ما البديل لوقف العمل في المستوطنات؟
2009-12-21
بقلم : جابر الطميزي *
نؤكد بداية أن مقاطعة العمل في المستوطنات الإسرائيلية لا يقل أهمية عن مقاطعة بضائع هذه المستوطنات ، وبالتالي لا يقل أهمية عن المطالبة العلنية من قبل المستوى الرسمي الفلسطيني ، عن هدم وإزالة هذه المستوطنات عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م بالكامل ، وإرجاع هذه الأراضي المغتصبة وتعويض أصحابها .
ونؤكد أن العمل في هذه المستوطنات الصهيونية أكان ذلك العمل في البناء أو في المصانع والمعامل أو في المزارع والدفيئات ، هو عمل مرفوض أخلاقيا ووطنيا ودينيا ، وعلى كل المستويات وفي كل الظروف ، وخاصة في ظل المعركة المصيرية التي يخوضها شعبنا ضد الاحتلال البغيض وإفرازاته اللعينة. ونؤكد أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني هي أن هذا الاقتصاد تابع تبعية مطلقة وبشكل أساسي بالاقتصاد الإسرائيلي ، وان سوق العمل الإسرائيلي هو السوق الأساسية الذي يستوعب عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين نتيجة عدم وجود المشاريع الاستثمارية الفلسطينية وخطط تنموية حقيقية.
ومن المعروف أن العمال الذين يعملون بالمستوطنات الصهيونية يتجاوز عددهم 35 ألف عامل ، يعيلون 35 ألف أسرة فلسطينية ، وهؤلاء أل 35 ألف عامل يشكلون ما نسبته 10% من مجموع القوى العاملة في المجتمع الفلسطيني ، وهذا الرقم المتواضع لا يشمل العمالة السوداء أو عمالة الأطفال في هذه المستوطنات.
ومن البديهي أيضا أن لا أحد يبحث وبشكل جدي لهؤلاء العمال عن حل مشاكلهم أو تحصيل حقوقهم ، وهم ليسوا مترفين ولا ينعمون لا بالثروة ولا بالجاه ، ولا يكاد لأحدهم من نعيم الدنيا كله حظ أو امتياز ، ولم يأخذوا نصيبهم من الحياة إلا البؤس والشقاء ، وليس أكثر يقينا ولا أقوى دلالة ولا انهض حجة أكثر من ثقل هذه الأغلال خشونة وجفافا .
نعم هذه حقائق الأشياء دون مواربة ولا لف ولا دوران ، وبذلك هم مجبرون على العمل في المستوطنات لجلب لقمة العيش وكاس الحليب وحبة الدواء لأطفالهم ولأسرهم في ظل وضع اقتصادي اقل ما يقال عنه صعب ، ولو أنه توفر هناك بديلا لهؤلاء العمال ما سمحت لهم كرامتهم وانتماءهم لشعبهم ولقضيتهم وما خطت أقدامهم نحو أية مستوطنة صهيونية قيد أنملة ، اني اجزم أن هؤلاء العمال وفي سبيل توفير لقمة العيش أنفقوا من كرامتهم حظا عظيما ، وفي نفس الوقت لا يستطيع احد وغير مسموح لأحد أو من احد أن يقول لهم اذهبوا انتم وربكم وقاتلوا أو اذهبوا انتم وأسركم وجوعوا دون أن يوفر لهم مصدر حياة ، خاصة في ظل وجود 165 ألف أسرة فلسطينية في الضفة والقطاع تحت خط الفقر الشديد وإن ثلثي الأسر الفلسطينية التي هي تحت خط الفقر لا تتلقى مساعدات من أية جهة كانت.
