .
والحكم الحادي عشر حكم المطلقة قبل الدخول في حالة ما إذا فرض لها مهر وفي حالة ما إذا لم يفرض . ويجيء فيه من اللمسات الوجدانية: (وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسوا الفضل بينكم . إن الله بما تعملون بصير). .
والحكم الثاني عشر حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلقة . ويرد فيه:(وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين). .
والتعقيب العام على هذه الأحكام:(كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون). .
إنها العبادة . . عبادة الله في الزواج . وعبادته في المباشرة والإنسال . وعبادته في الطلاق والانفصال . وعبادته في العدة والرجعة . وعبادته في النفقة والمتعة . وعبادته في الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان . وعبادته في الافتداء والتعويض . وعبادته في الرضاع والفصال . . عبادة الله في كل حركة وفي كل خطرة . . ومن ثم يجيء - بين هذه الأحكام - حكم الصلاة في الخوف والأمن:(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين . فإن خفتم فرجالا أو ركبانا , فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون). . يجيء هذا الحكم في ثنايا تلك الأحكام ; وقبل أن ينتهي منها السياق . وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة , الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام , ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي . ويبدو السياق موحيا هذا الإيحاء اللطيف . . إن هذه عبادات . وطاعة الله فيها من جنس طاعته في الصلاة . والحياة وحدة والطاعات فيها جملة . والأمر كله من الله . وهو منهج الله للحياة . .
والظاهرة الملحوظة في هذه الأحكام أنها في الوقت الذي تمثل العبادة , وتنشىء جو العبادة وتلقي ظلال العبادة . . لا تغفل ملابسة واحدة من ملابسات الحياة الواقعية , وملابسات فطرة الإنسان وتكوينه , وملابسات ضروراته الواقعة في حياته هذه على الأرض .
إن الإسلام يشرع لناس من البشر , لا لجماعة من الملائكة , ولا لأطياف مهومة في الرؤي المجنحة ! ومن ثم لا ينسى - وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته - أنهم بشر , وإنها عبادة من بشر . . بشر فيهم ميول ونزعات , وفيهم نقص وضعف , وفيهم ضرورات وانفعالات , ولهم عواطف ومشاعر , وإشراقات وكثافات . . والإسلام يلاحظها كلها ; ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف , إلى مشرق النور الوضيء , في غير ما تعسف ولا اصطناع . ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان !
ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء . وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت . ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر . ويقرر الطلاق ويشرع له , وينظم أحكامه ومخلفاته . في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت , وتوثيق أواصر الأسرة , ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة . . إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة . في طاقة الإنسان . ومقصود بها هذا الإنسان .
إنه التيسير على الفطرة . التيسير الحكيم على الرجل والمرأة على السواء . إذا لم يقدر لتلك المنشأة العظيمة
وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
النجاح ; وإذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى بالاستقرار . فالله الخبير البصير , الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون , لم يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيدا وسجنا لا سبيل إلى الفكاك منه , مهما اختنقت فيه الأنفاس , ونبت فيه الشوك , وغشاه الظلام . لقد أرادها مثابة وسكنا ; فإذا لم تتحقق هذه الغاية - بسبب ما هو واقع من أمر الفطر والطبائع - فأولى بهما أن يتفرقا ; وأن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى . وذلك بعد استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة ; ومع إيجاد الضمانات التشريعية والشعورية كي لا يضار زوج ولا زوجة , ولا رضيع ولا جنين .
وهذا هو النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان . .
وحين يوازن الإنسان بين أسس هذا النظام الذي يريده الله للبشر , والمجتمع النظيف المتوازن الذي يرف فيه السلام , وبين ما كان قائما وقتها في الحياة البشرية , يجد النقلة بعيدة بعيدة . . كذلك تحتفظ هذه النقلة بمكانها السامق الرفيع حين يقاس إليها حاضر البشرية اليوم في المجتمعات الجاهلية التي تزعم أنها تقدمية في الغرب وفي الشرق سواء , ويحس مدى الكرامة والنظافة والسلام الذي أراده الله للبشر , وهو يشرع لهم هذا المنهج . وترى المرأة - بصفة خاصة - مدى رعاية الله لها وكرامته . . حتى لأستيقن أنه ما من امرأة سوية تدرك هذه الرعاية الظاهرة في هذا المنهج إلا وينبثق في قلبها حب الله !!!
الدرس الأول:221 النهي عن الزواج بالمشركة أو تزويج الكافر
والأن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل:
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن , ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ; ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم . أولئك يدعون إلى النار . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ; ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون). .
النكاح - وهو الزواج - أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان ; وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان . فلا بد إذن من توحد القلوب , والتقائها في عقدة لا تحل . ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه , وما تتجه إليه . والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس , ويؤثر فيها , ويكيف مشاعرها , ويحدد تأثراتها واستجاباتها , ويعين طريقها في الحياة كلها . وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها . فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية , أو بعض المذاهب الاجتماعية . وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية , ومقوماتها الحقيقية . وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها .
ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم , كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين . لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة . فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة , وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية . بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه , ونزلت هذه الآية . نزلت تحرم إنشاءأي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين - فأما ما كان قائما بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن . الله أعلم بإيمانهن . فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار . لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن . .(ولا تمسكوا بعصم الكوافر . . .). . . فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء .
لقد بات حراما أن ينكح المسلم مشركة , وأن ينكح المشرك مسلمة . حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة . إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف . إنهما لا يلتقيان في الله , ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة . والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلا حيوانيا , ولا اندفاعا شهوانيا . إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه ; ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة .
ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم:
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن). .
فإذا أمن فقد زالت العقبة الفاصلة ; وقد التقى القلبان في الله ; وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعوقها ويفسدها . سلمت تلك الآصرة , وقويت بتلك العقدة الجديدة:عقدة العقيدة .
(ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم). .
فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها , لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا , ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس . وجمال القلب أعمق وأغلى , حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة . فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب . إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب .
(ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم). .
القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى , توكيدا لها وتدقيقا في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية:
(أولئك يدعون إلى النار , والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون). .
إن الطريقين مختلفان , والدعوتين مختلفتان , فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة ?
إن طريق المشركين والمشركات إلى النار , ودعوتهم إلى النار . وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . . فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله !
ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار ? ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار ?!
ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق ! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار , بما أن مآلها إلى النار . والله يحذر من هذه الدعوة المردية (ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون). . فمن لم يتذكر , واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم !
هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية - مع اختلاف العقيدة - ولكن الأمر هنا يختلف . إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله . وإن اختلفت التفصيلات التشريعية . .
وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة , أو أن الله هو المسيح بن مريم , أو أن العزيز ابن الله . . أهي مشركة محرمة . أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة:(اليوم
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
أحل لكم الطيبات). . .(والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم). . والجمهور على أنها تدخل في هذا النص . . ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة . وقد رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:قال ابن عمر:" لا أعلم شركا أعظم من أن تقول ربها عيسى " . .
فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور ; لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية - غير مشركة - ومن هنا يختلف في حكمه . . إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية . كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع . فإذا تزوج المسلم من الكتابية [ غير المشركة ] انتقلت هي إلى قومه , ودعي أبناؤه منها باسمه , فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن . ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي , فتعيش بعيدا عن قومها , وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها , كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها , ويدينون بدين غير دينها . والإسلام يجب أن يهيمن دائما .
على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروها . وهذا ما رآه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمام بعض الاعتبارات:
قال ابن كثير في التفسير:" قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله - بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات - وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات , أو لغير ذلك من المعاني " . .
وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر:خل سبيلها . فكتب إليه:أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ? فقال:لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن . وفي رواية أخرى أنه قال:المسلم يتزوج النصرانية . والمسلمة ?
ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم . . فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها , وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام . وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه , والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة الأمر . والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك !
الدرس الثاني:222 - 223 النهي عن معاشرة النساء أثناء الحيض والسمو بالعلاقة بين الزوج والزوجة
(ويسألونك عن المحيض . قل:هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ; ولا تقربوهن حتى يطهرن . فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . نساؤكم حرث لكم . فأتوا حرثكم أنى شئتم , وقدموا لأنفسكم , واتقوا الله , واعلموا أنكم ملاقوه , وبشر المؤمنين). .
وهذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله ; وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد . . في المباشرة . .
إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية . وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة . هدف النسل وامتداد الحياة , ووصلها كلها بعد ذلك بالله . والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية - مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء - ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى . فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة . لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة . فتنصرف بطبعها - وفق هذا القانون - عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس , ولا أن تنبت منها حياة . والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية , وتحقق معها الغاية الفطرية . ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال: (ويسألونك عن المحيض . قل:هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن). .
وليست المسألة بعد ذلك فوضى , ولا وفق الأهواء والانحرافات . إنما هي مقيدة بأمر الله ; فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف , مقيدة بكيفية وحدود:
(فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله). .
في منبت الإخصاب دون سواه . فليس الهدف هو مطلق الشهوة , إنما الغرض هو امتداد الحياة . وابتغاء ما كتب الله . فالله يكتب الحلال ويفرضه ; والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه , ولا ينشىء هو نفسه ما يبتغيه . والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده , ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين:
(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). .
وفي هذا الظل يصور لونا من الوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه:
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم). .
وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب , وإلى أهدافها واتجاهاتها . نعم ! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه . وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع . كقوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). . وقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). . فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب . أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث . لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء . وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون . ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث:
(فأتوا حرثكم أنى شئتم). .
وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف , واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى ; فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم . واستيقنوا من لقاء الله , الذي يجزيكم بما قدمتم:
(وقدموا لأنفسكم . واتقوا الله . واعلموا أنكم ملاقوه). .
ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله , وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث , فكل عمل للمؤمن خير , وهو يتجه فيه إلى الله:
(وبشر المؤمنين). .
هنا نطلع على سماحة الإسلام , الذي يقبل الإنسان كما هو , بميوله وضروراته , لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر ; ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها ; إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها ! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها , ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد . يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا , وبمشاعر دينية أخيرا ; فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف ; ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة , وحركة واحدة , واتجاه واحد , ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته , خليفة الله في أرضه , المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات . . وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي
وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة . وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق , ويشقى الإنسان فردا وجماعة . والله يعلم وأنتم لا تعلمون . .
الدرس الثالث:224 حكم يمين اللغو وأحكام الإيلاء
ثم ينتقل السياق من الحديث عن حكم المباشرة في فترة الحيض , إلى الحديث عن حكم الإيلاء . . أي الحلف بالهجران والامتناع عن المباشرة . . وبهذه المناسبة يلم بالحلف ذاته فيجعل الحديث عنه مقدمة للحديث عن الإيلاء .
(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس , والله سميع عليم , لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم , ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم , والله غفور حليم . للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم , وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم). .
التفسير المروي في قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم . .)عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير , ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير . وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي - رحمهم الله - كما نقل ابن كثير .
ومما يستشهد به لهذا التفسير ما رواه مسلم - بإسناده - عن أبي هريرة أن رسول الله [ ص ] قال:" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه , وليفعل الذي هو خير " . . وما رواه البخاري - بإسناده - عن أبي هريرة قال:قال رسول الله [ ص ]:" والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه " . .
وعلى هذا يكون معناها:لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس . فإذا حلفتم ألا تفعلوا , فكفروا عن إيمانكم وأتوا الخير . فتحقيق البر والتقوى والإصلاح أولى من المحافظة على اليمين .
وذلك كالذي وقع من أبي بكر - رضي الله عنه - حين أقسم لا يبر مسطحا قريبه الذي شارك في حادثة الإفك - فأنزل الله الآية التي في سورة النور: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله , وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم ? . . فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها .
على أن الله كان أرأف بالناس , فلم يجعل الكفارة إلا في اليمين المعقودة , التي يقصد إليها الحالف قصدا , وينوي ما وراءها مما حلف عليه . فأما ما جرى به اللسان عفوا ولغوا من غير قصد , فقد أعفاهم منه ولم يوجب فيه الكفارة:
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم , ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم . والله غفور حليم). . وقد روى أبو داود - بإسناده - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله [ ص ] قال:" اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته:كلا والله . وبلى والله " . . ورواه ابن جرير عن طريق عروة موقوفا على عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم . . لا والله وبلى والله " . . وفي حديث مرسل - عن الحسن بن أبي الحسن - قال:مر رسول الله [ ص ] بقوم ينتضلون - يعني يرمون - ومع رسول الله [ ص ]رجل من أصحابه . فقام رجل من القوم فقال:أصبت والله , وأخطأت والله . فقال الذي مع النبي [ ص ] للنبي [ ص ] حنث الرجل يا رسول الله . قال:" كلا . إيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " . .
وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان . . كما روي عنه:لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله , فذلك ليس عليكم فيه كفارة . .
وعن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث . فسأل أحدهما صاحبه القسمة . فقال:إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة ! فقال له عمر:إن الكعبة غنية عن مالك ! كفر عن يمينك وكلم أخاك . سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل , ولا في قطيعة الرحم , ولا فيما لا تملك " . .
والذي يخلص من هذه الآثار أن اليمين التي لا تنعقد النية على ما وراءها , إنما يلغو بها اللسان , لا كفارة فيها . وإن اليمين التي ينوي الحالف الأخذ أو الترك لما حلف عليه هي التي تنعقد . وهي التي تستوجب الكفارة عند الحنث بها . وإنه يجب الحنث بها إن كان مؤداها الامتناع عن فعل خير أو الإقدام على فعل شر . فأما إذا حلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب , فبعض الآراء أنه لا تقوم لها كفارة أي لا يكفر عنها شيء . قال الإمام مالك في الموطأ:أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه . والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا , ويقتطع به مالا , فهذا أعظم من أن تكون له كفارة .
ويعقب السياق على حكم العدول عن اليمين إلى ما فيه البر والخير بقوله: (والله سميع عليم). . ليوحي إلى القلب بأن الله - سبحانه - يسمع ما يقال ويعلم أين هو الخير . ومن ثم يحكم هذا الحكم .
ويعقب على حكم يمين اللغو واليمين المعقودة التي ينويها القلب بقوله: (والله غفور حليم). . ليلوح للقلب بحلم الله عن مؤاخذة العباد بكل ما يفلت من ألسنتهم , ومغفرته كذلك - بعد التوبة - لما تأثم به قلوبهم .
بهذا وذلك يربط الأمر بالله , ويعلق القلوب بالاتجاه إليه في كل ما تكسب وكل ما تقول .
وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف , يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء:وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته . إما لأجل غير محدود , وإما لأجل طويل معين:
(للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم . وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم). .
إن هناك حالات نفسية واقعة , تلم بنفوس بعض الأزواج , بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة , تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة , وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة ; ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا ; ومن إهدار لكرامتها كأنثى ; ومن تعطيل للحياة الزوجية ; ومن جفوة تمزق أوصال العشرة , وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول .
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية , لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته . كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم , أو ثورة غضب , تعود بعده الحياة أنشط وأقوى . .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك , لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها ; أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة , لا تستمتع بحياة زوجية معه , ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى .
فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة , ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة . جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء . لا يتجاوز أربعة أشهر . وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال , كي لا تفسد نفس المرأة , فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر . وقد روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج من الليل يعس . أي يتحسس حاجات الناس وأحوالهم متخفيا . فسمع امرأة تقول:
(تطاول هذا الليل وأسود جانبه % وأرقني إلا خليل ألاعبه)
(فوالله , لولا الله إني أراقبه % لحرك من هذا السرير جوانبه)
فسأل عمر ابنته حفصة - رضي الله عنها - كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ? فقالت:ستة أشهر - أو أربعة أشهر - فقال عمر:لا أحبس أحدا من الجياش أكثر من ذلك . . وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة . .
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور . ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره . فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة , ويرجع إلى زوجه وعشه , وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته . وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة ; وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق . فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي . وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد . فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون ; وأروح للرجل كذلك وأجدى ; وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة .
الدرس الرابع:228 عدة المطلقة ومراجعتها
والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق , فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق ; وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة . . إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق . .
ويبدأ بحكم العدة والرجعة:
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء , ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن - إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك - إن أرادوا إصلاحا - ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة , والله عزيز حكيم). .
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف .
يتربصن بأنفسهن . . لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة . . إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات , أو حتى يطهرن منها . . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني . . إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة . رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها , والإمساك بزمامها , مع التحفز , والتوفز . الذي يصاحب صورة التربص . وهي حالة طبيعية , تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص , وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر , وأن تنشىء حياة جديدة . . هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل , لأنه هو الذي طلق ; بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هيالتي وقع عليها الطلاق . . وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير ; كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا . .
يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة ; قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة:
(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن , إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر). .
لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض . . ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن , ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر . فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن . . وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا . فهناك الجزاء . . هناك العوض عما قد يفوت بالتربص , وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن , وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه , فلا يخفى عليه شيء منه . . فلا يجوز كتمانه عليه - سبحانه - تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن .
هذا من جهة . ومن الجهة الأخرى , فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة . فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد , وعواطف تستجاش , ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء ! فإذا سكن الغضب , وهدأت الشرة , واطمأنت النفس , استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق , وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة , وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة , أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات . والطلاق أبغض الحلال إلى الله , وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج . . [ وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق . كما أن إيقاع الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء . وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات . إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق . . إلى آخر تلك المحاولات ] . .
والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما . فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع , فالطريق مفتوح:
(وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا). .
في ذلك . . أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة . . إن أرادوا إصلاحا بهذا الرد ; ولم يكن القصد هو اعنات الزوجة , وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك , انتقاما منها , أو استكبارا واستنكافا أن تنكح زوجا آخر .
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف . .
وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات , فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن , وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار . وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة .
(وللرجال عليهن درجة). .
أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة . وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق ; وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي ! فتذهب إليه .وترده إلى عصمتها ! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف . وهي درجة مقيدة في هذا الموضع , وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون , ويستشهدون بها في غير موضعها .
ثم يجيء التعقيب:
(والله عزيز حكيم). .
مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس . وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات .
الدرس الخامس:229:عدد الطلقات وصداق المطلقة
والحكم التالي يختص بعدد الطلقات , وحق المطلقة في تملك الصداق , وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق , إلا في حالة واحدة:حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه . وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها:
(الطلاق مرتان . فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به . تلك حدود الله فلا تعتدوها . ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). .
الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان . فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق . وهو أن تنكح زوجا غيره , ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقا طبيعيا لسبب من الأسباب , ولا يراجعها فتبين منه . . وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد , إذا ارتضته زوجا من جديد .
وقد ورد في سبب نزول هذا القيد , أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات . فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها , ثم يطلقها ويراجعها . هكذا ما شاء . . ثم إن رجلا من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه , فقال:والله لا آويك ولا أفارقك . قالت:وكيف ذلك ? قال:أطلقك , فإذا دنا أجلك راجعتك . فذكرت ذلك للرسول [ ص ] فأنزل الله عز وجل: (الطلاق مرتان). .
وحكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها . . حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو . ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة , وتنشىء حلولا مستمدة من تلك الأصول الشاملة .
وهذا التقييد جعل الطلاق محصورا مقيدا ; لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلا . فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر . فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه ; ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين . فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها . فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة , ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوجا آخر . ثميقع لسبب طبيعي أن يطلقها . فتبين منه لأنه لم يراجعها . أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق . فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول .
إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا . فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير . فإن صلحت الحياة بعدها فذاك . وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة .
وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه . فإذا وقعت الطلقتان:فإما إمساك للزوجة بالمعروف , واستئناف حياة رضية رخية ; وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء . وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد . . وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية ; ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار , ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه . ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال !
ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها . ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية ; وتحس أن كراهيتها له , أو نفورها منه , سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة , أو العفة , أو الأدب . فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه ; وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه ; برد الصداق الذي أمهرها إياه , أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده , وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال . وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس ; ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها ; ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها ; وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه .
ولكي نتصور حيوية هذا النص ومداه , يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله [ ص ] تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم .
روى الإمام مالك في كتابه:الموطأ . . أن حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس . وأن رسول الله [ ص ] خرج في الصبح , فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس . فقال رسول الله [ ص ]:" من هذه ? " قالت:أنا حبيبة بنت سهل ! فقال:" ما شأنك ? " فقالت:لا أنا ولا ثابت بن قيس - لزوجها - فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله [ ص ]:" هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر " . . فقالت حبيبة:يا رسول الله , كل ما أعطاني عندي . فقال رسول الله [ ص ]:" خذ منها " فأخذ منها وجلست في أهلها .
وروى البخاري - بإسناده - عن ابن عباس رضي الله عنهما - أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي [ ص ] فقالت:يا رسول الله . ما اعيب عليه في خلق ولا دين , ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله [ ص ]:" أتردين عليه حديقته ? " [ وكان قد أمهرها حديقة ] قالت:نعم . قال رسول الله [ ص ]:" أقبل الحديقة وطلقها تطليقة " . .
وفي رواية أكثر تفصيلا رواها ابن جرير بإسناد - عن أبي جرير أنه سأل عكرمة:هل كان للخلع أصل ? قال:كان ابن عباس يقول:إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي . إنها أتت رسول الله [ ص ] فقالت:يا رسول الله , لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا . إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة , فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها . فقال زوجها:يا رسول اللهإني قد أعطيتها أفضل مالي:حديقة لي . فإن ردت علي حديقتي . قال:ما تقولين ? قالت:نعم وإن شاء زدته . قال:ففرق بينهما . .
ومجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله [ ص ] وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهرة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة ; وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها . فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية ; ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية .
ولما كان مرد الجد أو العبث , والصدق أو الاحتيال , في هذه الأحوال . . هو تقوى الله , وخوف عقابه . جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله:
(تلك حدود الله فلا تعتدوها . ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). .
ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد , حسب اختلاف الملابستين:
في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم . ورد تعقيب: (تلك حدود الله فلا تقربوها). . وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: (تلك حدود الله فلا تعتدوها). .
في الأولى تحذير من القرب . وفي الثانية تحذير من الاعتداء . . فلماذا كان الاختلاف ?
في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة:
(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . . هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . . علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم , فتاب عليكم وعفا عنكم , فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم . وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . ثم أتموا الصيام إلى الليل , ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . . تلك حدود الله فلا تقربوها). .
والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية . فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها , اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها !
أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات . فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف ; وتجاوزها وعدم الوقوف عندها . فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة . بسبب اختلاف المناسبة . . وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة !
الدرس السادس:230:ما بعد الطلقة الثالثة ومتى تعود للأول
ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق:
(فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا . . إن ظنا أن يقيما حدود الله . وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). .
إن الطلقة الثالثة - كما تبين - دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب - إن كان الزوج جادا عامدا في الطلاق - وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد . فأما إن كانت تلك الطلقات عبثا أو تسرعا أو رعونة , فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق , الذي قرر ليكون صمام آمن , وليكون علاجا اضطراريا لعلة مستعصية , لا ليكون موضعا للعبث والتسرع والسفاهة .
فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما لها , واحتراسا من المساس بها . وقد يقول قائل:وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث ? ولكننا نواجه واقعا في حياة البشر . فكيف يا ترى يكون العلاج , إن لم نأخذ بهذا العلاج ? تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها ? فنقول له مثلا:إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره ! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها ! . . كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام , الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله . . إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه ; وأن نكلفه مهرا وعقدا جديدين أن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين ; وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريما كاملا - إلا أن تنكح زوجا غيره - وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها ; ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات . . والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية ; وواقع الحياة العملية ; لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض , في عالم الحياة ! فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجا آخر . ثم طلقها هذا الزوج الآخر . . فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا . . ولكن بشرط: (إن ظنا أن يقيما حدود الله). . فليست المسألة هوى يطاع , وشهوة تستجاب . وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق . إنما هي حدود الله تقام . وهي إطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله . (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). . فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة . إنما هو يبينها في هذا القرآن . يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها ; وإلا فهو الجهل الذميم , وهي الجاهلية العمياء ! الدرس السابع:231 - 232 حسن معاملة الزوجات بعد الطلاق بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين . توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف , ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ; ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا ; واذكروا نعمة الله عليكم , وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ; واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم). (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف , ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون). . إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة . سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها . ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها . ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس , إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية . عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن , ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير . . هو عنصر الإيمان
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
بالله . والإيمان باليوم الآخر . وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان - أرفع النعم - إلى نعمة الصحة والرزق . واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة . . وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى , سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها .
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها . كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان , أو تعيش في هون ومشقة وإذلال ! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل , أغلى منها الناقة والفرس وأعز ! وكانت تلقاه مطلقة . تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن ! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها , إن أرادا أن يتراجعا . . وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية , شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان .
ثم جاء الإسلام . . جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها . وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها . . وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها . . هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه . ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره . إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا , على الحياة الإنسانية جميعا . .
(وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا). .
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة . فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح - والمعاملة بالمعروف - وهذا هو الإمساك بالمعروف . . وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة - وهذا هو التسريح بإحسان , بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء . .
(ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا). .
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته:والله لا آويك ولا أفارقك ! فهذا هو الإمساك بغير إحسان . إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام . وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق ; لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية:ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم الإسلام , ولم يرفعها الإيمان . .
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر ; كما يستجيش عاطفة الحياء من الله , وشعور الخوف منه في آن . ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها ; ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه:
(ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا . واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به . واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم). .
إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه . فهي أخته . من نفسه . فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه . وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية , والجموح بها عن طريق الطاعة . . وهذه هي اللمسة الأولى .
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة , تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق ; فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة , متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام آمن , واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها , في إمساكالمراة لإيذائها وإشقائها . . إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا - وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام , من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد . ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام - وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله .
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة . وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم , شاملة لهذه الحياة . .
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم , هو وجودهم ذاته كأمة . . فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام ? أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا . لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم . كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة . لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به . بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم . لم يكن لديهم شيء على الإطلاق . لا مادي ولا معنوي . . كانوا فقراء يعيشون في شظف . إلا قلة منهم تعيش في ترف , ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس ! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير . عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة . وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود . واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة , والثارات الحادة , واللهو والشراب والقمار , والمتاع الساذج الصغير على كل حال !
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام . بل أنشأهم إنشاء . أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير , الذي تعرفهم به الإنسانية كلها . أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية . أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط ; والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة . وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول , ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود . وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا , وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم , أو مهملين لا يحس بهم أحد . وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة . . وأكثر من هذا أعطاهم السلام , سلام النفس . وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه . أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق . . وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض ; فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين . .
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا , فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر . وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد . وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر . . وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . والقرآن يقول لهم: (وما أنزل عليكم). . بضمير المخاطب ; ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم , والله ينزل عليهم هذه الآيات , التي يتألف منها المنهج الرباني , ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة . .
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية , وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم:
(واتقوا الله , واعلموا أن الله بكل شيء عليم). .
فيستجيش شعور الخوف والحذر , بعد شعور الحياء والشكر . . ويأخذ النفس من أقطارها , ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل . .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة - حين توفي العدة - ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف). . وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار , أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] فكانت عنده ما كانت . ثم طلقها تطليقة لم يراجعها , حتى انقضت عدتها ; فهويها وهويته ; ثم خطبها مع الخطاب . فقال له:يا لكع ابن لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها , فطلقتها . والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك . قال:فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها , فأنزل الله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن)إلى قوله: (وأنتم لا تعلمون). . فلما سمعها معقل قال:سمع لربي وطاعة . ثم دعاه , فقال:أزوجك وأكرمك . . وهذه الاستجابة الحانية من الله - سبحانه - لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم , تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده . . أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد , والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة , والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم , الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال . وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير: (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون). . والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب . حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض ; وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع . . والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة , واغتنام الزكاة والطهر . لنفسه وللمجتمع من حوله . ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام . وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة , ويعلقه بعروة الله , ويطهره من شوائب الأرض , وأدران الحياة , وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق . . الدرس الثامن:233 أحكام الرضاع والنفقة بعد الطلاق والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق . . إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق . علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه , وارتبط كلاهما به ; فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة , تستوفي كل حالة من الحالات: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف . لا تكلف نفس إلا وسعها . لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده . وعلى الوارث مثل ذلك . فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما . وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم - إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف - واتقوا الله , واعلموا أن الله بما تعملون بصير). . إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع . واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
التي قد تفسدها الخلافات الزوجية , فيقع الغرم على هذا الصغير . إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه . فالله أولى بالناس من أنفسهم , وأبر منهم وأرحم من والديهم . والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ; لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل . . (لمن أراد أن يتم الرضاعة)وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية . ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم . فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل , والله رحيم بعباده . وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية .
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل:أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة ; فكلاهما شريك في التبعة ; وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع , هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ; وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته:
(لا تكلف نفس إلا وسعها). .
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخرة:
(لا تضار والدة بولدها , ولا مولود له بولده). .
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها , ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل . ولا تستغل هي عطف الأب على إبنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها . .
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد:
(وعلى الوارث مثل ذلك). .
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى . تحقيقا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث , ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث .
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده . فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات .
وعندما يستوفى هذا الاحتياط . . يعود إلى استكمال حالات الرضاعة . .
(فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما). .
فإذا شاء الوالد والوالدة , أو الوالدة والوارث , أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين ; لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام , لسبب صحي أو سواه , فلا جناح عليهما , إذا تم هذا بالرضى بينهما , وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته , المفروض عليهما حمايته .
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعا مأجورة , حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة , فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها , وأن يحسن معاملتها:
(وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف). .
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة , وله راعية وواعية .
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي . . بالتقوى . . بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به:
(واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير). .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
فهذا هو الضمان الأكيد في النهاية . وهذا هو الضمان الوحيد .
الدرس التاسع:234 - 235 العدة والخطبة بين التعريض والتصريح
وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها . . عدتها . وخطبتها بعد انقضاء العدة . والتعريض بالخطبة في أثنائها:
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف . والله بما تعملون خبير).
(ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم . علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا , إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . واعلموا أن الله غفور حليم). .
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله . . وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة , ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية , من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة:حمار أو شاة . . . إلخ . . فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت , بل رفعه كله عن كاهلها ; ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده . . وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة , وحياة عائلية مطمئنة . جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال - ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل - وهي أطول قليلا من عدة المطلقة . تستبريء فيها رحمها , ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها . وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب . فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها . سواء من أهلها أو من أهل الزوج . ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته , فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات , ولها أن تتلقى خطبة الخطاب , ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي . لا تقف في سبيلها عادة بالية , ولا كبرياء زائفة . وليس عليها من رقيب إلا الله:
(والله بما تعملون خبير). .
هذا شأن المرأة . . ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة ; فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس , وأدب الاجتماع , ورعاية المشاعر والعواطف , مع رعاية الحاجات والمصالح:
(ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم). .
إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت , وبمشاعر أسرة الميت , ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين , أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه . . وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة . لأن هذا الحديث لم يحن موعده , ولأنه يجرح مشاعر , ويخدش ذكريات .
ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض - لا التصريح - بخطبة النساء . أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها .
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن التعريض مثل أن يقول:إني أريد التزويج . وإن النساء لمن حاجتي . ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة " . .
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا . لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها:
(علم الله أنكم ستذكرونهن). .
وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري , حلال في أصله , مباح في ذاته , والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه . والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها , ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها . ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور , وطهارة الضمير:
(ولكن لا تواعدوهن سرا). .
لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة , أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة , ولكن المحظور هو المواعدة سرا على الزواج قبل انقضاء العدة . ففي هذا مجانبة لأدب النفس , ومخالسة لذكرى الزوج , وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلا بين عهدين من الحياة .
(إلا أن تقولوا قولا معروفا). .
لا نكر فيه ولا فحش , ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق:
(ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله). .
ولم يقل:ولا تعقدوا النكاح . . إنما قال: (ولا تعزموا عقدة النكاح). . زيادة في التحرج . . فالعزيمة التي تنشىء العقدة هي المنهي عنها . . وذلك من نحو قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها). . توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة .
(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه). .
وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر . فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة . تلك العلاقات الشديدة الحساسية , العالقة بالقلوب , الغائرة في الضمائر . وخشية الله , والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة , مع التشريع , لتنفيذ التشريع .
فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر , فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج , عاد فسكب فيه الطمأنينة لله , والثقة بعفو الله , وحلمه وغفرانه:
(واعلموا أن الله غفور حليم). .
غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله , الحذر من مكنونات القلوب . حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطىء أن يتوب .
الدرس العاشر:236 - 237 المطلقة قبل الدخول بين العدة والمتعة
ثم يجيء حكم المطلقة قبل الدخول . وهي حالة جديدة غير حالات الطلاق بالمدخول بهن التي استوفاها من قبل . وهي حالة كثيرة الوقوع . فيبين ما على الزوجين فيها وما لهما:
(لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة . ومتعوهن - على الموسع قدره وعلى المقتر قدره - متاعا بالمعروف حقا على المحسنين . وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم . إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح . وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير)
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238)
والحالة الأولى:هي حالة المطلقة قبل الدخول , ولم يكن قد فرض لها مهر معلوم . والمهر فريضة , فالواجب في هذه الحالة على الزوج المطلق أن يمتعها . أي أن يمنحها عطية حسبما يستطيع . ولهذا العمل قيمته النفسية بجانب كونه نوعا من التعويض . . إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشىء جفوة ممضة في نفس المرأة , ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة . ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر , وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة ; ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى . فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة ! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية , واحتفاظا بالذكرى الكريمة . وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق , فعلى الغني بقدر غناه , وعلى الفقير في حدود ما يستطيع:
(على الموسع قدره وعلى المقتر قدره). .
ويلوح بالمعروف والإحسان فيندي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط:
(متاعا بالمعروف حقا على المحسنين). .
والحالة الثانية:أن يكون قد فرض مهرا معلوما . وفي هذه الحالة يجب نصف المهر المعلوم . هذا هو القانون . ولكن القرآن يدع الأمر بعد ذلك للسماحة والفضل واليسر . فللزوجة - ولوليها إن كانت صغيرة - أن تعفو وتترك ما يفرضه القانون . والتنازل في هذه الحالة هو تنازل الإنسان الراضي القادر العفو السمح . الذي يعف عن مال رجل قد انفصمت منه عروته . ومع هذا فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترف وتخلو من كل شائبة:
(وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسوا الفضل بينكم . إن الله بما تعملون بصير). .
يلاحقها باستجاشة شعور التقوى . ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل . ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله . . ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة . ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية . موصولة بالله في كل حال .
الدرس الحادي عشر 238 - 239 من أحكام الصلاة
وفي هذا الجو الذي يربط القلوب بالله , ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله , يدس حديثا عن الصلاة - أكبر عبادات الإسلام - ولم ينته بعد من هذه الأحكام . وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله , وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة - يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو , فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة , ومن جنسها , وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن . وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر , بل شاملة لكل نشاط , الاتجاه فيه إلى الله , والغاية منه طاعة الله:
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين . فإن خفتم فرجالا أو ركبانا . فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون). .
والأمر هنا بالمحافظة على الصلوات , يعني إقامتها في أوقاتها , وإقامتها صحيحة الأركان , مستوفية الشرائط . أما الصلاة الوسطى فالأرجح من مجموع الروايات أنها صلاة العصر لقوله [ ص ] يوم الأحزاب:
فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239)
" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر . ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " . . وتخصيصها بالذكر ربما لأن وقتها يجيء بعد نومة القيلولة , وقد تفوت المصلي . .
والأمر بالقنوت , الأرجح أنه يعني الخشوع لله والتفرغ لذكره في الصلاة . وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة . حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره .
فأما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالا لإقامة الصلاة تجاه القبلة , فإن الصلاة تؤدي ولا تتوقف . يتجه الراكب على الدابة والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله , ويومىء إيماءة خفيفة للركوع والسجود . وهذه غير صلاة الخوف التي بين كيفيتها في سورة النساء . فالمبينة في سورة النساء تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه . ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولا يحرسه . . أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلا , فتكون الصلاة المشار إليها هنا في سورة البقرة .
وهذا الأمر عجيب حقا . وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة , ويوحي بها لقلوب المسلمين . إنها عدة في الخوف والشدة . فلا تترك في ساعة الخوف البالغ , وهي العدة . ومن ثم يؤديها المحارب في الميدان , والسيف في يده , والسيف على رأسه . يؤديها فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده . وهي جنة له كالدرع التي تقيه . يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للإتصال به , وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله . .
إن هذا الدين عجيب . إنه منهج العبادة . العبادة في شتى صورها والصلاة عنوانها , وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته . وعن طريق العبادة يثبته في الشدة , ويهذبه في الرخاء . وعن طريق العبادة يدخله في السلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان . . ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب !
فإذا كان الأمن فالصلاة المعروفة التي علمها الله للمسلمين , وذكر الله جزاء ما علمهم ما لم يكونوا يعلمون:
(فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون). .
وماذا كان البشر يعلمون لولا أن علمهم الله ? ولولا أن يعلمهم في كل يوم وفي كل لحظة طوال الحياة ?!
الدرس الثاني عشر:240 - 242 المتوفى عنها زوجها بين العدة والمتعة
وتؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحكام الزواج والطلاق ; وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى . وهي العبادة ممثلة في كل طاعة . ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا:وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج . فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم . وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون . .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
والآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله , مدة حول كامل , لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء . . وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة . فالعدة فريضة عليها . والبقاء حولا حق لها . . وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك . ولا ضرورة لافتراض النسخ , لاختلاف الجهة كما رأينا . فهذه تقرر حقا لها إن شاءت استعملته . وتلك تقرر حقا عليها لا مفر منه:
(فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف). .
وكلمة(عليكم)توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسؤولة عن كل ما يقع فيها . فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها . وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون . . ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها , وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها . فهي المسؤولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة . والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها . . والتعقيب:
(والله عزيز حكيم). .
للفت القلوب إلى قوة الله . وحكمته فيما يفرض وما يوجه . وفيه معنى التهديد والتحذير . .
والآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة , وتعلق الأمر كله بالتقوى:
(وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين).
وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة . . ولا حاجة لافتراض النسخ . فالمتاع غير النفقة . . ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة . المدخول بها وغير المدخول بها . المفروض لها مهر وغير المفروض لها . لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق , وترضية للنفوس الموحشة بالفراق . وفي الآية استجاشة لشعور التقوى , وتعليق الأمر به . وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد .
والآية الثالثة تعقيب على الأحكام السابقة جميعا:
(كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون). .
كذلك . . كهذا البيان الذي سلف في هذه الأحكام . . وهو بيان محكم دقيق موح مؤثر . . كذلك يبين الله لكم آياته عسى أن تقودكم إلى التعقل والتدبر فيها , وفي الحكمة الكامنة وراءها , وفي الرحمة المتمثلة في ثناياها , وفي النعمة التي تتجلى فيها . نعمة التيسير والسماحة , مع الحسم والصرامة , ونعمة السلام الذي يفيض منها على الحياة .
ولو تعقل الناس وتدبروا هذا المنهج الإلهي لكان لهم معه شأن . . هو شأن الطاعة والاستسلام والرضى والقبول . . والسلام الفائض في الأرواح والعقول . .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
الوحدة الخامسة عشرة:الآيات:243 - 252 الصفحات:260 - 271 الموضوع:قصة طالوت وداود وجالوت مقدمة الوحدة حكمة ورود قصة بني إسرائيل في القرآن
ندرك قيمة هذا الدرس . وما يتضمنه من تجارب الجماعات السابقة والأمم الغابرة , حين نستحضر في أنفسناأن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ; ورائدها الناصح ; وأنه هو مدرستها التي تلقت فيها دروس حياتها . وأن الله - سبحانه - كان يربي به الجماعة المسلمة الأولى التي قسم لها إقامة منهجه الرباني في الأرض , وناط بها هذا الدور العظيم بعد أن أعدها له بهذا القرآن الكريم . وأنه - تعالى - أراد بهذا القرآن أن يكون هو الرائد الحي - الباقي بعد وفاة الرسول [ ص ] لقيادة أجيال هذه الأمة , وتربيتها , وإعدادها لدور القيادة الراشدة الذي وعدها به , كلما اهتدت بهديه , واستمسكت بعهدها معه , واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن , واستعزت به واستعلت على جميع المناهج الأرضية . وهي بصفتها هذه , مناهج الجاهلية . !
إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى . . ولكنه دستور شامل . . دستور للتربية , كما أنه دستور للحياة العملية , ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربيها ; وتضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم - عليه السلام - وقدمها زادا للأمة المسلمة في جميع أجيالها . تجاربها في الأنفس , وتجاربها في واقع الحياة . كي تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها , وهي تتزود لها بذلك الزاد الضخم , وذلك الرصيد المتنوع .
ومن ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة , وبهذا التنوع , وبهذا الإيحاء . . وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم , لأسباب عدة , ذكرنا بعضها في الجزء الأول من الظلال عند استقبال أحداث بني إسرائيل ; وذكرنا بعضها في هذا الجزء في مناسبات شتى - وبخاصة في أوله - ونضيف إليها هنا ما نرجحه . . وهو أن الله - سبحانه - علم أن أجيالا من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل , وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل ; فعرض عليها مزالق الطريق , مصورة في تاريخ بني إسرائيل , لتكون لها عظة وعبرة ; ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد الله - سبحانه - قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق !
إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي . وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية , تتنزل اليوم , لتعالج مسائل اليوم , ولتنير الطريق إلى المستقبل . لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل ; أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود !
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا ; كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة . . وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد . وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي ! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق ; وتقول لنا:هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه . وتقول لنا:هذا عدو لكم وهذا صديق . وتقول لنا:كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة . وتقول لنا حديثا طويلا مفصلا دقيقا في كل ما يعرض لنا من الشؤون . . وسنجد عندئذ في القرآن متاعا وحياة ; وسندرك معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). . فهي دعوة للحياة . . للحياة الدائمة المتجددة . لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ .
هذا الدرس يعرض تجربتين من تجارب الأمم ; يضمهما إلى ذخيرة هذه الأمة من التجارب ; ويعد بهما الجماعة المسلمة لما هي معرضة له في حياتها من المواقف ; بسبب قيامها بدورها الكبير , بوصفها وارثة العقيدة الإيمانية , ووارثة التجارب في هذا الحقل الخصيب .
والأولى تجربة لا يذكر القرآن أصحابها ; ويعرضها في اختصار كامل , ولكنه واف . فهي تجربة جماعة (خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت). . فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر ; وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذرا منه . . فقال لهم الله:(موتوا). . (ثم أحياهم). . لم ينفعهم الجهد في اتقاء الموت , ولم يبذلوا جهدا في استرجاع الحياة . وإنما هو قدر الله في الحالين .
وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال , وعلى الإنفاق في سبيل الله , واهب الحياة . وواهب المال . والقادر على قبض الحياة وقبض المال .
والثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى . . بعدما ضاع ملكهم , ونهبت مقدساتهم , وذلوا لأعدائهم , وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدي ربهم , وتعاليم نبيهم . . ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة ; واستيقظت في قلوبهم العقيدة ; واشتاقوا القتال في سبيل الله . فقالوا: (لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله).
ومن خلال هذه التجربة - كما يعرضها السياق القرآني الموحي - تبرز جملة حقائق , تحمل إيحاءات قوية للجماعة المسلمة في كل جيل , فضلا على ما كانت تحمله للجماعة المسلمة في ذلك الحين .
والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة - انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف , ومن تخلي القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق - على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا . . فقد كان فيها النصر والعز والتمكين , بعد الهزيمة المنكرة , والمهانة الفاضحة , والتشريد الطويل والذي تحت أقدام المتسلطين . ولقد جاءت لهم بملك داود , ثم ملك سليمان - وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض , وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه ; والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى . . وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام ; وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت !
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية ; كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:
من ذلك . . أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها . فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة . . فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل - من ذوي الرأي والمكانة فيهم - إلى نبيهم في ذلك الزمان , يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم , الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال , وقال لهم: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا !)استنكروا عليه هذا القول , وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ?). . ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها , وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة ; وكما يقول السياق بالإجمال: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم). . ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد , والنكوص عن الوعد , والتفرق في منتصف الطريق . . إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال , في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب . . وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل . . فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل .
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول . . فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم . ولم تبق إلا
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها . وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة , ووقوع علامة الله باختياره لهم , ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة . . . ! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى . وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: (فلما فصل طالوت بالجنود قال:إن الله مبتليكم بنهر:فمن شرب منه فليس مني . ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده - فشربوا منه إلا قليلا منهم). . وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية . فأمام الهول الحي , أمام كثرة الأعداء وقوتهم , تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده). . وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة . . اعتصمت بالله ووثقت , وقالت: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين). . وهذه هي التي رجحت الكفة , وتلقت النصر , واستحقت العز والتمكين .
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة . . وكلها واضحة في قيادة طالوت . تبرز منها خبرته بالنفوس ; وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة , وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى , ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة , وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه . . ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ; ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة . فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص , ووعد الله الصادق للمؤمنين .
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة . . أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته ; لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل , وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود . فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر , كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده). . ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف . إنما حكمت حكما آخر , فقالت: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله , والله مع الصابرين). . ثم اتجهت لربها تدعوه: (ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين , إنما هو في يد الله وحده . فطلبت منه النصر , ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه . . وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا , وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح . وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون !
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة . فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة - تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن ; وبقدر حاجته الظاهرة فيه . ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب , في شتى المواقف , على قدر مقسوم . .
فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص:
الدرس الأول:243 - 245 الخارجون حذر الموت والحث على الجهاد والنفقة
(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ; فقال لهم الله:موتوا . ثم أحياهم . إن الله لذو فضل على الناس , ولكن أكثر الناس لا يشكرون). .
لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات , عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . . من هم ? وفي أي أرض كانوا ? وفي أي زمان خرجوا ? . . . . فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين , كما يجيء القصصالمحدد في القرآن . إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها , ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها . وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها . .
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة , وأسبابهما الظاهرة , وحقيقتهما المضمرة ; ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة . والاطمئنان إلى قدر الله فيهما . والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع , فالمقدر كائن , والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف . .
يراد أن يقال:إن الحذر من الموت لا يجدي ; وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة , ولا يمدان أجلا , ولا يردان قضاء ; وإن الله هو واهب الحياة , وهو آخذ الحياة ; وإنه متفضل في الحالتين:حين يهب , وحين يسترد ; والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد . وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ; وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء:
(إن الله لذو فضل على الناس . ولكن أكثر الناس لا يشكرون).
إن تجمع هؤلاء القوم (وهم ألوف)وخروجهم من ديارهم (حذر الموت). . لا يكون إلا في حالة هلع وجزع , سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم , أو من وباء حائم . . إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا:
(فقال لهم الله . . موتوا). .
كيف قال لهم ? كيف ماتوا ? هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا ? هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا ? كل ذلك لم يرد عنه تفصيل , لأنه ليس موضع العبرة . إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر , لم تغير مصيرهم , ولم تدفع عنهم الموت , ولم ترد عنهم قضاء الله . وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله . .
(ثم أحياهم). .
كيف ? هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة ; هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء ? . . ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل . فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل , لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير . . إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير منهم . في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم .
إن الهلع لا يرد قضاء ; وإن الفزع لا يحفظ حياة ; وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء . . إذن فلا نامت أعين الجبناء !
(وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم). .
هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها ; وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا . . ألا يقعدن بكم حب الحياة , وحذر الموت , عن الجهاد في سبيل الله . فالموت والحياة بيد الله . قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى . وتحت راية الله لا تحت راية أخرى . . قاتلوا في سبيل الله:
(واعلموا أن الله سميع عليم). .يسمع ويعلم . . يسمع القول ويعلم ما وراءه . أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب . قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله , واهب الحياة وآخذ الحياة .
والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية . وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال . وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا , والمجاهد ينفق على نفسه , وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ; فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله . وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة:
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة , والله يقبض ويبسط , وإليه ترجعون). .
وإذا كان الموت والحياة بيد الله , والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء , فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق . إنما هو قرض حسن لله , مضمون عنده , يضاعفه أضعافا كثيرة . يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ; ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا , ورضى وقربى من الله .
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله , لا إلى حرص وبخل , ولا إلى بذل وإنفاق:
(والله يقبض ويبسط). .
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف . فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله: (وإليه ترجعون). .
وإذن فلا فزع من الموت , ولا خوف من الفقر , ولا محيد عن الرجعة إلى الله . وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله , وليقدموا الأرواح والأموال ; وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة , وأن أرزاقهم مقدرة , وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة . ومردهم بعد ذلك إلى الله . .
ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات . . أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء:
(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ?). . إن في التعبير استعراضا لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضا ترسمه هاتان الكلمتان: (ألم تر ?). . وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار .
ومن مشهد الألوف المؤلفة , الحذرة من الموت , المتلفتة من الذعر . . إلى مشهد الموت المطبق في لحظة ; ومن خلال كلمة:(موتوا). . كل هذا الحذر , وكل هذا التجمع , وكل هذه المحاولة . . كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة:(موتوا). . ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة , وضلالة المنهج ; كما يلقي صرامة القضاء , وسرعة الفصل عند الله .
(ثم أحياهم). . هكذا بلا تفصيل للوسيلة . . إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة . المتصرفة في شؤون العباد , لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء . . وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة .
ونحن في مشهد إماتة وإحياء . قبض للروح وإطلاق . . فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير: (والله يقبض ويبسط). . متناسقا في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار .
وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد , إلى جوار التناسق العجيب في أحياء المعاني وجمال الأداء . .
الدرس الثاني:246 بنو إسرائيل متحمسون نظريا للجهاد
ثم يورد السياق التجربة الثانية , وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى:
(ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله . قال:هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! قالوا:وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله , وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ? فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم . والله عليم بالظالمين). .
ألم تر ? كأنها حادث واقع ومشهد منظور . . لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل , من كبرائهم وأهل الرأي فيهم - إلى نبي لهم . ولم يرد في السياق ذكر اسمه , لأنه ليس المقصود بالقصة , وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة , وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل . . لقد اجتمعوا إلى نبي لهم , وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته (في سبيل الله). . وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال , وأنه في (سبيل الله)يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم , ويقظة الإيمان في نفوسهم , وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق , وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل ; ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله .
وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر . فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ; ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف . . في سبيل الله . . فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير .
وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم , وثبات نيتهم , وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة , وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر:
(قال:هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا !). .
ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم ? فأنتم الآن في سعة من الأمر . فأما إذا استجبت لكم , فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ; ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها . . إنها الكلمة اللائقة بنبي , والتأكد اللائق بنبي . فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ .
وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة ; وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه:
(قالوا:وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ?). .
ونجد أن الأمر واضح في حسهم , مقرر في نفوسهم . . إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله . وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم . فقتالهم واجب ; والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ; ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال .
ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم . ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية:
(فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم). .
وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد , والنكث بالوعد , والتفلت من الطاعة , والنكوص عن التكليف , وتفرق الكلمة , والتولي عن الحق البين . . ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية ; فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقةالتأثير . وهي - من ثم - سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر , وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر , كي لا تفاجأ بها , فيتعاظمها الأمر ! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب , ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل .
والتعقيب على هذا التولي:
(والله عليم بالظالمين). .
وهو يشي بالاستنكار ; ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة - بعد طلبها - وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية . . وصمها بالظلم . فهي ظالمة لنفسها , وظالمة لنبيها , وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق , ثم تتخلى عنه للمبطلين !
إن الذي يعرف أنه على الحق , وأن عدوه على الباطل - كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا (في سبيل الله). . ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه . . إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم . . (والله عليم بالظالمين). .
الدرس الثالث:247 - 248 امتناع بني إسرائيل بتملك طالوت لهم
(وقال لهم نبيهم:إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . قالوا:أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه , ولم يؤت سعة من المال ? قال:إن الله اصطفاه عليكم , وزاده بسطة في العلم والجسم . والله يؤتي ملكه من يشاء . والله واسع عليم). .
وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة . . لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه . ولقد قالوا:إنهم يريدون أن يقاتلوا (في سبيل الله). فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم , ويلوون اعناقهم , ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم ; ويستنكرون أن يكون طالوت - الذي بعثه الله لهم - ملكا عليهم . لماذا ? لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة . فلم يكن من نسل الملوك فيهم ! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة ! . . وكل هذا غبش في التصور , كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة . .
ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية , وعن حكمة الله في اختياره:
(قال:إن الله اصطفاه عليكم , وزاده بسطة في العلم والجسم . والله يؤتي ملكه من يشاء . والله واسع عليم). .
إنه رجل قد اختاره الله . . فهذه واحدة . . وزاده بسطة في العلم والجسم . . وهذه أخرى . . والله (يؤتي ملكه من يشاء). . فهو ملكه , وهو صاحب التصرف فيه , وهو يختار من عباده من يشاء . . (والله واسع عليم). . ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد . وهو الذي يعلم الخير , ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها . .
وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش , وأن تجلو عنه الغبش . . ولكن طبيعة إسرائيل - ونبيها يعرفها - لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها . وهم مقبلون على معركة . ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم , وتردها إلى الثقة واليقين:
(وقال لهم نبيهم:إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت , فيه سكينة من ربكم , وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين). .
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة - التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى - عليه السلام - قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . وقيل:كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور . . فجعل لهم نبيهم علامة من الله , أن تقع خارقة يشهدونها , فيأتيهم التابوت بما فيه (تحمله الملائكة)فتفيض على قلوبهم السكينة . . وقال لهم:إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله لطالوت , إن كنتم حقا مؤمنين . .
ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت , فانتهى القوم منها إلى اليقين .
الدرس الرابع:249 - 251 المعركة وقتل داود لجالوت
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد , ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق . . والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين . فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود:
(فلما فصل طالوت بالجنود قال:إن الله مبتليكم بنهر . فمن شرب منه فليس مني , ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده . فشربوا منه إلا قليلا منهم). .
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل . . إنه مقدم على معركة ; ومعه جيش من أمة مغلوبة , عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة . الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات , وتصمد للحرمان والمشاق , وتستعلي على الضرورات والحاجات , وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها , فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء . . فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه , وصموده وصبره:صموده أولا للرغبات والشهوات , وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب . . واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش . ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه , ويؤثر العافية . . وصحت فراسته:
(فشربوا منه إلا قليلا منهم). .
شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده , تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم . وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف , لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة . والجيوش ليست بالعدد الضخم , ولكن بالقلب الصامد , والإرادة الجازمة , والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ; ولا بد من التجربة العملية , ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى . . بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد:
(فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده). .
لقد صاروا قلة . وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته:بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة . تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم , فاتصلت بالله قلوبهم ; وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم , غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية:
(قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله:كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين). .
هكذا . . (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة). . بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة:أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ; ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره , القاهر فوق عباده , محطم الجبارين , ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله: (بإذن الله). . ويعللونه بعلته الحقيقية: (والله مع الصابرين). . فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل . .
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله , التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء , وتستمد قوتها كلها من إذن الله , وتستمد يقينها كله من الثقة في الله , وأنه مع الصابرين . . إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة , الثابتة , التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته , مع ضعفها وقلتها . . إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله , وتتجه بقلوبها إليه , وتطلب النصر منه وحده , وهي تواجه الهول الرعيب:
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبرا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله , وقتل داود جالوت , وآتاه الله الملك والحكمة , وعلمه مما يشاء). .
هكذا . . (ربنا أفرغ علينا صبرا). . وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم , وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة . (وثبت أقدامنا). . فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد . (وانصرنا على القوم الكافرين). . فقد وضح الموقف . . إيمان تجاه كفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير , ولا غبش في التصور , ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: (فهزموهم بإذن الله). . ويؤكد النص هذه الحقيقة: (بإذن الله). . ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما . وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون , ولطبيعة القوة التي تجريه . . إن المؤمنين ستار القدرة ; يفعل الله بهم ما يريد , وينفذ بهم ما يختار . . بإذنه . . ليس لهم من الأمر شيء , ولا حول لهم ولا قوة , ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته , فيكون منهم ما يريده بإذنه . . وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين . . إنه عبد الله . اختاره الله
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار , ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب . . ولولا فضل الله ما فعل , ولولا فضل الله ما أثيب . . ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق . . فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي , إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .
ويبرز السياق دور داود:
(وقتل داود جالوت). .
وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل . وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا . . ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها , إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو . ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم , ويفوا الله بعهدهم . ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده . وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير , ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم . . وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله . فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت , ويرثه إبنه سليمان , فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ; جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:
(وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). .
وكان داود ملكا نبيا , وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى . . أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا . . وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة , ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية , وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية . . حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى . . إنها ليست المغانم والأسلاب , وليست الأمجاد والهالات . . إنما هو الصلاح في الأرض , وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . ولكن الله ذو فضل على العالمين). .
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار . وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس , في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات . . ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا , وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق , إلى الخير والصلاح والنماء , في نهاية المطاف . .
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة , لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع , فتنفض عنها الكسل والخمول , وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة , وتظل أبدا يقظة عاملة , مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . . وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء . . يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه واضحا . وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله
تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل , وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه . .
وهنا يمضي الله أمره , وينفذ قدره , ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا , ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية , التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه . وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة .
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر . ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض , وتمكين الصلاح في الحياة . إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار .
الدرس الخامس:الرسول والرسالة تعقيب على القصة
وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق , وإنك لمن المرسلين). .
تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات (نتلوها عليك). . الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة . . (نتلوها عليك بالحق). . تحمل معها الحق . ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها , وجعلها دستورا للعباد . وليس هذا الحق لغير الله سبحانه . فكل من يسن للعباد منهجا غيره إنما هو مفتات على حق الله , ظالم لنفسه وللعباد , مدع ما لا يملك , مبطل لا يستحق أن يطاع . فإنما يطاع أمر الله . وأمر من يهتدي بهدى الله . . دون سواه . .
(وإنك لمن المرسلين). .
ومن ثم نتلو عليك هذه الآية ; ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها ; وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله , ونورثك ميراث المرسلين أجمعين . .
بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب . وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات ; وهو يربيها ويعدها للدور الخطير , الذي قدره الله لها في الأرض , وجعلها قيمة عليه , وجعلها أمة وسطا تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني - إلى آخر الزمان .
انتهى الجزء الثاني
ويليه الجزء الثالث مبدوءا بقوله تعالى:تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض .
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية سورة البقرة وأول سورة آل عمران
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء الثالث
هذا الجزء الثالث مؤلف من شطرين:الشطر الأول تتمة سورة البقرة التي استغرقت الجزءين الأولين . والشطر الثاني أوائل سورة آل عمران . . وسنتحدث هنا - إجمالا - عن الشطر الأول . أما الشطر الثاني فسيجيء الحديث عنه عند استعراض سورة آل عمران إن شاء الله .
وهذه البقية الباقية من سورة البقرة هي استطراد في موضوعها الرئيسي الذي شرحناه في مطلع الجزء الأول , والذي ظللنا نطالعه في سياق السورة حتى نهاية الجزء الثاني . وهو إعداد الجماعة المسلمة في المدينة لتنهض بتكاليف الأمة المسلمة . . تنهض بها وقد تهيأت لهذه الأمانة الضخمة بالتصور الإيماني الصحيح ; وزودت بتجارب الأمة المؤمنة على مدار الرسالات السابقة ; وعرفت زاد الطريق كما عرفت مزالق الطريق ; وحذرت كيد أعدائها . . أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإيمان . . لتكون منهم على بينة في كل مراحل الطريق .
وهذا الإعداد بكل وسائله , وبكل زاده وتجاربه , وبكل أهدافه وغاياته . . هو هو الذي يعالج به القرآن الكريم أجيال الجماعة المسلمة على مدار الزمان بعد الجيل الأول . فهو المنهج الثابت الواضح المستقر لإنشاء الجماعة المسلمة , ولقيادة الحركة الإسلامية في كل جيل . والقرآن من ثم أداة حية متحركة فاعلة , ودستور شامل عامل في كل وقت ; بل هو قيادة راشدة لمن يطلب عندها الرشد والهدى والنصيحة في كل موقف وفي كل خطوة وفي كل جيل .
تعريف بباقي سورة البقرة
هذه البقية تأتي بعد قول الله لنبيه [ ص ] في نهاية الجزء الثاني من السورة:(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق . وإنك لمن المرسلين). . وذلك تعقيبا على قصة الملأ (من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم:ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله). . والتي جاء في نهايتها: (وقتل داود جالوت , وآتاه الله الملك والحكمة , وعلمه مما يشاء). . فنهاية الجزء الثاني كانت حديثا عن قوم موسى , وكانت حديثا عن داود - عليهما السلام - وكانت كذلك إشارة إلى رسالة النبي [ ص ] وإلى تزويده بتجارب(المرسلين).
ومن ثم يبدأ الجزء الثالث بعد هذا حديثا ملتحما بما قبله عن الرسل , وتفضيل الله بعضهم على بعض , وخصائص بعضهم , ورفع بعضهم درجات . . وحديثا عن اختلاف من جاء بعدهم من اتباعهم , وقتال بعضهم لبعض:(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . منهم من كلم الله . ورفع بعضهم درجات . وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم , من بعد ما جاءتهم البينات . ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا , ولكن الله يفعل ما يريد). .
ومناسبة هذا الاستطراد واضحة في الحديث عن الرسل بين أواخر الجزء الثاني وأوائل هذا الجزء الثالث . .والمناسبة كذلك واضحة في سياق السورة كله . فمعظم الجدل في السياق كان بين الجماعة المسلمة الناشئة في المدينة وبين بني إسرائيل - كما هو واضح من خلال الجزءين الأولين - ومن ثم يجيء الحديث هنا عن اختلاف اتباع الرسل من بعدهم واقتتالهم - بعد ما كفر منهم من كفر وآمن منهم من آمن - يجيء الحديث عن هذا الاختلاف والاقتتال في موضعه المناسب . لتمضي الأمة المسلمة في طريقها , تواجه بني إسرائيل وغيرهم وفق ما يقتضيه الموقف الواقعي بين اتباع الرسل:المستقيمين على الهدى والمنحرفين عن الطريق . ولتنهض هذه الأمة بتبعاتها , فهي الجماعة المهتدية التي ينبغي أن تكافح المنحرفين .
لهذا يعقب ذلك البيان عن الرسل واتباعهم والاختلاف والاقتتال دعوة حارة إلى الإنفاق (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة). . فالإنفاق هو فريضة المال الملازمة لفريضة الجهاد في جميع الأحوال ; وبخاصة في الحالة التي كانت فيها الجماعة المسلمة , التي يتجهز فيها الغزاة في سبيل الله من مالهم ومن مال المنفقين في سبيل الله .
ثم بيان لقواعد التصور الإسلامي الذي يقوم عليه وجود الجماعة المسلمة . وهو بيان عن وحدانية الله وحياته , وقيامه على كل شيء وقيام كل شيء به , وملكيته المطلقة لكل شيء , وعلمه المحيط بكل شيء , وهيمنته الكاملة على كل شيء , وقدرته الكاملة وحفظه لكل شيء . . لا شفاعة عنده إلا بإذنه , ولا علم إلا ما يهبه وذلك ليمضي المسلم في طريقه , واضح التصور لعقيدته , التي يقوم عليها منهجه كله:(الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم , له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض . ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم). .
ثم هو يقاتل في سبيل الله , لا ليكره الناس على عقيدته هذه وعلى تصوره ; ولكن ليتبين الرشد من الغي . وتنتفي عوامل الفتنة والضلالة . ثم ليكن من أمر الناس بعد ذلك ما يكون:(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها , والله سميع عليم). .
وهو يمضي مطمئنا في طريقه , في كنف الله وولايته , واثقا من هداية الله ورعايته:(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور , والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
وهكذا تمضي هذه الفقرات المتتابعة في مطلع هذا الجزء . تمضي في الطريق الذي اتخذته السورة منذ مطالعها . لتحقيق أهدافها في حياة الجماعة المسلمة وغاياتها .
يلي ذلك استطراد في توضيح التصور الإيماني لحقيقة الموت وحقيقة الحياة . . في سلسلة من التجارب يذكر إبراهيم - عليه السلام - في تجربتين منها , ويذكر شخص آخر لا يفصح عن اسمه في التجربة الثالثة . . وتنتهي كلها إلى إيضاح لحقيقة الموت ولحقيقة الحياة وارتباطهما مباشرة بإرادة الله وعلمه ; واستعصاء هذا السر على الإدراك البشري أن يعرف كنهه ; فهو فوق مجال الإدراك , ومرده إلى الله وحده دون سواه .
وعلاقة هذا الاستطراد بأمر القتال والجهاد واضحة ; كما أن علاقته بتصحيح التصور الإيماني بصفة عامة واضحة كذلك .
