مناطق الموت البطيء!!!.
2008-11-12
بقلم : جابر الطميزي
... تعد الصناعات في الدول من أهم مصادر الدخل الوطني ،والتي توفر للدولة مداخيل نقدية من العملات الصعبة،وهي تساهم بشكل كبير في خلق بيئة تنموية اقتصادية واجتماعية ، وتساهم في تلبية احتياجات المجتمعات المحلية وتصدير الفائض منها ، وفي هذا الإطار تضع الدول الصناعية المتطورة خططا مدروسة بعناية لإرساء وتطور تنمية شاملة بعيدة المدى لهذه الصناعات ، وبما ينعكس إيجابا على القدرة التنافسية للصناعات الوطنية ، كما وتوفر العديد من فرص العمل وتساهم بشكل ايجابي بحل مشكلة البطالة .
... ومن اجل تطوير هذه الصناعات بالشكل الأمثل ، بادرت العديد من الدول إلى تأسيس وإنشاء مناطق صناعية بمواصفات علمية سليمة ، بعيدة عن مراكز المدن والتجمعات السكانية ، وتم إصدار قوانين تتعلق بتنظيم هذه المناطق وتشجيع الاستثمار فيها ، اخذين بعين الاعتبار الحفاظ على الصحة العامة ، وخفض الضوضاء ، والازدحام ، والحد من التلوث البيئي ، وخلق شبكة مهنية وصناعية وحرفية متكاملة ، وتفاديا للانتشار العشوائي الغير منظم والغير قانوني للمهن والصناعات والحرف.
... هكذا يصار في كل دول العالم ، لكن عندنا في فلسطين الأمر يسير بالمقلوب ، حيث ترحل المصانع الإسرائيلية الخطرة والملوث للبيئة ، والقاتلة للإنسان والحيوان والنبات ، من المناطق الإسرائيلية المأهولة بالسكان ، لتجمع وتقام من جديد في مناطق صناعية أشبه بمناطق الموت ، على تخوم المحيط الحيوي في المدن والتجمعات السكانية الفلسطينية ،وفوق أراضي الموطنين العرب الفلسطينيين الزراعية ومصادر المياه العذبة ،وهذا يعتبر حلقة متواصلة من الإرهاب المنظم والترويع والاضطهاد والتمييز العنصري الذي تمارسه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة .
مناطق الموت تقام بقرار من المحاكم الإسرائيلية.
... أقيمت المناطق الصناعية الإسرائيلية أو ما تسمى بمناطق الموت بقرار من حكومة الاحتلال ، حيث أصدرت قرارا بإنشاء تسع مناطق صناعية داخل الأراضي الفلسطينية على الحدود مع إسرائيل ، مكرسة بذلك سياسة الفصل العنصري، وفي عام 2006م صدر قرار عن المحكمة الإسرائيلية يقضي بترحيل جميع المصانع الكيماوية من داخل التجمعات السكانية الإسرائيلية إلى المناطق الصناعية المقامة على الأراضي الفلسطينية المصادرة بالضفة الغربية ، والتي تم مصادرتها سنة 1999م ، وبما تشكله هذه المصانع من خطورة كبيرة على حياة المواطنين الفلسطينيين وتدمير للأراضي الزراعية والبيئة الفلسطينية ، جراء ما تصدره هذه المصانع من مخلفات صلبة ومواد كيماوية سامة تلوث الهواء والمياه والتربة ، وما تشكله من خطر على النظام البيئي وحياة الإنسان والأشجار والطيور والحيوانات .
... ويعد التجمع الصناعي الذي يطلق عليه اسم تجمع مصانع بركان القريب من مدينة سلفيت ، الأكبر بين المناطق والتجمعات الصناعية الإسرائيلية التي أقيمت على أراضي الضفة الغربية ، ويعمل في هذا التجمع آلاف العمال الفلسطينيين في ظروف مأساوية ، وكذلك أقيمت على أراضي مدينة طولكرم عام 1995م المنطقة الصناعية نيتساني شالوم ، والتي تقوم بصناعة الكرتون والبلاستيك والمبيدات الحشرية والمواد السامة الأخرى وما تشكله من كوارث بيئية حقيقية لا تحصى.
محتويات
ارهاب بيئي.
