الطائفيّة السياسيّة.. بين التمهيد لإلغائها والحكم التوافقي القائم
بقلم: الأستاذ إبراهيم المصري
نائب الأمين العام للجماعة الإسلامية
ساد الساحة اللبنانية ركود سياسي قاتل بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، فقد استغرق تشكيل الحكومة خمسة أشهر، واعداد البيان الوزاري قرابة شهر.. الى أن وقع حدثان اعلاميان برزا خلال أسبوع واحد فحركا الوسط السياسي والإعلامي دفعة واحدة، الأول هو مشروع البيان الوزاري، والثاني هو الوثيقة السياسية التي أعلنها أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله مساء الاثنين الماضي.
وعلى الرغم من أن مشروع البيان الوزاري لم يحمل جديداً، لأنه حصيلة حوارات طويلة استغرقت عشرة اجتماعات للجنة وزارية مؤلفة من اثني عشر وزيراً يمثلون مختلف القوى السياسية الممثلة في الحكومة.. وأن وثيقة حزب الله حملت مشروعاً سياسياً جعلت منه حزباً سياسياً لبنانياً بامتياز، الا أن موضوعين كبيرين برزا من خلال كلا المشروعين، تركا تداعيات بالغة الأهمية في الاطار السياسي والفكري اللبناني، هما: الاستراتيجية الدفاعية، والغاء الطائفية السياسية.
واذا كان المكان الملائم لطرح ومناقشة الاستراتيجية الدفاعية هو طاولة الحوار الوطني في القصر الجمهوري، وأن الرئيس سليمان سوف يدعو اليها بعد نيل الحكومة الجديدة ثقة المجلس النيابي، وأنها سوف تضم مشاركين جدداً مقابل انسحاب آخرين في ضوء نتائج تمثيل القوى السياسية في المجلس النيابي.. فإن موضوع إلغاء الطائفية السياسية سوف تكون له مفاعيله وتداعياته حتى أمد غير معلوم.
يعود الفضل في طرح هذا المطلب الاصلاحي الى الحركة الإسلامية في لبنان مطلع سبعينات القرن الماضي، فقد كانت «الحركة الوطنية» بزعامة الحزب التقدمي الاشتراكي والتيارات اليسارية هي الناطق الرسمي باسم المعارضة اللبنانية.
وكانت الحركة الإسلامية (انطلاقاً من طرابلس) بدأت تطرح مطلب المشاركة، باعتبار أن رئيس الجمهورية كان يتمتع بموجب الدستور بصلاحيات واسعة، وكان رئيس مجلس الوزراء مجرد «باش كاتب» كما كان يصفه الرئيس الراحل سامي الصلح، وكان رئيس الجمهورية (دستورياً) يعيّن الوزراء ويختار من بينهم رئيساً، فيصبح رئيساً أول (premier ministere) حسب النموذج الفرنسي في دستور عام 1926.
وكان من حق رئيس الجمهورية اقالة الحكومة وحل المجلس النيابي وترؤس مجلس الوزراء وغير ذلك، وكان المطلب الشعبي الإسلامي هو «المشاركة»، بينما كان مطلب القوى اليسارية هو العلمنة، أو إلغاء الطائفية. وعندما بدأت الحركة الإسلامية تطرح مشروعها السياسي، لا سيما عند ترشيح المحامي محمد علي ضناوي لمقعد نيابي بطرابلس، طوّرت المطلب الاصلاحي الى «إلغاء الطائفية السياسية»، باعتبار أنها هي العقبة التي تحول دون تطوير النظام السياسي وادخال أية اصلاحات في مؤسسات الدولة.
ومنذ الوثيقة الدستورية الأولى عند توقف المرحلة الأولى من الحرب اللبنانية عام 1976، التي وقعها في دمشق الرئيس سليمان فرنجية والرئيس رشيد كرامي.. تأصل مطلب «إلغاء الطائفية السياسية» في أدبيات القوى السياسية اللبنانية، الى أن جرى اقرار اصلاحات دستورية في الطائف عام 1989، التي اعتمدها المجلس النيابي اللبناني بعد ذلك فأصبحت في 21/9/1990 «دستور الطائف»، وهو ينص في المادة 95 منه: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.. الخ.
