وصية لويس التاسع.. هزمتنا بغير جيوش
بقلم: د. توفيق الواعي
تعيش المبادئ آمنة في ظلال الرعاية القوية، وتترعرع مطمئنة في حراسة السواعد الفتية، وتؤتي أكلها في رحاب العيون الزكية، أما إذا فقدت الأمن والرعاية، والاطمئنان والحراسة، والسهر على دفع المكاره؛ فإنها تُصاب بالمرض، والهزال وتؤذن بالزوال والاضمحلال، وقد وجَّهنا إسلامنا العظيم إلى حراسة مبادئنا ودفع أعدائنا عنها بالقوة فقال سبحانة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60)، وأخبرنا أن عدم الاستعداد جريمة منكرة فقال: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾ (التوبة) مع القاعدين من المرضى والضعفاء ومع النساء والصبيان، وتثبيط الله لهم عن الخروج ليكونوا مع المنافقين، "عبد الله بن سلول" وغيره، وليفضحهم على رءوس الأشهاد، ويظهر جبنهم ويبعد عن المسلمين شرهم، ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ (التوبة).
راموا تلافي أمر فات أوله وكيف يرجع أمس قد محاه غد
أني وقد أنشبت فيهم مخالبها تلك الدواهي وفُلَّت منهم العدد
ومن رعى غنمًا في أرض مسبعة ونام عنها تولَّى رعيها الأسد
والأسد والوحوش على مر الزمان كثيرة ومتحفزة، والثعالب الماكرة، والحروبات المتلونات على امتداد العصور متنوعة وخطيرة، وقد ظل المسلمون محافظين على قوتهم زمنا، وما زال هناك نذر يسير يصحو في الشعوب عند الحوادث الجسام، شعر به أعداء الإسلام، واحتاروا في أمره؛ ولكنهم لم يفقدوا الأمل في حرب المسلمين بوسائل أخرى وطرق متعددة قد نجحت نجاحًا باهرًا، أسس لها عن تجربة ومعاناة "لويس التاسع" ملك فرنسا الذي أنهكته الحروب مع المسلمين حتى وقع أسيرًا وحُبس في دار ابن لقمان بالمنصورة بمصر، وقد فكر في محبسه وخط وثيقة ترسم طريقًا للتغلب على المسلمين بغير حرب و لا نزال، فكتب للغرب تلك الوثيقة التي ما زالت محفوظة في دار الوثائق القومية بباريس، يقول فيها: إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب، وإنما باتباع ما يلي:
1- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين.
2- عدم تمكين البلاد العربية والإسلامية أن يقوم فيها حكم صالح.
3- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء حتى تنفصل القاعدة عن القمة.
4- الحيلولة دون قيام جيش قوي مؤمن بحق وطنه عليه ويضحِّي في سبيل مبادئه.
5- العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة.
6- العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية تمتد لتصل إلى الغرب.
أدرك الملك الصليبي الذي قاد الحملة الصليبية السابعة على العالم الإسلامي أنه لا يمكن هزيمة المسلمين بالسلاح؛ ولكن بحربهم في عقيدتهم؛ لأنها مكمن القوة فيهم، ومنذ ذلك الوقت والمستشرقون والصليبيون يبذرون بذورهم الشيطانية الخبيثة، وينشئون قادة الاستعمار الجديد على هذه المفاسد والأحقاد التي صبغوا بها أفعالهم القذرة التي ما برحت محبوسة في صدورهم وتظهر بين الحين والآخر على ألسنتهم ، وهذا " الجنرال اللنبي" يركل قبر صلاح الدين صارخًا فور احتلاله دمشق، قائلاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين...
وظل الاستعمار يدرس هذه المبادئ والأحقاد الخبيثة ليس لأبنائه فقط وإنما لطليعة من المسلمين تبناهم ليورثهم تلك الثقافة العفنة ويجعلها محور زادهم الفكري الذي يجهرون به في المجتمع والإعلام والمراكز التعليمية، وبلا وازع من ضمير أو حياء من أمتهم ودماء شهدائهم وقادتهم الأخيار الأبرار، وبدون أدنى خجل من الله ورسوله، يعلنون الفصام النكد بين عقيدتهم مصدر قوتهم وحضارتهم، ويجهرون بفصل الدين عن السياسة، وتنحية العقيدة عن الحياة، ووصمها بالظلامية والرجعية والإنهزامية وما عرفوا التوحد والعزة والنعمة والكرامة والنصر يومًا إلا بها، وعلى يديها.
هذا وقد تكررت وتمركزت تلك النظريات والتعاليم الخبيثة القذرة والأفكار العلمانية الوثنية الظلامية الحاقدة، في أرواح العرب والمسلمين، وأقامت الحدود والسدود بين ديارهم، وشتت شملهم وأغرقتهم في غوغاء الصراعات الأيديولوجية والدموية الجاهلية التي ما زالت سائدة في المجتمع إلا ما رحم ربك، مخلفة الأوجاع والأسقام في جسد الأمة، وباعثة لنعرات الدم والعرق والقوميات الطائفية والإنعزالية، التي أوهنت الأمة وبعثرتها وبعثرت طاقتها وقدرتها، وبددت الموارد والثروات والطاقات والإمكانات، وتجهز نفسها لتكون ذيلاً لكل عدو للأمة، متخذة كل الصراعات القذرة زادًا لها في هذا الطريق الشائك، ومتحالفة مع الدكتاتوريات الدموية المبيرة، التي تعتمد على القهر والاستبداد والتسلط والسلب والنهب، وتجنيد قوى الأمة العسكرية والمخابراتية لحماية أنظمتها وكراسيها وحواريها وغنائمها المنهوبة، ولتبقى الأمة كلها غارقة في التخلف والظلام والعدوانية والانهزامية السرمدية، حتى تلقى حتفها بظلفها، ويهيمن عليها ويلفها أساليب التضليل والتزييف، وتقودها أبواق إعلامية هائلة تسخرها لما يراد لها، تحت أسماء وشعارات عظيمة وبراقة، خادعة (إخاء، عدالة، وحدة، كرامة..!!)
لتعيش الأمة في الأوهام حتى تُصاب بعد فترة بحالة من الإحباط واليأس وطنيًّا وإنسانيًّا وحضاريًّا، على المستويين الفردي والجماعي، وتورثها ظروف شاقة وأوضاع كئيبة من العوز والفقر والبطالة وضنك الحياة لا تكاد أن تجد له مثيلاً، ويتكون عندهم نوع من الخنوع والصغار والعجز حتى تستجدي عدوها السلاح والأمن، رغم عشرات الجيوش وملايين الجنود، ومليارات وتريليونات الثروات، ومع كل هذا تُصاب بهستيريا الرعب والهلع والفزع من دويلة صغيرة مثل "إسرائيل"، بل وتصبح بعض دولنا الكبيرة عميلة لها، ومنفذة لتوجهاتها، ولعلنا بعد ذلك، نتذكر وصية لويس التاسع ونفهمها وندرك أننا بغير قوتنا الحربية والمعنوية والنفسية ووحدتنا وعقيدتنا لا نساوي شيئًا، واليوم يجدر بنا أن نقرأ وصايا ربنا بدلاً من وصايا أعدائنا؛ حيث يقول سبحانه:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ (طه)، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ (آل عمران: من الآية 161)، ونتذكر وصية الفاروق عمر رضي الله عنه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
نرجو أن نعي هذا ونفهمه وننفِّذه إن شاء الله آمين.
المصدر
- مقال:وصية لويس التاسع.. هزمتنا بغير جيوشإخوان أون لاين