إن من أكثر المخاطر التي تهدد الحياة البيئية بكل مفرداتها بالإضافة إلى المستوطنات الإسرائيلية والتي تعد من أكثر مظاهر التدمير الإسرائيلي للبيئة الفلسطينية، تلك المصانع الكيماوية التي أقيمت في المناطق الصناعية القريبة من المناطق الفلسطينية المأهولة ، وذلك نتيجة للأبخرة والدخان والمواد الكيماوية والمخلفات الصناعية الصلبة والسائلة ، وارتفاع نسبة الأملاح التي تلوث التربة والهواء والماء ، وما تشكله من خطر محدق بالإنسان والحيوان والبيئة ، ومصنع غاشوري الذي يصنع المبيدات الحشرية الزراعية والدهانات ، هو أول مصنع أقيم في الضفة الفلسطينية على أراضي المواطنون العرب في سنة 1985م ، وكذلك مصانع شاحف سخوخيت ، ومصنع ديكسون للغاز ، ومصنع لينوي اسخوخيت لصناعة ومعالجة الزجاج وفلاتر المياه وانابيب السماد الكيماوي ، ومصانع الفيبرجلاس ، والأسمدة، وتشكيل المعادن ، ودهان الأسطح، وإعادة تدوير الزيوت ، وبعض المصانع السرية مجهولة المحتوى ، وكذلك قيام أوساط في سلطات الاحتلال بنقل مخلفات الصناعات العسكرية والمواد السامة والكيماوية والمشعة والمسرطنة ودفنها في الأراضي الفلسطينية ، حيث تم اكتشاف مئات البراميل من النفايات الخطرة في عدة مناطق فلسطينية ، مثل الخليل والعيزرية وفي منطقة أم التوت في محافظة جنين تم اكتشاف 230 برميل من النفايات الكيماوية ، ورصدت وزارة شؤون البيئة الفلسطينية أكثر من 50 موقعا في الضفة الغربية وقطاع غزة دفنت فيها نفايات سامة وجد في احدها أكثر من 50 طنا مطمورة على عمق بضعة أمتار .
... قامت إسرائيل بدفن أكثر من 50% من النفايات النووية والكيماوية ، وهي تقدر بثلاثة ملايين طن في الأراضي الفلسطينية ، ( محافظة الخليل / يطا والظاهرية ، وفي السفوح الشرقية وبعكس اتجاه مجرى المياه الجوفية وفي قطاع غزة )والأراضي العربية ( سيناء ، الجولان ، شواطئ وجنوب لبنان ، والأردن ) وبصورة سرية .
... اخطر هذه المصانع الذي ينتج الغاز المعقم للتربة المحرم دوليا ، والذي يسبب بالضرورة كوارث بيئية خطيرة، وكذلك تقوم إسرائيل بإلقاء نحو مليون متر مكعب أسبوعيا من المياه العادمه الغير معالجة على ساحل خليج العقبة الأردني ، مما اثر على إنتاج الثروة السمكية والمرجان ، وكذلك قيام مستوطنة تل السلطان بإلقاء مياهها العادمه وغير المعالجة على سواحل مدينتي رفح والعريش المصريتين ، مما أدى إلى انخفاض جودة المياه ونظافة الشواطئ حيث اثر سلبا على السياحة وصيد الأسماك هناك ، وأيضا ضخ كميات كبيرة من المياه العادمه من البرك الصحراوية الضخمة القريبة من الحدود المصرية ، مما أدى إلى تلوث المياه الجوفية في مدينة رفح المصرية مما تسبب في انتشار العديد من الأمراض المعدية بين السكان ، وها هي فضيحة تسريب كميات كبيرة من المبيدات والسموم الحشرية المحرمة دوليا إلى اليمن بغرض انتشار الأوبئة والأمراض وإلحاق أضرار فادحة بالأراضي الزراعية والمواطنين ، وكذلك في دول الخليج وموريتانيا سرت تكهنات بان إسرائيل قامت بنشر طاعون السوسة الحمراء المهلك لأشجار النخيل فيما عرف بحرب البلح.
