الإخوان المسلمون وحكومة حسين سري
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ حسين سري باشا
- ٣ حسن البنا وحكومة سري
- ٤ اضطهاد الإنجليز للإخوان
- ٥ اضطهاد حكومة سري للإخوان
- ٦ محاولة حل الإخوان
- ٧ جمعية "إخوان الحرية" لمناهضة الإخوان
- ٨ منع مؤتمرهم السادس
- ٩ نقل الإمام البنا لقنا
- ١٠ اعتقال البنا ورفاقه
- ١١ محاولة اغتيال الإمام البنا
- ١٢ محاكمة الإخوان
- ١٣ الإخوان وسري والنصيحة
- ١٤ المراجع
مقدمة
من المعروف أن الوزارات بمصر تعين من قبل الملك، وكثير منها كانت تعمل لصالح المستعمر الإنجليزي، ولذا لم يكن للشعب أية دور في اختيار الوزارة، بل كانت أشبه ما تفرض عليه سواء رضي أم لم يرض.
والإخوان ما هم إلا فصيل من نسيج المجتمع يعيش ويحيا بقضاياه، ولذا كانوا يمدحون الوزارة إذا حسنت، وكانوا يقومونها إذا أساءت للشعب وقضاياه، بل كانوا يقدمون النصح لها إذا وجدوا منها رشدا لتقبل النصيحة.
حسين سري باشا
بعد وفاة حسن صبري باشا وقع اختيار الإنجليز على حسين سري باشا ليتولى مكانه في هذه الفترة الحرجة والتي كانت ألمانيا متغلبة فيها على دول الحلفاء وكانت تهدد النفوذ الإنجليزي في مصر ومن ثم كان لابد أن يحمي ظهرها رجل قوي موالي لها، فجاء اختيار حسين سري ليوافق هوى الإنجليز والملك. وحسين سري هو نجل إسماعيل سرى ناظر الأشغال السابق، تخرج من المدرسة السعيدية عام ١٩١٠م، ثم حصل على دبلوم الهندسة من مدرسة السنترال بباريس، وتخصص في شئون الري.
تقلد منصب مدير عام مصلحة المساحة أول يونيه ١٩٢٧، وتولى مهام منصب رئيس الوزراء لأول مرة ووزير الداخلية والخارجية في وزارته الأولى (١٥ نوفمبر ١٩٤٠- ٣١ يوليو ١٩٤١)، ثم شكّل وزارته الثانية وتولى فيها منصب وزير الداخلية (٣١ يوليو ١٩٤١- ٤ فبراير ١٩٤٢)، واستقال عام ١٩٤٢، بسبب وقوف الوفد والقصر ضده قبل حادث ٤ فبراير ١٩٤٢.
ثم تولى رئاسة الوزارة للمرة الثالثة (٢٥ يوليو ١٩٤٩- ٣ نوفمبر ١٩٤٩)، وكانت وزارته ائتلافية تمثل جميع الأحزاب الرئيسية، وانتهى في عهد هذه الوزارة أجل المحاكم المختلطة، وانتقلت سلطتها إلى المحاكم الوطنية في ١٥ أكتوبر ١٩٤٩، شكّل بعد ذلك وزارته الرابعة (٣ نوفمبر ١٩٤٩-١٢ يناير ١٩٥٠)، وفى عهد هذه الوزارة حقق الوفد انتصارا كبيراً في الانتخابات العامة لمجلس النواب عام ١٩٥٠.
تبوأ منصب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية والحربية والبحرية في وزارته الخامسة (٢- ٢٢ يوليو ١٩٥٢)، وكان من أهم حوادث وزارته حلّ مجلس إدارة نادي ضباط الجيش الذي كان تم انتخابه برئاسة اللواء محمد نجيب، بسبب تدخل الملك، فاستقال اللواء محمد نجيب، وحاول رئيس الوزراء معالجة الموقف بأن طلب من الملك تعيين محمد نجيب وزيراً للحربية، ورفض القصر طلبه، فتقدم باستقالته من الوزارة في اليوم السابق لثورة ٢٣ يوليو، توفي حسين سري عام ١٩٥٤م(1).
