كمال السنانيري .. وفاء وتضحية
كمال السنانيري يستحق أن يُدَّرَس، وأن يكون نبراسًا يُضيء للعاملين للإسلام الطريق في كيفية الوفاء والتضحية من أجل دينه، فكان مثالا للصبر والمصابرة والجهاد، والوفاء لمن وهبها قلبه ووهبته فؤادها.
لقد كان السنانيري نواةً لجيلٍ جديدٍ حمل عبء الدعوة والحركة، وتعامل مع قضايا الدعوة وقضايا الأمة بمنظورٍ شامل، ومنهجية ثابتة.
نهاية الرحلة
كمال السنانيري الذي كان يتوقع له الجميع أن تكون نهايته الشهادة في سبيل دينه، والذي وصفها الدكتور محمد حبيب بقوله: كنت أنا والأستاذ أحمد حسانين نجلس معًا في طابور الشمس في سجن أبي زعبل في نوفمبر من عام 1981م أيام التحفُّظ الشهير للسادات والذي جمع فيه كل رجال مصر.
جاءنا الأخ الحبيب جابر رزق- رحمه الله- وقال لنا إن الخبر الذي تردد عن استشهاد الأخ الأستاذ كمال السنانيري- رحمه الله- تحت وطأة التعذيب خبرٌ صحيحٌ، فدمعت عينا الحاج أحمد حسانين، وقال: "لقد ظلَّ يطلبها طيلة أربعين سنة: الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فلم يخصه الله- تعالى- بها إلا اليوم.
وهكذا ظل السنانيري يتنقل في ساحات الجهاد، فبعدما خرج من محنة عبدالناصر سافر لمشاركة المجاهدين في أفغانستان، حتى عاد ليجد سحاب الموت تحيط به، حيث تم اعتقاله – حيث كان اسمه مدرج فيمن شملهم قرار السادات – غير أن التحقيقات معه أخذت بعدا أخر حيث ظلوا يعذبونه من أجل معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان.
وحينما زاد التعذيب عليه قال لهم: لقد حُكِمَ عليَّ بالإعدام سنة 1954م، أتريدون تنفيذه الآن، فالله أمهلني من 54 إلى 81م.
ووقع عليه أهوال من العذاب بعد أن تجاوز الستين من عمره، ولم يتحمل جسده هذه الأهوال التي تفتق زبانية التعذيب في إلحاقها به.. ولم يكن لمن في سنه أن يتحمل هذه الأهوال ففاضت روحه الطاهرة في (10 من المحرم 1402هـ/ 8 من نوفمبر 1981م)، و أشاع من قتله أنه قد انتحر بأن ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة، وصار يجذب نفسه حتى مات، وفى الصباح اكتشف السجَّان الجثة، وجاء الطبيب الشرعي، وعاينها وأثبت سبب الوفاة.
ولقد باكه الجميع، وظلت زوجته الوفية أمينة قطب ترثيه بقصيدة كلما حل ذكرى استشهاده كل عام بقصيدة حزينة مؤثرة، ولو جمعت هذه القصائد في ديوان لكان حدثًا كبيرًا في دنيا الشعر العربي المعاصر.
ومن تلك القصائد، وهي أول ما رثت بها زوجها الشهيد قولها:
ما عدت انتظر الرجوع ولا مواعيد المساء
- ماعدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء
ما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواء
- وأخاف أن يلقاك مهتاجًا يزمجر في غباء
ماعدت انتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء
- ماعدت أرقب وقع خطوك مقبلاً بعد انتهاء
وأضيء نور السلم المشتاق يسعد بارتقاء
- ماعدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء
وفاء قلب
محمد كمال الدين محمد علي السنانيري الذي ولد في أسرة ميسورة الحال في 28 من جماد الأولى 1336 هـ الموافق 11 من مارس 1918 م بمدينة القاهرة، وتوفي أبوه تاركًا ثلاثةً من الأشقاء وثلاثًا من الشقيقات، فقام على أسرته خير قيام بعد أن ترك التعليم العالي ولم يكمله.
تعرف على الإخوان في سن مبكر حيث انضم لها عام 1941م، وعمل على تشرب مبادئها والعمل لدين الإسلام، حتى كان له وضعه داخل الجماعة، مما عرضه للاعتقال عام 1954م ويظل في السجن طيلة العشرين عاما، وهي الفترة التي تعرف فيها على أخوات سيد قطب، وكان من اوائل المسجونين الذي أبدع خطبة السجون، خاصة بعدما وافقت الزوجة على الارتباط – رغم اعتراض بعض أخواتها- وظل وفيا لها كما ظلت وفية له، حتى إذا خرج أتمم الزفاف، ليظل معها سنوات بسيطة قبل أن يسافر للجهاد ويعود منه إلى ساحة العذاب من جديد.
وتستمر التضحية
كان كمال السنانيري يدرك نهاية الطريق الي سلكه في مواجهة الظالمين، ولذا قبل التضحية في سبيل دينه، فحينما تحركت مظاهرات مارس 1954م إلى قصر عابدين لإعادة محمد نجيب والإفراج عن الإخوان كان السنانيري أحد المسئولين عن تنظيم هذه المظاهرة، وهو ما جعله محط أنظار عبدالناصر بعد ذلك مثله مثل الشهيد عبد القادر عودة.
فما أن قبض على السنانيري حتى تعرض إلى تعذيب وحشيٍّ فاق كل خيال، حتى إن والدته لم تتعرف عليه في أثناء حضورها الجلسة الأولى للمحاكمة؛ لشدة ما وقع عليه من عذاب، فقد نحل جسمه، وكسر فكه؛ حتى تغيرت طريقة كلامه، وبلغ من شدة تعذيبه أن شقيق زوجته الأولى- وكان معتقلاً معه- أصيب بالذهول من هول المآسي التي نزلت على السنانيري، ولم تتحمل أعصابه المرهفة آثار العذاب الوحشية البادية على الجسد الواهن، ففقد عقله، ونقل إلى مستشفى الأمراض العصبيَّة.
بل بلغ الأمر أن ضغطوا على زوجته الأولى وأهلها حتى طلبوا الطلاق منه – رغما عنها ورغم رفضها الشديد – إلا أن أهلها نفذوا هذا الأمر فاستجاب لهم مضحيا بسعادته من أجل سعادة زوجته، إلا أن الله عوضه بصاحبة وفاء أخرى وهي أخت الشهيد سيد قطب.
ضحى السنانيري بكل متاع الدنيا في السجن حتى أنه لم يكن يرتدي الملابس الداخلية والتي اعتبرها ضابط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا، فأراد أن يعز نفسه عن ذلك فاكتفى بملابس السجن الخشنة والتي لن يمنعه عنها أحد أو يحرمه منها.
وهذا السلوك يجلي نفس "السنانيري" التي ملكها، وجعلها طوع بنانه، وأخلى قلبه من التطلع إلى الدنيا بعد أن ملأه زهدًا وصلاحًا، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويأخذ نفسه بالشدة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يرفض ما يطلبه منه ضباط السجن من تأييد نظام عبد الناصر طلبًا للسلامة، وطريقًا للخروج من جحيم السجن.
يقول عنه الأخ عبد الله الطنطاوي في جريدة "اللواء" الأردنية: ".. لقد وجد فيه الإمام الشهيد (مُصعبًا) جديدًا يتفانى في خدمة الدعوة وأبنائها، ويسهر على فهمها واستيعاب أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والجهادية، فكان مناط الرجاء والقدوة العملية للشباب باستقامته وورعه وزهده وحركته وبذله من ذات نفسه وماله ووقته وجهده، وبتدينه، فقد كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم الليل مصليًا وتاليًا القرآن وذاكرًا ربه بدموع سخيّة، وبتواضعه لإخوانه من أبناء مصر ومن الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية.
رحل الرجل وبقى الأثر
لقد رحل كمال السنانيري وظلت قصيدة زوجته التي رثتها بها تردد على ألسنة الشباب جيلا بعد جيل، متمنية أن يكون نهاية الوفاء باللقاء، فتقول:
هل ترانا نلتقـي أم أنهـا
- كانت اللقيا على أرض السراب؟!
ثم ولَّت وتلاشـى ظلُّهـا
- واستحالت ذكـرياتٍ للعذاب
هكذا يسـأل قلبي كلمــا
- طالت الأيام من بعد الغياب
فإذا طيفك يرنـو باسمًا
- وكأني في استماع للجـواب
- للمزيد
- محمد الصايم: شهداء الدعوة الإسلامية في القرن العشرين - دار الفضيلة - القاهرة – 1992م.
- عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة - مكتبة المنار الإسلامية - الكويت - 1422 هـ الموافق 2001م.
- محمد خيري رمضان: تتمة الأعلام للزركلي - دار ابن حزم - بيروت - 1418 هـ الموافق 1998م
- أحمد رائف: سراديب الشيطان، صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة – 1410هـ الموافق 1990م.