زينب الغزالي في سجون الطغاه
مقدمة
وغربت الشمس ، فنشط جلادو السجن الحربي وزبانيته ، وبدأت عجلة التعذيب تدور! !
آخذوني في ستر الليل ، إلى زنزانة الماء . . كانت أمعائي تصرخ من الجوع وحلقي يكاد يتشقق من العطش ، وآلام جراحي تضرب كل جزء من جسمي بعنف وشراسة .
آخذتني سنة من النوم ، وأنا على هذا الحال ، فإذا بخلق جميل ، يرتدون حللا من الحرير ، مزركشة ، داخل مخملات مطرزة بالذهب ، ويحملون صحافا من الذهب والفضة عليها ما طاب من الأطعمة من لحوم وفاكهة لم أر مثيلا لها! ! . .
فأخذت آكل من هذه ، وتلك ، واستيقظت من سنة النوم هذه ، فوجدت نفسي في شبع وري، فلا جوع ، ولا عطش !! بل إن مذاق ما أكلته من طعام كان لا يزال بفمي!!
فأخذت أشكر الله وأحمده . . مكثت في الماء طول الليل إلى ضحى اليوم الثالث ، عندما دخل صفوت وشمر بنطلونه ، ونزل إلى الماء وقال وهو يهزني بقسوة: إلى متى تظلين على عنادك ؟
أنقذي نفسك واكفينا أمرك . . أحكي الحكاية . . كيف اتفق سيد قطب مع الهضيبي على قتل عبد الناصر ومتى قال لك أن تأمري عبد الفتاح إسماعيل بقتل عبد الناصر؟ فقلت : كل هذا لم يحصل. . فخرج يسب ويلعن .. ثم عاد صفوت مرة أخرى بعد ساعة تقريبا، وأخرجني من الماء، وأدخلني في الزنزانة الأخرى التي تجاور زنزانة الماء وانصرف وارتعدت . . فقد اتجه تفكيري إلى ما حدث في هذه الزنزانة فاتجهت إلى الله بكل إيماني أن يحفظني مما يدبرون . .
ورجع صفوت وضابط بملابسه الرسمية يدعى إبراهيم . . وقال صفوت : سيادة الضابط سيتكلم معك يا. . فقال الضابط : اخرج أنت يا صفوت ثم اتجه إليّ وقال : أليس من الأفضل أن تقدري مصلحتك وتعملي لها فقط ؟. . هؤلاء القوم ليس لهم إله حتى يخشونه ! هل تعلمي ماذا فعلوا بالجندي الذي لم ينفذ الأوامر معك بالأمس ؟
لقد أعدم رميا بالرصاص . . إنهم اليوم يعدون لك فرقة من أعتى المجرمين . . اعملي كل ما يطلبونه منك وأنقذي نفسك من أنيابهم . . حسن الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح رجال ، يتحملون مسئولية خطئهم . . والتزمت الصمت ، فقد سئمت أسلوب المساومة والإغراء والتهديد، ولا أظن أنني سألاقى من التعذيب أكثر ولا أبشع مما أنا فيه . . فقال الضابط لصفوت وكأنه عز عليه أن يفشل في مهمته : اعمل معها ما شئت ، إنها تستاهل كل اللي يحصل ليها. . . ودخل صفوت وأطلق سبابه الصارخ : عبد الناصر أرسل في طلب شياطين من النوبة سينهشونك نهشا . . إلى أين تفرين منهم ؟
الوقت يمضي ، وكل دقيقة تقربك من النهاية ثم أغلق الباب خلفه . . وبعد العصر، نقلوني إلى زنزانة الماء حيث مكثت فيها طول الليل . . . ! !
وجاء ضحى اليوم الرابع ، ولم أر أحدا غير صفوت الذي أخرجني من الماء وأدخلني الزنزانة الأخرى . . وبعد العصر أعادوني إلى زنزانة الماء فمكثت فيها إلى ضحى اليوم الخامس ! ! . وهكذا كل يوم من زنزانة إلى زنزانة بألوان من العذاب مختلفة! !
صرعت الوحش في زنزانتي ! !
لم يبق موضع في جسمي إلا وفيه اثر عذاب وموضع جراح ! ! ولم تبق ذرة في نفسي إلا وفيها جرح عميق ينزف ألما وحسرة . . !! هل كل ما يحدث هنا في السجن الحربي يخرج من بشر. . من إنسان ! غير معقول أن هؤلاء المخلوقات بشر. . ! ! إنهم مخلوقات تسمع وترى وتنطق وتمشى على رجلين ، ولها ذراعان وهيكل بشرى . . ! ! لا . . لا. . إنها مخلوقات غريبة . . من تركيبة عجيبة . . ! ! . .
وأخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة . . وحياني صفوت بعدة ضربات ملتهبة بسوطه المجنون . . وقال وهو يضربني : إن ما سيحصل لك اليوم لم يحصل لكلب أجرب في طاحونة!! وأغلق باب الزنزانة ثم انصرف . . وما مروري إلا دقائق قليلة حتى فتح باب الزنزانة مرة أخرى وامتلأت بحمزة البسيوني وصفوت وجندبين آخرين ! ! . .