حسن البنا وحكومة سري
نظر الإمام البنا إلى حكومة حسين سري، على أنها وزارة جاءت على حساب الشعب ومقدراته، ومتطلباته التي ينشدها وهي الاستقلال عن المحتل الإنجليزي ونيل الحرية، ولذا نجد الإمام البنا يشن هجوما على حكومة سري، مظهرا للمجتمع حقيقة هذه الحكومة، فيقول:
وجاءت وزارة حسين سري باشا واشتد ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية، لتقضى على نشاط الإخوان المسلمين، وتحل جماعتهم وتحارب دعوتهم وذلك بعد أن يئسوا من أن يكسبوا هذه الجماعة إلى صفهم بالوعد والوعيد، والإغراء والتهديد، مما تعلمون الكثير منه وليس هذا موضع الإفاضة فيه وسأوفيه حقه من الشرح والبيان فى مذكرات الدعوة والداعية -إن شاء الله.
والمهم أن ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية فى وزارة سرى باشا كان من نتائجه أن تعطلت اجتماعات الإخوان، وتوقفت نشاطهم، وروقبت دورهم، وغلقت صحفهم ومجلاتهم، ومنعت الجرائد جميعًا من أن تذكر اسمهم فى أية مناسبة، أو تشير إليهم بكلمة، وأغلقت مطبعتهم، وأذكر أن رقيب المطبوعات المستر فيرنس منع طبع رسالة المأثورات منعًا باتًا فلجأنا إلى أحد المسئولين إليه الأمر.
وقلنا: هذه آيات وأحاديث يقرأها الناس فى القرآن الكريم صباحًا ومساء، ويطالعونها فى كتب السنة متى شاءوا وكيفما أرادوا، فكيف تجيزون لأنفسكم هذا المنع وبم تبررونه؟ وانتهى الموقف بعد أخذ ورد، بأن سمح بالطبع، ولكن بشرط أن تمحى جملة "من رسائل الإخوان المسلمين" من العنوان الجانبى للرسالة، وإلا فهى ممنوعة فاضطررنا أمام هذا التحكم إلى سترها بأن طبعنا فوقها حلية جميلة تشف عما وراءها من هذا التصرف العجيب، وضاعف الإنجليز ضغطهم، وضاعفت الحكومة شدتها، فكان أول نزيل لمعتقل الزيتون الأستاذ عابدين السكرتير العام حتى قضى فيه ستة أشهر أو تزيد، وذلك المرشد والوكيل بعد نقل وتشريد ووعيد وتهديد، ومن الإنصاف أن نقول:
إن فضل هذا الضغط كان على الدعوة عظيمًا ورب ضارة نافعة، والذهب الإبريز يصفو على السبك، وكم من منحة فى طى محنة، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وكانت الملاحظة الواضحة الجلية أن المنفذ الوحيد للرأى، وأن المنبر الذي كانت تعلن فيه شكاية أهل الحق فى ذلك الوقت منبر مجلس النواب الذي كانت الصحف لا تجرؤ حينذاك على التوقف عن نشر مضابطه، فكان ما ينشر من مناقشات المجلس هو البصيص الوحيد من النور الذي ينير الظلام أمام المكبوتين المضطهدين.
وهذا هو الذي حذا بالمؤتمر السادس للإخوان -المنعقد فى يناير 1941- أن يصدر قرارًا خلاصته "الأذن لمكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالتقدم بالأكفاء من الإخوان إلى الهيئات النيابية المختلفة، ليرفعوا صوت الدعوة، وليعلنوا كلمة الجماعة فيما بهم الدين والوطن" وكان هذا أول توجه من الإخوان المسلمين إلى اقتحام ميدان الانتخابات.(2)
اضطهاد الإنجليز للإخوان
لم ينسجم الإنجليز يوما ما مع الإخوان أبدا لاختلاف منهجهم، ولنظرة الإخوان للانجليز لكونهم عدو مستعمر يستنزف مقدرات البلاد، ويستعبد شعبها، ولذا لن تلتق وجهات النظر بينهم في أية نقطة..كما لم يغمض عين الإخوان عن العمل لتحرير الأوطان من هذا المستعمر..ومن ثم كان لابد للإنجليز من التخلص من هذه القوة الناشئة التي تهدد عرشه في الشرق الوسط.
وضعت بريطانيا كل سبل العراقيل في مواجهة الإخوان، وحاولوا إن يحيلوا بينهم وبين الشعب حتى لا تظهر يقظة شعبية تأتي علي حساب الإنجليز..ومن ثم عمدوا إلى تشويه هذه القوة الناشئة بشتى الوسائل.
