الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب
بقلم : د. فريد الأنصاري
الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب
انحراف استصنامي في التصور والممارسة
حقائق تاريخية ومقولات نقدية تنشر لأول مرة !
منشورات رسالة القرآن رقم . 2
إهداء ... بل سلام !
أما هذه الورقات فهي لكم أنتم !
إنني أشاهدكم وأنتم تولدون من رحم المستقبل القريب ..!
عبر مخاض هذا الزمن العصيب !
إنني أشاهدكم كأجلي ما تكون المشاهدة وأحلي !
من عالم القرآن تخرجون ..
وبمنازل الصديقين تسلكون ..
الربانية وصفكم الجامع
والعلم حدكم المانع
إذا نطقتم فبحكمة ,
وإذا سكتم فعن فتنة !
توزعون رغيف العلم على الفقراء ,
وترفعون ألوية القوة والسلام ...
نعم سادتي ... أنتم الأولياء حقا !
فعليكم من الله السلام !
محبكم فريد الأنصاري
مدخل قرآني
قال الله جل علاه
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم , قالوا يا موسي اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة ! قال إنكم قوم تجهلون , إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون 1) ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة !)
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادى له . وأشهد أن لا إله إلا الله , وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , بلغ الرسالة , وأدى الأمانة , ونصح الأمة , وجاهد في الله حق جهاده , حتى أتاه اليقين .
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالي , وخير الهدى هدى محمد صلي الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد ,
فهذه رسالة في نقد العمل الإسلامي بالمغرب , وليست في نقضه نصدرها اليوم بهدف الإسهام في الإصلاح الضروري لمنهجه , ومحاولة التقويم الداخلي لما اعوج من خطوه , ورد ما انحرف من قوله وفعله , غير ناقضين لأصله , ولا منكرين لفضله . ذلك أن النقد للدعوة الإسلامية ضروري كضرورة النار لتصفية الذهب , وكضرورة الجراحة لعلاج المريض , ومن قبل كتب ابن الجوزى – رحمه الله – في نقد العلم والعلماء كتابه الرائد " تلبيس إبليس " وصنف بعده الإمام شمس الدين الذهبي كتابه النافع :" زغل العلم والطلب " في نقد مذاهب الفقه والفقهاء . ثم صنف الشيخ الإمام أحمد زروق القاسي – محتسب الصوفية – رسالته اللطيفة :" عدة المريد الصادق " في نقد شطحات التصوف وبدع الصوفية , وكشف أخطائهم التربوية , وإنما هو منهم بل من أجل شيوخهم , وبذلك لقب بـ " محتسبهم " ومثل هذا وذاك في التراث الإسلامي كثير .
وضرورة النقد للعمل الإسلامي اليوم أكد وأشد , خاصة والزمن زمن فتن ! ما مر مثلها قط في التاريخ الإسلامي ! لا تصيب عوام الناس فحسب , وإنما تصيب العاملين في الصف الإسلامي أيضا , أفرادا وجماعات ! وكأنها مقدمات قريبة وممهدات رهيبة لما وصف النبي – صلي الله عليه وسلم – من فتن آخر الزمان , وذلك عندما قال في بيانه العجيب : " بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ! يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا , أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا ّ يبيع دينه بعرض من الدنيا ) ( وقد أحاطت بالعمل الإسلامي من ذلك أدخنة وأمواج , شطت به ذات اليمين وذات الشمال , فكثر المتساقطون من صفه فكرا وممارسة , وانحراف السير كلية ببعض أجنحته وجماعاته , بسبب ما اعتراه من مرض " الاستضنام " وهو داء عضال يصيب القلب , ثم يضخه مع الدم في الشرايين حتى يستشري في الجسد كله !
كما سيأتي بيانه بحول الله , وإنما المحفوظ من حفظه الله .
