الهجرة الأولى إلى الحبشة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الهجرة الأولى إلى الحبشة


(الاحد, 11 نوفمبر 2012)

بقلم : د راغب السرجاني

لماذا الهجرة إلى الحبشة دون غيرها؟

كانت الهجرة إلى الحبشة من أجل إنشاء مركز جديد للدعوة، يضمن لها الاستمرارية والبقاء، وكانت وسيلة جديدة في مواجهة أساليب البطش في أرض مكة، لكن السؤال الآن: لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون؟!

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولا شك- قد فكر كثيرًا في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين، ولعل أقرب الأماكن التي بدرت إلى ذهنه صلى الله عليه وسلم هو أن يرسلهم إلى إحدى قبائل الجزيرة العربية الكثيرة.

لقد كان في جزيرة العرب تجمعات قبلية كبيرة وكثيرة، فكانت هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة، وغيرها كثير مثل غطفان وبني بكر وبني عامر، وهذه القبائل لها الميزة والأولوية في كونها تعيش في ظروف مقاربة تمامًا لظروف المسلمين في مكة؛ ومن ثَمَّ فلن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، وهذا بالإضافة إلى كونهم يتكلمون العربية، وقرب مكانهم من مكة؛ وعليه فإنه إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين فإنهم ما يلبثون أن يقدموا سريعًا، لكن العقبة في هذا التوجه كانت تكمن في أن هذه القبائل جميعها مشركة، وهي وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين إلا أنها كلها كانت تعظّم قريشًا، وعلى هذا فإنه إذا طلب القرشيون المسلمين فلن تتردد مثل هذه القبائل أن تدفع المسلمين إليهم، إذن فلم يكن هذا الخيار صائبًا.

ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد فكر في يثرب -المدينة المنورة- لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن بها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب جدًّا، حيث الحروب ما زالت على أشدها بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود ومنذ زمن بعيد يسكنون هذه البلاد، وكان تاريخهم فيها وفي غيرها لا يبشر بخير.

ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكر في العراق أيضًا، حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل بني شيبان وغيرها، لكن هذه القبائل -إضافةً إلى كونها مشركة- كانت على ولاءٍ شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلم يكن كسرى فارس ليرحب بمثل هذا القدوم للمسلمين.

ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا قد فكر في الشام، حيث القبائل العربية مثل قبائل الغساسنة، لكنها وعلى الجانب الآخر كانت موالية للروم، ولن ترحب أيضًا باستقبال هذه الدعوة الجديدة.

ولعله كذلك صلى الله عليه وسلم قد فكر في مصر، لكن مصر وبرغم أن بها ملكًا معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها كانت محتلة من قِبل الرومان ولا تملك من أمرها شيئًا.

ولعله أيضًا صلى الله عليه وسلم قد فكر في اليمن، لكن اليمن أيضًا كانت محتلة من قِبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين...

لا شك أنه صلى الله عليه وسلم قد فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية، وغالبها عربية باستثناء مصر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يجدها مناسبة، وهنا بزغ في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختيار الأخير، الذي بدا اختيارًا عجيبًا في نظر الكثيرين، حتى في نظر المعاصرين له صلى الله عليه وسلم وهذا الاختيار هو الحبشة، وكان اختيار الحبشة اختيارًا عجيبًا حقًّا، وهو إن دل على شيء فإنه إنما يدل على سعة اطلاعه صلى الله عليه وسلم وعلى حكمته في ذات الوقت، فرغم أن بالحبشة بعض العيوب الملموسة، إلا أن مزايا اختيارها كانت تفوق عيوبها كثيرًا.

وقد كان من أهم عيوب اختيار الحبشة هو أنها بعيدة عن مكة، ومن ثم فقد تصعب عملية الاتصال أو المراسلات، كذلك أيضًا كان من هذه العيوب اختلاف لغتها (لغة الحبشة) عن لغة المهاجرين؛ حيث لم يكونوا يتكلمون العربية، وأيضًا كانت العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيرًا عن عادات وطبائع العرب والجزيرة العربية؛ مما قد يؤدي إلى صعوبة نسبية في الحياة هناك، كانت هذه هي عيوب اختيار الحبشة مكانًا لهجرة المسلمين، لكن إذا نظرنا إلى مزايا هذا الاختيار كمكان للهجرة نجد فيه الكثير.