فعمال المستوطنات هؤلاء يعملون في ظروف قاهرة ، وفي منشئات تفتقر للمعايير الهندسية التي توائم طبيعة العمل ، وهي تفتقر إلى الحد الأدنى من السلامة المهنية ، فهم يتعرضون إلى إصابات عمل خطيرة نتيجة انعدام وسائل الوقاية والحماية الناجعة أودت بالكثير منهم ، وهم مكرهون ومرغمون على ذلك لأسباب عديدة ، منها انعدام البدائل في سوقي العمل الفلسطيني والإسرائيلي ، ويتعرضون للقهر والإذلال والاستغلال البشع في استخدامهم بالعمل الأسود ، وفي الوقت وساعات العمل وبالأجور الأقل ، وهم لا يعرفون على وجه التحديد المخاطر الكامنة في طبيعة عملهم مع المواد السامة والخطيرة ، ولا يتوفر لهم الحد الأدنى من الحماية الصحية أو الوقاية والسلامة المهنية ، حيث قتل وأصيب عمال لم يتلقوا أية تعويضات أو مساعدات ، وتم طرد العديد منهم لأتفه الأسباب وبدون أية حقوق تذكر ، وهم يتعرضون إلى أبشع أنواع الاستغلال والتمييز العنصري على يد مشغليهم اليهود الذين ينتهكون حقوقهم الآدمية ، وهم ملزمون الحصول على تصاريح عمل مرهونة بموافقة من الجهات الأمنية إسرائيلية وخاصة جهاز مخابرات الأمن الداخلي الإسرائيلي ( الشاباك ) التي تمنحهم الموافقة على التصاريح أو ترفض ذلك ، وكثير منهم يحرمون من التصاريح بحجج واهية ، وهذا شيء صعب للغاية لا يستطيع الإنسان تحمله إلا مكرها ، وإذا ما قرر العامل العمل بشكل غير قانوني ( أي دون الحصول على تصريح عمل ) فلا أحد يضمن له حقوقه ، فآلاف العمال تتأخر أجورهم لمدد طويلة وبعضهم لا يحصل على الأجر نهائيا ، وكثير منهم عانوا من الطرد التعسفي وبدون دفع التعويضات ، وهم لا يملكون إثباتا للمطالبة بحقوقهم ، والعديد منهم يتعرض للاهانة والتمييز في أمكان العمل ويعيشون في خوف وقلق دائم من الاحتيال والنصب من قبل مشغليهم أو من قبل السماسرة ، فترى العديد من السماسرة الفلسطينيين الذين يتاجرون بالعمال من أبناء جلدتهم وينشطون في المستوطنات وكأنها بيوتهم دون خجل أو وجل وعلى عينك يا تاجر ، وكثير من هؤلاء السماسرة تحوم حولهم شبهات أمنية وأخلاقية ، ويحصل هؤلاء السماسرة على تسهيلات من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ، فالعمال هنا لا يحصلون على أية حقوق أو اتفاقية عمل مع المشغل اليهودي ، أو على تامين صحي ، أو بدل أيام المرض ، أو الإجازات السنوية ، أو الحد الأدنى للأجور ، أو قسيمة راتب ، أو أية وثيقة تثبت انه يعمل هنا ، فالعمال هنا يخسرون كل حقوقهم لصالح المشغل اليهودي مباشرة أو لصالح السمسار الفلسطيني ، فهكذا تتجلى مأساة هؤلاء العمال .
المطلوب هنا وفي ظل هذه الظروف الصعبة إيجاد مشاريع تشغيل بديلة للعمال ، حيث تشكل مصادر عمل ودخل للآلاف من العمال والعاطلين عن العمل ، وتوفير العمل الشريف ولقمة العيش الكريم لشريحة أصيلة من شعب حر ومناضل ضحى بأغلى وأثمن ما يملك ، المطلوب توفير كل متطلبات الصمود والدعم المادي والمعنوي للناس وخاصة في الأرياف ، وتوفر فرص عمل للعاطلين عن العمل ، وللأسر الفقيرة وللناس المحرومين ولتعزيز صمود جماهير الفلاحين والمزارعين ومربي المواشي على تخوم جدار الضم والفصل العنصري ، وفي محيط المستوطنات والطرق الالتفافية ، ولعمال السخرة الذين يعملون في المستوطنات في ظروف اقل ما يقال فيها أنها غير إنسانية.
إذا أراد المستوى السياسي الفلسطيني إن ينجح في معركته الدبلوماسية على الساحة الدولية وتجنيد رأي دولي داعم ومساند للموقف الفلسطيني من قضية وقف الاستيطان ، لا بد في المقام الأول من مواجهة مشكلة العمالة في المستوطنات بشجاعة ، وحل مشكلة العمال الفلسطينيين العاملين هناك ، وهذا لا يتأتى بتخويف العمال وترويعهم أو تخوينهم أو برميهم عنوة إلى الشارع يفترسهم غول البطالة القاتل ، الذي وصلت نسبته إلى أكثر من 19,8% فالجوع كافر هذا الجوع الذي تعاني منه أكثر من 150 ألف أسرة فلسطينية ينهش الموت الأحمر أحشائهم ولحمهم ودمهم وكرامتهم ، ب ل يأتي هذا بالأساس من خلال مواجهة المشكلة ووضع الحلول لها وإيجاد فرص عمل بديلة وكريمة لهم ولأسرهم.
المطلوب من المستوى الرسمي الفلسطيني اتخاذ موقف عملي واضح يطالب علانية بمقاطعة شاملة للمستوطنات بكل مخرجاتها ، والعمل بشكل جدي لإيجاد البدائل الحقيقية للناس ، تتمثل في توفير فرص العمل وغيرها ، ليس المطلوب رفع شعارات واهية لا تسمن ولا تغني من جوع ، وغير مقبول من أية جهة كانت المزايدة على هؤلاء العمال الغلابة الذين لا يملكون من هذه الدنيا غير قوة عملهم ، المطلوب من الحكومة الفلسطينية وضع خطط واضحة وتجنيد الأموال وزيادة الميزانيات الحكومية الخاصة بهؤلاء العمال ، وإقامة المشاريع التنموية الصغيرة والكبيرة ، ونؤكد ثانية أن المطلوب من المستوى السياسي الفلسطيني ليس فقط المطالبة الخجولة بتجميد الاستيطان ، وإنما المطالبة بصوت جهور بإزالة الاستيطان والمستوطنات والمستوطنين عن كل الأراضي الفلسطينية المحتلة بصفتها تشكل جريمة حرب بحق الشعب الفلسطيني ، وعدم القبول بمقولة تعديل الحدود التي تعني شرعنة الاستيطان والتسليم به ، هذا هو المحك والاختبار أيضا للعالم فإذا ما كانت حكومات إسرائيل وحكومات العالم وخاصة حكومات الاتحاد الأوربي وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية معنيين بتحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة ، السلام الذي يعطي شعبنا حقوقه الشرعية والمشروعة غير منقوصة.
الحكومة الفلسطينية ومؤسسات أل ( NGOS ومؤسسات الإقراض مطالبة الآن بتوجه برامجها ومشاريعها التنموية الزراعية وغيرها لتستهدف استصلاح وتعمير الأراضي البور وخاصة في مناطق ( ج ) مما يعزز من التواجد الفلسطيني فها ومن تشبث وتجذر وارتباط الناس بالأرض ، بفلاحتها وزراعتها وتشجيرها والمحافظة عليها من غول الاستيطان والمصادرة ، وتمويلها مشاريع فردية صغيرة وكبيرة فردية وجماعية ومنحها قروض ميسرة تساعد هذه الفئة على تأسيس مشاريعها المدرة للدخل الخاصة بها.
وفي ظل سياسة حكومة إسرائيل الحالية نوجه سؤال إلى الحكومة الفلسطينية برئاسة الدكتور سلام فياض حيث كانت قد خصصت وصرفت مشكورة ضمن وزارات الاختصاص قبل أكثر من عامين مبلغ 23 مليون دولار ضمن مشروع دعم المناطق المتضررة من الجدار فلماذا لم يجدد هذا المشروع بل وتضاعف هذه المبالغ ؟ ، في حين يرى الجميع الموازنات بالمليارات تصرف على تهويد القدس وبناء المستوطنات ، وأن الحكومة الإسرائيلية الحالية أقرت إعادة العمل بموجب سياسة التمييز لصالح المستوطنات وتضمنت خارطة جديدة تشمل مناطق (الأفضلية الوطنية) ولأول مرة تشمل هذه الخارطة عشرات المستوطنات المعزولة الواقعة خارج الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية وهذه المناطق تشمل نحو مئة وعشرة آلاف مستوطن في الضفة الغربية المحتلة ، ومعظم هؤلاء المستوطنين يقيمون في مستوطنات تقع خارج الكتل الاستيطانية الكبرى ، وتأتي هذه الخطوة والتي سيتم بموجبها دعم المستوطنات المشمولة بملغ 4 مليارات شيكل من جانب حكومة نتنياهو لمحاولة إرضاء اليمين المتشدد في إسرائيل وكتعويض بسيط لهؤلاء المستوطنين بعد اتخاذ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قرارا شكليا بتجميد الاستيطان بهذه المناطق لمدة عشرة أشهر وكذلك خصصت حكومة نتانياهو اعتمادات اضافية بقيمة 28 مليون دولار لمستوطنات في الضفة وان هذا الاعتماد لا علاقة له بقرار تعليق البناء في المستوطنات.
فالمستوطنات أصبحت دولة داخل الدولة ، وأصبح المستوطنون المتطرفون وكلهم متطرفون وعنصريون ، يحددون جدول العمل الحكومي السياسي والأمني ، والقرار الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية بتجميد الاستيطان هو محض كذب وافتراء ، وحكومات الاحتلال المتعاقبة منذ عام 1967م تبنت الاستيطان ومولته ورعته ، لأنه امتداد للمشروع الاستيطاني ذاته الذي أقامته إسرائيل على الأراضي المحتلة عام 1948م ، وهذه الحكومات تشجع وتمول البؤر الاستيطانية العشوائية التي يسمونها بأنفسهم غير شرعية وتحمي بجيشها وشرطتها ورجال أمنها من يقومون عليها ، فكيف يمكن لأي عاقل أن يصدق أن حكومة إسرائيل تريد وقف الاستيطان في المستوطنات الكبرى والذي يتوسع بشكل سرطاني مذهل ، في مستوطنات الضفة الفلسطينية والقدس الشرقية .
- جابر الطميزي
منسق لجان الحملة الشعبية ضد الجدار العنصري والاستيطان في محافظة الخليل