لقد أتي على الحركة الإسلامية بالمغرب حين من الدهر كادت أن تكون هي المتنفس الوحيد للشباب المتدين , خاصة في مرحلة السبعينات والثمانينيات من القرن الميلادي الماضي , إبان تغول التيارات الماركسية الإلحادية المتطرفة , وتأسيس " دولة " صغري داخل الدولة بالجامعات المغربية ! في إطار نقابتهم الطلابية آنئذ " الاتحاد الوطني لطلبة المغرب " المختصرة في لفظ : ( أوطم) حيث كان الإلحاد موضة العصر الثقافية وخلفيته النضالية , فكان هو دين الدويلة الأوطمية الرسمي ! دويلة لها حكامها , ومليشياتها , ومحاكمها , وعقوباتها ! تسهر على حماية ظلمها وظلماتها بالحديد والنار ! حتى كان مجرد النطق " باسم الله " جريمة تؤدي إلى تكسير العظام وتحطيم الجماجم ! وكيف لا ؟ وها المبدأ الأول للخلفية الماركسية قائم على أن ( لا إله والحياة مادة ) ثم كيف لا ؟ وها القانون العام للممارسة النضالية مؤطر بالفكر الثوري الأحمر , والنهج الدموي الانقلابي وفلسفة " ديكتاتورية البروليتاريا " فأني يسمح للفكر الغيبي والدين " الرجعي الظلامي " ( كذا ) ! أن يتسرب إلى قطاع يعتبر هو قاطرة الحركة التقدمية بالمغرب ؟
تلك مرحلة عشناها بأحزابها ومآسيها ليس هذا مجال نقدها ودراستها , وإنما القصد هنا بيان بعض الجوانب التاريخية , من ظروف ميلاد الحركة الإسلامية بالمغرب , بإشارات فصلناها في مواطن أخرى , تمهيدا للحديث عن طبيعتها وأصل منشئها , ثم صور تحولاتها وأسباب مزالقها !
كانت طليعة الحركة الإسلامية بتلك المرحلة عبارة عن مساحة خضراء , فيها يتنفس الشباب المؤمن , وفيها يرسم أحلامه , ويبني ( مدينته الفاضلة ) لأيام أو لساعات , مخيمات ورباطات , كما كانت فضاء ربانيا جميلا , فيه تعقد مجالس الروح وحلق الإيمان لتغذية القلب وصقل العقل , وعمران الوجدان , مجالس كانت عبارة عن معارج تصل القلوب بالسماء وتخلصها من كابوس الفكر المادي وظلماته ! نعم لقد كانت محاضن الإيمان ترتقي بالشباب ليعيشوا أحوال نماذج القرآن , مع " رجال حول الرسول " ويدخلوا رحلة البحث عن الحقيقة مع سلمان الفارسي , ويشتغلوا بتضميد الجراح مع عمار بن ياسر , ويتجردوا لحمل الأمانة مع مصعب بن عمير ! ثم يتدربوا على القبض على الجمر عبر " معالم في الطريق " وبين هذا وذاك يكون الاسترواح من لفح الصحراء " في ظلال القرآن "
حتى إذا جد المسير وانطلق العمل من " المنطلق " واشتعلت نيران " العوائق " بادرها الإخوان بماء " الرقائق "! واستنارت الليالي الخضراء بتلاوات شجية , تتنزل بردا وسلاما – في ثلث الليل الآخر – على قلوب باتت تتهجد في غرفها لا ترى من ملامحها إلا أطيافا متلفعة بأجنحة الليل الساجي , صفوفا صغيرة هنا وهناك ينصتون إلى القرآن ترتيلا ملائكيا يصل القلوب بالملأ الأعلي ! وقد كانوا حقا : ( إذا يتلي عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا , ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) ( الإسراء : 107 -109).
ومن هنا كان الطابع الغالب على العمل الإسلامي – في مرحلته الأولي – هو التأسيس التربوى , والعمل التعليمي , والاشتغال بالمنهج الدعوى الخاص والعام لتجديد بناء النسيج الاجتماعي الديني , فأنبت ذلك المنهج جيلا من أهل الفضل والخير هم , الآن مربون وأطر شتى , ينفع الله بهم البلاد والعباد في شتى المجالات والقطاعات . واستمر الأمر على ذلك زمنا , ينتج ويربي على منهج الأنبياء والصديقين إلى أن نمت الأجسام الحركية وتطورت الأشكال التنيظمية . فكان الابتلاء الذي خسرت فيه الحركة الإسلامية كثيرا ! ظهرت فكرة التخصصات في العمل الإسلامي على جميع المستويات : الثقافية والاجتماعية والاقتصادية , والإعلامية , والنقابية , والسياسية وانطلقت الحركة الإسلامية تقسم ميراثها على أبنائها في حياتها ! ولكن النتيجة أن كل التخصصات التي أعلن عن ميلادها ماتت في مهدها إلا التخصص السياسي ! هو وحده نما وتضخم و احتل كل المساحات الأخرى !