بعد عقد المؤتمر الخامس عام 1939م ظهرت قوة الإخوان كأكبر جماعة إسلامية منظمة في مصر، وعندما قامت الحرب العالمية الثانية كان موقف بريطانيا وحلفائها في بداية الحرب ضعيفًا أمام دول المحور؛ فأعلنت أنها تحارب من أجل الديمقراطية ضد النازية والفاشية والديكتاتورية؛
ولذا فقد أغرت الكثير من الزعماء السياسيين في مختلف الدول بوسائل شتى من أجل تأييد الحلفاء ضد المحور، غير إن قرار علي ماهر بتحييد مصر في الحرب كان صادما لبريطانيا، مما دفعها للضغط على الملك بإقالة وزارة علي ماهر، واختيار شخصية تلقى قبول بريطاني فعين حسن صبري باشا، غبر انه لم يعمر كثير في الوزارة وعاجلته المنية، فوقع اختيار الإنجليز على حسين سري، لكنه أيضا أكد على تحييد موقف مصر من الحرب.
حرصت بريطانيا في تلك الفترة على كسب الإخوان بأي وسيلة أو تحجيمهم واضطهادهم حتى لا يستطيعوا تحريك الشعب ضدهم، خاصة أن هناك تعاطف مع المحور للتخلص من الاستعمار من قبل الملك فاروق والشعب؛ فتمت عدة محاولات لاختراق الإخوان وشرائهم بالمال، ولكنها باءت جميعها بالفشل؛ فتحولوا إلى لغة التهديد والاضطهاد.
ففي عام 1939م حاول الإنجليز شراء الإخوان بالمال وذهب لهم المستشرق البريطاني هيورث دان -أحد أقطاب المخابرات البريطانية في مصر- وحاول شراء الإخوان بالمال غير أن الإمام البنا رد قائلا:
ستجد التعاون معي هو أصعب الطرق على بريطانيا؛ لأني لا أستطيع إلا المكاشفة، فقال كلايتون: وأنا أتعهد بالعمل لذلك، وليكن برهان صدقي على ما التزمت به أن أعرض عليكم كل ما أستطيع أن أقدمه لتقوية جماعتكم لإعطائها الفرصة للانتشار والقوة.
فقال له الإمام البنا: كيف ذلك؟ قال: أنتم جماعة مجاهدة، لو وجدت وسائل مستحدثة لحققت للإسلام أضعاف ما تحققه الآن، فبدلا من جريدتكم المتواضعة يكون لكم جريدة يومية، وسأضع تحت تصرفكم ما تشاءون من المال ومن أجهزة الطباعة وتجهيز المكاتب التي تصلح للجريدة.
قال له الإمام البنا: ثم ماذا يا مستر كلايتون؟ قال: إن المركز العام الحالي لا يليق بمكانة الجماعة، فيجب أن يكون لكم مركز رئيسي في حي كبير من أحياء القاهرة مهيأ بأحدث الوسائل، كما يجب أن يكون تحت تصرفكم وسائل انتقال سريعة تساعدكم في السفر لكافة الأقاليم؛ خاصة أن للجماعة فروعًا منتشرة من الإسكندرية إلى أسوان، بالإضافة إلى توفير المال اللازم لخدمة أغراضكم الإسلامية، ولا بأس أن نبدأ بدفعة أولى خمسين ألف جنيه أو مائة ألف، ويتوالى الأمر بعد ذلك كل شهرين أو ثلاثة أو أربعة نزيدها أو نقدم مثلها.
وعندها قال الإمام البنا:
- يؤسفنى يا مستر كلايتون أن أقول لك: إننا الآن في أشد درجات الافتراق؛ فالإخوان المسلمون هم أغنى هيئة على وجه الأرض، وعندهم من الثروة ما يزيد على ما هو مرصود في خزائن الإمبراطورية البريطانية؛ لذا فهم في غنى عن كل ما قدمت.
إن الرجل من الإخوان يدفع اشتراكًا في الدعوة خمسة قروش في الشهر، وأيسر الإخوان حالا قد يدفع جنيهًا، هذا في الظروف العادية، أما عند الحاجة فالرجل من الإخوان لا يملك إلا أن يقدم نفسه وماله وبيته للدعوة؛ لذا فنحن لسنا في حاجة إلى أن نملأ هذه الخزائن الحديدية؛ لأن خزائننا هي قلوب الإخوان؛ ولهذا فلو شئت سأجمع من هؤلاء الرجال مئات الآلاف في أقل من أسبوع، فنحن لسنا كأي هيئة لقيتها من قبل.(3)
اضطهاد حكومة سري للإخوان
حكومة حسين سري باشا من حكومات الأقلية التي جاءت على غير رغبة شعبية، كما جاءت إرضاء للمستعمر، وتعتبر هي أول حكومة تتخذ إجراءات متعسفة ضد الإخوان؛ فقد كانت تلك الحكومة أول الحكومات التي صادرت صحف الإخوان، ومنعت نشر أخبارهم، كما قامت بمحاولة منع انعقاد المؤتمر السادس، كما أصدرت قرارا بنقل الإمام البنا إلى قنا، فلما فشلت تلك الوسيلة عمدوا إلى وسيلة أخرى وهى اعتقال الإمام البنا.