نعود الى المسار اللبناني لإشكالية إلغاء الطائفية السياسية، فقد كانت هذه المادة من الدستور اللبناني معطلة برضى وقبول الجميع، مسلمين ومسيحيين، على اعتبار أن جميع القوى السياسية تستفيد من تكريسها، مع أن الجميع يشتكي منها ويدعو الى إلغائها.
لكن السجال حولها بدأه رئيس الجمهورية حين أشار اليها أول مرة في خطابه يوم 2 آب بمناسبة عيد الجيش، ومرة ثانية في ذكرى الاستقلال، ثم تناولها الرئيس نبيه بري فأشار اليها وطالب بتحقيقها خلال مؤتمر صحفي في القصر الجمهوري..
وأخيراً حين توقفت عندها وثيقة حزب الله، مما أثار زوبعة في الوسط المسيحي وجعل العماد ميشال عون يدعو حليفه نبيه بري الى سحبها من التداول، وذلك حرصاً على رصيده المسيحي الذي تلاشى الى حد كبير في الفترة الأخيرة، وكان هذا قبل أن يدرج السيد حسن نصر الله هذا المطلب في وثيقة الحزب.
وقد كان البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير قد أشار اليها قبل سفره الى الفاتيكان، وعندما رجع كان السؤال عنها جاهزاًَ أمامه في المطار، فكان الجواب التقليدي المعروف ان المطلوب هو إلغاء الطائفية السياسية من النفوس قبل النصوص.
ومن المسلّم به أن المطلوب إلغاؤها من النفوس والنصوص معاً، لكن هذا يحتاج الى آليات.
ففي الطائف تداول النواب هذا الموضوع ووصلوا الى الصيغة التي أصبحت نصاً دستورياً لا يمكن تجاوزه، خاصة أن المطلوب في النص الدستوري ليس إلغاء الطائفية السياسية وانما انشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية.
وهذه الآلية باتت ضرورية، لأن المشاعر الطائفية بدل أن تعالج لتذبل وتتلاشى، فقد تمددت وأنتجت مذهبية سياسية، تجاوزت الطائفية في مخاطرها، وباتت تحتاج ربما الى «طائف جديد» أو «دوحة ثانية» لمعالجة تداعياتها، خاصة في الأجواء المشحونة في العالمين العربي والإسلامي، من العراق الى أفغانستان وباكستان واليمن، فضلاً عن لبنان.. حيث باتت مبرراً لتحوّل النظام اللبناني من طائفي الى عشائري، وصولاً الى تعطيل الحياة السياسية اللبنانية، كما كاد يقع لولا أن تدارك الله البلد بتفاهم عربي اقليمي وتضافر مصالح دولية سرّعت في فتح الطريق أمام تشكيل الحكومة واجازة برنامجها الوزاري قريباً (ان شاء الله) في المجلس النيابي.
لقد كان لبنان عبر تاريخه القصير بلداً ديمقراطياً رغم توطن الطائفية فيه.
ولم يخطر في بال أحد أن النظام الطائفي يعطل الحياة الديمقراطية وصولاً الى ما سمي «نظاماً توافقياً»، في حين أنه تعطيلي بامتياز، لأنه يلغي الحياة السياسية ويعطل حكم الأغلبية أو ائتلافها، في مواجهة المعارضة أو المعارضات التي يمكن أن تتكتل في وجه الحكومة، فتعارض وتراقب وتسدّد المسار وصولاً الى اسقاط الحكومة أحياناً.
فكيف يمكن أن يستقيم الأمر في ظل النموذج القائم الآن وما أطلق عليه لقب التوافقي، في حين أنه أقرب الى المعطل أو العشائري!!
المصدر
- مقال:الطائفيّة السياسيّة.. بين التمهيد لإلغائها والحكم التوافقي القائمموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان