المحنة وترك الجماعة .. اقرأ نفسك أولاً

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
المحنة وترك الجماعة.. اقرأ نفسك أولا

بقلم/ الشيخ عصام تليمة

مقدمة

الشيخ عصام تليمة

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم، وجزاكم الله خيرًا على معونتكم لنا.

مشكلتي تتلخَّص في أنني كنت عضوًا عاملاً في إحدى الحركات الإسلامية، وأقوم بنشاطٍ دعويٍّ واسعٍ منذ المرحلة الثانوية، وأثناء دراستي الجامعية تعرَّضت لمحنةٍ أمنيَّة، سبَّبت لي آلامًا نفسيَّةً رهيبة، تركت على إثرها الحركة الإسلامية، ولكنِّي لم أترك الالتزام والحمد لله، ولم أترك الإخوة، فأنا أزورهم ويزورونني.

وبعد فترةٍ تزوَّجت من إنسانةٍ ملتزمة، وكان زواجنا إسلاميًّا، ودعوت إليه جميع من أعرف من أعضاء الحركة الإسلامية، والآن تشجِّعني زوجتي على الرجوع لمجال الدعوة، ولكنّي فعلاً -ولا أخفيكم سرًّا- تراودني كوابيس رهيبة، بسبب ما تعرَّضت له أثناء محنتي وأنا في الكلية.

ولا أدري ماذا أفعل.. هل أظل منافقًا جبانًا؟ أم أرجع إلى الحركة الإسلامية مع ما يترتَّب على ذلك من تبعاتٍ أنتم أعلم بها منّي؟

من داخلي أريد العودة، ولكن الخوف يملؤني.

دلوني بالله عليكم على الحل.

والسلام عليكم ورحمة الله.

يقول الأستاذ عصام تليمة الباحث الشرعي وعضو فريق الاستشارات:

أخي الحبيب؛ليست حالتك حالةً مرضيَّةً مستعصيةً على العلاج، ولك في حالتك عزاءٌ من عدَّة نواحي:

أولا: أنَّك لست الأول ولا الأخير في الإسلام ولا في الالتزام الدعوي والحركي الذي يحدث معه ذلك.

ثانيا: أن فتنتك لم تكن في دينك والتزامك، وهذا ما يهوِّن عليك من الأمر قليلاً، ولست بذلك أدعوك للتخاذل، والتباطؤ عن اللحوق بالصف، والعمل للدعوة.

ثالثا: أنَّ الإسلام دينٌ واقعي، يعلم أنَّ الناس يتفاوتون في تحمُّلهم وطاقاتهم، وليس السقوط في ابتلاء، هو نهاية الإنسان الدعوية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبلٍ مائةٍ قلَّ أن تجد منهم راحلة).

رابعا: ليس ابتلاء المحنة هو أخطر الابتلاءات، بل أقلها.. فمحنة العطاء أشدّ من محنة السلب، وأنت سُلبت فضعفت، وضعفك ليس ضعفًا أبديًّا، وفي إمكانك العودة، بل العودة بقوّة.. وليكن حذرك من أن يكون بلاؤك في أن تمتحن بالدنيا، بأن تدخل عليك بزينتها وزخرفها، وتذكر معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي.

ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم) رواه مسلم.

كما أريد يا أخي أن ننظر بنظرةٍ منصفةٍ إلى حالة الضعف والابتلاء التي تصيب الأخ الملتزم من خلال النصوص الشرعية، والخبرة الدعوية.

الابتلاء على طريق الدعوة والالتزام من سنن الأنبياء والمصلحين والدعاة والمسلمين كذلك، فكل مسلم مطالب بالصبر.. سواء كان الصبر على الأذى، أو الصبر على أداء التكاليف التي أوجبها الله علينا، يقول تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، وقال تعالى بعد بيان أصول البر كما بينه القرآن، في بداية قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب..) فبعد ذكر أصول الإيمان والإسلام، ذكر من أهم الصفات الملازمة لأداء هذه التكاليف صفة الصبر، فقال: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم.

كما أنَّ الإسلام ينظر إلى الضعف في حالات الابتلاء نظرةً منصفة، لا يجحد فيها فضل الإنسان ومثابرته، والتزامه وتديُّنه، فالضعف والخوف طبيعةٌ بشرية، وهو شيءٌ فطري، لكن المهم ألا ينقلب إلى جبن، ولذا قال الله عز وجل: (فأوجس في نفسه خيفةً موسى) وهو الخوف الفطري، الذي يهول الإنسان ويصيبه لفترةٍ أو للحظة، ولكنه من فضل الله على الإنسان الصالح ألا ينقلب إلى جبن هالع.

