في ذكرى الانتفاضة..وهم السلام مع (إسرائيل)
إن المخلصين للقضية الفلسطينية والصادقين مع شعوبهم- الذين يمثلون شرف الأمة وعمقها الحضاري والمد الطبيعي للمقاومة الثابتة في زمن المقايضة والمساومة والاستسلام الرخيص- نصحوا لهذه الأمة ولحكامها أن عمليات السلام مع الكيان الصهيوني هي عمليات وهمية، وخداع واستهتار للجهود والتضحيات الجسام التي بُذلت، وظل الكيان الصهيوني منذ 25عامًا يفرش للعرب الورود والوعود، لكن هذه المشاريع كانت من جهة العرب والفلسطينيين سرابًا وأوهامًا، أو أقل ما يقال فيها أنها أحلام النهار، أما ما يتعلق بالجانب الصهيوني كانت هذه المشاريع فرصة لهم لتحقيق مكاسب سياسية وجغرافية، واتجهت نحو الانتقامية؛ حيث تمكن الكيان الصهيوني من تحقيق مكاسب ونجاحات بالسلام الوهمي مع العرب أكبر من الحروب التي خاضها منذ احتلاله لأرض فلسطين .
لقد أحدثت هذه المشاريع في عمومها اختلاف المواقف السياسية للأنظمة العربية تجاه الكيان الصهيوني، فبدأت سياسات التطبيع الصريحة والعلانية، والتطبيع المغلف في صورة الألعاب الرياضية الدولية كما حدث للجزائر في أثينا، وصور النشاط الثقافي والفني والإعلامي وسياسة اتفاقيات السلام، كما حدث مع مصر و الأردن والسلطة الفلسطينية، وهذا أدى إلى تفكك الروابط العسكرية واتفاقيات الدفاع العربية، وما يؤكد ذلك هو آخر اجتماع لمجلس الدفاع العربي كان عام 1981، ومن المكاسب هو إخراج دول الطوق من حلبة الصراع العربي الصهيوني؛ فخرجت مصر من الصراع بتعهدات دولية "كامب ديفيد" عام 1978، وكانت حرب رمضان- أكتوبر 1973، آخر حرب، ثم خرجت المملكة الهاشمية الأردنية من ساحة المواجهة باتفاقية السلام تسمى اتفاق وادي عربة.
ومن أبرز الانسحابات من ساحة الصراع هو الانسحاب الفلسطيني باتفاق أوسلو بعد سلام الشجعان في مؤتمر مدريد عام 1991، ثم توقيع الاتفاق في واشنطن بين عرفات ورابين عام 1993 شهر سبتمبر.
إن عمليات السلام جعلت الكيان الصهيوني من العمليات الاستراتيجية في مشروع استمرار دولة الكيان الصهيوني في كل الأراضي الفلسطينية، والاستقرار الأمني لها على المدى الطويل مع إبعاد الحرب إلى أبعد مدة، حتى إذا عادت الحرب يكون الكيان الصهيوني قد أخذ مسافات سياسية وعسكرية ودبلوماسية تجعل العرب في غير قدرة على الحرب، خاصة إذا علمنا أن الكيان الصهيوني اقتن من الولايات المتحدة 500 قنبلة ذكية تخترق 200 مترًا من الأسمنت المسلح بعد أن كانت تخترق 40 مترًا من قبل، لنرى كيف أن اليهود حققوا بالمسار السلمي ما لا يقل خطرًا عما أنجزوه بالعمليات العسكرية والحربية، ونستعرض أهم وأبرز المواقع في مسار السلمي.
الموقــع الأول
في عام 1978 سبتمبر دخل الرئيس المصري الراحل أنور السادات في عملية سلمية مع الكيان الصهيوني، وذهب إلى دولة الكيان الصهيوني ، وأعلن ذلك في خطابه أمام الكنيست اليهودي لما مدَّ يده إليهم بالسلام وأمضى مع رئيس الوزراء الصهيوني مناحيم بيجن المتشدد الليكودي، وما تحول المتطرفون من زعماء "الهاجانا" و"شتيرن" إلا لعلمهم أن العملية السلمية ما هي إلا استسلام، ومرحلة إنهاء الصراع وبقاء الكيان الصهيوني كما تم التخطيط لها من قبل زعماء التنظير الصهيوني.
وفي شهر مارس من عام 1989 بموجب اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني أعادت الدولة الصهيونية أرض سيناء، لكن منزوعة السلاح، وتركتها القوات اليهودية قبل خروجها مزروعة بالألغام ومحتكرة البترول، مقابل أن تتخلى مصر نهائيًا عن الدخول في أي حرب ضد اليهود مهما كانت الظروف، حتى لو أبيد الشعب الفلسطيني، وأبقت آنذاك على أرض غزة التي كانت تابعة إداريًا لمصر، وتدخرها لوقت مناسب للمساومة والمقايضة، وقد جاء وقتها لإخماد الانتفاضة وتقويض المقاومة الجهادية بإشراك مصر في استرجاع غزة .
الموقع الثاني
وفي يوم05 يونيو من عام 1981 مصادفًا ذكرى نكسة يونيو 1967 انطلقت الدولة الصهيونية في عملية تجريب اتفاقية السلام مع مصر ، فشنت حربًا على قوات منظمة التحرير الفلسطينية والجيش العربي السوري في الأراضي اللبنانية، و لم تحرك مصر ساكنًا إلا الاستنكار والشجب كما هو الحال لكل الأنظمة العربية!.
وفي07 يونيو 1981 تخترق القوات الجوية الصهيونية أجواء دولة العراق لضرب المفاعل النووي العراقي، واضطرت مصر للسكوت وباقي الدول العربية، رغم وجود اتفاقيات الدفاع العربي من بنوده أن الأنظمة العربية ترد على أي اعتداء أجنبي على دولة عربية، لكن الاتفاقية لم يبق لها آثر في السياسة الدفاعية العربية.
ويوم 04 ديسمبر 1981 قرر الكيان الصهيوني ضم رسميًا مرتفعات الجولان السورية وإخضاعها للسيادة الصهيونية، وذلك جاء بعد اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، وأراد الكيان الصهيوني أن يمتحن اتفاقية السلام مع مصر بعد السادات، إلا أن موقف الدول العربية لم يتغير بما فيه دولة مصر الملتزمة بالاتفاق.
وفي عام 1982 (في ذكرى النكسة 67) تقوم القوات الصهيونية باجتياح دولة لبنان، فتهاجم بآلياتها العسكرية القوات السورية والفلسطينية، واستغل الكيان الصهيوني محاولة اغتيال سفيرها في بريطانيا، واجتاح المجرم شارون عاصمة لبنان بيروت، وقتل ما لا يقل عن 25000 مدني من الفلسطينيين واللبنانيين، وفي هذه الأجواء تم ترحيل القوات الفلسطينية مع القائد ياسر عرفات، وقامت الدول العربية باستقبال هذه القوات وتفرقت المقاومة في عملية إنهاء الصراع العربي الصهيوني، وأجبرت القيادة الفلسطينية على أن تنتقل إلى تونس لتتخذ منها مقرًا لها إلى جنب مقر الجامعة العربية.
الموقع الثالث
إن هذه الأوضاع المتسارعة في المنطقة العربية والصمت العربي الرهيب والمتخاذل الذي سلبت منه الإرادة السياسية للمقاومة مما شجع الرئيس الأمريكي رونالد ريجان فأطلق مبادرة أمريكية سميت بـ"مبادرة ريجان"، تدعو كل العرب إلى عقد اتفاقيات سلمية وإبرام صلح وإنهاء الصراع مع الكيان الصهيوني، والدخول في هذه العملية بشكل جدي ومسئول برعاية دولية.
وفي يوم 06 سبتمبر 1982 استجاب العرب لمبادرة "ريجان" بعد أن كانوا يرفضون ويصرخون احتجاجًا على اتفاقيات السلام المصرية الصهيونية "كامب دافيد "، فعقدوا مؤتمرًا للقمة العربية في مدينة فاس بالمملكة المغربية، ونتج عنها مبادرة عربية تدعو الصهيوني إلى قبول سلام عادل وشامل، مع الانسحاب من الأراضي الفلسطينية لعام 1967، وسميت هذه المبادرة بمبادرة "فـاس"، لكن الرد الصهيوني على المبادرة كان ارتكاب مجزرة في لبنان في صبرا وشاتيلا، وهذا كان امتحان آخر لاتفاقيات كامب ديفيد المصرية الصهيونية.
تنسحب القوات الصهيونية من لبنان إلا من جنوبه وتحتله على أساس تأمين شمال الكيان الصهيوني من اختراق المقاومة، وأنشأ الصهيوني جيش جنوب لبنان ، كله من العملاء يقوده قادة عسكريون تمردوا على الجيش اللبناني النظامي.
وفي شهر سبتمبر من عام 1986 بعد وصول الإرهابي إسحاق شامير إلى رئاسة الحكومة، ترسل الأردن إشارات حسن النية والرغبة في السلام وإنهاء حالة الصراع وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، ونتج عن هذا التوجه أن قطعت الأردن العلاقة مع ياسر عرفات، الذي رفض العملية السلمية المنفردة من جهة الأردن، فكانت الاستجابة التلقائية لمبادرة ريجان التي أطلقها عام 1982 م.
الموقع الرابع
في شهر ديسمبر من عام 1987 من مخيم جباليا بعد استشهاد مجموعة من الفلسطينيين تنطلق الانتفاضة الأولى، والفصل الجديد في الصراع أن الكيان الصهيوني استفرد بالفلسطينيين وصاروا عزل في المحيط العربي، ولا يجرؤ أحد من الأنظمة العربية على التدخل والنصرة، ولأول مرة تقود الحركة الإسلامية المقدمة في المواجهة ومقاومة الاحتلال بعد طول غياب من أيام 48 و56، وكانت الوسائل المستعملة في غاية البساطة الحجارة والعصي والخناجر، حتى سمي أبطال الانتفاضة بأطفال الحجارة، فوجد الكيان الصهيوني نفسه أمام وضع جديد وجيل جديد يعيد الصراع إلى دائرته الأصلية هو تحرير الأرض من الاحتلال، والاعتداء على الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية، وهذا ما جعل الصهيوني يحاول بكل الوسائل إجهاض الانتفاضة، التي فضحت الوحشية والهمجية التي يتصف بها اليهود، وصارت ممارستهم اللاإنسانية أمام الرأي العام العالمي.
هنا يبدأ التحول في سياسة المنظمة الفلسطينية للتحرير، الذي كان قائم على الرفض التقليدي للحل السلمي، فيطلب ياسر عرفات من المجلس الوطني الفلسطيني أن يوافق على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، الذي يقضي بتقسيم فلسطين بين العرب الصهيوني، وظل هذا القرار مرفوضًا من الفلسطينيين والعرب من عام 1947 إلى غاية طلب ياسر عرفات عام 1988 بعد عام من الانتفاضة 87، ووافق أيضًا المجلس الوطني الفلسطيني على حق الكيان الصهيوني في الوجود كدولة مستقلة على أغلب الأراضي الفلسطينية التاريخية، ويوافق المجلس على قراري 224 و338 الداعين إلى إقامة دولتين على أرض فلسطين ، وتم الإعلان الرسمي عن الدولة الفلسطينية في الجزائر عند عقد المجلس الوطني.