ومن هنا يبدأ في حديث طويل عن الارتباطات التي يقوم عليها المجتمع المسلم . فيقرر أن التكافل هو قاعدة
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
هذا المجتمع وأن الربا منبوذ منه ملعون . ومن ثم يرد حديث عن الإنفاق والصدقة يستغرق مساحة واسعة من بقية السورة . . وهو حديث حافل بالصور والظلال , والإيقاعات والإيحاءات التي يحسن إرجاء وصفها إلى موضعها عند مواجهة نصوصها الجميلة . أما مناسبتها في هذا السياق فهي مناسبة قوية مع القتال والجهاد . كما أن النفقة في سبيل الله والصدقة جانب هام من جوانب الحياة الإسلامية العامة , التي تنظمها هذه السورة بشتى التشريعات وشتى التوجيهات .
وفي الجانب الآخر المقابل لجانب الإنفاق والصدقة يقوم الربا . . ذلك النظام الخبيث الذي يحمل عليه القرآن حملة قاصمة في خلال صفحة من المصحف , كأنما تنقض منها الصواعق لتحطيم هذا الأساس النكد للحياة الاقتصادية والاجتماعية ; ولإقامة قاعدة أخرى سليمة قوية ينهض عليها بناء المجتمع الإسلامي الذي كان ينشئه الله - سبحانه - بهذا القرآن .
يليه تشريع الدين , الذي سبق به القرآن الكريم كل تشريع في موضوعه . وهو مسوق في آيتين , إحداهما أطول آية في القرآن الكريم . وتتجلى فيهما خاصية هذا القرآن في سوق تشريعاته سياقة حية موحية يتفرد بها تفردا كاملا معجزا .
وفي النهاية تختم السورة ختاما يتناسق تماما مع افتتاحها , ومع أظهر ما اشتمل عليه سياقها . ختاما يتناول قاعدة التصور الإسلامي في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله - (لا نفرق بين أحد من رسله). . وهي القاعدة التي تكرر إبرازها في السورة من قبل . كما يتناول دعاء رخيا من المسلمين لله . يقرر طبيعة العلاقة بين المؤمن وربه وحاله معه سبحانه . وفيه إشارة لما مر في السورة من تاريخ بني إسرائيل: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا واغفر لنا وارحمنا . أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين . . وهو ختام يناسب المطلع ويناسب السياق الطويل الدقيق . .
الوحدة السادسة عشرة:الآيات:253 - 257 الصفحات:277 - 296 الموضوع:من قواعد التصور الإسلامي
الرسالة والرسل
أول ما يواجهنا في هذا الدرس هو ذلك التعبير الخاص عن الرسل:
(تلك الرسل). .
لم يقل:هؤلاء الرسل . إنما استهل الحديث عنهم بهذا التعبير الخاص , الذي يشتمل على إيحاء قوي واضح . يحسن أن نقول عنه كلمة قبل المضي في مواجهة نصوص الدرس كله .
(تلك الرسل). .
إنهم جماعة خاصة . ذات طبيعة خاصة . وإن كانوا بشرا من البشر . . فمن هم ? ما الرسالة ? ما طبيعتها ? كيف تتم ? لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلا ? وبماذا ?
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب ! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات ! ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات !
إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه , والذي نحن قطعة منه ; سننا أصيلة يقوم عليها . هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير عل وفقها , ويتحرك بموجبها , ويعمل بمقتضاها .
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين كلما ارتقى في سلم المعرفة . يكشف عنها - أو يكشف له عنها - بمقدار يناسب إدراكه المحدود , المعطى له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمة الخلافة في الأرض , في أمد محدود .
ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على وسيلتين أساسيتين - بالقياس إليه - هما الملاحظة والتجربة . وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما , وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما . ولكنهما تقودان أحيانا إلى أطراف من القوانين الكلية في آماد متطاولة من الزمان . . ثم يظل هذا الكشف جزئيا غير نهائي ولا مطلق ; لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها . سر الناموس الذي ينسق بين القوانين جميعها . هذا السر يظل خافيا , لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية النسبية , مهما طالت الآماد . . إن الزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال . إنما هو الحد المقدور للإنسان ذاته , بحكم تكوينه , وبحكم دوره في الوجود . وهو دور جزئي ونسبي . ثم تجيء كذلك نسبية الزمن الممنوح للجنس البشري كله على وجه الأرض وهو بدوره جزئي ومحدود . . ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة , وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل , محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية .
هنا يجيء دور الرسالة . دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في اعماقها - بطريقة ما نزال نجهل طبيعتها وإن كنا ندرك آثارها - مع ذلك الناموس الكلي , الذي يقوم عليه الوجود . .
هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الوحي ; فتطيق تلقيه , لأنها مهيأة لاستقباله . . إنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود ; لأنها متصلة اتصالا مباشرا بالناموس الكوني الذي يصرف هذا الوجود . . كيف تتلقى هذه الإشارة ? وبأي جهاز تستقبلها ? نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده ! و (الله أعلم حيث يجعل رسالته). . وهي أمر عظيم أعظم من كل ما يخطر على البال من عظائم الأسرار في هذا الوجود .
كل الرسل قد أدركوا حقيقة "التوحيد" وكلهم بعثوا بها . ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في كيانهم كله , هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد - لا يتعدد وإلا لتعددت النواميس وتعدد إيقاعها الذي يتلقونه - وكان هذا الإدراك في فجر البشرية , قبل أن تنمو المعرفة الخارجية , المبنية على الملاحظة والتجربة , وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية , التي تشير إلى تلك الوحدة .
وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد . . دعا إلى هذه الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها . . وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشيء من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة . كما كان نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة ; وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد , الذي لا يمكن - وفق الإيقاع القوي الصادق الملزم الذي تلقته فطرتهم - أن يتعدد !
وهذا الإلزام الملح الذي تستشعره فطرة الرسل يبدو أحيانا في كلمات الرسل التي يحكيها عنهم هذا القرآن , أو التي يصفهم بها في بعض الأحيان .
نجده مثلا في حكاية قول نوح - عليه السلام - لقومه: قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي , وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم , أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ? ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله . وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم , ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ? أفلا تذكرون ? . .
ونجده في حكاية قول صالح - عليه السلام - (قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة , فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير). .
ونجده في سيرة إبراهيم - عليه السلام -:(وحاجه قومه . قال:أتحاجوني في الله وقد هدان ? ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا . وسع ربي كل شيء علما . أفلا تتذكرون ? وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ? فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ?). . .
ونجده في قصة شعيب - عليه السلام -:(قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ? وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه , إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . وما توفيقي إلا بالله . عليه توكلت وإليه أنيب). .
نجدها في قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون). .
وهكذا وهكذا نجد في أقوال الرسل وأوصافهم أثر ذلك الإيقاع العميق الملح على فطرتهم , والذي تشيكلماتهم بما يجدونه منه في أعماق الضمير !
ويوما بعد يوم تكشفت للمعرفة الإنسانية الخارجية ظواهر تشير من بعيد إلى قانون الوحدة في هذا الوجود . واطلع العلماء من البشر على ظاهرة وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون العريض . وتكشف - في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم - أن الذرة هي أساس البناء الكوني كله , وأن الذرة طاقة . . فالتقت المادة بالقوة في هذا الكون ممثلة في الذرة . وانتفت الثنائية التي تراءت طويلا . وإذا المادة - وهي مجموعة من الذرات - هي طاقة حين تتحطم هذه الذرات , فتتحول إلى طاقة من الطاقات ! . . وتكشف كذلك - في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم - أن الذرة في حركة مستمرة من داخلها . وإنها مؤلفة من الكترونات - أو كهارب - تدور في فلك حول النواة أو النويات وهي قلب الذرة . وأن هذه الحركة مستمرة ومطردة في كل ذرة . وأن كل ذرة - كما قال فريد الدين العطار - شمس تدور حولها كواكب كشمسنا هذه وكواكبها التي ما تني تدور حولها باستمرار !
وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون هما الظاهرتان اللتان اهتدى اليهما الإنسان . . وهما إشارتان من بعيد إلى قانون الوحدة الشامل الكبير . وقد بلغت اليهما المعرفة البشرية بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة البشرية أن تبلغ . . أما الطبائع الخاصة الموهوبة , فقد أدركت القانون الشامل الكبير كله في لمحة ; لأنها تتلقى إيقاعه المباشر , وتطيق وحدها تلقيه .
إنهم لم يجمعوا الشواهد والظواهر على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية . ولكن لأنهم وهبوا جهاز استقبال كاملا مباشرا , استقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالا داخليا مباشرا ; فأدركوا إدراكا مباشرا أن الإيقاع الواحد لا بد منبعث عن ناموس واحد , صادر من مصدر واحد . وكان هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل , لأنه أدرك في لمسة واحدة ما وراء وحدة الإيقاع من وحدة المصدر , ووحدة الإرادة والفاعلية في هذا الوجود . فقرر - في إيمان - وحدة الذات الإلهية المصرفة لهذا الوجود .
وما أسوق هذا الكلام لأن العلم الحديث يرى أنه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية . فالعلم يثبت أو ينفي في ميدانه . وكل ما يصل إليه من "الحقائق" نسبي جزئي مقيد ; فهو لا يملك أن يصل أبدا إلى حقيقة واحدة نهائية مطلقة . فضلا على أن نظريات العلم قلب , يكذب بعضها بعضا , ويعدل بعضها بعضا .
وما ذكرت شيئا عن وحدة التكوين ووحدة الحركة لأقرن اليهما صدق الاستقبال لوحدة الناموس في حس الرسل . . كلا . . إنما قصدت إلى أمر آخر . قصدت إلى تحديد مصدر التلقي المعتمد لتكوين التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود .
إن الكشف العلمي ربما يكون قد اهتدى إلى بعض الظواهر الكونية المتعلقة بحقيقة الوحدة الكبرى . . هذه الوحدة التي لمست حس الرسل من قبل في محيطها الواسع الشامل المباشر . والتي أدركتها الفطرة اللدنية إدراكا كاملا شاملا مباشرا . وهذه الفطرة صادقة بذاتها - سواء اهتدت نظريات العلم الحديث إلى بعض الظواهر أو لم تهتد - فنظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته . وهي ليست ثابتة أولا . ثم أنها ليست نهائية ولا مطلقة أخيرا . فلا تصلح إذن أن تقاس بها صحة الرسالة . فالمقياس لا بد أن يكون ثابتا وأن يكون مطلقا . ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد .
وينشأ عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى ذات أهمية قصوى . .
إن هذه الطبائع الخاصة الموصولة بناموس الوجود صلة مباشرة , هي التي تملك أن ترسم للبشرية اتجاهها الشامل . اتجاهها الذي يتسق مع فطرة الكون وقوانينه الثابتة وناموسه المطرد . هي التي تتلقى مباشرة وحي الله . فلا تخطىء ولا تضل , ولا تكذب ولا تكتم . ولا تحجبها عوامل الزمان والمكان عن الحقيقة ; لأنها تتلقى هذه الحقيقة عن الله , الذي لا زمان عنده ولا مكان .
ولقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين , لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة , التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون . وما كانت لتبلغ إليها كلها أبدا على مدار القرون . وقيمة هذا الاتصال هي استقامة خطاهم مع خطى الكون ; واستقامة حركاتهم مع حركة الكون ; واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون .
ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني . ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني . ومن هذا التصور يمكن أن ينبثق المنهج الوحيد الصحيح القويم , الذي يتطابق مع حقيقة تصميم الكون وحقيقة حركته , وحقيقة اتجاهه . ويدخل به الناس في السلم كافة . السلم مع هذا الكون , والسلم مع فطرتهم وهي من فطرة هذا الكون , والسلم مع بعضهم البعض في سعيهم ونشاطهم ونموهم ورقيهم المهيأ لهم في هذه الحياة الدنيا .
مصدر واحد هو مصدر الرسالات , وما عداه ضلال وباطل , لأنه لا يتلقى عن ذلك المصدر الوحيد الواصل الموصول .
إن وسائل المعرفة الأخرى المتاحة للإنسان , معطاة له بقدر . ليكشف بها بعض ظواهر الكون وبعض قوانينه وبعض طاقاته . بالقدر اللازم له في النهوض بعبء الخلافة في الأرض , وتنمية الحياة وتطويرها . وقد يصل في هذا المجال إلى آماد بعيدة جدا . ولكن هذه الآماد لا تبلغ به أبدا إلى محيط الحقيقة المطلقة التي هو في حاجة إليها ليكيف حياته - لا وفق الأحوال والظروف الطارئة المتجددة فحسب , ولكن وفق القوانين الكونية الثابتة المطردة التي قام عليها الوجود , ووفق الغاية الكبرى للوجود الإنساني كله . هذه الغاية التي يراها خالق الإنسان المتعالي عن ملابسات الزمان والمكان . ولا يراها الإنسان المحدود المتأثر بملابسات الزمان والمكان .
إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كله , هو الذي يدرك الطريق كله . والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق . بل هو محجوب عن اللحظة التالية . ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه ! فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول ?!
إنه إما الخبط والضلال والشرود . وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود . منهج الرسالات . ومنهج الرسل . ومنهج الفطر الموصولة بالوجود وخالق الوجود .
ولقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة , تأخذ بيد البشرية وتمضي بها صعدا في الطريق على هدى وعلى نور . والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك ; وتحيد عن النهج , وتغفل حداء الرائد ; وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد .
وفي كل مرة تتكشف لها الحقيقة الواحدة في صور مترقية ; تناسب تجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلي قد أشرق . فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشري بكليات الحقيقةكلها ; لتتابع البشرية خطواتها في ظل تلك الخطوط النهائية العريضة . وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة . ويحسبها المفسرون المجددون على مدار القرون .
وبعد فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذي يسعها دائما , ويسع نشاطها المتجدد المترقي , ويصلها بالحقيقة المطلقة التي لا تصل إليها عن أي طريق آخر . وإما أن تشرد وتضل وتذهب بددا في التيه ! بعيدا عن معالم الطريق !
الدرس الأول:253 التفاضل بين الرسل والإختلاف بعدهم
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . منهم من كلم الله . ورفع بعضهم درجات . وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات . ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد). .
هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات - كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس - فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض ; وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره . ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة - من بعد ما جاءتهم البينات - وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف . كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر . وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان , ودفع الشر بالخير . . وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل .
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). .
والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول . والذي تشمله دعوته ونشاطه . كأن يكون رسول قبيلة , أو رسول أمة , أو رسول جيل . أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال . . كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته . كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية . .
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى - عليهما السلام - وأشار إشارة عامة إلى من سواهما:
(منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس). .
وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى - عليه السلام - ومن ثم لم يذكره باسمه . وذكر عيسى بن مريم - عليه السلام - وهكذا يرد اسمه منسوبا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية . والحكمة في هذا واضحة . فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى - عليه السلام - وبنوته لله - سبحانه وتعالى - أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت . أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس ! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها ; وجرت حولها الدماء أنهارا في الدولة الرومانية ! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى - عليه السلام - وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم . . أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي إلى الرسل . وهذا أعظم تأييد وأكبره . وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم , وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل ; وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق . . وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى - عليه السلام - فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه , كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه , والتي وردذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن . تصديقا لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين !
ولم يذكر النص هنا محمدا [ ص ] لأن الخطاب موجه إليه . كما جاء في الآية السابقة في السياق: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين . . تلك الرسل . . إلخ. فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل .
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من أية ناحية نجد محمدا [ ص ] في القمة العليا . وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها , أو من ناحية محيطها وامتدادها , فإن النتيجة لا تتغير . .
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة - وهي أضخم الحقائق على الإطلاق - وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء . ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة:(كن). ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة . ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود . ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق . ووحدة البشرية من آدم - عليه السلام - إلى آخر أبنائه في الأرض . ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة . ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة . ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة . ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم "العبادة " . ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء . ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه . ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة . . .
ومحمد [ ص ] هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى ; كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها ; كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس .
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة , من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ; والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة , ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني .
ومن ثم كان هو خاتم الرسل . وكانت رسالته خاتمة الرسالات . ومن ثم انقطع الوحي بعده ; وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى ; وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره ; ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري - في حدود المنهج الرباني - ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة .
وقد علم الله - سبحانه - وهو الذي خلق البشر ; وهو الذي يعلم ما هم ومن هم ; ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن . . قد علم الله - سبحانه - أن هذه الرسالة الأخيرة , وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل , هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق . فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده ; أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض ; أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله . . أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعا فقد كفر كفرا صراحا لا مراء فيه ; وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية ; واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله , والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة , وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منهاليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان .
وبعد فقد اقتتل اتباع (تلك الرسل). ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم , ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم . . لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف:
(ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم - من بعد ما جاءتهم البينات - ولكن اختلفوا:فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا . ولكن الله يفعل ما يريد). .
إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفا لمشيئة الله . فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته - سبحانه - فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو . بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال . وأن يكون موكولا إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال . ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة ; وواقع وفق هذه المشيئة .
كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق , لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والنشأة - لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة . وما كان الله ليجعل الناس جميعا نسخا مكررة كأنما طبعت على ورق "الكربون" . . على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة . . أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات . ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل . وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان . وفيه الاستعداد الكامن لهذا , وأمامه دلائل الهدى في الكون , وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان . وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد !
(ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر). .
وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى , فيكون اختلاف كفر وإيمان , يتعين القتال . يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض . دفع الكفر بالإيمان . والضلال بالهدى , والشر بالخير . فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر . ولا يكفي أن يقول قوم:إنهم اتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان . وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص . . كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى . كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى . . ولكن كل فرقة من هؤء كانت قد بعدت بعدا كبيرا عن أصل دينها , وعن رسالة نبيها . وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر . وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب . كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب . ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد , هو من مشيئة الله وبإذنه:
(ولو شاء الله ما اقتتلوا). .
ولكنه شاء . شاء ليدفع الكفر بالإيمان ; وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعا , فانحرف عنها المنحرفون . وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبيا جامدا , إنما هو ذو طبيعة شريرة . فلا بد أن يعتدي , ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين , ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة .فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور .
(ولكن الله يفعل ما يريد).
مشيئة مطلقة . ومعها القدرة الفاعلة . وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم . وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم . وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل . وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج . وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال . وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة ; وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم , إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون . وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون . .
وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان . إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة .
الدرس الثاني:254 الإنفاق في سبيل الله لقتال الكفار
ومن ثم يعقب السياق على ذكر الاختلاف والاقتتال بنداء (الذين آمنوا), ودعوتهم إلى الإنفاق مما رزقهم الله . فالإنفاق صنو الجهاد وعصب الجهاد:
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة . والكافرون هم الظالمون). .
إنها الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين , والتي تربطهم بمن يدعوهم , والذي هم به مؤمنون: يا أيها الذين آمنوا . .
وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه . فهو الذي أعطى , وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى: (أنفقوا مما رزقناكم). .
وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة). .
فهي الفرصة التي ليس بعدها - لو فوتوها على أنفسهم - بيع تربح فيه الأموال وتنمو . وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير .
ويشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله . فهو الإنفاق للجهاد . لدفع الكفر . ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر:
(والكافرون هم الظالمون). .
ظلموا الحق فأنكروه . وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك . وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان , وموهوا عليهم الطريق , وحرموهم الخير الذي لا خير مثله . خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين .
إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب ; ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة ; ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع . . إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها . ومن واجب البشرية - لو رشدت - أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه ; وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال . . وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه ربها ويدعوها من
اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
أجله بصفتها تلك ; ويناديها ذلك النداء الموحي العميق . .
الدرس الثالث:255 آية الكرسي - قواعد التصور الإيماني
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال , والكفر بعد مجيء البينات والإيمان . . بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني , وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته , وأوضح سماته . وهي آية جليلة الشأن , عميقة الدلالة , واسعة المجال:
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم . له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ? يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم , ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض , ولا يؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم). .
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور , فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام . الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله , ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس , ويتضح , ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس , ترتكن إلى الوضوح واليقين .
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال , عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني . بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة , ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ; ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة . . حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء , وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل , ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع , كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح .
(الله لا إله إلا هو). .
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد , ولكنها تلبسه بالأساطير , كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله , ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس ! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له !
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي ; والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها . فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبدا إلا لله , ولا يتجه بالعبادة إلا لله , ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله , وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة:الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ; ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله ; فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله , ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء .
(الحي القيوم). .
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية , فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء , ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء , وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر . . وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر !
أما صفة(القيوم). . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته , لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ; وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي . يقوم على أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء , وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد ; الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله , وفق حكمة وتدبير , فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ; ويستمد منه قيمه وموازينه , ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين .
(لا تأخذه سنة ولا نوم). .
وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء , وقيام كل شيء به . ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم . في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء . . (ليس كمثله شيء). . وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق , وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا . .
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة . . حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها , وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ; ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها ; وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره . . إنه أمر . . أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني . وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس . ويحير العقول , وتطمئن به القلوب . .
(له ما في السماوات وما في الأرض). .
فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد , القيوم الواحد , المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله , لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ; فليس لهم أن يخرجوا عنها ; وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف , ووقعت تصرفاتهم باطلة , ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض . . وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي , وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه . وحين يقول الله في القرآن الكريم: (له ما في السماوات وما في الأرض). . فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية ; إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك .
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير . . مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض . . مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال:إنه يملكه ; ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض . . مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود , ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم . . مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع , وحدة الشح والحرص , وحدة التكالب المسعور . وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ; والسماحة والجود بالموجود ; وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء ; فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ; ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب !
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ?). .
وهذه صفة أخرى من صفات الله ; توضح مقام الألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ; لا يتعدونه ولا يتجاوزونه , يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ; الذي لا يقدم بين يدي ربه ; ولا يجرؤ على الشفاعة عنده , إلا بعد أن يؤذن له , فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم , ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد . .
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية . يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية ; التي توحي بأن هذا أمر لا يكون ; وأنه مستنكر أن يكون . فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ? وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور , أو زعموا له - سبحانه - اندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما . أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له . . في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ; ولا تجول في الخاطر , ولا تلوح بظلها في خيال !