ولن أضرب لك النماذج بالأنبياء في صبرهم وثباتهم، بل أضرب لك نموذجًا من صحيح السنَّة وهو محفوظ لدينا جميعًا، وهو نموذجٌ يمثل ضعف الداعية أمام المحنة، وكيفيَّة الخروج من مأزقه، إنَّه "غلام الدعوة" في قصَّة أصحاب الأخدود، فهو غلامٌ تقيٌّ صالح، وقد نبهَّه شيخه "الراهب" إلى أنَّ محنةً تنتظره، فقال له الراهب: إن ابتليت فلا تدل علي، أي أنه نبَّه الغلام إلى هذه المحنة جيدا، ولكن طبيعة الإنسان غلبت عليه، فلمَّا تعرَّض لشيءٍ من التعذيب دلَّ على الراهب، وعُذب الراهب وثبت حتى نشر بالمناشير ومات. ثم بعد ذلك خرج الغلام من ضعفه، وقام من كبوته، مجدِّدًا إيمانه، وكان ما كان من قتله، بل أراد الغلام أن يصحِّح خطأه بدلالته على الراهب، وذلك بأن خطَّط ودبَّر حيلةً لنشر فكرته ودعوته، وتعويض ما فاته من التحرّك بدعوته، فاحتال على الملك بأن يضربه بالسهم ويقول: باسم الله رب الغلام، ويموت الغلام، ويؤمن الناس، وتكون ملحمة "أصحاب الأخدود" التي خلَّدها الله عز وجل في سورةٍ كاملة، هي سورة "البروج".

فالضعف إذن -يا أخي- واردٌ في حياة الإنسان، وكم من إنسانٍ خطيبٍ مفوَّه، وقد يأتي عند أول امتحانٍ ولا يصمد أمامه، وهذا لا يجعلنا نجحد فضله، بل يذكرنا أن لكلِّ إنسان حدود وطاقة، ولله درُّ الأستاذ حسن الهضيبي الذي قال قولته الشهيرة: تقوم الدعوة على أهل العزائم، ولأهل الرُّخص في دعوتنا مكان.

القضية الأخرى التي أريد أن تتضح لك: وهو قضية الانتماء إلى حركة معينة، أو دعوة معينة، هل هذا الانتماء غاية في حدّ ذاته، أم أنه وسيلة لأداء غاية؟ الحق -يا أخي- أنَّ الغاية الكبرى التي يبتغيها كل مسلم هي دخول الجنة، بأداء كل ما اشترطه الله علينا من شروط لدخولها، وهو ما يتلخص في شرطين:

1- أن نعمل بالإسلام.

2- وأن نعمل للإسلام.

أما الوسائل لذلك فكثيرة، ومنها: أن ينتمي الإنسان لدعوةٍ أو جماعة، تعينه على أداء هذا الرسالة ذات الشقين السالفي الذكر، ولا أريد أن أدخل الآن في النقاش الطويل في كتب الدعوة حول قضية.. هل العمل الفردي خيرٌ أم العمل الجماعي، وإن كنت ممن يوجبون العمل الجماعي ويفضلونه، فالدنيا بأسرها الآن تعمل ضد ديننا عملا جماعيا، فكيف -ونحن في أشد حالات الضعف- نعمل فرادى؟! ومع ذلك فإنني أريد التأكيد على شيء هام من وجهة نظري، وهو ضرورة أن يحسن كلٌّ منا قراءة نفسه، وأن يعرف حدود إمكاناته، فالعمل الجماعي يختلف وضعه وحكمه من فرد لآخر، وذلك حسب طبيعة شخصية كل مسلم، وظروفه وإمكاناته وطاقاته، فمن الناس من يكون العمل الجماعي في حقه فرض، كما أن منهم من يكون العمل الجماعي في حقه حرام، ذلك نظرًا للدور الذي يمكن أن يؤديه هنا أو هنا.. فعليك ابتداءً أن تمعن في قراءة نفسك، وتحديد الأفضل الذي يمكنك العطاء فيه.

