محمد كمال يكتب: خرافات النخبة بعد الثورة
حجم التخريف السياسى الذى اندلق علينا من نخبتنا بعد ثورة يناير لا حصر له؛ حيث تباروا فى الإفتاء السياسى مُذَيلا بجملة (كل الثورات عملت كدة).
ولأنه ليست هنالك ثورة كأخرى، لا فى الدوافع ولا فى السياق ولا فى النتائج؛ فإن حجم التأصيل الخرافى للمسائل الجادة بلغ مدى لا يمكن السكوت عليه.
وهذه أمثلة مما كثر فيه الهزل:
أولا- حكومة تكنوقراط (محايدة):
- هذه أكبر أكذوبة يتجرعها العرب، حيث تُسوَّق حكومة "التكنوقراط" على أنها حكومة غير حزبية لا تأثير لأحد عليها، والحقيقة أن أساس التسلط فى العالم كله هو التكنوقراط، من جهة أنهم تابعون إما إلى (القوة المهيمنة)، أو إلى (الخبرة المتفردة).
- فهم فى الدول المتخلفة (أمثالنا) موظفون يتبعون (القوة المهيمنة) وهى الجيش فى حالتنا، وبالتالى يكون تسليم الثورات إلى التكنوقراط انقلابا رضائيا على ثورة الشعب وعودة غافلة إلى حضن العسكر.
- أما فى الدول الكبرى فهم أصحاب (الخبرة المتفردة)، وهم الذين يسيطرون على عقول الساسة بخبراتهم الاحترافية المبدعة، فالذى يدير حركة العولمة الاقتصادية -مثلا- مجموعة تقنية من رجال البنوك والمال على رأسهم رئيس البنك الدولى، ورئيس صندوق النقد الدولى، ورئيس بنك الاحتياطى الأمريكى، ونظراؤه الأوروبيون، فهؤلاء وروافدهم يصنعون (أناجيل اقتصادية) صارمة تنشر الرأسمالية بأسوأ أشكالها، وهم سدنة معبدها، وكل الساسة تابعون لهم فى تدوير الشأن، هذا فى دول راسخة الديمقراطية، فما بالك بالأنظمة القهرية؟
- ويعلم الغرب هذه الأكذوبة، لكنهم يسوقونها فى بلاد الربيع العربى كحل سحرى فى الأزمات، وهى فى الواقع (ملقاط طبى) ينتزعون به رصاصة "الثورة الطائشة" التى اخترقت الجسد العربى العليل!!
ثانيا- ثورى أم إصلاحى:
- (الإخوان إصلاحيون لذلك لم يتصرفوا بثورية)!!
- (الثوريون يختلفون عن الإصلاحيين فى كون إصلاحهم جذريا أما الإصلاحيون فلا يتناسبون مع الحكم الثورى)!
- هذه أيضا أفكار ودَّعها العالم، لأن (الثورى الأيديولوجى) لا علاقة له (بالثورة العفوية)، وكل الثورات الكبرى (كثورة يناير) هى ثورات عفوية لا علاقة لها (بالثورى الأيديولوجى)، فالثورى الأيديولوجى يرفض قيام دولة أصلا، ويعتبر أن الدولة سلطة قهرية ينبغى محاربتها، والأصل أن يتقاسم الناس جميعا السلطة والثروة عبر مؤسسات بسيطة بكل منطقة، ويرفضون الحكومات والجيوش والوزارات.
- هذا أصل الموضوع، أما الثوار العفويون فهم الذين يثورون على الحكام بلا خلفية أيديولوجية؛ لأن الثورة تعنى اشتراك الشعب بكل طوائفه.
- وثوار يناير كلهم (معارضون) احتشدوا فى لحظة عبقرية غير محسوبة أثمرت ثورة، وكلهم (إصلاحيون) (بالمعنى السياسي للمصطلح) أو (عامة) وليسوا ثوريين.
- والصحيح أن نقول: إن الإصلاح بعد الثورات ينبغى أن يكون (جذريا)، مهما كانت أفكار الحكام، وبهذا المقياس فإن بناة الدول الحديثة كانوا إصلاحيين.
- فالشرط الحاكم هو "ظرف الأمة" والتوحد على نهضتها.