بهذا التحول التاريخي في حياة الصراع تفتح الولايات المتحدة حوارًا مع منظمة التحرير لأول مرة لإدراجها في مسارات السلام، وفي هذا السياق وبعد التنازلات قام الأردن بالإعلان عن تخليه عن إدارة الضفة الغربية، التي كانت خاضعة له إداريًا وطلب من المنظمة إدارة شئونها بنفسها، وذلك عام 1988 ، أما سوريا في عام 1989 تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع مصر بعد انقطاع دام عشر سنوات نتج عنه حينها إنشاء جبهة التصدي والصمود مع العراق واليمن والجزائر وليبيا، فلم ترى له سوريا جدوى، ويبدأ التصدع في بقايا الجبهة العربية.
وفي يوم 2 أغسطس عام 1990 الدول العربية تتعرض لزلزال مدمر للعلاقات العربية باجتياح العراق لدولة عربية شقيقة الكويت، فيتحول الصراع العربي الصهيوني إلى صراع آخر عربي-عربي، فغزو العراق للكويت أتى على كل ما تبقى من الإرادة العربية في مواجهة الكيان الصهيوني، وفتح الباب على أوسع نطاق لعملية السلام الجماعي، بل هو استسلام كلي لمنطق الكيان الصهيوني في احتلال الأرض الفلسطينية.
الموقع الخامس
تبدأ مرحلة جديدة في مسيرة القضية من شهر مارس عام 1991 ؛ يعلن جورج بوش "الأب" بعد الانتصار في حرب تحرير الكويت عن الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام في مدينة مدريد بإسبانيا، ولم يكن اختيار اليوم والشهر صدفة، بل كان اختياره مقصودًا إذ يقترن بمرور 500 عام على سقوط الأندلس، ليكون ذلك انطلاق لعملية السلام الشامل والكامل بين العرب واليهود، وخاصة بعد الهوان الذي نخر جسم العرب واستشرى الوهن حب الدنيا وكراهية الصراع والموت، وأفرز المؤتمر توجهًا إلى الحلول المنفردة والمسارات المتعددة، تمكن الكيان الصهيوني من التفرد بكل دولة عربية على حدة، مع هذا الوضع يدعو بوش الأب الأنظمة العربية إلى خفض ميزانياتها العسكرية لصالح التعايش السلمي، وفي المقابل تصرف الولايات المتحدة على الكيان الصهيوني الأموال لتمكنها من التفوق العسكري في المجال الردعي والأمني، وبدأت المنظمة الفلسطينية في سلسلة حوارات مع الكيان الصهيوني سميت بالدبلوماسية السرية، انتهت بوثيقة أوسلو بعد أن أنكرت الجهة الفلسطينية ذلك، وتم التوقيع على وثيقة إعلان المبادئ في واشنطن بين ياسر عرفات وإسحاق رابين ويكون ذلك تتويجًا لمسارات منفردة انتهت بمشروع غزة – أريحا.
وفي شهر أكتوبر من عام 1994 بعد توقيع الفلسطينيين الاتفاق لم ير الأردن نفسه أكثر حرصًا من الفلسطينيين وياسر عرفات، فأبرم اتفاقًا مع الكيان الصهيوني على انفرادٍ عُرف باتفاق "وادي عربة" في العام نفسه، وبعد ذلك دعا رابين سوريا لتنخرط في مسار السلام بالاعتراف بالكيان الصهيوني مقابل الانسحاب من هضبة الجولان.
وفي يوم 12مارس عام 1996 تقوم الدولة المصرية باستضافة قمة شرم الشيخ لمواجهة الإرهاب ومكافحته، وسميت بعد ذلك قمة صانعي السلام وعقب هذه القمة بعد أن قامت المقاومة بتنفيذ عملية فدائية، واستغل الكيان الصهيوني القمة فعقد اتفاقًا استراتيجيًا مع الولايات المتحدة في المجال المخابراتي والعسكري الأمني في إطار مكافحة الإرهاب.
وفي 31 يناير 1996 أقبلت القيادة الفلسطينية في شهر نوفمبر عام 1996 على إلغاء الفقرات التي تدعو إلى تحرير فلسطين ، وتدمير الكيان الصهيوني، ورفض الاحتلال، من ميثاق منظمة التحرير.
المصدر: إخوان أون لاين