معتدلون ومتطرفون
معتدلون ومتطرفون .... بقلم / فهمي هويدي
بح صوتي طوال العقدين الأخيرين وأنا أحاول إقناع المهتمين بموضوع التطرف والإرهاب بمسألتين، الأولي أن الناس لا يولدون متطرفين أو إرهابيين، ولكنهم يصبحون كذلك بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة، الثانية أن التطرف والإرهاب ليسا مقصورين علي الأفراد والجماعات، ولكن هناك أنظمة ومؤسسات رسمية تمارس التطرف والإرهاب أيضًا، وعلينا إذا كنا جادين في مواجهة الظاهرة، أن نتصدي لها في مختلف مصادرها ومظانها.
أعدت هذا الكلام علي مسامع باحث جاء إلي القاهرة من بروكسل، موفدًا من إحدي الجامعات ليدرس ظاهرة التطرف والإرهاب في مصر وبعض الأقطار العربية الأخري، ولاحظت أن الرجل متأثر بالتعبئة الإعلامية بأكثر من تأثره بالدراسات والقراءات التي وقع عليها، إذ بدا من أسئلته وتعليقاته أن الصورة النمطية للإرهابي أو المتطرف التي روج لها الإعلام مسيطرة علي إدراكه إلي حد كبير، فهو متجه ببصره دائمًا إلي الجماعات والمنظمات الأهلية، معتبرًا أن كل متدين مشروع متطرف أو إرهابي، وأن اللحية والعمامة والجلباب الأبيض هي من العلامات المميزة للمتطرف، وأبدي اهتمامه بما قلته عن أن هناك أنظمة متطرفة، وأن سياساتها تسهم إلي حد كبير في تفريخ سلوكيات التطرف أو الإرهاب لدي الناس.
كانت زيارته هي الأولي لمصر ولذلك وجدت نفسي مضطرًا إلي أن أشرح له خلفيات كثيرة منبهًا إلي أن الظاهرة انحسرت في مصر إلي حد كبير، وأن قدومه لدراستها في الوقت الراهن ينطبق عليه المثل اللبناني الذي يتحدث عن رجل قرر أن يؤدي فريضة الحج في حين بدأ الناس يعودون منه.
قلت له إن ثمة فرقًا بين التطرف والإرهاب، فالأول وقوف في الطرف وانحياز إلي الأشد والأكثر عسرًا في التعاليم، وهو اختيار ينحاز إليه المرء، فيلزم نفسه به، وقد يلزم محيطه العائلي أيضًا، أما الإرهاب فهو يمثل مرحلة أبعد كثيرًا وأخطر، ذلك أن الفرد في هذه الحالة يتجاوز محيطه الخاص إلي العام، ثم إنه في تجاوزه ذاك يلجأ إلي العنف في محاولة فرض تشدده أو مشروعه علي الآخرين.
أضفت أن التطرف يصبح خيارًا مطروحًا حين تنغلق أبواب الاعتدال، وأن الإرهاب يبرز كخيار في الأفق حين تنسد أبواب التغيير السلمي، وفي الحالتين تبرز البيئة الثقافية والسياسية كعنصر مهم ومؤثر إلي حد كبير في الجنوح نحو التطرف أو الإرهاب، الدليل علي ذلك أن تيارات التطرف والإرهاب تنحسر في المجتمعات التي ترفرف عليها رايات الحرية والتسامح، بحيث تصبح شذوذًا واستثناءً علي القاعدة في حين تتمدد وتزدهر في المجتمعات التي تعاني القهر والقمع، وفي التجربة المصرية فإن جماعات التكفير والتغيير بالعنف وُلدت داخل السجون، وكانت من أصداء سياسة القهر وعمليات التعذيب التي طالت الناشطين.
لفتُ نظر صاحبنا إلي أننا في مصر نعيش وضعًا تراجعت فيه جماعات التطرف والإرهاب في حين ظلت السلطة مُصرة علي موقفها المتشدد الذي يتجلي في لجوئها إلي القمع وممارسة العنف في التعامل مع الناشطين، وكثيرة هي المرات التي يحاول فيها الناشطون التعبير عن آرائهم بالتظاهر أو الاعتصام، أو المشاركة في الانتخابات في ظل القانون ومن خلال القنوات الشرعية، ولكن هذه المحاولات لا تقابل من جانب الأجهزة الأمنية إلا بأساليب البطش التي تتراوح بين الاعتداء بالضرب والاعتقال والمحاكمة وهو ما يضعنا أمام مشهد يمارس فيه الناشطون اعتدالاً يلتزمون فيه بحدود القانون، في حين تمارس أجهزة الأمن تطرفًا وإرهابًا يعتدي علي القانون وينتهك أبسط حقوق الإنسان.
المصدر : نافذة مصر