لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ
كفر الشيخ اون لاين | خاص
بسم الله الرحمن الرحيم
يُلخِّصُ ربُنا عز وجلَّ في القرآن الكريم المنهج الاستبدادي السلطوي للقضاء المصري منذ قديم الزمن وتبعيته للغرض والهوى وإرضاء الحكام، والبعد عن المنطق والقانون، في قوله سبحانه: "ثُمَّ بَدَا لَهُم مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ـ يوسف (35)"، هذه حكاية ربنا عن الظالمين حين يسدروا في غيِّهم ويتمادوا في ظلمهم ويواصلوا دكتاتوريتهم ويستغلوا يد قضاتهم الممدودة إليهم بطلب الاحتضان والإحسان ، ليبسطوا أحكامهم الجائرة على الأحرار في كل زمانٍ ومكانٍ ترضيةً لأي سلطان.
قرارٌ للملأ الظالم يتكرر على مدى التاريخ ، يذكِّرنا به ربُّنا عز وجل في كتابه الكريم، وهو يحكى قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز حين راودته عن نفسه فاستعصم، وقال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ، وحين دقق المحققون ومحصوا ورأوا أن يوسف عليه السلام بريءٌ من تهمة إرادة السوء بأهل العزيز كما ادعت زوجته، وتبين لهم يقيناً أن زوجة العزيز هي التي راودته عن نفسه، وأنه هو الصادقُ وأنها من الكاذبين، ما زادوا على أن لاموها بليِّن الكلام، "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ(يوسف 29)" ، ثم لكي لا تظهر فضيحتهم على الناس ، وليمحوا آثار جريمتهم ، وليلصقوا التهمة بغيرهم ، تشاوروا في الأمر ، وتوصلوا بعد تفكير وتدبير إلى سجن البريء ومكافأة الجاني ، السجن ليوسف الصِّديق "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ـ يوسف (35)".
وعلى مدى التاريخ سَجَنَ قضاةُ مصر وأعدموا الأبرياءَ، في دنشواي لصالح الإنجليز وفي عام 1948 لصالح اليهود وفي عهد عبد الناصر في عامي 1954 و 1965 لصالح العسكر، وفي عهد السادات وحسني مبارك، ثم وصل الأمر إلى منتهاه في عهد انقلاب العسكر وكلهم من العسكر، ملئوا السجون بالأبرياء والأتقياء الأنقياء ، ثم تتواصل ملاحم العسكر حتى تكون سجون مصر على موعد مع يوسف جديد، رجلٌ تقيٌ نقيٌ ورعٌ عرف طريق الله فالتزمه وما تعداه، فأحبه الله واجتباه، كان الله غايته ومبتغاه، فطلَّق الدنيا وقد أتته راغمةً فلم تغيِّر منهجه ، كثر أعداؤه وهم في الحقيقة أعداء شرع الله، دبَّروا له المكائد فلم يسقط ، وحاولوا جره إلى الانحراف فلم يُطعهم، وجردوه من أدوات الحكم فلم ييأس في الإصلاح، لم يسجلوا عليه خطأً ولم يستطيعوا أن يدينوه بشيءٍ ـ أيِّ شيءٍ ـ ، بل وجدوا صفحاته جميعها بيضاء، في كل حياته يظهر العطاء، حافظ على المال العام فلم يأخذ مكافأة على عمله بل لم يأخذ راتبه نفسه على مدي شهور حكمه رئيساً للبلاد، لم يقصف قلماً، لم يحجب رأياً، لم يسجن أحداً، لم يداهن عدواً، ولم يخذل صديقاً، ولم يفضح أحداً على خطيئةً بل عفا وستر أملاً في ستر الله له في الآخرة، أراد أن نمتلك الغذاء والدواء والسلاح، وأراد لمصر أن تكتفي من القمح كما كانت في عهد يوسف عليه السلام، بل تطعم العالم من حولها، لم يقبل الدنية في دينه، ترضَّى على صحابة رسول الله في عقر دار الشيعة في إيران، وفي أمريكا أمام قادة كل الأمم هدد من يسيء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، تحدى الظالمين في كل مكان فقال : لبيك يا سوريا ، وقال : قلوبنا جميعاً تتوق إلى المسجد الأقصى ، وأننا لن نترك غزة وحدها، وأراد أن يجمع الأمة العربية والأمة الإسلامية ، فتكاتفت عليه قوى البغي في كل مكان، وتحركت أياديهم التي أكلت على موائد اللئام ، فانقلبوا عليه واختطفوه، ساوموه على النجاة وامتلاك الدنيا كيفما شاء، فاختار الحق الذي عاش له وعليه، سلطوا عليه أعوانهم الخبثاء لينجو، فتمثل قول حبيبه صلى الله عليه وسلم : "والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" فصمد ولم ينالوا من مرادهم شيئاً، وكان في محبسه أقوى من خاطفيه، جاهد في الله حق جهاده ليترجم الكلمات التي عاش عليها إلى حياة، ولمَّا لم يجدوا له نقيصةَ يحاكموه عليها، حاكموه بقضايا مضحكات.
وكانت قضية الاتحادية وما زالت إحدى هذه المهازل المهترئة، اتهمته نيابة العسكر مع إخوانه بقتل اثنين من المتظاهرين أمام قصر الاتحادية وتجاهلوا تسعةً من الشهداء قتلوا في نفس المكان والزمان وبنفس السلاح وبنفس الطريقة لأن قتلهم يدين العسكر ولا أحد غير العسكر ، ولما لم تكن هناك أدلة تدين الرئيس مرسي وإخوانه بالقتل أو التحريض عليه أو حيازة أسلحة واضطرار القضاة أن يحكموا ببراءة الرئيس وإخوانه من كل هذه التهم مع تسليمنا الكامل بأنه لا يحكمهم قانون أو حيثيات ، وأن الحكم الذي يصدر من قضاة مصر لا يأتي بعد المداولة إنما يأتي بعد المكالمة، ومع ذلك فكروا ودبروا وخاب تدبيرهم فقرروا سجنه حتى حين، بنفس تفكير أسلافهم الفراعين، "ثُمَّ بَدَا لَهُم مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ـ يوسف (35)" ، فدبروا له قضيه تدينهم ولا تدينه وهي أنه وإخوانه متهمون باستعراض القوة ، وجزاؤهم على استعراض القوة بدون حيازة أسلحة ، أي بالعضلات عشرون عاماً في سجون الظالمين.
عشرون عاماً لاستعراض القوة لأناس لا يحملون سلاحاً ولم يقوموا بعنف أو قتل أو تحريض عليه بنفس منطوق الحكم لنفس القاضي في نفس القضية في نفس الصفحة بنفس القلم ونفس الحبر الذي نعتبره أغلى من حكمهم على الرئيس.
السجن لا يشغل الرئيس الأستاذ الدكتور محمد مرسي ، والأحكام لا تمثل له شيئاً لأنه أصلاً لا يعترف بالمحكمة ولا المحاكمة، ولو كانت حريته عنده أهم من حرية مصر وأبنائها وظهور الحق وأهله، لكان ذلك أهون طلبٍ له، ولناله بكل يسرٍ وهم لا يقبِّلون يده فقط بل يقبِّلون حذاءَه ، ولكنه يعلم يقيناً أن الله لا يصلح عمل المفسدين ، وأن الدنيا لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيءٍ لن ينفعوه إلا بشيءٍ قد كتبه الله له ، ولو اجتمعت على أن يضرُّوه بشيءٍ لن يضرُّوه إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليه، يعلم أنه بثباته وجهاده تستمر الثورة ويثبُتُ الثوَّار، يعلم أنه يجاهد في الله حق جهاده بصموده الأسطوري يقول في كل حين إن معي ربي سيهدين، إنه يستيقن بوعد الله: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت 69( .
وكما أن يوسف لم يقبل أن يخرج من سجنه إلا بعد إظهار طهارته وعفته، "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ" (يوسف 50)، وهكذا حرص يوسف على ألا يستجيب لمن جاء يخلصه من عذاب السجن الذي هو فيه، إلا إذا بُرِّئت ساحته براءة يعرفها الملك، ويخيب ظن من يتوهم أن قائد الانقلاب يمكن أن يصدر عفواً عن الرئيس الشرعي فيقبله، لقد خرج يوسف والجميع يعلم طهارته وعفته وبراءته ، خرج مُمَكَّناً حفيظاً على خزائن الأرض، وسيخرج رئيسنا الشرعي مُمَكَّناً بأمر الله وحوله وقوته ، وقد استيقن كل من حوله بطهارته وعفته وبراءته ، ذلك وعدٌ غير مكذوب ، ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريباً.
أ.د. الغباشي الشرنوبي العطوي 25/4/2015
المصدر
- مقال:لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍموقع:كفر الشيخ أون لاين