كُلَّ عامٍ تُرْذَلون

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
كُلَّ عامٍ تُرْذَلون


بقلم: الشيخ نزيه مطرجي

إذا أَجَلْتَ بصرك في هذا السَّواد الأعظم من بني آدم الذين يملؤون الأرض من أطرافها الأربعة... أَلْفَيت الجَمَّ الغفير أنهم كثير، ولكن الكامل منهم قليل، فَمَثَلُهم كَمَثَل الإِبل تَعُدَّ المائة منها فَلا تَقع على الراحلة النَّجيبة، الحَسَنةِ المَنْظر، الكريمةِ المَخْبَر، التي تستوي خَلْقاً وخُلْقاً، فلا تحمل عيباً ولا تشكو ضعفاً، ولا ترى فيها عِوَجاً ولا أَمْتاً!

وكذلك الناس، يسهل عليك أن تعدّهم وتُحصي الكثير منهم، ولكن أكثرهم - إلا من عصم اللهَ -مَدْخولون في أمورهم يُغْريك ظاهرهم، وينطوي باطنهم على غرائب القبائح والمَثالِب.

ولا تكاد تجد أحداً تُرضي سجاياه، وتُحْمَد أفعاله وتَصْدق نواياه، فلا بد أن تقع منهم على ما يُؤلم النفس، ويُؤذي العين، ويخدش الأذن، ويشجي الفؤاد، وتصيبك طباعهم بالحَسَرات.

وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه البليغ الجامع: «إنما النّاسُ كَالإِبِلِ المائة لا تكاد تجدُ فيها راحلة» متفق عليه.

وقد شكا الفاروق عمر رضي الله عنه وهو في زمن خير القرون من قلّة الرّجال فقال: « اللهمَّ أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعَجْزَ الثِّقة».

إنك لا تحظى بأُناسٍ كالرَّواحِلِ من الإبل ولا {تُحِسُّ منهم من أَحدٍ أو تسمعُ لهم رِكْزاً}.

ولكنّ الداهية الأعظم والنَّكْباءَ الأَشد أن الشرّ في نموّ واتساع، وأن الخير في ضُمور وانكفاء، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، حتى لا يوجد في الأرض من يقول: الله.. الله! ويقول الشاعر:

يا زماناً بَكَيْتُ منه فلما

صِرْتُ في غَيْره بَكَيْتُ عَلَيْهِ

وورد في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَأْتي عليكم زمان إلا والذي بَعْدَه شرٌّ منه حتى تَلْقَوْا ربَّكم».

وقد ورد عن بعض علماء السَّلف منهم الحسن البصري: «كُلَّ عامٍ تُرْذَلون!»، ومؤدَّى ذلك فواتُ الكثير من معالم الهدى والرشاد، وبروز الكثير من مظاهر الضلال والفساد، مثل انتشار الشّحِّ المُطاع والهوى المتَّبَع، ورواج الفواحش والمنكرات، ونقصان العلم وازدياد الجهل، وتناقص الفقهاء والمجتهدين، وتكاثر الأئمة الجاهلين الذين يُفتون بالرأي بغير علم, وقد ورد في السنّة أن موت عالم أحبّ إلى إبليس من موت سبعين عابداً!

وحدوث البدع وهُجران السُّنن، ووقوع الجَدْب والقحط والفقر، وتسلُّط الحكّام الظلاّم بذنوب الأنام، وفقدان الرجال الصالحين القدوة الذين يمثّلون للناس ما تمثّل النجوم الزاهرة التي يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طُمست هذه النجوم أوشك أن تَضِلَّ الهُداة.

وأمام هذه السُّنن الربانيّة في حياة البشرية من الأفراد والجماعات، وخوفاً من التردِّي في وِهاد التخلُّف والتدَلِّي، فإنه لا مناص من القيام بالتربية والإصلاح، للنهوض بالنخبة والفئات الخاصة إلى ذروة الفلاح.

إن القاعدة في كل مؤسسات المجتمع أكبر من القيادة، والقيادة مهما تكن صالحة وحكيمة فلا بد من أن تنزل بساحتها السُّنَنُ الربانيّة، فيتضاءل عددها وتهن قوتها، وتَفتُر عزيمتها، وتأتيها فجأة المنيّة أو بعد نُذُر خفيّة، ورُسُل جَليَّة.

إن إصلاح الرّاعي مقدَّم على إصلاحِ الرعيّة، فإن أخلاق الورى تفسد بفساد الملوك لأن {المُلوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدوها وجَعَلوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وكَذلِكَ يَفْعَلون} النمل 34.

يقول عمر رضي الله عنه: «الرعيَّةُ مؤدِّيةٌ إلى الإمام ما أَدَّى الإمام إلى الله، فإن رَتَع الإمامُ رَتَعُوا».

إن من سُنن الحياةِ الواجبة على الوُلاةِ الأبرار، إعداد القيادات المنشودة من القابضين على نواصي العلم، الجالسين على منصّات الفَضْل، لكي يتولّى زِمامَ الأمور القويُّ الأَمين، والحفيظُ العَليم, وإِلا سَلَكوا مَغاوِزَ مظلمةَ الأَرْجاء، تخيب فيها الآمال، وتبوء الأعمال بالخسران والبَوار، فيصيبها ما يصيب شجرةً خبيثةً اجتُثَّتْ من فَوقِ الأرض ما لها من قَرار!

إنَّ أمتنا المباركة سيّدةَ الأمم، مهما اشتدّ عليها الخطبُ وادْلهمّ، وطاف عليها طائف الفساد وعَمّ، هي كالمطر، الخيرُ فيها لا يزول، ولا تزال تَلِد البدائلَ والعُدول.

المصدر