- لذا فعملية النهضة برؤية ثورية هى واجب الجميع دون النظر إلى الأيديولوجيات.
- وعلى سبيل المثال يتكلم الجميع عن هيكلة الشرطة، ورغم خوضنا حوارات موسعة مع قيادات شرطية نزيهة بعد ثورة يناير، عن كيفية الهيكلة، إلا أنه لا أحد توصل إلى حل المعضلة الكامنة فى فساد العقيدة الأمنية (لكل) أجيال الشرطة، وكل ما تقدم من حلول اتسم (بالمراهقة).
- لذا وجب التنبيه على الانتقال من العناوين إلى تصور الواقع، فقد كان الكثيرون يتصورون أن "القيادات" الشرطية هى الأسوأ، ثم ظهر أن فئة "أمناء الشرطة" و"الضباط الصغار" يضارعونهم توحشا وفسادا.
- مثل هذا الكلام يقال على سبعة ملايين موظف يديرون دولة الفساد السفلى، ويقال على الجيش وقياداته وعقيدته القتالية المنحرفة، وعلى العقيدة الاقتصادية وتطابقها مع الليبرالية المتوحشة، وهكذا...
- والمقصد أن الرؤية لا تكفيها العناوين، والخداع اللفظى (ثورى أم إصلاحى) تركه العالم منذ أزمنة بعيدة وصدَّروه لنا لنلعب فى (التراك) بينما رجالهم يحكمون (الملعب الرئيسى).
ثالثا- إبعاد الدين عن المعركة:
(تحييد الدين سبب نجاح الثورات)!!
- هذا ما يريدون ترويجه، فعلوا ذلك فى عقيدتهم ويريدون فعله بعقيدتنا.
- أما نحن فقد نخطئ فى حق إسلامنا حين نفسره مُجتزأً طبقا لظرفنا الراهن.
- من منا لم يعتبر أن الإسلام هو الحرية ثم يأتى كل شىء بعدها، وذلك أيام الاستبداد؟
- ومن منا لم يعتبر أن الإسلام هو العدالة الاجتماعية، وذلك حين انكشف السلم الطبقى المتوحش؟
- ومن منا لم يعتبر أن الإسلام هو الثورة حين غُزيت أراضينا أو تجبرت الديكتاتوريات علينا؟
- بل إن هنالك اليوم من يعتبر أن الإسلام هو (حقن الدماء) مهما ديست كرامة الأمة، أو هو (اعتزال) فتنة الانقلاب!
- كل هذه أفهام إما منقوضة أو مغلوطة.
- والإسلام إسلام واحد، كُلٌّ متكامل، فإذا أبرزنا جزءًا منه لمتطلبات الحال، وجب أن يظهر هذا الجزء محفوفا بالكل.
- وإذا تكلمنا عن سنة التدرج فى التطبيق التى نؤمن بها تماما، وجب علينا أن نظهر كيفية التدرج وزمنه، لا أن نهرب من الاجتهاد ونستسلم لإلحاحات الواقع.
- ثم.. نحن نعرف مدى قرب أو بعد الإسلام من الديمقراطية، ونعرف مدى اتفاق الإسلام واختلافه مع الليبرالية أو الاشتراكية، وهكذا...
لكن إذا لم ندشن الصورة المتكاملة عن تصورنا الإسلامى فى حكم الأمة، فقد تضطرنا الظروف إلى الرضى بالمنظومة الغربية شيئا فشيئا لعدم الاستعداد.
أخيرا.. فإن الفكر الرائق من الشوائب هو الملهم (لرؤية الإصلاح)، وينبغى ألا يشغلنا نضالنا اليومى عن الاستعداد لما بعد انكسار الانقلاب.
إن انهيار الانقلاب حتم لازم، ولن يستطيعوا أن يفرضوا علينا سفاهاتهم ولا رغباتهم الدنيئة فى حكم شعبنا بالكرباج.
وجهادنا ليس فى كسرهم فقط فسنكسرهم بمشيئة الله، ولكن جهادنا الأكبر فى تقديم نموذج الحكم الرشيد وفق هويتنا.
مكملين...
لا رجوع...
المصدر
- مقال:محمد كمال يكتب: خرافات النخبة بعد الثورة موقع: إخوان الدقهلية