محاولة حل الإخوان
حين يئس الإنجليز من احتواء الإمام البنا وجماعته سواء بالشدة أو الإغراء -وذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية- فكر الإنجليز في حل جماعة الإخوان المسلمين، وطالبوا حسين سري باشا بذلك، وكانت المرة الأولى التي يطالب فيها الإنجليز بهذا الطلب؛ وكانوا ينتظرون الفرصة لذلك.
وقد حدث أن أراد الإخوان عمل احتفال في السيدة زينب بالقاهرة فأعدوا لذلك سرادقًا كبيرًا حضره كثير من الإخوان عام 1941م الأمر الذي أزعج السفارة البريطانية في وقت كان الإنجليز يعانون من الهزائم المتوالية أمام الألمان، فقدمت السفارة البريطانية احتجاجًا لدولة سرى باشا لتهاونه في السماح للإخوان بمزاولة نشاطهم العدائي للإنجليز وتهديدهم لسلامة الإمبراطورية البريطانية، وطلبت منه حل هذه الجمعية، ولكن سرى باشا رفض ذلك -حيث إن الأمر لا يستدعي حلها.(4)
جمعية "إخوان الحرية" لمناهضة الإخوان
ذكرت جريدة الجمهور المصري:
- إنه فى بداية الحرب كانت بريطانيا فى طريقها إلى الزوال، إلا أن البريطانيين مع ذلك كانوا يتشبثون بأوهى خيوط الأمل، وكانوا يحاولون جاهدين أن يستميلوا إليهم شعوب الشرق الأوسط الذى كان بالنسبة لهم ميدان صراع يائس ضد الطليان والألمان، وكانت مصر كلها تغلى حقدًا على الإنجليز.
فى هذه الأثناء بحثت المخابرات البريطانية عن وسيلة تجذب إليها الناس وتضرب بها جمعية الإخوان المسلمين ومرشدها حسن البنا، فأخذ الجاسوس فاى يفكر حتى وصل إلى الطريقة التى يستميل بها السذج وذوى النيات الحسنة من المصريين؛ وهى التفكير فى تأليف جمعية مصرية الاسم والمظهر، وبريطانية فى كل ما عدا ذلك، فكانت جمعية إخوان الحرية.(5)
تأسست هذه الجمعية بمصر في عام 1942م، وسرعان ما فتحت لها فروعًا في العراق وعدن، وكان مستر فاى المراقب العام لإخوان الحرية بمصر، ويعد الهدف الرئيسي للجمعية التي أنشئت من أجله هو تضليل الناس بقصد إبعادهم عن الإخوان المسلمين ومفاهيم الإسلام، وإظهار الاستعمار بصورة حسنة؛ وذلك بنشر الأكاذيب والادعاءات ضد الإخوان كي يوقفوا زحفهم ويعطلوا سيرهم، غير أن الإخوان المسلمين فضحوا مخطط هذه الجمعية إمام الرأي العام، مما اضطرها للتوقف بعد فترة من الوقت...وكان نشأة هذه الجمعية بعلم من رئيس الوزراء حسين سري.
منع مؤتمرهم السادس
لم يقتصر الأمر على ذلك بل وصل الأمر لمنع المؤتمر السادس من الانعقاد والذي كان مقررا له يوم الخميس 11 من شهر ذي الحجة سنة 1359هـ الموافق 9 يناير 1941م، فقد تقدم الإخوان طبقًا لقانون الأحكام العرفية بطلب للحاكم العسكري – حسين سري باشا- بالتصريح لهم لعقد مؤتمرهم في سراي آل لطف الله بالجزيرة التي عقد بها المؤتمر الخامس فلم يوافق على ذلك، نظرًا للحشد الكبير الذي يحضر المؤتمر العام من الإخوان المسلمين من كافة أنحاء القطر المصري، حيث تخوف رئيس الحكومة حسين سري من هذا المؤتمر فى ظل تلك الأجواء؛ خاصة أن الشارع المصري كان معبأ ضد الإنجليز بسبب سياستهم القمعية ضد الشعب.