... أقيم العديد من هذه المصانع الخطرة غرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية ، وهي بذلك تشكل خطرا حقيقيا على مدينة طولكرم والمناطق الريفية والحضرية والزراعية المحيطة بها ، هذه المصانع كانت قد أنشأت في محيط مدينتي نتانيا وكفار سابا إلاسرائيليتين ، وبناءا على قرارات المحاكم الإسرائيلية التي أصدرت أوامرها بإغلاق هذه المصانع لأسباب بيئية ، ولما تشكله من خطورة على البيئة والناس حيث تم نقلها إلى أراضي محافظة طولكرم سنة 1987م .
... ولم يكن نقل هذه المصانع وليد الصدفة ، بل تمت احاكة هذه المؤامرة الخطيرة في ليل اسود لكي تستهدف المدينة الفلسطينية الأقرب إلى الحدود مع دولة الاحتلال ، وهي تأتي ضمن مسلسل التأمر على الشعب الفلسطيني ومحاربته بكل الوسائل أللا أخلاقية ، فأدخنة هذه المصانع والغازات السامة المنبعثة منها والتي تشكل غيوما متحركة ومشبعة بهذه السموم ، تصل إلى مسافة عشرات الكيلو مترات باتجاه الشرق مغطية مساحة كبيرة من الأراضي والمدن والقرى الفلسطينية ، ومسببة التلوث البيئي والأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج ، والتي انتشرت بين المواطنين بشكل كبير مقارنة مع السنوات التي سبقت بناء هذه المناطق الصناعية المرعبة.
اثر المناطق الصناعية على القطاع الزراعي.
...بالإضافة إلى الأخطار الكبيرة التي تشكلها هذه المصانع على الإنسان والحيوان والبيئة ، هناك خطر كبير ومباشر تشكله هذه المناطق على الزراعة ، منها أن مخلفات هذه المناطق مثل الغازات والمياه العادمه والملوثة بأصناف عديدة من المواد الكيماوية الشديدة السمية ، وضخ هذه المخلفات نحو الأراضي الفلسطينية شرق جدار الضم والفصل العنصري ، وما تشكله هذه المياه من اثر خطير على الأراضي الزراعية والمزروعات وبشكل كبير وواضح للعيان ،حيث تزيد هذه المياه من ملوحة التربة وتعمل على إنشاء طبقة دهنية تعمل على خنق التربة والمزروعات ، وتمنع تسرب مياه الري ومياه الأمطار إلى التربة والأشجار والمحاصيل الزراعية الأخرى ، وتعمل على انتشار الأمراض الخطيرة والأوبئة في المزروعات ومن ثم إلى الإنسان والحيوان ، الأمر الذي يقضي على الكثير من الكائنات الحية مثل الحيوانات البرية والطيور والحشرات النافعة كالنحل ... الخ والمزروعات على أنواعها ، وتتحول هذه الأراضي من وظيفتها الإنتاجية للمواد الغذائية ومساهمتها في السلة الغذائية الفلسطينية ، إلى مناطق قاحلة تهجرها الحياة والأيدي العاملة في الزراعة ، وتتحول هذه المناطق بدل الزراعة إلى أماكن صحراوية قاحلة ، وتزيد هذه المياه العادمه من نسبة التلوث البيئي الذي تتباكى عليه الدول التي تدعي التحضر مثل دولة الاحتلال ( إسرائيل ) !!! ليل نهار ، وتسرب هذه المياه العادمه إلى جوف الأرض يعمل على تلوث المياه الجوفية النقية التي تستخدم للشرب ولري المزروعات، أضف إلى ذلك مصادرة مساحات واسعة من أراضي المزارعين الفلسطينيين بقرارات عسكرية إسرائيلية تعسفية لأغراض بنا وتوسيع هذه المناطق والمصانع والمستوطنات ، وكذلك أن جدار الفصل العنصري أحاط بهذه المناطق من الجهات الأربع ، محدثا دمارا رهيبا بالأراضي الزراعية والمزروعات نتيجة لتجريف الأراضي واقتلاع آلاف الأشجار المثمرة ، ومصادرة والتهام مساحات إضافية من الأراضي الزراعية وتدمير خزانات المياه ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي وتجريف شبكات الري ، وكذلك تصريف المياه العادمه ومخلفات المستوطنات على الأراضي الزراعية الفلسطينية ، فمنذ بدايات الاحتلال اتبعت الحكومات الإسرائيلية سياسة ممنهجة في تدمير الأراضي والبيئة الفلسطينية ، حيث تم تدمير وتجريف نحو مليون دونما من الأراضي الزراعية وبما يقدر 90% من مساحة الأراضي الخضراء الفلسطينية ، بالإضافة إلى المخلفات والمياه العادمه والمصانع الكيماوية في المستوطنات في الضفة والتي تنفث ملايين الأطنان من الغازات السامة في سماء الضفة، وكذلك تتحكم إسرائيل حاليا بأكثر من 85% من المياه الفلسطينية حيث انخفض نصيب المواطن الفلسطيني من مياه الشرب إلى اقل من 85 متر مكعب سنويا مقابل 500 متر مكعب لكل إسرائيلي ، وان 475 ألف 670 مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية يستهلكون ما مقداره 142,7 مليون لتر مياه يوميا من مجموع كمية المياه في الضفة ، وكذلك هدمت سلطات الاحتلال منذ بداية انتفاضة الأقصى في عام 2000م وحتى نهاية 2007م هدمت 455 بئر مع معداتها كما هدمت 1,858 من البرك وخزانات المياه ، أضف إلى ذلك سيطرت إسرائيل بالقوة والغطرسة على جزء من مصادر المياه في الأردن وسوريا ولبنان وتطلعها الدءوب إلى مياه دجلة والفرات والنيل . ... قام الاحتلال خلال سبع سنوات الانتفاضة بتدمير 1,630 ألف شجرة مثمرة وجرف حوالي 3 آلاف دفيئة زراعية و 13,148 دونما من المساحات الخضراء والمكشوفة و 14 ألف و77 دونما من المحاصيل الحقلية وكذلك دمرت الطرق الالتفافية التي يبلغ طولها 764,4 كم الغطاء النباتي وحدت من حركة الحيوانات البرية ، وفي الوقت الذي تقوم به سلطات الاحتلال بتدمير الأشجار وخاصة شجرة الزيتون التي تشير إلى مدى العلاقة الروحانية للإنسان الفلسطيني على مر السنين وإلى عمق الانتماء إلى الوطن والتاريخ والهوية ، نرى أن وزير الزراعة الإسرائيلي السابق ( يسرائيل كاتس ) اقر خطة لزراعة 72 ألف شجرة زيتون في الأراضي الفلسطينية المصادرة في الضفة الغربية المحتلة .
أماكن عمل تنقصها الموصفات الهندسية والمهنية!!!.
... من الضروري أن تكون أماكن العمل في المناطق الصناعية قد أنشئت حسب المعاير الهندسية التي تتوائم مع طبيعة العمل التي أقيمت من اجله ، لكن العكس تماما ما حصل ، فتجد هذه المصانع تفتقر إلى الحد الأدنى من السلامة المهنية التي وحسب القانون يجب أن تتوفر في كل مشغل مرخص لمزاولة المهنة ، فظروف العمل صعبة للغاية ،حيث الأصوات العالية والضجيج المتواصل ، ويعاني غالبة العمال من عملية ضعف السمع ووجود الطنين المزمن في الأذنين مسببا بذلك الأرق والتعب المتواصلين للعمال ، وتجد البرد القارص في الشتاء والحرارة المرتفعة في الصيف ، حيث تصل في بعض المصانع إلى 50 درجة مئوية صيفا ، والغازات المنبعثة من المواد السامة ، ومشاكل النظر والتنفس ، لعدم وجود نظام تهوي وان وجد يكون غير فعالا لطرد الغبار بعيدا عن العمال ، وكذلك تزداد إصابات العمل نتيجة الحرائق لوجود مواد كيماوية سريعة الاشتعال ولعدم وجود مخارج طوارئ ، وهذه ليس إلا بداية أمراض أكثر خطورة قد يعرف العامل مداها ولكن لسان حالهم يقول مكرها أخاك لا بطل ، وفي بعض الدراسات التي أجريت في الدول الصناعية الكبرى ، تبين أن عدد العمال الذين توفوا بسبب عدم أخذهم الاحتياطات اللازمة مثل الكمامات الخاصة واللابسة الواقية من الحرارة، زادت بأربعة أضعاف عن العمال الذين استخدموا وسائل الوقاية الناجعة في أعمالهم ، وكذلك يتعرض العمال إلى إصابات عمل خطيرة نتيجة لعدم وجود وسائل الوقاية والحماية الناجعة والسليمة ، وانعدام الصيانة الدورية للآلات وخاصة الدوائر الكهربائية والأسلاك ، بعض العمال يعانون من آلام الظهر والأطراف جراء إصابتهم بانزلاق غضروفي بسبب الجهد الذين يبذلونه في حمل أجسام ثقيلة مما يزيد من عدد الإصابات بين العمال ، وقد تودي إلى فقدان بعض العمال إلى أجزاء من أطرافهم أو قد تؤدي بحياة بعضهم أحيانا ، مما سبب لهم الطرد من العمل واستبدالهم بآخرين أكثر صحة وشبابا .