  • أما العلاج الذي أنصحك به، فهو كالتالي:

أولا: أن توقن أن الآجال والأرزاق بيد الله، وأن ما يصيبك لم يكن ليخطأك، وأن هذا هو قدر الله وقضاؤه، يقول تعالى: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)، ويقول: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون). وليس معنى ذلك يا أخي أن نجرَّ على أنفسنا الابتلاء والمحنة، ونعرِّض أنفسنا لها، إنما نأخذ بالأسباب في تجنبها.. ولكن إن أتت، فنؤمن بأن ذلك قدر الله وقضاؤه.

ثانيًا: العودة إلى صحبة الخير التي تعينك على أمر دينك ودعوتك، فهذا مما يقوي الإنسان.. فالمرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ بنفسه قويٌّ بإخوانه.. فتواجد الإنسان في رحاب صحبةٍ خيرةٍ أمرٌ مهمٌّ جدًّا له يقويه، كما أنه سيرى من ثبات إخوانه ما يقوي ظهره، ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كدر الجماعة خيرٌ من صفو الفرد"، مع الإشارة إلى أنه لا يوجد عمل فردي بمعنى الفردية المطلقة، كما أن العمل الجماعي لا يعني فقط العمل الجماعي داخل الإطار التنظيمي.

ثالثا: أكثر من قراءة قصص من ثبتوا.. كيف ثبتوا؟ ولماذا ثبتوا؟ وذلك من قصص الصالحين السابقين، بدايةً بأنبياء الله ورسله، ومرورًا بخير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والسلف الصالح، وانتهاءً بجيل الدعوة المعاصر.

رابعا: استشعار أنَّ ما يصيب الداعية هو ميزان حسناته عند الله سبحانه وتعالى، وما جعل الإمام أحمد بن حنبل يثبت في محنته إلا كلمةً قالها له لص، قال له: يا إمام إنّي لصٌ سارقٌ وأعترف لك بذلك، وأجلد كل يوم لأعترف وأأبى الاعتراف، فأخذ أحمد بن حنبل منه العبرة والعظة: أفلا أثبت وأنا على الحق، وثباتي أنا مأجور عليه؟! خامسا: اللجوء إلى الله، فالثبات من الله وحده، ولضعف في موقف عند البشر خيرٌ من ضعفٍ في جنب الله وفي العلاقة به سبحانه وتعالى. سادسا: الهمة العالية، فلتكن عندك الهمة في الثبات، وأن تكون متوثبا ومتطلِّعًا لتكون في صفوف الثابتين من الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم يخاطب ضعيفي العزم: "يا مخنث العزم، الطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وتعرض للحرق إبراهيم، وتعرض للذبح إسماعيل، وذبح السيد الحصور يحيى، ونشر بالنمشار زكريا، وتعرض للصلب المسيح عيسى، ولاقى ما لاقى فيه محمد صلى الله عليه وسلم". سابعا: عالج ضعفك ولو بأن توهم نفسك بالشجاعة وعدم الخور والضعف، فإن وسوس لك الشيطان بأنك ستضعف، قل: لن أضعف، فأنا قوي بالله، و(الله هو القوي)، عزيز بالله ولن أذل، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، فإن خوَّفك بالرزق، فقل: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) اسمع ما بعده وردده لنفسك: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون).

فمرن نفسك على الشجاعة، وخاطب نفسك على أنك من أشجع الناس وأثبتهم، فالهزيمة الداخلية يا أخي شرٌّ من الهزيمة الخارجية، وقد سئل عنترة بن شداد عن سرّ قوته وثباته، فقال لمن سأله: ضع أصبعك في فمي، وأضع أصبعي في فمك ويضغط كل منا بأسنانه بأقصى قوة على أصبع الآخر، ونفذ عنترة وعضّ بقوة، وكذلك فعل خصمه، فصرخ خصمه، فقال عنترة: لو لم تصرخ أنت لصرختُ أنا.

وقال علي بن أبي طالب لمن سأله: كيف تنتصر على خصومك؟ قال: أهجم عليه هجمةً أشعره أنه لا نجاة له منها، فأجمع عليه بين أمرين: بين ضعفه من داخله، وبين ضربتي الصارمة.

وأخيرا: أسأل الله عز وجل لي ولك الثبات في الأمر، وأن يجعلنا من جنود دعوته.. اللهم آمين.


  • المصدر: موقع إسلام أون لاين