بناءا على هذه المستجدات والتحفظات طلب الإخوان منه عقد المؤتمر بالأزهر الشريف لكنه رفض ذلك أيضًا، فطلبوا عقده بدار الشبان المسلمين بالقاهرة فلم يوافق، وأدرك الإخوان أن النية مبيَّتة لعدم السماح بعقد المؤتمر.(6)
واصل الإخوان اتصالاتهم بالحكومة لعقد المؤتمر، وتدخلت كثير من الشخصيات الوطنية المحبة للإخوان لدى الحكومة لإقناعها بعقد المؤتمر، حتى فقد الإخوان الأمل في عقده ، وفى آخر لحظة استطاع الوسطاء إقناع الحكومة بإعطاء ترخيص للإخوان بعقد المؤتمر، بشرط ألا يحضر من كل شعبة أكثر من اثنين وأن يعقد المؤتمر بدار الإخوان، وكانت دار الإخوان بالحلمية لا تتسع لأكثر من ألفى شخص، لكن الإخوان وافقوا على ذلك منعًا للصدام مع الحكومة.
وقد جاء في كلمة الإمام البنا:
- «الإخوان يعملون لغايتين؛ قريبة وهى المساهمة في الخير العام أيًّا كان لونه ونوعه والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف، وغاية وهدف الإخوان الأسمى هو إصلاح شامل كامل، تتعاون عليه قوى الأمة جميعًا، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل».(7)
نقل الإمام البنا لقنا
لم تقتصر العلاقة بين الإخوان وحكومة سري على ما سبق بل قامت الحكومة متمثلة في وزارة المعارف والتي كان على رأسها محمد حسين هيكل باشا بنقل الإمام البنا إلى قنا تلبية لأوامر الإنجليز.
ففي 19مايو من عام 1941م أوعز الإنجليز لرئيس الوزراء والحاكم العسكري حسين سري باشا بنقل الإمام الشهيد إلى قنا فأصدر أمره إلى وزير المعارف محمد حسين هيكل بنقل الإمام الشهيد إلى قنا فاستجاب لذلك، وقد اعترف الدكتور هيكل في كتابه مذكرات في السياسة المصرية بأن نقل الأستاذ البنا كان بناء على طلب الإنجليز
ولما لم يجد قرار النقل في تقييد حركة الإمام الشهيد وتعويق حركة الجماعة رضخ حسين سري لضغوط نواب أحزاب الائتلاف بعد أن قدم الأستاذ محمد عبد الرحمن نصير استجوابًا لوزير المعارف، وأعاد البنا للقاهرة، وتعجب بقوله: إن نقل حسن البنا كان بناء على دوافع خارجية لا تمت بأدنى صلة إلى مصلحة التعليم.
وأضاف:
- "أدى قرار نقل الشيخ حسن البنا إلى قنا ما لم يؤدِّ إليه نقل مدرس غيره؛ إذ جاء غير واحد من النواب الدستوريين يطالب بإعادته إلى القاهرة، وخاطبني فى ذلك عبد العزيز فهمي باشا رئيس الحزب، فذكرت له أن حسين سري هو الذي طلب إلىَّ نقل الشيخ حسن البنا بحجة أن نشاطه سياسي، وأن النشاط السياسي محرم على رجال التعليم، كما أنني لا أمانع في عودته إلى القاهرة إذا أبدى سرى عدم اعتراضه".(8)
وقد ثار الرأي العام لنفى الإمام البنا إلى قنا وقامت المدن والقرى والهيئات المختلفة بإرسال البرقيات إلى الديوان الملكي للمطالبة برفع الظلم وعودة الإمام البنا إلى عمله بالقاهرة، ، وهنا فقط أعيد الإمام الشهيد إلى القاهرة مرة أخرى في يوليو 1941م.
ولقد استطاع الإمام البنا خلال تلك الفترة البسيطة نشر فكر ومنهج الإخوان المسلمين في الصعيد حيث تواجد وسط إخوان الصعيد هذه الفترة.