إمكانية تدخل السلطة الفلسطينية معدومة
... من المعروف أن دور السلطة الوطنية الفلسطينية شبه معدوم فيما يخص هذه المناطق ، فليس بإمكان الجهات الفلسطينية الرسمية أو الشعبية حتى مجرد الدخول إلى هذه المناطق المغلقة أو الاقتراب منها والشبيهة بالغيتوات في جنوب أفريقيا ، ويقتصر دور مؤسسات السلطة المختصة على المراقبة والمتابعة وإجراء الدراسات والأبحاث ، التي تستهدف الأفراد والمناطق المتضررة من هذه التجمعات الصناعية والتواصل مع الجهات الإقليمية والدولية ذات الاختصاص ، ومنها فيما يختص بحقوق الأسان والبيئة لفضح هذه الممارسات والتجاوزات الخطيرة في مجالي حقوق الإنسان والبيئة.
العمال ... استغلال مزدوج وحقوق مسلوبة .
... تتعرض العمالة الفلسطينية في المناطق الصناعية الإسرائيلية إلى القهر والذل والاستغلال البشع والمتواصل ، والى التمييز العنصري من قبل المشغلين الإسرائيليين في مجالات عدة تنتهك حقوقهم الإنسانية ، التي من المفترض أن يحميها قانون العمل والعمال ، والتي تنص بنوده على ضرورة توفير الظروف المناسبة لحماية وسلامة العمال أثناء العمل ، ومن بينها المخاطر الصحية والسلامة المهنية وتوفير وسائل الوقاية المناسبة لطبيعة العمل ، وتوفير ظروف عمل أكثر أمنا وإنسانية ، ومن بينها عدم إرشاد العمال وتعريفهم بالمخاطر المحدقة التي تفرضها طبيعة العمل ، وفي تعاملهم مع المواد السامة والآلات الخطرة التي يتعاملون معها ، وكذلك عدم وجود جهات رقابية حكومية أو نقابية فعالة لمراقبة ظروف العمل في هذه المناطق ، فهم يتعرضون إلى الاستغلال في الوقت وساعات العمل الإضافية ، حيث يعملون ساعات عمل طويلة وباجر يقل عن الحد الأدنى للجور في إسرائيل ، وهم لا يعرفون على وجه التحديد المخاطر الكامنة في طبيعة عملهم مع المواد السامة والخطرة ، وضمن الظروف الصعبة التي تشكل خطرا مؤكدا على حياتهم ، وان وسائل الوقاية إذا ما توفرت تكون غير مطابقة للمواصفات والمعايير ، وهي بالتالي كعدمها لا توفر الحد الأدنى من الحماية الصحية أو الوقاية والسلامة المهنية ، مثل العامل محمد أبو حمرة ، الذي كان يعمل في مجمع نيتساني شالوم مع شركة راشونال سيستم ، حيث انفجرت به حاوية مليئة بالفضلات الكيماوية السامة ، مما أدى إلى مقتله تاركا ورائه تسعة معالين ولم يتلق أي تعويضات أو راتب يذكر ، وكذلك الشاب عبد اللطيف أبو ريا ، والذي تعرض لحادث عمل قطعت يده ولم يتلق أية مساعدة أو تعويضات ، وتم طرده من العمل إلى غول البطالة حيث يعاني من شلل جزئي لعدم استطاعته دفع تكاليف العلاج ، وتوجد العديد من الشواهد الحية حيث يتعرض العمال الفلسطينيين إلى الإصابة بأمراض خطيرة ، مثل الربو ، السرطان ، وتدمير جهاز المناعة وأمراض الجهاز التنفس ، والتوتر العصبي ، والحساسية ، وفي بعض الصناعات يتم خلط المواد الكيماوية حيث ينتج عن تفاعلها مواد غازية سامة جدا وخطيرة ، مثل غاز وأكسيد الرصاص الذي يدمر جهاز التنفس عند العمال والذي صنف كمادة مسرطنة ،وكذلك غاز أول أكسيد الكربون .