وانطلقت القذارة من فم حمزة البسيوني بأبشع ما يمكن أن يتخيله إنسان . . سب فاضح صارخ وقال : "يا بنت الــ. .. أنقذي نفسك وقولي كل شيء . اعترف الهضيبيي ، واعترف سيد قطب ، واعترف عبد الفتاح إسماعيل ، ووضعنا أصابعنا على كل شيء من واقع اعترافاتهم . . عرفنا منهم أن الهضيبي أمرك أن تقولي لعبد الفتاح إسماعيل بأن دم عبد الناصر مباح لأنه كافر. . كل واحد منهم تكلم ، وأنقذ نفسه وأنت ضيعت نفسك . . . ثم قال مهددا والشرر يتطاير من عينيه : ستعرفين كيف أنتزع منك كل ما نريده . . ستتكلمين أم لا؟.
ثم التفت إلى صفوت وقال : نفذ الأوامر يا صفوت . . . . ومن يعص الأمر من أولاد الكلب ?/span> مشيرا إلى الجنديين حوله إلى المكتب فورا . . وتولى صفوت إفهام الجنديين مهمتهما البشعة بأسلوب داعر صارخ الفجور، بعيد كل البعد عن الحياء. . مغمور في الانحطاط إلى أبعد ما يكون . . فقال لأحدهما في مجون : نفذ التعليمات ?/span> يا ابن الكلب ?/span> بعد إغلاق الزنزانة ، وبعد أن يتم التنفيذ، ادع زميلك ليقوم بدوره كذلك . . مفهوم ؟! ! ثم أغلق الزنزانة وانصرف . .
جلس الرجل يتوسل إلى أن أقول ما يريدون لأنه لا يريد أن يؤذيني، ومن جهة أخرى فإن عدم التنفيذ يلحق به ضررا بليغا وايذاءً جسيما. . قلت له بكل ما أوتيت من قوة : إياك أن تقترب منى خطوة واحدة . . إذا اقتربت ، سأقتلك . . سأقتلك . . سأقتلك ، فاهم ! ! .
كنت أرى الرجل ينكمش ويتقاعس غير أنه أخذ يقترب في خطوات ، ولم أدر إلا ويداي حول رقبته ، وأنا أصرخ بكل صوتي : "بسم الله ، الله أكبر. .
وغرزت أسناني في عنقه ، وإذا به ينفلت من بين يدي، ويسقط تحت قدمي خائرا، يخرج من فمه زبد أبيض كرغاوى الصابون . . سقط الوحش تحت قدمي، جثة هامدة لا تنبض إلا بهذا الزبد الأبيض . . أنا التي تتربع على قمة الألم ، والتي مزقتها الجراح التي حفرتها السياط في كل موضع من جسمها! أنا التي غلفها الإعياء من كل الزوايا .. تصرع هذا الوحش الذي أمروه بأن يفترسني! !
لقد بث فيّ الله - جلت قدرته - قوة غريبة صرعت هذا الوحش ! !
وكانت معركة شر! ضارية انتصرت فيها الفضيلة على شراسة الرذيلة . .
كان هذا علامة صدق ، وبشرى للمخلصين . . فالحمد لله ولا إله إلا الله . . إن الطغاة يخافون ويهزمون ، وأصحاب الرسالات خلف القضبان مجردون من كل شئ إلا من الإيمان بالله تعالى . .
غير أن ثبات المؤمنين على الحق هو دائما شئ لا يستطيع المنهزمون في أنفسهم وضمائرهم بتقاعسهم عن الإيمان أن يفعلوه . يا إلهي ما أكرمك وما أوسع عطاءك . . أنت ربنا ورب كل شئ . . فهؤلاء الذين يأخذون بأمر الله يحاربون . . ويقاومون. .
ولكن العاقبة دائما للمتقين . . وفتحت الزنزانة ودخل رأس الزبانية حمزة البسيوني ، والجلاد صفوت وجند آخرون ، ووقع نظرهم على هذا الوحش الممدد على الأرض ، والرغاء الأبيض يخرج من فمه . . فبهت الذي كفر؟! . . خرست الألسنة وتبادلوا نظرات زائغة حيرى . . ! . . وحملوا الجثة وأعادوني إلى زنزانة الماء . .
من الفئران إلى الماء وبالعكس ! !
في زنزانة الماء ظللت حتى جاء اليوم السادس . . وفى ضحى اليوم أخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة ، فتوترت أعصابي انتظارا لما سيحدث . . فقد مرت بي في هذه الزنزانة ألوان من العذاب . فوضت أمري إلى الله ، وجلست مستندة إلى حائط الزنزانة . . أحسست بأشياء تتحرك ،فرفعت رأسي إليها، فإذا بخيوط متصلة من الفئران تنزل من النافذة كان أحدا يفرغها من كيس ! !
أخذتني رعدة شديدة، وشعرت برعب مريع ! ! . . أخذت أردد اللهم اصرف عنى السوء بما شئت وكيف شئت ".. ورددت هذا الدعاء، حتى سمعت أذان الظهر، فتيممت وصليت وجلست أختم صلاتي، وأذكر الله حتى أذان العصر فأديت صلاته . .
وهنا دخل الوحش صفوت الروبي. . كانت الفئران قد انصرفت من النافذة من حيث أفرغت ولم يتبق إلا فأر أو اثنان ! ! دارت عيناه في أنحاء الزنزانة في نظرات دهشة، وارتسمت على وجهه ألف علامة تعجب ! !
وكأن ذلك قد عز عليه ، فانصرف يسب ويلعن تلاحقه خيبة الأمل ! ! . . وأعادني إلى زنزانة الماء ، ثم عاد ومعه الضابط رياض .
المصدر
- مقال:زينب الغزالي في سجون الطغاه موقع: شبكة فلسطين للحوار