اعتقال البنا ورفاقه
لم يكد الإمام البنا يرجع للقاهرة مرة أخرى بعد استبعاده حتى فوجئ بقرار اعتقال ينتظره بناء على أوامر من الإنجليز صدرت لسري باشا، ولم يكن وحده بل صدر القرار مصحوبا بقار اعتقال السكري وعابدين وذلك في 14 أكتوبر من عام 1941م وإن كان الأستاذ عبد الحكيم عابدين كان قد اعتقل قبله بفترة بسيطة وخرج بعده أيضا بفترة، وكان الإنجليز يهدفون من ذلك إلى عرقلة مسيرة هذه الجماعة الفتية في ظل الضربات التي كان يوجهها الألمان للانجليز في كل مكان.
كان الاعتقال على خلفية المؤتمر الذي عقده الإخوان في دمنهور في 3/ 10/ 1941م وهاجم فيه الإمام البنا السياسة البريطانية، وبناء على ذلك رفع مأمور بندر دمنهور مذكرة لسري باشا فتم اعتقال الإمام البنا ووضع في معتقل الزيتون، وقد أقام الأستاذ البنا والسكري وعبد الحكيم عابدين في نفس الغرفة، ولقد انشغل الإمام البنا داخل المعتقل بالعبادة ومراجعة القرآن الكريم، كما انشغل بمتابعة أمور الدعوة بالخارج.
وخلال فترة اعتقال الإمام البنا وصاحبيه حرك الإخوان المظاهرات للضغط على الحكومة لكي تفرج عن المرشد وزميليه، ومن ذلك ما قام به طلاب الإخوان من عمل اعتصام وهتفوا ضد الظلم والطغيان وذلك بعد صلاة الجمعة بمسجد السلطان حسن.
كما قام الإخوان في كل مكان بإرسال البرقيات إلى الديوان الملكي لرفعها للملك يلتمسون فيها الإفراج عن الإمام البنا وصاحبيه.(9)
يقول الدكتور زكريا بيومي:
- "وقد حدثت مصادمات بين البوليس وطلاب الإخوان بالقاهرة في 12نوفمبر بسبب إصرار الطلاب على عقد مؤتمر للمطالبة بالإفراج عن الإمام البنا، إلا أن البوليس منع ذلك بالقوة".(10)
ولقد شاركت الهيئات الإخوان في الضغط على الحكومة من اجل الإفراج عن الإمام البنا، وأمام هذا الضغط وخوف الحكومة من انتقال الأمر مرة ثانية إلى البرلمان أرسلت حامد بك جودة سكرتير حزب السعديين إلى الإمام البنا في المعتقل للتفاوض معه على خروجه وحده وإبقاء صاحبيه كحل وسط، ولكن الإمام البنا رفض أن يخرج إلا بعد أن يخرجا أولاً، ورد عليه كما يذكر الأستاذ جمعة أمين بقوله:
- "يا أستاذ حامد لست ممن يريد أن يصطنع من المعتقلات مواقف بطولية، ولكن إذا كان التحمس لهذه الدعوة جريمة فأنا المجرم الأول، وإن كانت مؤامرة فأنا رأس المؤامرة، وإن كان اعتداء على النظام فأنا أول المعتدين، فأي حكمة لكم، وأي سياسة تلك التي تجعلكم تمنحونني الحرية وتتركونهم.
فقال له حامد جودة:
- "إن حسين سري ما كان ليقبل الإفراج عنك إلا بعد أن هددنا بالاستقالة فلا تخذلني"، فقال له الإمام البنا: آسف أن أقول لك: إنني أدرس كتاب كليلة ودمنة للتلاميذ بالمدارس، وأدرس فيه قصة الحمامة المطوقة المعروفة، التي أبت أن تخرج من الشبكة إلا مع آخر حمامة أسيرة معها بمساعدة الفأر الذي عرض عليها أن يخرجها أولا فتكون مساعدة له في إخراج باقي زميلاتها، لكنها تيقنت أنه بمجرد أن يقرض الشبكة من عندها ويحررها ستفتر همته وربما يترك الباقين، أما وهى حبيسة فلن يهدأ إلا بعد أن يخرجها، ثم قال له: أأعلمُ التلاميذ هذا الوفاء وأفعل غيره؟! والله لا يكون".