... وأثبتت بعض الدراسات والأبحاث الميدانية ، ومن هذه الدراسات والإحصاءات ما صدر عن وزارة الصحة الفلسطينية في محافظة طولكرم ، التي أجريت على عمال تلك المصانع وعلى السكان القاطنين بالقرب منها ، إلى وجود نسبة عالية من أمراض الجهاز التنفسي والجلد والعيون والأمراض الصدرية ، وبينت دراسة ميداني صادرة عن جامعة النجاح أن 77% من المواطنين الفلسطينيين القاطنين بمحيط تجمع مصانع هذه المناطق ، قد زاروا العيادات الطبية بسبب الملوثات الناتجة عن تلك المصانع ، "احد أطباء الأمراض الصدرية قال: لا نجد سببا لزيادة حالات السرطان والأمراض الصدرية في محافظة طولكرم مثلا ، إلا الأثر التراكمي للمواد والغازات الصادرة عن هذه المنطقة الصناعية ، علما بان دراسة مقارنة أجريت في منطقة عتيل شمال طولكرم والمنطقة الغربية من المدينة ، أثبتت صحة ذلك ، وتبين أن منطقة عتيل تقل الأمراض فيها عما هو منتشر من الأمراض في المنطقة الغربية من طولكرم".
... ويلاحظ بان الكثير من العمال يحرمون من الحصول على تصاريح عمل إسرائيلية بحجج واهية ، فلذا يطرون إلى العمل بصورة ( غير قانونية ) من خلال سماسرة فلسطينيين والذين ينشطون في هذه المناطق ، والتي تدور حول العديد منهم شبهات أمنية وأخلاقية ، حيث يحصل هؤلاء السماسرة على تسهيلات من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ، فالعامل لا يحصل على اتفاقية عمل مع المشغل ، ولا تامين صحي ولا قسيمة راتب أو أي وثيقة تثبت انه يعمل هنا ، فهم بذلك يخسرون كل حقوقهم لصالح أصحاب العمل مباشرة ، أو لصالح هؤلاء السماسرة .
... فهنا تتجلى صور الابرتهايد والتفرقة بين ما يحصل عليه العامل الفلسطيني في نفس ظروف ومكان العمل ، والذي يخضع لقانون العمل الأردني الذي عفا عليه الزمن والصادر في سنة 1964م ، والامتيازات النسبية التي يحصل عليها العامل الإسرائيلي في تطبيق القوانين الإسرائيلية ، وساعات العمل ووسائل الأمان وأيام العطل والأعياد والإجازات وإصابات العمل والتقاعد وما إلى ذلك ، والذي يكفله قانون العمل الإسرائيلي الذي يعد من أرقى القوانين العمالية في العالم ، وتتبنى قضاياه الهستدروت نقابة العمال العامة في إسرائيل ، هذا فيض من غيض الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط !!! ، والتي تغدقه كرما وإنسانية ورأفة بأحوال العمال الفلسطينيين الذين لا يملكون في هذه الدنيا إلا قوة عملهم.
المطلوب توعية العمال لحقوقهم وظروفهم !!!.