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي ; فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم , أو اهتزاز في الرؤية ! الألوهية الوهية . والعبودية عبودية . ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء . والرب رب , والعبد عبد . ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء .
فأما صلة العبد بالرب , ورحمة الرب للعبد , والقربى والود والمدد . . فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا ; ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا ; ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة . دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية . ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة !
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم , ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء). .
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه , وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ; ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ; كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة .
(ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء). .
إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا . وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه ; تصديقا لوعده الحق: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). . ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ; ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه . سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه ; أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين . . يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك ; فينسون الإإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم . فلا يذكرون ولا يشكرون . بل يتبجحون وقد يكفرون .
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه . ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق . وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم , وجيلا بعد جيل , في خط يكاد يكون صاعدا أبدا , عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض , ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة .
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه , بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة . . زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا , وما يزال عصيا , وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل ! وزوى عنه سر اللحظة القادمة . فهي غيب لا سبيل إليه . والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه . . وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ; ثم يسدل الستر ويسود السكون ; ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه !
وزوى عنه أسرارا كثيرة . . زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض . . والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة . .
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم , الذي أحاط به بعد الأذن . يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها ! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها ! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضعوالتطامن . فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا !
(وسع كرسيه السماوات والأرض , ولا يؤوده حفظهما). .
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ; على طريقة القرآن في التعبير التصويري , لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا . فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك . فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه . وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية . ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن . وكذلك التعبير بقوله: (ولا يؤوده حفظهما)فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة . صورة انعدام الجهد والكلال . لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس , فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس .
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن , إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ; ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن . ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان .
(وهو العلي العظيم). .
وهذه خاتمة الصفات في الآية , تقرر حقيقة , وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو , وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم , ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال: (العلي العظيم)ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
إنه المتفرد بالعلو , المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو , ويعظم الإنسان ما يعظم , فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان , فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة الله ومهابته ; وإلى الشعور بجلاله وعظمته ; وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك . .
الدرس الرابع:256 - 257 الإيمان والكفر والمؤمنون والكافرون
وعندما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها , وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير . . ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ; ويقومون بهذه الدعوة ; وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة:
(لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . والله سميع عليم . الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ; والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ; وليست قضية إكراه وغصب وإجبار . ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته . يخاطب العقل المفكر , والبداهة الناطقة , ويخاطب الوجدان المنفعل , كما يخاطب الفطرة المستكنة . يخاطب الكيان البشري كله , والإدراك البشري بكل جوانبه ; في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجيء مشاهدها الجاء إلى الإذعان , ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك .
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة , فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع .
وكانت المسيحية - آخر الديانات قبل الإسلام - قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية . بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا ! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية ; بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ; وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح !
فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن - في أول ما يعلن - هذا المبدأ العظيم الكبير:
(لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي). .
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان ; واحترام إرادته وفكره ومشاعره ; وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه . . وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني . . التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة ; لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية , وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ; فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب !
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق "الإنسان" التي يثبت له بها وصف "إنسان" . فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد , إنما يسلبه إنسانيته ابتداء . . ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة , والأمن من الأذى والفتنة . . وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة .
والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة , وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ; وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين . . فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة ; ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة ?!
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: (لا إكراه في الدين). . نفي الجنس كما يقول النحويون . . أي نفي جنس الإكراه . نفي كونه ابتداء . فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع . وليس مجرد نهي عن مزاولته . والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة .
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه , وتشوقه إلى الهدى , وتهديه إلى الطريق ,وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول:
(قد تبين الرشد من الغي). .
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه . والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به .
والأمر كذلك فعلا . فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان , وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح , , وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام , وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة , وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة . . ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه , يترك الرشد إلى الغي , ويدع الهدى إلى الضلال , ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء !
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا:
(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها). .
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر , وهو(الطاغوت). وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو(الله).
والطاغوت صيغة من الطغيان , تفيد كل ما يطغى على الوعي , ويجور على الحق , ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد , ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله , ومن الشريعة التي يسنها الله , ومنه كل منهج غير مستمد من الله , وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله . فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا . . وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية , ولحقيقة معنوية . . إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدا . . إنها متينة لا تنقطع . . ولا يضل الممسك بها طريق النجاة . . إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة . . والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود . . حقيقة الله . . واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود , وقام به هذا الوجود . والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه ; فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال .
(والله سميع عليم). .
يسمع منطق الألسنة , ويعلم مكنون القلوب . فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب .
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال ; وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال . . يصور كيف يأخذ الله - ولي الذين آمنوا - بأيديهم , فيخرجهم من الظلمات إلى النور . بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيدهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات !
إنه مشهد عجيب حي موح . والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء , جيئة من هنا وذهابا من هناك . بدلا من التعبير الذهني المجرد , الذي لا يحرك خيالا , ولا يلمس حسا , ولا يستجيش وجدانا , ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ .
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية , فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا
اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
ذهنيا أيا كان . لنقل مثلا:الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران . . إن التعبير يموت بين أيدينا , ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع !
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات). .
إن الإيمان نور . . نور واحد في طبيعته وحقيقته . . وإن الكفر ظلمات . . ظلمات متعددة متنوعة . ولكنها كلها ظلمات .
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور , والتعبير عن الكفر بالظلمة .
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره . تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورا ووضاءة ووضوحا . . نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات , فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش , بينة بغير لبس , مستقرة في مواضعها بغير أرجحة ; فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه . . نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ; ويمضي في طريقه إلى الله هينا لينا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات , ولا يخبط هنا وهناك . فالطريق في فطرته مكشوف معروف .
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد . فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة . . ظلمة الهوى والشهوة . وظلمة الشرود والتيه . وظلمة الكبر والطغيان . وظلمة الضعف والذلة . وظلمة الرياء والنفاق . وظلمة الطمع والسعر . وظلمة الشك والقلق . . . وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله , والتلقي من غير الله , والاحتكام لغير منهج الله . . وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد . نور الحق الواحد الذي لا يتلبس . حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف . . وكلها ظلمات . . !
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات:
(أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). . وإذ لم يهتدوا بالنور , فليخلدوا إذن في النار !
إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ?
وقبل أن ننتقل من هذا الدرس يحسن أن نقول كلمة عن قاعدة: (لا إكراه في الدين)إلى جوار فرضية الجهاد في الإسلام , والمواقع التي خاضها الإسلام . وقوله تعالى في آية سابقة: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). .
إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض ; فيزعمون أنه فرض بالسيف , في الوقت الذي قرر فيه:أن لا إكراه في الدين . . أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة ; وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ; ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره . ويوحي إلى المسلمين - بطريق ملتوية ناعمة ماكرة - أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة !وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام ! . .
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام , وتحريف منهجه , وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين , كي يأمنوا انبعاث هذا الروح , الذي لم يقفوا له مرة في ميدان ! والذي آمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل , وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان ! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبدا تقتضي الجهاد ! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد . . ومن ثم فلا داعي للجهاد !
لقد انتضى الإسلام السيف , وناضل وجاهد في تاريخه الطويل . لا ليكره أحدا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد .
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها ; وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم . وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة - في الجزء الثاني - (والفتنة أشد من القتل). . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها , وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها . فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم . وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله , فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه . . وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون , ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون . يسامون الفتنة عن عقيدتهم , ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى . وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم , وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة , ما ترك أسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام ! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها ! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها ; والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها ; وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم . . وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى . . وما يزال الجهاد مفروضا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة - بعد تقرير حرية العقيدة - فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة , وبأرقى نظام لتطوير الحياة . جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ; ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها . فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين . ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ; كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا . فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ; وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . . وما يزال هذا الهدف قائما , وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . . وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ; حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال ; ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها . فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس , وتستذلهم عن طريق التشريع . إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء , وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع , كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء . فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله , موكلا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ . حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء , لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها , وهو مظهر الألوهية في حياة البشر , فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد !
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام . وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان , حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام , وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام , وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته . ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام , ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ .
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه . وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر , والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية - بغير حق - ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء . ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض . . ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة . لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية . أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار . وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار , يزاولونها وفق عقائدهم ; والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم , ويصون لهم حرماتهم , في حدود ذلك النظام .
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). . فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض , ولا دينونة لغير الله . .
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ; ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه ! إنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا , ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته .
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم , واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم . وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته . ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية , ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين ! . .
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة , ولا بد للإسلام من جهاد . فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود .
(لا إكراه في الدين). . نعم ولكن: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). .
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام . . . وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم , وحقيقة تاريخهم ; فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع ; إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا , وعلى نظم الأرض جميعا , وعلى مذاهب الأرض جميعا . . ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله ; والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي ; والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به ; والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه , ويحول بينها وبينه . فهذا هو أعدى أعداء البشرية , الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت . وإلى أن ترشد البشرية وتعقل , يجب أن يطارده المؤمنون , الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان , فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها , وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله . .
الوحدة السابعة عشرة:الآيات:258 - 260 الصفحات:296 - 302 الموضوع:الحياة والموت والبعث
هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعا واحدا في جملته:سر الحياة والموت , وحقيقة الحياة والموت . وهي بهذا تؤلف جانبا من جوانب التصور الإسلامي ; يضاف إلى القواعد التي قررتها الآيات السابقة منذ مطلع هذا الجزء ; وتتصل اتصالا مباشرا بآية الكرسي وما قررته من صفات الله تعالى . . وهي جميعا تمثل جانبا من جوانب الجهد الطويل المتجلي في القرآن الكريم لإنشاء التصور الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه .الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالا بصيرا , منبثقا من الرؤية الصحيحة الواضحة , وقائما على اليقين الثابت المطمئن . فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب . . ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي ; بل هي قائمة عليه , مستمدة منه . وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة , وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود . . ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله ; وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعا .
الدرس الأول 258 جدال إبراهيم مع الملك الكافر
والآية الأولى تحكي حوارا بين إبراهيم - عليه السلام - وملك في أيامه يجادله في الله . لا يذكر السياق اسمه , لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا . وهذا الحوار يعرض على النبي [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل , الذي حاج إبراهيم في ربه ; وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب:
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ? إذ قال إبراهيم:ربي الذي يحيي ويميت . قال:أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم:فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فبهت الذي كفر . والله لا يهدي القوم الظالمين). .
إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده , كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له اندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم ! وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده , فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع .
إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر . هذا السبب هو (أن آتاه الله الملك). . وجعل في يده السلطان ! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف , لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله , ولا يدركون مصدر الإنعام . ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ; ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين ! فهم حاكمون لأن الله حكمهم , وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم . فهم كالناس عبيد لله , يتلقون مثلهم الشريعة من الله , ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء !
ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه:
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ?). .
ألم تر ? إنه تعبير التشنيع والتفظيع ; وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء . فالفعلة منكرة حقا:أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء ! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب , وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله .
(قال إبراهيم:ربي الذي يحيي ويميت). .
والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة , المعروضتان لحس الإنسان وعقله . وهما - في الوقت نفسه - السر الذي يحير , والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري . وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق . ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
عنه كل الأحياء .
إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة . ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات . ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق . . قوة الله . .
ومن ثم عرف إبراهيم - عليه السلام - ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد , ولا يمكن أن يزعمها أحد , وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره . . قال: ربي الذي يحيي ويميت فهو من ثم الذي يحكم ويشرع .
وما كان إبراهيم - عليه السلام - وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء - ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء . فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه . ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية . فقال لإبراهيم:أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم , فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له , وتسلم بحاكميته:
(قال:أنا أحيي وأميت)!
عند ذلك لم يرد إبراهيم - عليه السلام - أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة . حقيقة منح الحياة وسلبها . هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا . . وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية , إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ; وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: (ربي الذي يحيي ويميت). . إلى طريقة التحدي , وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ; ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض , إنما هو مصرف هذا الكون كله . ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم:
(قال إبراهيم:فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب). .
وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك ; تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ; ولا تتخلف مرة ولا تتأخر . وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون , ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي , لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه . ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:
(فبهت الذي كفر). .
فالتحدي قائم , والأمر ظاهر , ولا سبيل إلى سوء الفهم , أو الجدال والمراء . . وكان التسليم أولى والإيمان أجدر . ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر , فيبهت ويبلس ويتحير . ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية , ولم يرغب في الحق ; ولم يلتزم القصد والعدل:
(والله لا يهدي القوم الظالمين). .
ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة . مثلا للضلال والعناد ; وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين ; وفي ترويض النفوس على تعنتالمنكرين !
كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع: (ربي الذي يحيي ويميت). .
(فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب !). . حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق . حقيقتان كونيتان هائلتان ; وهما - مع ذلك - مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار . لا تحتاجان إلى علم غزير , ولا إلى تفكير طويل . فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه , إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر , وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين . إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم , ولا تستقيم بدونه حياتهم , ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم . . ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم . . يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع , والتي تفرض نفسها فرضا على الفطرة , فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجيء إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد !
والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري . فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء - كما يبحث عن التناسل والتكاثر - بحثا فطريا , ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج , أو حتى ينمو العلم ويغزر . . وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار . . والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء . ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق .
الدرس الثاني:259 قصة الذي مر على قرية
وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى:
(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها , قال:أنى يحيي هذه الله بعد موتها ? فأماته الله مائة عام , ثم بعثه . قال:كم لبثت ? قال:لبثت يوما أو بعض يوم ! قال:بل لبثت مائة عام . فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ; وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما . فلما تبين له قال:أعلم أن الله على كل شيء قدير). .
من هو (الذي مر على قرية)? ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها ? إن القرآن لم يفصح عنهما شيئا , ولو شاء الله لأفصح , ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن . فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال . إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا . مشهد الموت والبلى والخواء . . يرتسم بالوصف: (وهي خاوية على عروشها). . محطمة على قواعدها . ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية . هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها ?). .
إن القائل ليعرف أن الله هناك . ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار:كيف يحيي هذه الله بعد موتها ? وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء . . وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته , فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر .
(أنى يحيي هذه الله بعد موتها ?). .
كيف تدب الحياة في هذا الموات ?
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
(فأماته الله مائة عام . ثم بعثه). .
لم يقل له كيف . إنما أراه في عالم الواقع كيف ! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي , ولا حتى بالمنطق الوجداني ; ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان . . إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة , التي يمتلىء بها الحس , ويطمئن بها القلب , دون كلام !
(قال:كم لبثت ? قال:لبثت يوما أو بعض يوم !). .
وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي ? على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة ; فهو يخدع ويضل ; فيرى الزمن الطويل المديد قصيرا لملابسة طارئة ; كما يرى اللحظة الصغيرة دهرا طويلا لملابسة طارئة كذلك !
(قال:بل لبثت مائة عام). .
وتبعا لطبيعة التجربة , وكونها تجربة حسية واقعية , نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام . . هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه , فلم يكونا آسنين متعفنين:
(فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه). .
وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره:
(وانظر إلى حمارك - ولنجعلك آية للناس - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما). .
أية عظام ? عظامه هو ? لو كان الأمر كذلك - كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم - للفت هذا نظره عندما استيقظ , ووخز حسه كذلك , ولما كانت إجابته: (لبثت يوما أو بعض يوم).
لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت . ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة , على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى , ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن . ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد , معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة , آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء , والتي تتصرف مطلقة من كل قيد ; وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها !
أما كيف وقعت الخارقة ? فكما تقع كل خارقة ! كما وقعت خارقة الحياة الأولى . الخارقة التي ننسى كثيرا أنها وقعت , وأننا لا ندري كيف وقعت ! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق التي أرادها الله . . وهذا "دارون" أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة , ويتعمق أغوارها قاعا قاعا , حتى يردها إلى الخلية الأولى . . ثم يقف بها هناك . إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى . ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري , والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحا شديدا . وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى . لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة ! فإذا به يقول:"أن تفسير شؤون الحياة بوجود خالق يكون بمثابة ادخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت ! " . .
أي وضع ميكانيكي ! إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضا أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر !
وإنه - هو نفسه - ليجفل من ضغط المنطق الفطري , الذي يلجيء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى , فيرجع كل شيء إلى "السبب الأول " ! ولا يقول:ما هو هذا السبب الأول ? ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة , ثم يملك - حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل - توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعدا , دون أي طريق آخر غير الذي كان ! إنه الهروب والمراء والمحال !!!
ونعود إلى خارقة القرية لنسأل:وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئا ويترك شيئا في مكان واحد وفي ظروف واحدة ? إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة .
إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة . . طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانونا كليا لازما ملزما لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه ! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة:خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو "العلمية ! " على الله سبحانه ! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة:
فأولا:ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه ? قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل , ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدودو الإدراك ?
وثانيا:فهبه قانونا من قوانين الكون أدركناه . فمن ذا الذي قال لنا:إنه قانون نهائي كلي مطلق , وأن ليس وراءه قانون سواه ?
وثالثا:هبه كان قانونا نهائيا مطلقا . فالمشيئة الطليقة تنشىء القانون ولكنها ليست مقيدة به . . إنما هو الاختيار في كل حال .
وكذلك تمضي هذه التجربة , فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد , وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح . وتقرر - إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله - حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريبا . حقيقة طلاقة المشيئة , التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به , لتتعلق بالله مباشرة , من وراء الأسباب الظاهرة , والمقدمات المنظورة . فالله فعال لما يريد . وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة:
(فلما تبين له , قال:أعلم أن الله على كل شيء قدير). .
الدرس الثالث:260 إبراهيم وإحياء الطيور
ثم تجيء التجربة الثالثة . تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن:
(وإذ قال إبراهيم:رب أرني كيف تحيي الموتى . قال:أو لم تؤمن ? قال:بلى ! ولكن ليطمئن قلبي . قال:فخذ أربعة من الطير , فصرهن إليك , ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا , ثم ادعهن يأتينك سعيا , واعلم أن الله عزيز حكيم). .
إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية . وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم , المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل . . حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين !
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ; وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان . . إنما هو أمر آخر , له مذاق آخر . . إنه أمر الشوق الروحي , إلى ملابسة السر الإلهي , في أثناء وقوعه العملي . ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل , الذي يقول لربه , ويقول له ربه . وليس وراء هذا إيمان , ولا برهان للإيمان . ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ; ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها , ويتنفس في جوها , ويعيش معها . . وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان .
وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع:
(وإذ قال إبراهيم:رب أرني كيف تحيي الموتى . قال:أو لم تؤمن ? قال:بلى ! ولكن ليطمئن قلبي). .
لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ; واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف . ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله . ولكنه سؤال الكشف والبيان , والتعريف بهذا الشوق وإعلانه , والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم , مع عبده الأواه الحليم المنيب !
ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم , ومنحه التجربة الذاتية المباشرة:
(قال:فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ; ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ; ثم ادعهن يأتينك سعيا . واعلم أن الله عزيز حكيم). .
لقد أمره أن يختار أربعة من الطير , فيقربهن منه ويميلهن إليه , حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن . وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن , ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة . ثم يدعوهن . فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى , وترتد إليهن الحياة , ويعدن إليه ساعيات . . وقد كان طبعا . .
ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه . وهو السر الذي يقع في كل لحظة . ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه . إنه سر هبة الحياة . الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن ; والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد .
رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة , وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى , وتعود إليه سعيا !
كيف ? هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه . إنه قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته . إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه , لأنه أكبر منهم , وطبيعته غير طبيعتهم . ولا حاجة لهم به في خلافتهم .
إنه الشأن الخاص للخالق . الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين . فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب . وضاعت الجهود سدى , جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب !
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
الوحدة الثامنة عشرة:الآيات:261 - 274 الصفحات:303 - 317 الموضوع:قواعد النظام الإقتصادي الإجتماعي مقدمة الوحدة طبيعة القرآن وطبيعة النفس البشرية وطبيعة المعركة
كانت الدروس الثلاثة الماضية في هذا الجزء تدور - في جملتها - حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني ; وإيضاح هذا التصور ; وتعميق جذوره في نواح شتى . وكان هذا محطا في خط السورة الطويلة ; التي تعالج - كما أسلفنا - إعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية .
ومنذ الآن إلى قرب نهاية السورة يتعرض السياق لإقامة قواعد النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم ; وأن تنظم بها حياة الجماعة المسلمة . إنه نظام التكافل والتعاون الممثل في الزكاة المفروضة والصدقات المتروكة للتطوع . وليس النظام الربوي الذي كان سائدا في الجاهلية . ومن ثم يتحدث عن آداب الصدقة . ويلعن الربا , ويقرر أحكام الدين والتجارة في الدروس الآتية في السورة . وهي تكون في مجموعها جانبا أساسيا من نظام الاقتصاد الإسلامي والحياة الاجتماعية التي تقوم عليها . وبين الدروس الثلاثة الآتية صلة وثيقة فهي ذات موضوع واحد متشعب الأطراف . . موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي .
وفي هذا الدرس نجد الحديث عن تكليف البذل والإنفاق , ودستور الصدقة والتكافل . والإنفاق في سبيل الله هو صنو الجهاد الذي فرضه الله على الأمة المسلمة , وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه , وحماية المؤمنين به , ودفع الشر والفساد والطغيان , وتجريده من القوة التي يسطو بها على المؤمنين , ويفسد بها في الأرض , ويصد بها عن سبيل الله , ويحرم البشرية ذلك الخير العظيم الذي يحمله إليها نظام الإسلام , والذي يعد حرمانها منه جريمة فوق كل جريمة , واعتداء أشد من الاعتداء على الأرواح والأموال .
ولقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة . فالأن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب . يرسم هذا الدستور مظللا بظلال حبيبة اليفة ; ويبين آدابها النفسية والاجتماعية . الآداب التي تحول الصدقة عملا تهذيبيا لنفس معطيها ; وعملا نافعا مربحا لآخذيها ; وتحول المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل , والتواد والتراحم ; وترفع البشرية إلى مستوى كريم:المعطي فيه والآخذ على السواء .
ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستورا دائما غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة , إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك - كما أنها يمكن أن تواجهها في أي مجتمع مسلم فيما بعد - وأنه كانت هناك نفوس شحيحة ضنينة بالمال تحتاج إلى هذه الإيقاعات القوية , والإيحاءات المؤثرة ; كما تحتاج إلى ضرب الأمثال , وتصوير الحقائق في مشاهد ناطقة كيما تبلغ إلى الأعماق !
كان هناك من يضن بالمال . فلا يعطيه إلا بالربا . وكان هناك من ينفقه كارها أو مرائيا . وكان هناك من يتبع النفقة بالمن والأذى . وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد . . وكل هؤلاء إلى جانب المنفقين في سبيل الله مخلصين له , الذين يجودون بخير أموالهم , وينفقون سرا في موضع السر وعلانية في موضع العلانية في تجرد وإخلاص ونقاء . .
كان هؤلاء وكان أولئك في الجماعة المسلمة حينذاك . وإدراك هذه الحقيقة يفيدنا فوائد كثيرة . .
يفيدنا أولا في إدراك طبيعة هذا القرآن ووظيفته . فهو كائن حي متحرك . ونحن نراه في ظل هذه الوقائع يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ; ويواجه حالات واقعة فيدفع هذه ويقر هذه ; ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها . فهو في عمل دائب , وفي حركة دائبة . . إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة . . وهو العنصرالدافع المحرك الموجه في الميدان !
ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو ; وإلى رؤيته كائنا حيا متحركا دافعا . فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي ; وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي ; ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوما ما على الأرض , في تاريخ الجماعة المسلمة ; ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو "الأمر اليومي" للمسلم المجند ; وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ . . مات القرآن في حسنا . . أو نام . . ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين . ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلا منغما نطرب له , أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب ! وإما أن نقرأه أورادا أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشىء في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة . . والقرآن ينشىء هذا كله . ولكن المطلوب - إلى جانب هذا كله - أن ينشىء في المسلم وعيا وحياة . نعم المطلوب أن ينشىء حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها . المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها , والتي لا يزال مستعدا لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة . المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل - كما كان المسلم الأول يفعل - وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة ; وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلا في هذا القرآن , متحركا في كلماته وتوجيهاته ; فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريبا عنه . فهو تاريخه . وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ . وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه , مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفا معينا . ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك . قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات ; وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع .
ويفيدنا ثانيا في رؤية حقيقة الطبيعة البشرية الثابتة المطردة تجاه دعوة الإيمان وتكاليفها . رؤيتها رؤية واقعية من خلال الواقع الذي تشير إليه الآيات القرآنية في حياة الجماعة المسلمة الأولى . . فهذه الجماعة التي كان يتنزل عليها القرآن , ويتعهدها رسول الله [ ص ] كان فيها بعض مواضع الضعف والنقص التي تقتضي الرعاية والتوجيه والإيحاء المستمر ولم يمنعها هذا أن تكون خير الأجيال جميعا . . وإدراك هذه الحقيقية ينفعنا . ينفعنا لأنه يرينا حقيقة الجماعات البشرية بلا غلو ولا مبالغة ولا هالات ولا تصورات مجنحة ! وينفعنا لأنه يدفع عن نفوسنا اليأس من أنفسنا حين نرى أننا لم نبلغ تلك الآفاق التي يرسمها الإسلام ويدعو الناس إلى بلوغها . فيكفي أن نكون في الطريق , وأن تكون محاولتنا مستمرة ومخلصة للوصول . . وينفعنا في إدراك حقيقة أخرى:وهي أن الدعوة إلى الكمال يجب أن تلاحق الناس , ولا تفتر ولا تني ولا تيئس إذا ظهرت بعض النقائص والعيوب . فالنفوس هكذا . وهي ترتفع رويدا رويدا بمتابعة الهتاف لها بالواجب , ودعوتها إلى الكمال المنشود , وتذكيرها الدائم بالخير , وتجميل الخير لها وتقبيح الشر , وتنفيرها من النقص والضعف , والأخذ بيدها كلما كبت في الطريق , وكلما طال بها الطريق !
ويفيدنا ثالثا في الاستقرار إلى هذه الحقيقة البسيطة التي كثيرا ما نغفل عنها وننساها:وهي أن الناس هم الناس ; والدعوة هي الدعوة ; والمعركة هي المعركة . . إنها أولا وقبل كل شيء معركة مع الضعف والنقص والشح والحرص في داخل النفس . ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة . والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها . ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها بطرفيها كما واجههاالقرآن أول مرة وواجهها رسول الله [ ص ] ولا بد من الأخطاء والعثرات . ولا بد من ظهور الضعف والنقص في مراحل الطريق ; ولا بد من المضي أيضا في علاج الضعف والنقص كلما أظهرتهما الأحداث والتجارب . ولا بد من توجيه القلوب إلى الله بالأساليب التي اتبعها القرآن في التوجيه . . وهنا نرجع إلى أول الحديث . نرجع إلى استشارة القرآن في حركات حياتنا وملابساتها . وإلى رؤيته يعمل ويتحرك في مشاعرنا وفي حياتنا كما كان يعمل ويتحرك في حياة الجماعة الأولى . . .
الدرس الأول:261 - 266 الحض على الإنفاق في سبيل الله دون مَنْ
والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس تفصيلا:
(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل , في كل سنبلة مائة حبة . والله يضاعف لمن يشاء . والله واسع عليم). .
إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف ; إنما يبدأ بالحض والتأليف . . إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله . . إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة:صورة الزرع . هبة الأرض أو هبة الله . الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه , ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره . يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله:
(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل , في كل سنبلة مائة حبة). .
إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة ! أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل ; وأكثر استجاشة للمشاعر , وتأثيرا في الضمائر . . إنه مشهد الحياة النامية . مشهد الطبيعة الحية . مشهد الزرعة الواهبة . ثم مشهد العجيبة في عالم النبات:العود الذي يحمل سبع سنابل . والسنبلة التي تحوي مائة حبة !
وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه بالضمير البشري إلى البذل والعطاء . إنه لا يعطي بل يأخذ ; وإنه لا ينقص بل يزاد . . وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها . تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة . . إن الله يضاعف لمن يشاء . يضاعف بلا عدة ولا حساب . يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده ; ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها:
(والله واسع عليم). .
واسع . . لا يضيق عطاؤه ولا يكف ولا ينضب . عليم . . يعلم بالنوايا ويثبت عليها , ولا تخفى عليه خافية .
ولكن أي إنفاق هذا الذي ينمو ويربو ? وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء ?
إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها . الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعورا . الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء , ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه:
(الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله , ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى , لهم أجرهم عند ربهم , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
والمن عنصر كريه لئيم , وشعور خسيس واط . فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاءالكاذب , أو رغبة في إذلال الآخذ , أو رغبة في لفت أنظار الناس . فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء . . وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب , ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن . . فالمن - من ثم - يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء . أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ; ورغبة في رؤية أخيه ذليلا له كسيرا لديه ; وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله . . وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام , ومن رد فعل بالحقد والانتقام . . وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة , وملء البطن , وتلافي الحاجة . . كلا ! إنما أراده تهذيبا وتزكية وتطهيرا لنفس المعطي ; واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية ; وتذكيرا له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة , وأن ينفق منها (في سبيل الله)في غير منع ولا من . كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ , وتوثيقا لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية ; وسدا لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها . والمن يذهب بهذا كله , ويحيل الإنفاق سما ونارا . فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان . هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق , ويمزق المجتمع , ويثير السخائم والأحقاد .
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام !
وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ; ويظل هذا الشعور يحز في نفسه ; فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه واضمار العداوة له ; لأنه يشعر دائما بضعفه ونقصه تجاهه ; ولأن المعطي يريد منه دائما أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه ! وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء !
وقد يكون هذ كله صحيحا في المجتمعات الجاهلية - وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام - أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر . عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله ; وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله . . وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق البعيدة والقريبة , وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء . وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء . وكلها ليست في مقدور الإنسان . . وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء . . فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى ; وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافا كثيرة . وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله ! ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها , توكيدا لهذا المعنى في النفوس , حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ . فكلاهما آكل من رزق الله . وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله ; متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم , متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه:
(ولا خوف عليهم). .
من فقر ولا من حقد ولا من غبن . .
(ولا هم يحزنون). .
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
على ما أنفقوا في الدنيا , ولا على مصيرهم في الآخرة .
وتوكيدا للمعنى الذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل . توكيدا لأن الغرض هو تهذيب النفوس , وترضية القلوب , وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله . . يقول في الآية التالية:
(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى . والله غني حليم). .
فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها ! وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح . كلمة طيبة تضمد جراح القلوب , وتفعمها بالرضى والبشاشة . ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة . فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة:من تهذيب النفوس وتأليف القلوب .
ولأن الصدقة ليست تفضلا من المانح على الآخذ , إنما هي قرض لله . . عقب على هذا بقوله:
(والله غني حليم). .
غني عن الصدقة المؤذية . حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون , فلا يعجلهم بالعقاب ولا يبادرهم بالإيذاء ; وهو معطيهم كل شيء , ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء - فليتعلم عباده من حلمه - سبحانه - فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزءا مما أعطاه الله لهم . حين لا يروقهم منهم أمر , أولا ينالهم منهم شكر !
وما يزال هذا القرآن يذكر الناس بصفة الله سبحانه ليتأدبوا منها بما يطيقون ; وما يزال أدب المسلم تطلعا لصفة ربه , وارتقاء في مصاعدها , حتى ينال منها ما هو مقسوم له , مما تطيقه طبيعته .
وعندما يصل التأثر الوجداني غايته . . بعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله , دون أن يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى , وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة , وأنه وهو الواهب الرازق لا يعجل بالغضب والأذى . . عندما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك , يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى . ويرسم لهم مشهدا عجيبا - أو مشهدين عجيبين يتسقان مع المشهد الأول . مشهد الزرع والنماء . ويصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله , والإنفاق المشوب بالمن والأذى . على طريقة التصوير الفني في القرآن , التي تعرض المعنى صورة , والأثر حركة , والحالة مشهدا شاخصا للخيال:
(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى , كالذي ينفق ماله رئاء الناس , ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ; فمثله كمثل صفوان عليه تراب , فأصابه وابل , فتركه صلدا ; لا يقدرون على شيء مما كسبوا , والله لا يهدي القوم الكافرين . ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة . أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ; فإن لم يصبها وابل فطل , والله بما تعملون بصير). .
هذا هو المشهد الأول . .
مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة . وفي كل منظر جزئيات , يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض ; ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها .
نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
(كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر). .
فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته . ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء .
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله (صفوان عليه تراب)حجر لا خصب فيه ولا ليونة , يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين , كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان . .
(فأصابه وابل فتركه صلدا). .
وذهب المطر الغزير بالتراب القليل ! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته , ولم ينبت زرعه , ولم يثمر ثمرة . . كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس , فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة !
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان , ندي ببشاشته . ينفق ماله (ابتغاء مرضاة الله). . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير , نابعة من الإيمان , عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب , فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب ! ليكون المنظر متناسق الأشكال ! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .
(أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين). .
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله , ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو:
(فإن لم يصبها وابل). . غزير . .(فطل)من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل !
إنه المشهد الكامل , المتقابل المناظر , المنسق الجزئيات , المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء , الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة , المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات , الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .
ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب , ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر , جاء التعقيب لمسة للقلوب:
والله بما تعملون بصير . .
فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى , كيف يمحق آثار الصدقة محقا في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا , ولا يستطيع لذلك المحق ردا . تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء . كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء:
(أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار , له فيها من كل الثمرات , وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء , فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ? كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون). .
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات . .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
(جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار , له فيها من كل الثمرات). .
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة . . وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها . . كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية . كذلك هي ذات روح وظل , وذات خير وبركة , وذات غذاء وري , وذات زكاة ونماء !
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة - أو هذه الحسنة - ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا , كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار
ومتى ? في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها , وحاجة إلى ظلها ونعمائها !
(وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء . فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت). .
من ذا الذي يود هذا ? ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون). .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص , بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة ; وما فيه من نضارة وروح وجمال . ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه نار . . يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار , قبل أن تذهب فرصة الاختيار , وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار !
وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة , وفي طريقة عرضه وتنسيقه . . . هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى . بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها . . إنها جميعا تعرض في محيط متجانس . محيط زراعي ! حبة أنبتت سبع سنابل . صفوان عليه تراب فأصابه وابل . جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين . جنة من نخيل وأعناب . . حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير .
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير . . حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية . حقيقة الأصل الواحد , وحقيقة الطبيعة الواحدة , وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء . وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء .
إنه القرآن . . كلمة الحق الجميلة . . من لدن حكيم خبير . .
الدرس الثاني:267 - 271 دستور الصدقة
ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة . ليبين نوعها وطريقتها , بعد ما بين آدابها وثمارها:
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم , ومما أخرجنا لكم من الأرض , ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه , واعلموا أن الله غني حميد). .
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود ; فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ; ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته . فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث !
وهو نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم . تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب , وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
ويشمل المعادن والبترول . ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال , ما كان معهودا على عهد النبي [ ص ] وما يستجد . فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان . وكله مما يوجب النص فيه الزكاة . أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك . وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال .
وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء , لا بأس من ذكره , لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها ; وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .
روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال:" نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله [ ص ] فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر , يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون). .
وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال:صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه .
ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء - رضي الله عنه - قال:نزلت فينا . كنا أصحاب نخل , فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته , فيأتي رجل بالقنو , فيعلقه في المسجد . وكان أهل الصفة ليس لهم طعام . فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه , فسقط منه البسر والتمر فيأكل , وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص , فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه , فنزلت: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه). قال:لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء . فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده .
والروايتان قريبتان . وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة ; وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض . وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة , والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال ! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم , الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي:نقص في القيمة ! بينما كانوا يقدمونه هم لله !
ومن ثم جاء هذا التعقيب:
(واعلموا أن الله غني حميد). .
غني عن عطاء الناس إطلاقا . فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيبا , وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك .
حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . .
ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلا . (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . .). . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)
فتخرجون من صدقاتكم ! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر . وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل ! أي إيحاء ! وأي إغراء ! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب !
ولما كان الكف عن الإنفاق , أو التقدم بالرديء الخبيث , إنما ينشأ عن دوافع السوء , وعن تزعزع اليقين فيما عند الله , وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفسا تتصل بالله , وتعتمد عليه , وتدرك أن مرد ما عندها إليه . . كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية , وليعرفوا من أين تنبت النفوس ; وما الذي يثيرها في القلوب . . إنه الشيطان . .
(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء , والله يعدكم مغفرة منه وفضلا , والله واسع عليم . يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا , وما يذكر إلا أولوا الألباب). .
الشيطان يخوفكم الفقر , فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب . والشيطان يأمركم بالفحشاء - والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد , وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة . وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة ; والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة . . على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة . .
وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء:
(والله يعدكم مغفرة منه وفضلا). .
ويقدم المغفرة , ويؤخر الفضل . . فالفضل زيادة فوق المغفرة . وهو يشمل كذلك عطاء الرزق في هذه الأرض , جزاء البذل في سبيل الله والإنفاق .
(والله واسع عليم). .
يعطي عن سعة , ويعلم ما يوسوس في الصدور , وما يهجس في الضمير , والله لا يعطي المال وحده , ولا يعطي المغفرة وحدها . إنما يعطي(الحكمة)وهي توخي القصد والاعتدال , وإدراك العلل والغايات , ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك:
(يؤتي الحكمة من يشاء , ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا). .
أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود ; وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور ; وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال . . وذلك خير كثير متنوع الألون . .
(وما يذكر إلا أولوا الألباب). .
فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى , ويتنبه فلا يغفل , ويعتبر فلا يلج في الضلال . . وهذه وظيفة العقل . . وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله ; وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا .
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده , فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي:رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . . وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى:أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها , بل يعينه عليها:(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين). . ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيهالحكمة , وتمنحه ذلك الخير الكثير .
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء , والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) . (يؤتي الحكمة من يشاء . . .). .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما:طريق الله . وطريق الشيطان . أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان . ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده . . ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق . . المنهج الذي شرعه الله . . وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان .
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد . كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب . ليست هنالك شبهة ولا غشاوة . . الله . أو الشيطان . منهج الله أو منهج الشيطان . طريق الله أو طريق الشيطان . . ولمن شاء أن يختار . . (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة). . لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة . . وإنما هو الهدى أو الضلال . وهو الحق واحد لا يتعدد . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ?!
بعد ذلك نعود مع السياق إلى الصدقة . . إن الله يعلم كل ما ينفقه المنفق . . صدقة كان أم نذرا . وسرا كان أم جهرا . ومن مقتضى علمه أنه يجزي على الفعل وما وراءه من النية:
(وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه . وما للظالمين من أنصار . إن تبدوا الصدقات فنعما هي , وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ; ويكفر عنكم من سيئاتكم , والله بما تعملون خبير). .
والنفقة تشمل سائر ما يخرجه صاحب المال من ماله:وزكاة أو صدقة أو تطوعا بالمال في جهاد . . والنذر نوع من أنواع النفقة يوجبه المنفق على نفسه مقدرا بقدر معلوم . والنذر لا يكون لغير الله ولوجهه وفي سبيله . فالنذر لفلان من عباده نوع من الشرك , كالذبائح التي كان يقدمها المشركون لآلهتهم وأوثانهم في شتى عصور الجاهلية .
(وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه). .
وشعور المؤمن بأن عين الله - سبحانه - على نيته وضميره , وعلى حركته وعمله . . يثير في حسه مشاعر حية متنوعة ; شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء أو تظاهر , وهاجس شح أو بخل , وهاجس خوف من الفقر أو الغبن . وشعور الاطمئنان على الجزاء والثقة بالوفاء . وشعور الرضى والراحة بما وفى لله وقام بشكر نعمته عليه بهذا الإنفاق مما أعطاه . .
فأما الذي لا يقوم بحق النعمة ; والذي لا يؤدي الحق لله ولعباده ; والذي يمنع الخير بعد ما أعطاه الله إياه . . فهو ظالم . ظالم للعهد , وظالم للناس , وظالم لنفسه:
(وما للظالمين من أنصار). .
فالوفاء عدل وقسط . والمنع ظلم وجور . والناس في هذا الباب صنفان:مقسط قائم بعهد الله معه إن أعطاه النعمة وفى وشكر . وظالم ناكث لعهد الله , لم يعط الحق ولم يشكر . . (وما للظالمين من أنصار). .
وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعا أولى وأحب إلى الله ; وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء . فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة , وفشو هذا المعنى وظهوره خير . . ومن ثم تقول الآية:
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
(إن تبدوا الصدقات فنعما هي . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم). . فتشمل هاتين الحالتين وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف ; وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها ; وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات:
(ويكفر عنكم من سيئاتكم). .
وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب , والطمأنينة والراحة من جانب آخر , وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال:
(والله بما تعملون خبير). .
ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق ; وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده ; لندرك أمرين:
الأول:بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال , وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح , وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس . والثاني:ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم . . ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام ! ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله , متجردين من هذا كله , متجهين لله وحده دون الناس . وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة , والجهد الكثير , والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص ! . . وقد كان . .
الدرس الثالث:272 - 274 سماحة الإسلام في الإنفاق
ومن ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول [ ص ] لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة , ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده , وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه:
(ليس عليك هداهم , ولكن الله يهدي من يشاء . وما تنفقوا من خير فلأنفسكم . وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). .
روى ابن أبي حاتم - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي [ ص ] أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: ليس عليك هداهم . . إلى آخرها. . فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . .
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله - ولو كان هو رسول الله [ ص ] إنه من أمر الله وحده . فهذه القلوب من صنعه ; ولا يحكمها غيره , ولا يصرفها سواه , ولا سلطان لأحد عليها إلا الله . وما على الرسول إلا البلاغ . فأما الهدى فهو بيد الله , يعطيه من يشاء , ممن يعلم - سبحانه - أنه يستحق الهدى , ويسعى إليه . وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده , وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده . . ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين , فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ; ويعطف عليهم , ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي , وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد .
(ليس عليك هداهم , ولكن الله يهدي من يشاء). .
فلتفسح لهم صدرك , ولتفض عليهم سماحتك , ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك . وأمرهم
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272)
إلى الله . وجزاء المنفق عند الله .
ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها , ويروضهم عليها . . إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده ; ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب . إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله . يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله - سبحانه - يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة - ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة - دون نظر إلى عقيدتهم . ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال , ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله . وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام ; ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام:
(وما تنفقوا من خير فلأنفسكم , وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم , وأنتم لا تظلمون). .
ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون:
(وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله). .
إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه . إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . لا ينفق عن هوى ولا عن غرض . لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون ! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان ! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . خالصا متجردا لله . . ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته ; ويطمئن لبركة الله في ماله ; ويطمئن لثواب الله وعطائه ; ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله . ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض . وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل !
ثم يخص بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة ; ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة , لطائفة من المؤمنين . صورة تستجيش المشاعر , وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون , وبالإسعاف فلا تضام , وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام:
(للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله , لا يستطيعون ضربا في الأرض , يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف , تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا . وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم). .
لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين , تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم ; وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله , وحراسة رسول الله [ ص ] كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرسا لبيوت الرسول [ ص ] لا يخلص إليها من دونهم عدو . وأحصروا في الجهاد لا يستطيعون ضربا في الأرض للتجارة والكسب . وهم مع هذا لا يسألون الناس شيئا . متجملون يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء لتعففهم عن إظهار الحاجة ; ولا يفطن إلى حقيقة حالهم إلا ذوو الفراسة . .