وفي 13 نوفمبر من نفس العام صدر قرار بالإفراج عن الإمام البنا والسكري وإبقاء عابدين فرفض الإمام البنا لكنه وافق بعدما اخذ وعد بالإفراج عنه في اقرب فرصة وأيضا بعد ضغط الإخوان عليه بالقبول.(11)
محاولة اغتيال الإمام البنا
لم يكتف الإنجليز بما قاموا به في ظل هذه الظروف العصيبة التي تعيشها الإمبراطورية البريطانية، بل بلغ تفكيرهم حد التفكير في اغتيال الإمام البنا بعد أن أعيتهم الحيل في كسبه إلى صفوفهم أو ردعه وجماعته، ومن ثم جهزوا العدة لاغتياله عن طريق دهسه بعربة تابعة للجيش الإنجليزي على أن يصور الحادث على أنه قضاء وقدر، إلا أن المؤامرة تم اكتشافها وقام الإخوان بنشرها للرأي العام مما أفزع الإنجليز وأحجمهم على الإقدام على تنفيذ هذا المخطط بعد كشف المؤامرة خاصة في ظل الهزائم المتتالية لهم أمام الألمان.(12)
ولقد استشعر الإمام البنا بهذه المخاوف، فغرس في أتباعه القدرة على تحمل هذه الصعوبات التي ستواجه الدعوة فقال في رسالة المؤتمر الخامس:
- " أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولةً عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميَها، ستلقون منهم خصومةً شديدةً وعداوةً قاسيةً، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقَّات، وسيعترضكم كثيرٌ من العقبات، وفي هذا الوقت وحدَه تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، تمهِّدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلَّبه من كفاح وجهاد.. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبةً في طريقكم، وستجدون من أهل التديُّن ومن العلماء الرسميين مَن يستغرب فهمَكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقِد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كلُّ الحكومات على السواء، وستحاول كلُّ حكومة أن تحدَّ من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم".(13)
محاكمة الإخوان
زادت شراسة الإنجليز ضد الإخوان فبعد كل ما قاموا به وجدوا أن الدعوة قد ازدادت قوية وزاد عدد أنصارها سواء وسط طلبة الجامعة أو وسط ربوع الشعب ومن ثم كان لابد من عمل شئ ينفر الناس من هذه الدعوة فوجدوا بغيتهم أثناء تقدم روميل بأن قاموا باتهام الأخَوَيْنِ:
محمد عبد السلام فهمي وكان مهندسًا في مصلحة الطرق والكباري بطنطا، وجمال الدين فكيه وكان موظفًا ببلدية طنطا؛ عن طريق المجلس البريطاني" بطنطا بتهمة إعداد جيش للترحيب بمقدم روميل، وإحداث بلبلة وسط المجتمع، وأنهما الوسيطان بين الإمام البنا ومجموعة أفراد عرَضَت على الأستاذ البنا شخصيًّا أنواعًا من السلاح والعتاد الألماني، وقد اعترف الأفراد المقبوض عليهم من غير الإخوان بذلك كما خطط الإنجليز، فقبض على الأخوين وقدِّما للمحاكمة العسكرية وسُمِّيت القضية "الجناية العسكرية العليا 883 لسنة 1942م قسم الجمرك، وُنْظِرَت القضية أمام محكمة الجنايات العسكرية العليا بباب الخلق.
ولقد اهتمَّ الإمام البنا بهذه القضية؛ لأنه لو ثبت صحتها فسيؤدي الأمر إلى حلِّ الجماعة ومحاكمة أعضائها جميعًا أمام القضاء العسكري، فكلَّف مجموعةً من الإخوان بحضور الجلسات وكتابة كل ما يحدث في الجلسة، ووكل الإمام البنا كلا من الأستاذ محمد علي علوبة باشا، والدكتور علي بدوي، والأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني وغيرهم للدفاع عن الأخوين.
وقد استطاعوا أن يشكِّكوا في مصداقية المحاكمة، فبعد مراجعة المدعي ثانيةً وتهديده بالمواجهة مع المدعَى عليه كذب نفسه وتراجَع في اعترافه، وذكر أن ذلك لم يحدث، وبعد المداولة خرجت هيئة المحكمة وكانت مكوَّنةً من 5 أعضاء برئاسة المستشار فؤاد بك أنور، وعضوية المستشارَين محمد توفيق إبراهيم بك، وزكي أبو الخير الأبوتجي بك، ومعهم اثنان من العسكريِّين، ونطق رئيس المحكمة بالأحكام، وفي صدرها براءة الأخوَين: جمال الدين فكيه ومحمد عبد السلام.(14)
ولقد علق الأستاذ فهمي أبو غدير المحامي على هذه القضية في رسالة "قضيتنا" عندما فنَّد الأسباب التي استند إليها النقراشي باشا في حلِّ الجماعة؛ حيث قال: أولاً الجناية العسكرية العليا رقم 883 لسنة 1942م قسم الجمرك، وقد كان موضوع الاتهام فيها الدعاية للمحور، وشاء ذوو الأغراض أن يقحموا فيها الإخوان المسلمين.