... كثير من العمال الفلسطينيين العاملين في هذه المناطق الصناعية ، يجهلون حقوقهم النقابية أو يتجاهلونها بسبب تخوفهم من تعرضهم للفصل والطرد التعسفي من العمل ، فمن يتجرءا ويطالب بتحسين وضعه وظروف عمله يعتبر متمردا ويشكل خطرا ( إرهابيا ) محدقا على صاحب العمل ، وجب استئصاله في الحال ، وعزله في مصحة البطالة القاتلة !!! وتجنيده في جيش العاطلين عن العمل ، وإبعاده قصران عن مكان العمل لكي لا تنتقل عدوى التحريض والتمرد إلى العمال الآخرين ، وباستطاعة المشغل الإسرائيلي استقدام عشرات بل مئات من العمال العاطلين عن العمل في ساعات ، فالسماسرة على أهبة الاستعداد لخدمة أسيادهم وأولياء نعمتهم ، فليس من المنصف أن نقول لهؤلاء العمال المغلوب على أمرهم ( اذهبوا انتم وربكم وقاتلو وإنا هنا لقاعدون ) ، فلن يمهل المرض هؤلاء العمال كثيرا ، ولن يقبل صاحب العمل عمالا ضعفاء يثقلون على جيبه !!! ، فبأسرع ما يتصور العامل سيجد نفسه في أحسن الأحوال مصابا بأحد أمراض المهنة ، طريح الفراش يصارع المرض من اجل البقاء على قيد الحياة.
دور الاتحادات ا لعمالية الفلسطينية.
يتساءل المرء أين الاتحادات العمالية على كثرتها في الساحة الفلسطينية من هذه القضايا الخطيرة؟، لماذا لا تتبنى الاتحادات العمالية قضايا هؤلاء العمال الغلابة وتدافع عن حقوقهم ؟ ولماذا لا تعمل على وضع خطة مدروسة لإنقاذهم وتنظيمهم وتوعيتهم بحقوقهم وبالمخاطر التي تحوم حول رؤوسهم (كغراب البن)؟.
... فليس المطلوب من الاتحادات العمالية التي تدعي الحرص على هؤلاء العمال أكثر من تبني قضاياهم المطلبية والدفاع عنها ، والمتمثلة في تحسين ظروف عملهم والمطالبة بتوفير الحد الأدنى من وسائل السلامة والصحة المهنية ، وإبعاد شبح الأخطار اليومية التي تتهددهم لحظة بلحظة ، وتحسين الأجور وساعات العمل والإجازات والتامين وغيرها ، المطلوب التواصل مع هؤلاء العمال بالزيارات في أماكن العمل إن أمكن ، وفي أماكن السكن وإقناعهم بضرورة العمل النضالي الجماعي الذي به تتحقق مطالبهم ، بالتثقيف العمالي الواعي وفهم وإدراك خطورة وضعهم وواقعهم الموضوعي البائس يسمون للتغيير نحو الأفضل ، بالالتفاف حول نقاباتهم وبتشكيل اللجان العمالية النضالية في مواقع العمل ، وبالوقوف مع أنفسهم يمكن تحقيق حلمهم وبأقصر الطرق. مناطق صناعية أم مستوطنات اقتصادية.
في ظل هذه الحقائق الدامغة والصور المأساوية التي تتجسد في كل زاوية وركن في هذه المناطق ، تطرح عدة أسئلة وبقوة ، من بينها هل نريد إبقاء هذه المناطق الصناعية لان فيها مصلحة فلسطينية ، ولأنها توفر فرص عمل لمئات من العمال الفلسطينيين ، وتساعد على حل جزء مهم من البطالة القاتلة في المجتمع الفلسطيني مع تحسين شروط عملهم ؟ وفي المقابل ستستمر هذه المناطق تنفث سمومها القاتلة في الجسد الفلسطيني الحي ، وتعيد تدوير وإنتاج العبودية والتمييز والتفرقة العنصرية بأفظع صورها وتجلياتها لهؤلاء العمال الغلابة والمغلوب على أمرهم ، أم أننا نريد نقل هذه المناطق الصناعية إلى أماكن أكثر أمنا وأمانا ! مع إمكانية تحسين الظروف فيها ، وهل يمكن بالفعل إقامة مثل هذه المناطق الصناعية من قبل الاحتلال خدمة للشعب الفلسطيني في ظل وجود وسيطرة واستمرار الاحتلال وإجراءاته القمعية ؟ أين دور السلطة الوطنية الفلسطينية من هذه المستوطنات الجديدة التي أقيمت على الأرض الفلسطينية ؟ وأين الأثر الحقيقي للمردود التنموي المستدام لهذه المستعمرات الكولونيالية ذات الوجه الاقتصادي الأسود.