ولكن النص عام , ينطبق على سواهم في جميع الأزمان . ينطبق على الكرام المعوزين , الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهرا , وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون . إنهم يتجملون كي لا تظهر حاجتهم ; يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم , ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل . فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء . .
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
إنها صورة عميقة الإيحاء تلك التي يرسمها النص القصير لذلك النموذج الكريم . وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء ! وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة , ترسم الملامح والسمات , وتشخص المشاعر والانفعالات . وما يكاد الإنسان يتم قراءتها حتى تبدو له تلك الوجوه وتلك الشخصيات كأنما يراها . وتلك طريقة القرآن في رسم النماذج الإنسانية , حتى لتكاد تخطر نابضة حية !
هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة . . لن يكون إعطاؤهم إلا سرا وفي تلطف لا يخدش آباءهم ولا يجرح كرامتهم . . ومن ثم كان التعقيب موحيا بإخفاء الصدقة وإسرارها , مطمئنا لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها:
(وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم). .
الله وحده الذي يعلم السر ولا يضيع عنده الخير . .
وأخيرا يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق , وكل أوقات الإنفاق ; وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله:
(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار , سرا وعلانية , فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها , سواء في صدر الآية أم في ختامها . وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير . .
(الذين ينفقون أموالهم). .
هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال . .
(بالليل والنهار . سرا وعلانية). .
لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات . .
(فلهم أجرهم عند ربهم). .
هكذا إطلاقا . من مضاعفة المال . وبركة العمر . وجزاء الآخرة . ورضوان الله .
(ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
لا خوف من أي مخوف , ولا حزن من أي محزن . . في الدنيا وفي الآخرة سواء . .
إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم . .
خاتمة الدرس
وبعد فإن الإسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء . فإن نظامه كله يقوم أولا على تيسير العمل والرزق لكل قادر ; وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله بإقامة هذا التوزيع على الحق والعدل بين الجهد والجزاء . . ولكن هنالك حالات تتخلف لأسباب استثنائية وهذه هي التي يعالجها بالصدقة . . مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الله كلها وهي وحدها صاحبة الحق في جبايتها:وهي مورد هام من موارد المالية العامة للدولة المسلمة . ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجين رأسا . مع مراعاة الآداب التي سبق بيانها . وبضمانة تعفف الاخذين . . هذا التعفف الذي تصف هذه الآية صورة منه واضحة . وقد رباه منهج الإسلام في العطاء الإسلام في نفوس أهله فإذا أحدهم يتحرج أن يسأل وله أقل ما يكفيه في حياته . .
روى البخاري - بإسناده - عن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة . قالا:سمعنا أبا هريرة يقول:قال رسول الله [ ص ]:" ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان , ولا اللقمة واللقمتان , إنما المسكين الذي يتعفف " . . اقرأوا إن شئتم يعني قوله: (لا يسألون الناس إلحافا). .
وروى الإمام أحمد:حدثنا أبو بكر الحنفي , حدثنا عبد الحميد بن جعفر , عن أبيه , عن رجل من مزينة:أنه قالت له أمه:ألا تنطلق فتسأل رسول الله [ ص ] كما يسأله الناس ? فانطلقت أسأله , فوجدته قائما يخطب وهو يقول:" ومن استعف أعفه الله , ومن استغنى أغناه الله . ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا " فقلت بيني وبين نفسي:لناقة لي لهي خير من خمس أواق , ولغلامي ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق , فرجعت ولم أسأله .
وقال الحافظ الطبراني - بإسناده - عن محمد بن سيرين . قال:بلغ الحارث - رجلا كان بالشام من قريش - أن أبا ذر كان به عوز , فبعث إليه ثلاث مائة دينار . فقال:ما وجد عبد الله رجلا أهون عليه مني ! سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" من سأل وله أربعون فقد ألحف " ولآل أبي ذر أربعون درهما . . شاة وماهنان . . قال أبو بكر بن عياش:يعني خادمين . .
إن الإسلام نظام متكامل , تعمل نصوصه وتوجيهاته وشرائعه كلها متحدة , ولا يؤخذ أجزاء وتفاريق . وهو يضع نظمه لتعمل كلها في وقت واحد , فتتكامل وتتناسق . وهكذا أنشأ مجتمعه الفريد الذي لم تعرف له البشرية نظيرا في مجتمعات الأرض جميعا . .
الوحدة التاسعة عشرة:آياتها:275 - 281 صفحاتها:317 - 233 موضوعها:تحريم الربا مقدمة الوحدة النظام الإقتصادي الإسلامي مقابل النظام الربوي
الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي . . الوجه الكالح الطالح هو الربا !
الصدقة عطاء وسماحة , وطهارة وزكاة , وتعاون وتكافل . . والربا شح , وقذارة ودنس , وأثرة وفردية . .
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد . والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه . من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده . ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر , أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا . .
ومن ثم فهو - الربا - الوجه الآخر المقابل للصدقة . . الوجه الكالح الطالح !
لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود ! عرضه عرضا منفرا , يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة . ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع , وفساد في الأرض وهلاك للعباد .
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا . ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا - في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى - ولله الحكمة البالغة . فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره . ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر , ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث . فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت , تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية , أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى . ويدرك - من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام - يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة . وامامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا . والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي , في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها . وتتلقى - حقا - حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب . . أفرادا وجماعات , وأمما وشعوبا , وهي لا تعتبر ولا تفيق !
وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه , ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة . . في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم .
أنهما نظامان متقابلان:النظام الإسلامي . والنظام الربوي ! وهما لا يلتقيان في تصور , ولا يتفقان في أساس ; ولا يتوافقان في نتيجة . . إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة . وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف . . ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة , وكان هذا التهديد الرعيب !
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي - ونظام الحياة كلها - على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود .
يقيمه على أساس أن الله - سبحانه - هو خالق هذا الكون . فهو خالق هذه الأرض , وهو خالق هذا الإنسان . . هو الذي وهب كل موجود وجوده . .
وإن الله - سبحانه - وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ; ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات , على عهد منه وشرط . ولم يترك له هذا الملكالعريض فوضى , يصنع فيه ما يشاء كيف شاء . وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة . استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله , وحسب شريعته . فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ . وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف . فإذا انفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله . فالحاكمية في الأرض - كما هي في الكون كله - لله وحده . والناس - حاكمهم ومحكومهم - إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه , وليس لهم - في جملتهم - أن يخرجوا عنها , لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق .
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله , فيكون بعضهم أولياء بعض , وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل - لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية . ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة - فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه . مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له - فلا يكون أحدهم كلا على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل . وجعل الزكاة فريضة في المال محددة . والصدقة تطوعا غير محدد .
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال , ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم ; وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم . ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال . وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة . وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره .
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين , ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد , ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). .
وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل , والنظافة في الوسيلة والغاية , وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه , أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها .
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود ; وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض . .
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا ; ونظام يقوم على تصور آخر . تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى . ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها .
إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر . فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء ; وهو غير مقيد بعهد من الله ; وغير ملزم باتباع أوامر الله !
ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال , وفي طرق تنميته , كما هو حر في التمتع به . غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط ; وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين . ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته . وقد تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحدمن حريته هذه - جزئيا - في تحديد سعر الفائدة مثلا ; وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب , والغش والضرر . ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم , وما تقودهم إليه أهواؤهم ; لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية !
كذلك يقوم على أساس تصور خاطىء فاسد . هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال - بأية وسيلة - واستمتاعه به على النحو الذي يهوى ! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به ; ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين !
ثم ينشىء في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا , ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا , لمصلحة حفنة من المرابين ; ويحطها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا ; ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا . . وينتهي - كما انتهى في العصر الحديث - إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شرا ; وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة , ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة . . وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا , كما يداينون الحكومات والشعوب - في داخل بلادهم وفي خارجها - وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها , وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم , في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا !
وهم لا يملكون المال وحده . . إنما يملكون النفوذ . . ولما لم تكن لهم مبادىء ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق ; بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادىء ; فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال , ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم . . وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات , التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه , حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة ! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة , مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد ; وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة المملوين المرابين , الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية !
والكارثة التي تمت في العصر الحديث - ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية - هي أن هؤلاء المرابين - الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية - قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها , وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها . . سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها . . أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم , ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي . . هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول , والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي ; وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب . وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين - غير العمليين - وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع ; وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه ! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايابائسة لهذا النظام ذاته ! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه . الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي . ويتعرض للهزات الدورية المنظمة ! وينحرف عن أن يكون نافعا للبشرية كلها , إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة !
إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة - وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم ; وهم قد نشأوا في ظله , وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق . وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة "دكتور شاخت" الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا . وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية [ غير متناهية ] يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين . ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية ; بينما المدين معرض للربح والخسارة . ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد - بالحساب الرياضي - أن يصير إلى الذي يربح دائما ! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل . فإن معظم مال الأرض الآن يملكه - ملكا حقيقيا - بضعة الوف ! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك , والعمال , وغيرهم , فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال , ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف ! .
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة . فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة . فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة . ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة ; ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال , لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء . . عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين ; وتضيق المصانع دائرة انتاجها , ويتعطل العمال , فتقل القدرة على الشراء . وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد , ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف , يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا . فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد , وتعود دورة الحياة إلى الرخاء . . وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية . ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة !
ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين . فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين . فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية . أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك . إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها . وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف . . وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد , ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون . . ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار !
ونحن هنا - في ظلال القرآن - لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل - فنكتفيبهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت:
الحقيقة الأولى:- التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم - أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان . وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوي من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع . فأساس التصور الإسلامي - كما بينا - يصطدم اصطداما مباشرا بالنظام الربوي , ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم .
والحقيقة الثانية:أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية - لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب - بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية , وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا , ويعطل نموها الإنساني المتوازن , على الرغم من الطلاء الظاهري الخداع , الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام !
والحقيقة الثالثة:أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما , وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه , وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته , ومحاسب عليه في آخرته . فليس هناك نظام أخلاقي وحده ونظام عملي وحده , وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان , وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن , وإثم يؤاخذ عليه إن أساء . وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق , وأن الأخلاق ليست نافذة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية .
والحقيقة الرابعة:أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه , وشعوره تجاه أخيه في الجماعة ; وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة . أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار . كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا , فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين . ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيما . . والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشىء أنفع المشروعات للبشرية ; بل همه أن ينشىء أكثرها ربحا . ولو كان الربح أتما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول . . وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض . وسببه الأول هو التعامل الربوي !
والحقيقة الخامسة:أن الإسلام نظام متكامل . فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه ; ونظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل , بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد .
والحقيقة السادسة:أن الإسلام - حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص - لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي , إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم . ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه . ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة . وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة:المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث .
والحقيقة السابعة:- وهي الأهم - ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما , بأن هناك استحالة اعتقاديةفي أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه ! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها . . فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة , وهو مستخلف الإنسان فيها ; وهو الأمر بتنميتها وترقيتها ; وهو المريد لهذا كله الموفق إليه . فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه . وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها . وإنما هو سوء التصور . وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة:أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني , وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي . وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة , ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين . وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر . وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان . كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرة على التوجيه , وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية , وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة .
والحقيقة الثامنة:إن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غير الأساس الربوي . . ليست سوى خرافة . أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا ! وأنه حين تصح النية , وتعزم البشرية - أو تعزم الأمة المسلمة - أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية , وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع , فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد , الذي إراده الله للبشرية , والذي طبق فعلا , ونمت الحياة في ظله فعلا ; وما تزال قابلة للنمو تحت أشرافه وفي ظلاله , لو عقل الناس ورشدوا !
وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله . . فحسبنا هذه الإشارات المجملة . وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية ; وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديما حتى ردها الإسلام إليه ; هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته , ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم .
فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء:
الدرس الأول:275 - 276 حرمة الربا وتصوير حالة المرابين
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . ذلك بأنهم قالوا:إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا . فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله . ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يمحق الله الربا ويربي الصدقات . والله لا يحب كل كفار أثيم). .
إنها الحملة المفزعة , والتصوير المرعب:
(لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). .
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة . . صورة الممسوسالمصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس . فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس , لاستجاشة مشاعر المرابين , وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ; ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة , هو القيام يوم البعث . ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا . ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي . وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية ; وتصورات أهل الجاهلية عنها . .
إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان:ربا النسيئة . وربا الفضل .
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة:" إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى , فإذا حل الأجل , ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه " .
وقال مجاهد " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين , فيقول:لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه " .
وقال أبو بكر الجصاص:" إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة . فكانت الزيادة بدلا من الأجل . فأبطله الله تعالى " . .
وقال الإمام الرازي في تفسيره:" إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية . لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل , على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا , ورأس المال باق بحاله . فإذا حل طالبه برأس ماله . فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل " .
وقد ورد في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي [ ص ] قال:" لا ربا إلا في النسيئة " . .
أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة . كبيع الذهب بالذهب . والدراهم بالدراهم . والقمح بالقمح . والشعير بالشعير . . وهكذا . . وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ; ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا . . وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة !
عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله [ ص ] " الذهب بالذهب والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح . . مثلا بمثل . . يدا بيد . . فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء " . .
وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال:جاء بلال إلى النبي [ ص ] بتمر برني فقال له النبي [ ص ] " من أين هذا ? " قال:كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع . فقال:" أوه ! عين الربا . عين الربا . لا تفعل . ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر , ثم اشتر به " .
فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان , إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية . وهي:الزيادة على أصل المال . والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة . وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد . أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا . .
وأما النوع الثاني , فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة . وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد . . ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية , إذ يلد التمر التمر ! فقد وصفه [ ص ] بالربا . ونهى عنه . وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد . ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا . إبعادا لشبح الربا من العملية تماما !
وكذلك شرط القبض:"يدا بيد" . . كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل , ولو من غير زيادة , فيه شبح من الربا , وعنصر من عناصره !
إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول [ ص ] بشبح الربا في أية عملية . وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية .
فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة , وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية . وأن يحلوا - دينيا - وباسم الإسلام ! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية !
ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية . . فالإسلام ليس نظام شكليات . إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل . فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة . إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ; ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته . وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا !
ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام . سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة . ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية , أو تتسم بسمة العقلية الربوية . . وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة . وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث . شعور الحصول على الربح بأية وسيلة !
فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا . ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي .
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). .
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم - وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب - إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم .
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال:لعن رسول الله [ ص ] آكل الربا وموكله , وشاهديه وكاتبه , وقال:" هم سواء " . .
وكان هذا في العمليات الربوية الفردية . فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون . معرضون لحرب الله . مطرودون من رحمته بلا جدال .
إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة . . وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية , فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا . .
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف ; والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه , وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . . وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية , والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار . . ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة , وحرب الأعصاب , والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك !
إنها الشقوة البائسة المنكودة , التي لا تزيلها الحضارة المادية , ولا الرخاء المادي , ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ?
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ; ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى ! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . . في أمريكا , وفي السويد , وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . . إن الناس ليسوا سعداء . . أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي "التقاليع" الغريبة الشاذة تارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب . الهرب من أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها ! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا ! لماذا ?
السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . . من الإيمان . . من الاطمئنان إلى الله . . وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله , وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .
ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير . . بلاء الربا . . بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها . إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين , القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف , يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ; ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بهاالجميع ; والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع ; والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع . . ولكن هدفه هو انتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين , وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا !
وصدق الله العظيم: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). . وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم !
ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله [ ص ] على تحريم الربا . اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية:
(ذلك بأنهم قالوا:إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا). .
وكانت الشبهة التي ركنوا إليها , هي أن البيع يحقق فائدة وربحا , كما أن الربا يحقق فائدة وربحا . . وهي شبهة واهية . فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة . والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة . أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة . وهذا هو الفارق الرئيسي . وهذا هو مناط التحريم والتحليل . .
إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده . . ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة !
(وأحل الله البيع وحرم الربا). . .
لانتفاء هذا العنصر من البيع ; ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية ; وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية . .
وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية ; دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية:
(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله). .
لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه . فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله , يحكم فيه بما يراه . . وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته ; فيظل يتوجس من الأمر ; حتى يقول لنفسه:كفاني هذا الرصيد من العمل السيىء , ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت . فلا أضف إليه جديدا بعد ! . . وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد .
(ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه , ويعمقه في القلوب ;
ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد , وجهل الموعد , فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا ! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا , ويقرر أن الصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو ; ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم . ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين:
يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
(يمحق الله الربا , ويربي الصدقات , والله لا يحب كل كفار أثيم). .
وصدق وعيد الله ووعده . فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة . . إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة , ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ; وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ; كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !
وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة , والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه , والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم , وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية , هم الذين لا يريدون أن يروا , لأن لهم هوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ; فضغطوا عن رؤية الحقيقة !
(والله لا يحب كل كفار أثيم). .
وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - من الكفار الآثمين , الذين لا يحبهم الله . وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم , ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة:لا إله إلا الله . محمد رسول الله . فالإسلام ليس كلمة باللسان ; إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ; وإنكار جزء منه كإنكار الكل . . وليس في حرمة الربا شبهة ; وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم . . والعياذ بالله . .
الدرس الثاني:277 نظام الزكاة مقابل نظام الربى
وفي الصفحة المقابلة لصفحة الكفر والإثم , والتهديد الساحق لأصحاب منهج الربا ونظامه , يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح , وخصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب , وقاعدة الحياة المرتكزة إلى النظام الآخر - نظام الزكاة - المقابل لنظام الربا:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
والعنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر "الزكاة " . عنصر البذل بلا عوض ولا رد . والسياق يعرض بهذا صفة المؤمنين وقاعدة المجتمع المؤمن . ثم يعرض صورة الأمن والطمأنينة والرضى الإلهي المسبغ على هذا المجتمع المؤمن .
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن ; الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته .
وقد بهتت صورة "الزكاة " في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع ; ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية , فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة , ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية . ويجعل "الزكاة " قاعدة هذا النظام , في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية . ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي , أو التعاون البريء من الربا !
بهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي لم تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية . إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي , القائم على الأساس الربوي . وشهدت الكزازة والشح , والتكالب والتطاحن , والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس . فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة ! وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات , ما لم يكن لهم رصيد من المال ; أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية ! وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به , ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية ! فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام ; وأن الحياة لا تقوم إلا على هذا الأساس !
بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحسانا فرديا هزيلا , لا ينهض على أساسه نظام عصري ! ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة , وهي تتناول اثنين ونصفا في المائة من أصل رؤوس الأموال الأهلية مع ربحها ? يؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة , ويربيهم تربية خاصة , بالتوجيهات والتشريعات , وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه ! وتحصلها الدولة المسلمة , حقا مفروضا , لا إحسانا فرديا . وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة ; حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة ; وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان دينا تجاريا أو غير تجاري , من حصيلة الزكاة .
وليس المهم هو شكلية النظام . إنما المهم هو روحه . فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه , متناسق مع شكل النظام وإجراءاته , متكامل مع التشريعات والتوجيهات , ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معا متناسقة متكاملة . وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى . ولكنها حقيقة نعرفها نحن - أهل الإسلام - ونتذوقها بذوقنا الإيماني . فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم - وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها - فليكن هذا نصيبهم ! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به: الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة . . ليحرموا من الطمأنينة والرضى , فوق حرمانهم من الأجر والثواب . فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون !
إن الله - سبحانه - يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون , أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده . ويعدهم بالأمن فلا يخافون . وبالسعادة فلا يحزنون:
(لهم أجرهم عند ربهم , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق , وبالتخبط والضلال , وبالقلق والخوف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)
وشهدت البشرية ذلك واقعا في المجتمع المسلم ; وتشهد اليوم هذا واقعا كذلك في المجتمع الربوي ! ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزا عنيفا حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة ; ونمسك بكل عين مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع . . لوكنا نملك لفعلنا . . ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة ; لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها . . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن . والهدى هدى الله . .
الدرس الثالث:278 - 279 ترك الربا أو تلقي الحرب من الله
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة , التي تنبذ الربا من حياتها , فتنبذ الكفر والإثم , وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة . . في ظل هذا الرخاء الأمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت ; وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله , بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله , وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله . وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون). .
إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا . فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا . ليسوا بمؤمنين ولو اعلنوا أنهم مؤمنون . فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به . والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر . ولا يدع إنسانا يتستر وراء كلمة الإيمان , بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله , ولا ينفذه في حياته , ولا يحكمه في معاملاته . فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين . مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون !
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . . إن كنتم مؤمنين). .
لقد ترك لهم ما سلف من الربا - لم يقرر استرداده منهم , ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلا فيها . . إذ لا تحريم بغير نص . . ولا حكم بغير تشريع . . والتشريع ينفذ وينشىء آثاره بعد صدوره . . فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون . وبذلك تجنب الإسلام أحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرا رجعيا . وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثا ! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية , ويسيرها , ويطهرها , ويطلقها تنمو وترتفع معا . . وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به . واستجاش في قلوبهم - مع هذا - شعور التقوى لله . وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه , ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس , فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته . فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية ! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية , حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان .
فهذه صفحة الترغيب . . وإلى جوارها صفحة الترهيب . . الترهيب الذي يزلزل القلوب:
(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله). .
يا للهول ! حرب من الله ورسوله . . حرب تواجهها النفس البشرية . . حرب رهيبة معروفة المصير , مقررة العاقبة . . فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة ?!
ولقد أمر رسول الله [ ص ] عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279)
يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي . وقد أمر [ ص ] في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية - وأوله ربا عمه العباس - عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة , حتى نضج المجتمع المسلم , واستقرت قواعده , وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة . وقال [ ص ] في هذه الخطبة:
"وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين . وأول ربا أضع ربا العباس " . . ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية .
فالإمام مكلف - حين يقوم المجتمع الإسلامي - أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي , ويعتون عن أمر الله , ولو اعلنوا أنهم مسلمون . كما حارب أبو بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة , مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , وإقامتهم للصلاة . فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله , ولا ينفذها في واقع الحياة !
على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام . فهذه الحرب معلنة - كما قال أصدق القائلين - على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي . هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة . وهي حرب على الأعصاب والقلوب . وحرب على البركة والرخاء . وحرب على السعادة والطمأنينة . . حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض . حرب المطاردة والمشاكسة . حرب الغبن والظلم . حرب القلق والخوف . . وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول . الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت . فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر . وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات . ثم تقع فيها الشعوب والحكومات . ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب ! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب ! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم , فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين , فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب ! وأيسر ما يقع - إن لم يقع هذا كله - هو خراب النفوس , وانهيار الأخلاق , وانطلاق سعار الشهوات , وتحطم الكيان البشري من أساسه , وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة !
إنها الحرب المشبوبة دائما . وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا . . وهي مسعرة الآن ; تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ; وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع . . وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ; ولكنها - وهي تخرج من منبع الربا الملوث - لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية , ويسحقها سحقا ; في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين , لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون !
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى , ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف , وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء:
(وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم . لا تظلمون ولا تظلمون). .
فهي التوبة عن خطيئة . إنها خطيئة الجاهلية . الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان , ولا نظام دون نظام . . إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان . . خطيئة تنشىء آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة . وتنشىء آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة . وتنشىء آثارها في الحياة
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
البشرية كلها , وفي نموها الاقتصادي ذاته . ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين , إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي !
واسترداد رأس المال مجردا , عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين . . فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة . لها وسيلة الجهد الفردي . ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه , ومقاسمته الربح والخسارة . ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق - بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح - وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه . ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة - على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة - ولا تعطيها بالفائدة الثابتة - ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت . . وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال . . ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها . . وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب , وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر , وتجنب المورد العفن النتن الآسن !
الدرس الرابع:280 - 281 إمهال المدين المعسر وتقوى الله بدل أخذ الربى
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار . . فليس السبيل هو ربا النسيئة:بالتأجيل مقابل الزيادة . . ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة . والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدا من الخير أوفى وأعلى:
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم . . إن كنتم تعلمون). .
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية . إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار . إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع !
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوما "معقولا" في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة ! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد ! - وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفرادا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان , فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء ; فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش . فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها . تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة ! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية . فكلهم سواء . غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة ; ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية , والمؤلفات العلمية , والأساتذة والمعاهد والجامعات , والتشريعات والقوانين , والشرطة والمحاكم والجيوش . . كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها , وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون . . !!
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب . . ولكنا نعرف أنها الحق . ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها:
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).
وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)
إن المعسر - في الإسلام - لا يطارد من صاحب الدين , أو من القانون والمحاكم . إنما ينظر حتى يوسر . . ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين . فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه - إن تطوع بهذا الخير . وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين . وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة . لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر !
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرا كبيرا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين , ويضيق عليه الخناق . وهو معسر لا يملك السداد . فهنا كان الأمر - في صورة شرط وجواب - بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء . وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار .
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظا من مصارف الزكاة , ليؤدي دينه , وييسر حياته: إنما الصدقات للفقراء والمساكين . . . والغارمين . . . وهم أصحاب الديون . الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم . إنما أنفقوها في الطيب النظيف . ثم قعدت بهم الظروف !
ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء , الذي ترجف منه النفس المؤمنة , وتتمنى لو تنزل عن الدين كله , ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب:
(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . ثم توفى كل نفس ما كسبت , وهم لا يظلمون). .
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله , ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير , له في القلب المؤمن وقع ; ومشهده حاضر في ضمير المؤمن , وله في ضمير المؤمن هول . والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان !
وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات . جو الأخذ والعطاء . جو الكسب والجزاء . . إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه . والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه . فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه .
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير ; يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فرارا منه لأنه في الأعماق هناك !
إنه الإسلام . . النظام القوي . . الحلم الندي الممثل في واقع أرضي . . رحمة الله بالبشر . وتكريم الله للإنسان . والخير الذي تشرد عنه البشرية ; ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان !
الوحدة العشرون:الآيات:282 - 284 الصفحات 233 - 238 الموضوع:أحكام الدين والتجارة والرهن
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
مقدمة الوحدة - دقة الصياغة الثانوية في القرآن
هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا . فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية . . أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة , وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا . .
وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن - حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ , ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر . وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته . وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطا لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير , دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية . وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب , فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها . وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما . . .
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه . بل هو أوضح وأقوى . لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد , ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ . ولولا الإعجاز ما حقق الدقة الشتريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد .
ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادىء للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون , كما يعترف الفقهاء المحدثون !
الدرس الأول:282 أحكام الدين
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه). .
هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره . فالكتابة أمر مفروض بالنص , غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل . لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص .
(وليكتب بينكم كاتب بالعدل). .
وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب . وليس أحد المتعاقدين . وحكمة استدعاء ثالث - ليس أحد الطرفين في التعاقد - هي الاحتياط والحيدة المطلقة . وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل , فلا يميل مع أحد الطرفين , ولا ينقص أو يزيد في النصوص . .
(ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله). .
فالتكليف هنا من الله - بالقياس إلى الكاتب - كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه . فتلك فريضة من الله بنص التشريع , حسابه فيها على الله . وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب . .(فليكتب)كما علمه الله .
وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل . ومن تعيين من يتولى الكتابة . ومن تكليفه بأن يكتب . ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه , وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل . .
وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب . .
(وليملل الذي عليه الحق . وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا . فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل). .
إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين , ومقدار الدين , وشرطه وأجله . . ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن , فزاد في الدين , أو قرب الأجل , أو ذكر شروطا معينة في مصلحته . والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في اتمام الصفقة لحاجته إليها , فيقع عليه الغبن . فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر . ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت , وهو الذي يملي . . وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين - وهو يملي - أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئا من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى . . فإن كان المدين سفيها لا يحسن تدبير أموره . أو ضعيفا - أي صغيرا أو ضعيف العقل - أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية . . فليملل ولي أمره القيم عليه . .(بالعدل). . والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة . فربما تهاون الولي - ولو قليلا - لأن الدين لا يخصه شخصيا . كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد .
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها , فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد , نقطة الشهادة:
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم . فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان - ممن ترضون من الشهداء - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). .
إنه لا بد من شاهدين على العقد - (ممن ترضون من الشهداء)- والرضى يشمل معنيين:الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة . والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد . . ولكن ظروفا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرا ميسورا . فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة , وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي , الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش , فتجوربذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل , في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل , كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم ! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان . . ولكن لماذا امرأتان ? إن النص لا يدعنا نحدس ! ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). . والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة . فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد , مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء , فتذكرها الأخرى بالتعاون معا على تذكر ملابسات الموضوع كله . وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية . فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما . تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء . . وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة . . وهذه الطبيعة لا تتجزأ , فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها - حين تكون امرأة سوية - بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال , ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء . ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى - إذا انحرفت مع أي انفعال - فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة .
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة , يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة:
(ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا).
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعا . فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق . والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعيه تلبية وجدانية , بدون تضرر أو تلكؤ . وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما , إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما .
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة , فينتقل الشارع إلى غرض آخر . غرض عام للتشريع . يؤكد ضرورة الكتابة - كبر الدين أم صغر - ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق , أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة ! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلا وجدانيا وتعليلا عمليا:
(ولا تسأموا أن تكتبوه - صغيرا أو كبيرا - إلى أجله . ذلكم أقسط عند الله , وأقوم للشهادة , وأدنى ألا ترتابوا).
لا تسأموا . . فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته . . (ذلكم أقسط عند الله). . أعدل وأفضل . وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره . (وأقوم للشهادة). فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها . وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد , أو الواحد والواحدة . (وأدنى ألا ترتابوا):
أقرب لعدم الريبة . الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد , أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد .
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها ; ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع , ودقة أهدافه , وصحة إجراءاته . إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة .
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل . أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة . وتكفي فيهاشهادة الشهود تيسيرا للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد , والتي تتم في سرعة , وتتكرر في أوقات قصيرة . ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها ; وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها , ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها:
تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم , فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم).
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها . أما الإشهاد فموجب . وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب . ولكن الأرجح هو ذاك .
والأن - وقد انتهى تشريع الدين المسمى , والتجارة الحاضرة , والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة - على الوجوب وعلى الرخصة - فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل . . لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة . فالأن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة .
ر كاتب ولا شهيد . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم . واتقوا الله ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم).
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد , بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه . وإذا وقع فإنه يكون خروجا منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه . وهو احتياط لا بد منه . لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة . فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم , وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات , والحيدة في جميع الأحوال . ثم - وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير , واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف , ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس , لا من مجرد ضغط النص - يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية ; ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم , وهو الذي يعلمهم ويرشدهم , وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم , ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان:
الله . ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم).
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين , آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة , فلم يذكرها هناك في النص العام . . ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتبا . فتيسيرا للتعامل , مع ضمان الوفاء , رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين:
م على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة).
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله . فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله , ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها , والمحافظة الكاملة عليها:
بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه).
والمدين مؤتمن على الدين , والدائن مؤتمن على الرهن ; وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه . والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي . وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء . . وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان . ونحن لا نرى هذا , فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر . والإئتمان خاص بهذه الحالة . والدائن والمدين كلاهما - في هذه الحالة - مؤتمن .
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى , يتم الحديث عن الشهادة - عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد - لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه:
(ولا تكتموا الشهادة . ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).
ويتكىء التعبير هنا على القلب . فينسب إليه الإثم . تنسيقا بين الاضمار للإثم , والكتمان للشهادة . فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب . ويعقب عليه بتهديد ملفوف . فليس هناك خاف على الله .
(والله بما تعملون عليم).
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب !
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة , واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما , العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت , المجازي عليها , المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب , القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب !
(لله ما في السماوات وما في الأرض . وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله , فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء , والله على كل شيء قدير).
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت ; ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة , بذلك الرباط الوثيق , المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء . فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية . . وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم . . وهي والتشريع في الإسلام متكاملان . فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ; ويصنع المجتمع الذي يقنن له . صنعة إلهية متكاملة متناسقة . تربية وتشريع . وتقوى وسلطان . . ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان . فأنى تذهب شرائع الأرض , وقوانين الأرض , ومناهج الأرض ? أنى تذهب نظرة إنسان قاصر , محدود العمر , محدود المعرفة , محدود الرؤية , يتقلب هواه هنا وهناك , فلا يستقر على حال , ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي , ولا على رؤية , ولا على إدراك ? وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها . ربها الذي خلق , والذي يعلم من خلق , والذي يعلم ما يصلح لخلقه , في كل حالة وفي كل آن ?
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه . الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك ; ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا ; وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر . . فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس , تخلصوا من الكنيسة وسلطانها . ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال , فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه ! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله . . وكانت الشقوة وكان البلاء !!
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا ? ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه ? ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال , ويحط عنا الأثقال , ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح ?!
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
خاتمة السورة:285 - 286 خلاصة سورة البقرة مقدمة الوحدة - استعراض مواضيع سورة البقرة هذا ختام السورة الكبيرة . . الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن , والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعا ضخما رحيبا من قواعد التصور الإيماني , وصفة الجماعة المسلمة , ومنهجها , وتكاليفها , وموقفها في الأرض , ودورها في الوجود ; وموقف أعدائها المناهضين لها , وطبيعتهم , وطبيعة وسائلهم في حربها ; ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة , وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى . . كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض , وفطرته , ومزالق خطاه , ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي . . إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة .
هذا ختام السورة الكبيرة . . في آيتين اثنتين . . ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصا وافيا لأعظم قطاعات السورة . يصلح ختاما لها . ختاما متناسقا مع موضوعاتها وجوها وأهدافها .
لقد بدأت السورة بقوله تعالى: الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه , هدى للمتقين , الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون , والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . . وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة , وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعا . . وها هي ذي تختم بقوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . .)وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب !
وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة , وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة . . كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم . . وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها , المبين أن الله - سبحانه - لا يريد اعنات هذه الأمة ولا إثقالها , وأنه كذلك لا يحابيها - كما زعمت يهود عن ربها - ولا يتركها سدى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها , لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). .
وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل ; وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود ; وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم). . وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل عليناإصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا . . .).
وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال ; وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين . . وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم , والنصر على عدوهم: (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).
إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل . .
وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها , ولها دورها , ولها دلالتها الضخمة . وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها - وهو كبير - من حقائق العقيدة . . من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه . ومن حال المؤمنين به مع ربهم , وتصورهم لما يريده - سبحانه - بهم , وبالتكاليف التي يفرضها عليهم . ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه . . نعم . . كل كلمة لها دورها الضخم . بصورة عجيبة . عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن , وعرف شيئا من أسرار التعبير فيه ; وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته !
فلننظر في هذه النصوص بشيء من التفصيل:
أركان الإيمان 285
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا:سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا وإليك المصير). .
إنها صورة للمؤمنين , للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلا . ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة . . ومن ثم كرمها الله - سبحانه - وهو يجمعها - في حقيقة الإيمان الرفيعة - مع الرسول - [ ص ] وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته ; لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة ; وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده , وهو يجمع بينها وبين الرسول [ ص ] في صفة واحدة , في آية واحدة , من كلامه الجليل:
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون). .
وإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر . تلقي قلبه النقي للوحي العلي . واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة . الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة ; وبلا أداة أو واسطة . وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها , ولا يدركها من الوصف - على حقيقتها - إلا من ذاقها كذلك ! فهذا الإيمان - إيمان الرسول [ ص ] هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم . على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول [ ص ] بطبيعة الحال وكيان أي سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه .
فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده ?
(كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا:سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا وإليك المصير). .
إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين . الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله , القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة , الضاربة الجذور في أعماق الزمان , السائرة في موكب الدعوة وموكبالرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري , الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين:صف المؤمنين وصف الكافرين . حزب الله وحزب الشيطان . فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان .
(كل آمن بالله). .
والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور . وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة . وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد . وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك .
الإيمان بالله معناه إفراده - سبحانه - بالألوهية والربوبية والعبادة . ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة .
ليس هناك شركاء - إذن - في الألوهية أو الربوبية . فلا شريك له في الخلق . ولا شريك له في تصريف الأمور . ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد . ولا يرزق الناس معه أحد . ولا يضر أو ينفع غيره أحد . ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيرا كان أو كبيرا إلا ما يأذن به ويرضاه .
وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس . لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة . فلا عبادة إلا لله . ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه , فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه . فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان . ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق , ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد . . من الله . . فهذا هو معنى الإيمان بالله . . ومن ثم ينطلق الإنسان حرا إزاء كل من عدا الله , طليقا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله , عزيزا على كل أحد إلا بسلطان من الله .
(وملائكته).
والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب , الذي تحدثنا عن قيمته في حياة الإنسان في مطلع السورة - في الجزء الأول من الظلال - وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان ; ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني ; وبذلك يعلن "إنسانيته" بخصائصها المميزة . . ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه , ولكنه يحس وجودها بفطرته . فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب - كما منحها الله له - اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة ; أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب .
والإيمان بالملائكة:إيمان بحقيقة غيبية , لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته , بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له . . بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية . ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان - وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه - أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه , ويعينه على تمثلها - ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها - وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها , ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها ! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم , فينفوا حقائق الغيبمن حياتهم , استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة ; أو اضطربت عقولهم واعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات !
وفضلا على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة - شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله - يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود , فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه - وهو ضئيل - كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله ; تشاركه إيمانه بربه , وتستغفر له , وتكون في عونه على الخير - بإذن الله - وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك . . ثم هنالك المعرفة:المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته . .
(وكتبه ورسله). . (لا نفرق بين أحد من رسله).
والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام . فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله , وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله , ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم , وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم . . ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم . فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم ; حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين محمد [ ص ] فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد , لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة .
وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله ; وتقوم على دين الله في الأرض , وهي الوارثة له كله ; ويشعر المسلمون - من ثم - بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة . فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل . وهم المختارون لحمل راية الله - وراية الله وحدها - في الأرض , يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات , من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية . . إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض , على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان .
إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض , ووارثة له منذ أقدم الرسالات , هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية . إنه رصيد من الهدى والنور , ومن الثقة والطمأنينة , ومن الرضى والسعادة , ومن المعرفة واليقين . . وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام , وتعمره الوساوس والشكوك , ويستبد به الأسى والشقاء . ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية , لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب !
وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد , وحرمت هذا الأنس , وحرمت هذا النور , صرخات موجعة في جميع العصور . . هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين . فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة , فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة . . ومن ثم تمضيفي الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع . وقد تنطح وترفس كالبهيمة , أو تفترس وتنهش كالوحش ; وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش , وتنشر الفساد في الأرض . . ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس !
والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة - ولو غرقت في الرغد المادي - خاوية - ولو تراكم فيها الإنتاج - قلقة - ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي - وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان !
والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله , يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم , ويعرفون أنهم صائرون إليه , فيطلبون مغفرته من التقصير:
(وقالوا:سمعنا وأطعنا , غفرانك ربنا , وإليك المصير).
ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله . يتجلى في السمع والطاعة , السمع لكل ما جاءهم من عند الله , والطاعة لكل ما أمر به الله . فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل , والتلقي منه في كل أمر . فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله , وإنفاذ لنهجه في الحياة . ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شؤون حياتهم ; أو حيث لا ينفذون شريعته , أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره . فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل .
ومع السمع والطاعة . . الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها ; وفرائض الله حق أدائها . والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها:
(غفرانك ربنا). .
ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران . . وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله . المصير إليه في الدنيا والآخرة . المصير إليه في كل أمر وكلعمل . فلا ملجأ من الله إلا إليه ; ولا عاصم من قدره , ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه:
(وإليك المصير).
وهذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر - كما رأينا - والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي , الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط , يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض ; وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا , ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء . . فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي . . وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه , وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة . فهو يمضي في طريق الطاعة , وتحقيق الخير , والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك - في الأرض - راحة له أم تعبا . كسبا له أم خسارة . نصرا له أم هزيمة . وجدانا له أو حرمانا . حياة له أو استشهادا . لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء , واجتيازه للامتحان . . لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل . . فهو إنما يتعامل مع الله ; وينفذ عهده وشرطه ; وينتظر الجزاء هناك !
إنها الوحدة الكبرى . طابع العقيدة الإسلامية . ترسمه هذه الآية القصيرة:الإيمان بالله وملائكته . والإيمان بجميع كتبه ورسله , بلا تفريق بين الرسل , والسمع والطاعة , والإنابة إلى الله . واليقين بيوم الحساب .
إنه الإسلام . العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد , وآخر الرسالات . العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدى الخليقة إلى منتهاها . وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعا . المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود . الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق:حتى يجيء الإسلام , فيعلن وحدة الناموس كاملة , ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق .
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا , لا حيوانا ولا حجرا , ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو , بما فيه من ضعف وما فيه من قوة , وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع , وعقل ذي تقدير , وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ; وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ; وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ; وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ; وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ; فلا يتبرم بتكاليفه , ولا يضيق بها صدرا , ولا يستثقلها كذلك , وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته , ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه , وهو يحس أنها داخلة في طوقه ; ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ; فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه , أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء , ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته
لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
وإرادته ; فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .
ثم الشطر الثاني من هذا التصور:
(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
فردية التبعة , فلا تنال نفس إلا ما كسبت ; ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة , ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة , وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد , ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء , وكل طغيان , وكل إضلال , وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه , وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال , أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ; وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها , ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه , بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه , وفي جهده ونصحه , وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل , وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف , يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ; فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء , وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ; عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء:
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا , واغفر لنا , وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين). .
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ; وإدراكهم لضعفهم وعجزهم , وحاجتهم إلى رحمته وعفوه , وإلى مدده وعونه ; وإلصاق ظهورهم إلى ركنه , والتجائهم إلى كنفه , وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ; واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر , أو التعالي عن الطاعة والتسليم ; أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ; وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا , فقال رسول الله [ ص ]:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .
(ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا). .
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله , ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ; وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر , ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم(السبت)أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم , وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة: (إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة , هينة لينة , تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة , وقيل للرسول [ ص ](ونيسرك لليسرى).
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة , والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه , فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده , وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !
إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة , ومن سلطان السدنة والكهنة , ومن سلطان الأوهام والخرافات , ومن سلطان العرف والعادة , ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .
ودعاء المؤمنون: (ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا):يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ; كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .
(ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به). .
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير , الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور:
(واعف عنا , واغفر لنا وارحمنا).
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان , ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها , قال رسول الله [ ص ]:" لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا:ولا أنت يا رسول الله ? قال:" ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن:عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .
وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله , وهم يهمون بالجهاد في سبيله , لإحقاق الحق الذي إراده , وتمكين دينه في الأرض ومنهجه , (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ; ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ; ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ; وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين:
(أنت مولانا , فانصرنا على القوم الكافرين). .
إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين , وحالهم مع ربهم في كل حين . .