وادَّعى أحد المتهمين بأنه عرض على الأستاذ البنا شخصيًّا أنواعًا من السلاح والعتاد الألماني، وأن الأستاذ البنا سُرَّ بذلك ورحَّب بالحصول على هذه الأسلحة، وأن الوسيط في ذلك أخَوَان من إخوان طنطا، وقد قبض عليهما فعلاً وقَضَيا في السجن ثمانية أشهر ونصف.. وماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟!(15)
الإخوان وسري والنصيحة
لم تكن العلاقة بين الإخوان وسري قائمة على الاضطهاد فحسب بل تعدت إلى النصح الذي كان يقوم به الإخوان مع كل الوزارات، غير ما قاموا به من التصدي للفساد.
فقد قاد الإخوان حملة مع بعض المخلصين من أبناء الوطن من أجل إلغاء الميسر بأنواعه، وعلى رأسه سباق الخيل، مما دفع النائب عبد المجيد الرمالي بسؤال لرئيس الوزراء حسين سري مطالبًا إياه بإصدار أمر عسكري بإغلاق جميع المكاتب الفرعية الخاصة بالرهان على سباق الخيل رعاية للأخلاق، ومنعًا لجرائم السرقة وخيانة الأمانة، وأعلن رئيس الوزراء في رده أن الحكومة ألغت مكاتب المراهنات البالغة 52 مكتبًا إلا خمسة منها ثلاثة بالقاهرة واثنان بالإسكندرية لتفادي انتشار المراهنات الخفية حتى يعدل القانون رقم 10لسنة 1922 في وقت قريب، لكن يبدو أن شيئًا من ذلك لم يتم فعلاً.(16)
مع تدافع الأحداث، ووصول الألمان إلى العلميين وإحراجهم لموقف بريطانيا التي أعدت العدة لإغراق دلتا مثر في وجه الألمان لوقف تقدمهم وقت انساب الإنجليز من مصر، في هذا الجو ضغط الإنجليز على الملك فاروق لإيجاد من ينفذ سياستهم ويحترم معاهدة 1936م التي تم الاتفاق عليها، ولذا كانت عينه تقع على وزارة النحاس باشا والوفد والتي جاءت على أسنة الرماح بعد حصار الدبابات لقصر عابدين، وإجبار الملك على إسناد الوزارة للنحاس باشا.
المراجع
- موقع ويكيبيديا.. الموسوعة الحرة
- الإخوان المسلمون اليومية، العدد (719)، السنة الثالثة، 2ذو القعدة 1367ه- 5 سبتمبر 1948م، ص(7، 10)
- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، الجزء الأول، دار الدعوة، 1999م.
- روز اليوسف – السنة 23 – العدد 1035 – صـ14 – 4 جمادى الآخرة 1367هـ / 13 أبريل 1948م.
- جريدة الجمهور المصرى – العدد 57 – صـ3 – 8 جمادى الأولى 1371هـ / 4 فبراير 1952م.
- محمد العدوي: (حقائق وأسرار الإخوان المسلمون) – صـ19، 20.
- رسالة المؤتمر السادس: مجموعة رسائل الإمام البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
- محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية، الجزء الثاني، دار المعارف، صـ 177.
- جمعة أمين عبد العزيز: (أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين)- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الكتاب الرابع- 2004م.
- زكريا سليمان بيومي: الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية فى الحياة السياسية المصرية – مكتبة وهبة - القاهرة – الطبعة الثانية – 1412هـ/ 1991م.
- جمعة أمين عبدالعزيز: مرجع سابق.
- جمعة أمين عبدالعزيز: مرجع سابق..نقلا عن مذكرات عبدالحكيم عابدين..مذكرات غير منشورة.
- رسالة المؤتمر الخامس: مجموعة رسائل الإمام البنا. مرجع سابق.
- محمود عبد الحليم: (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ)، دار الدعوة، جـ1 ، 1998م، صـ216.
- رسالة قضيتنا: تعليق الأستاذ فهمي أبو غدير المحامي، والتي أخرجها في كتيِّب عام 1398ه الموافق 1978م.
- مضبطة مجلس النواب، الجلسة الثالثة، 12ذو القعدة 1360ه/ أول سبتمبر 1941م، ص(617).