مميزات الهجرة إلى الحبشة

أولاً: عدل حاكم الحبشة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لَوْ خَرَجْتُمْ إلى الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ". فلم يعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء في حياة هذا الرجل ولا دينه، إنما فقط علق على عدله.

وما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بيّن من أهل مكة، والظالم لا ينظر ولا يهتم ولا يكترث بحقوق غيره، أما النجاشي ملك الحبشة فقد كان عادلاً؛ وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بصرف النظر عن ديانتهم، بل بصرف النظر عن حبهم وكراهيتهم، حيث العدل من أُسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا، وبدونه لن ينجو الإنسان في الآخرة.

وكان من سعة أفق الرسول صلى الله عليه وسلم وشمول نظرته وعمق تفكيره أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية كبيرة لأصحابه، وهو درس للدعاة في أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم حتى في زمان الاستضعاف؛ فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من هؤلاء بصرف النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم، وكانت تلك من المميزات الرئيسية في اختيار الحبشة.

ثانيًا: أهل الحبشة هم أهل كتاب

فقد كان المسلمون يشعرون بقرب من النصارى؛ حيث إنهم أهل كتاب أيضًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وسبحان الله! فقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة مؤكدًا لهذه المعاني، فقال I: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].

ومع الأسف، فإن معظم النصارى في أرض الحبشة في ذلك الوقت كانت لهم اعتقادات منحرفة؛ وذلك نتيجة التحريف في التوراة والإنجيل، لكن كان بعضهم ما يزال صحيح الاعتقاد، وكان النجاشي رحمه الله من هؤلاء، وقد أفاد هذا كثيرًا كما سنرى في التعامل مع المهاجرين المسلمين.

ثالثًا: الحبشة بعيدة عن مكة

ومع أن هذا يعدّ عيبًا؛ لأن البعد عن مكة يجعل الاتصال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المهاجرين صعبًا وشاقًّا ومكلفًا إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانبًا كبيرًا من الأمن للمهاجرين بعيدًا عن بطش أهل الباطل في مكة وما حولها من الأماكن التي يمتد إليها نفوذهم.

رابعًا: الحبشة بلد مستقل

كانت الحبشة مملكة مستقلة ليس لأحد عليها سلطان، ورغم أنها كانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية، إلا أن هذه التبعية كانت تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة إذن من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس أو غيرهم رأيًا على أهل الحبشة.

خامسًا: الحبشة بلد قوي في المنطقة وعليها ملك عظيم

فقد كان للحبشة اسم قوي في ذاك الزمن، وكان أهل مكة يعظمون ملكها كثيرًا، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، ومثل هذا الأمر كان من الممكن أن يكون عيبًا لكن في حال إذا كان ملك الحبشة ظالمًا، أما وإن اتصف بالقوة والعظمة مع العدل؛ فهذا يوفر حماية كبيرة وأكيدة للمهاجرين.

وإن هذا ليضع على عاتق قريش أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين منها كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب، فكانت قوة الحبشة وقوة ملكها إضافة إلى حاجز البحر وبُعد المسافة من العوامل المهمة التي تحول دون هذا التفكير في الغزو، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب فيها تسليم المهاجرين، وإن كان الملك عادلاً فإنه -ولا شك- سيرفض تسليم زوّاره وضيوفه.

سادسًا: الحبشة بلد تجاري وصاحب قوة اقتصادية

كانت الحبشة في ذلك الوقت ذات قوة اقتصادية معقولة، ولا يخشى عليها من حدوث أزمات اقتصادية، وذلك نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا - ولا شك - سيعمل على توفير الأمان والاستقرار للمؤمنين، وفي ذات الوقت فلن يغير من نفسيات أهل الحبشة؛ فهم لم يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.

لهذه الأسباب مجتمعة -وقد يكون لغيرها- كان اختيار الحبشة اختيارًا موفقًا جدًّا، وقد بدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك، ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.

المهاجرون إلى الحبشة

بعد هذا الاختيار السابق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر مؤمنًا بالهجرة إلى الحبشة، عشرة رجال وأربع نسوة وكانت النسوة أزواج أربعة من المهاجرين، فكانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين، وأمام هذه الطليعة نود أن نقف وقفتين في غاية الأهمية.

الوقفة الأولى: مَن أول من هاجر من المسلمين؟

في مطالعة للأسماء التي هاجرت، كان الاسم الأول هو: عثمان بن عفان الأموي رضى الله عنه وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا لهذا من موقف وتعبير، وإن لهذا الأمر أبعادًا عظيمة تجعل بل تزيد من التأكيد أن أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، فلقد أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه صلى الله عليه وسلم ويجعلها بمنأى عن الأذى من جراء هذه الهجرة، وها هي ابنته السيدة رقية، حبيبة قلبه، وقطعة من جسده، تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين.

إن من المستحيل أن يتأثر الجنود بقائدهم إلا إذا شعروا أنه معهم في خندقهم، فما أسهل أن تأمر بالتقشف! وما أسهل أن تأمر بالإخلاص! وما أسهل أن تأمر بالتضحية! وما أسهل أن تأمر بالجهاد! وما أسهل أن تأمر بالهجرة! بل ما أسهل أن تأمر بالموت! لكن ذلك كله لن يتأثر به أحد إلا إذا قُرن بعمل، وها هي التربية بالقدوة رسالةٌ من رسول الله إلى كل قائد: إذا أردت أن تملك قلوب شعبك وأتباعك فانزلْ إليهم، وعشْ معهم وخالطهم، افرح بما به يفرحون، وتألم مما منه يتألمون، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسفرهم وسعيهم وقتالهم، عندئذ اعلم أنك امتلكت قلوبهم.

وقد كان الاسم الثاني في هذه الهجرة أيضًا من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه: جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ابن عم رسول الله الهاشميّ القرشي الشريف، حيث هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها. وكذلك كانت بقية الأسماء التي هاجرت، كان غالبيتها من بيوتات الشرف والمكانة والمنعة في مكة، فكان منهم:

عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، والزبير بن العوام من بني أسد، وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم، وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وعثمان بن مظعون من بني جمح، وهكذا.

الوقفة الثانية: المسلمون وأسباب نجاح الهجرة

المطلع على حال الهجرة يَرى أن المسلمين قد أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة التي هي في أيديهم، فعملوا على ما يلي:

أولاً: خرج المسلمون في سرية كاملة، ولم يُعلموا أحدًا بهجرتهم.

ثانيًا: لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.

ثالثًا: ولضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرًا عليهم من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون رضى الله عنه.

رابعًا: التنوع الملموس من قبائل مكة، فقد أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة رجلاً؛ وبذلك فلن تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، وأصبح الموقف صعبًا جدًّا عليهم، وكانت هذه هي الخطة نفسها التي استعملها بعد ذلك أبو جهل عند محاولته قتل رسول الله صلى الله عليه وسلمعند هجرته إلى المدينة؛ وذلك ليتفرق دمه صلى الله عليه وسلم بين القبائل.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه سوف يكون لهذا الوفد - الذي يضم خليطًا من قبائل مكة - تأثيرٌ واضح على ملك الحبشة، وكأنه يمثل سفارة رسمية تمثل شعب مكة، ومن ثم فلا يخطر على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، إنما يعلم أنها دعوة دينية أخلاقية، لا تفرق بين قبيلة وأخرى، وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة.

تخطيط وإبداع في الهجرة فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ فيه بكل الأسباب المادية؛ وذلك حتى يعلمنا كيف نسير على دربه وعلى طريقه صلى الله عليه وسلم. وبعد أن أخذ المسلمون بكامل الأسباب وخرجوا من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر.

مع كل هذا، وسبحان الله! استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم ويلحقوا بهم، وهكذا؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، وعند هذا الحد كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة تمامًا، لكن المسلمون ابتهلوا إلى الله عز وجل أن ينجيهم مما لحق بهم، وفي هذه اللحظة وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة، فركبوا فيهما وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم، لقد استنفد المسلمون ما في وسعهم وأخذوا بكامل الأسباب، ورغم ذلك أدركهم المشركون، تُرى لماذا أدركوهم؟!

الحق أن المشركين لحقوا بالمسلمين ليلجأ المسلمون إلى الله عز وجل، وليعلموا أن الأخذ بالأسباب لا ينفع إلا إذا أراد الله عز وجل، وليدركوا حق الإدراك أن الكون كله بيد الله يُصرّفه كيف يشاء.

المصدر: موقع قصة الإسلام

المصدر