فأكلت السباع كل شئ ! وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد ( ولدت الأمة ربتها ) فعلا ! وبذلك شهدنا في الحركة الإسلامية نفسها مظهرا من مظاهر علامات الساعة ! كما سنفصل بعد بحول الله . وانسحبت التربية الإيمانية الدافئة من مجالس الإخوان لصالح التربية السياسية القارسة ! ثم انتصبت مرايا الأهواء والشهوات أمام الشباب , فتساقط الفراش على اللهيب ! وكانت المأساة ! وبدل أن تنتج الحركة الإسلامية – هذه المرة – المؤمنين الربانيين , بمحاضنها الخضراء , بدأت تفرخ عقارب خضراء ! اندست بخضرتها المموهة في خضرة العمل الإسلامي , فكان الإسلاميون أنفسهم هم أول من تعرض للسعاتها السامة !
إن الناظر إلى عجيج السياسة وضجيج الصحافة يظن أن العمل الإسلامي في المغرب اليوم – من حيث هو جماعات تنظيمية – بخير وعلى خيرا وأنه على مواقع متقدمة من معركته الحضارية الشاملة ! لكن الحقيقة أنه قد تخلف عما كان عليه من قبل كثيرا , وفشل فشلا ذريعا في الحفاظ على مواقعه الإستراتيجية التي كان قد استصلحها بمنهجه التربوي وخطابه الدعوى الشعبي والأكاديمي فكانت له مجالات حيوية منها ينطلق وإليها يعود ! إنه اليوم قد فقدها كلية وخرج منها مطرودا مدحورا ! فصارت ظهوره عارية مكشوفة لأعدائه الإيديولوجيين , تلفحها سياطهم على الهواء ! حتى انهارت صفوفه دون مقاصده الأصيلة , قد أثخنته خناجر الأهواء والأعداء جراحا بليغة !
لقد كانت أخطاؤه الجسيمة التي وصلت إلى حد الانحراف التصوري والسلوكي , والخروج عن المنهج الإسلامي ببعض المواطن – كما سنفصل بعد بحول الله – سببا رئيسا في دخوله مرحلة من العد العكسي , برزخا من التراجع المنهجي ! لقد تضخمت الأولويات السياسية - على المستوى التصوري – في جماعة " العدل والإحسان " واستبدت بها أحلام " الخلافة " إلى درجة التخريف والهذيان ! وتضخم العمل الحزبي – على مستوى الممارسة – لدى حركة " التوحيد والإصلاح " وانتفخ انتفاخا سرطانيا , حتى أتي على كل مكتسبات الحركة التربوية ومكاسبها الدعوية والاجتماعية فآل أمر الجماعتين معا – لمن حقق النظر فيهما – إلى أن صار وجهين لعملة واحدة ! تلك على مستوى التصور والممارسة الاستعراضية وهذه على مستوى برنامج الأولويات والممارسة الحزبية !
فعلي هذا السياق كتبنا رسالتنا هذه , ولذلك ربما كان فيها – ببعض المواطن – شدة لكنها شدة على قدر ما وقفنا عليه في جسمها العليل من الداء , وعلى درجة خطورة ما لاحظناه في خطوها من تداخل الأعمال بالأهواء ! ثم على قدر ما وجدنا بين أعطافها وحدائقها من عقارب ! إلا أن ذلك لا يعني أبدا أن الحركة الإسلامية شر كلها , كلا وحاشا ! بل لقد كان لها الفضل الأول في السبعينات والثمانينات من القرن الميلادي الماضي – بعد الله تعالي – في إيقاظ روح التدين بالبلاد . ومدافعة تيارات الزندقة والإلحاد ! وما يزال كثير من العاملين في صفوفها من الصالحين المتقين بل ربما وجدت منهم أحيانا بعض الأولياء الربانيين الحقيقيين !
ثم إن الغاية من هذه الورقات إنما هي التنبيه إلى ما قد اعترى الصف الإسلامي من ثلمات , عسي أن نبصر من ذلك ما يساعدنا على تلافي الشر , وأول العلاج كما يقال حسن التشخيص للأدواء , قبل بيان وصفات الدواء , أما المقترحات البديلة لما انتقدناه فلم نذكر منها ههنا إلا عبارات مجملة , عسي أن تأتي – بحول الله – في بحث لاحق يكون فيه بعض التفصيل مع أن قسطا من ذلك قد اقترحنا بدائله في بعض كتبنا السابقة , ككتاب " البيان الدعوى " وبلاغ الرسالة القرآنية " و" مجالس القرآن " هذا بالإضافة إلى أن بعض الأمور المنتقدة لا تحتاج إلى بديل منتقي , وإنما هي في حاجة إلى ترك وكفي لأنها في نظرنا زوائد مضرة , وعراقيل محرفة , لا يسلم السير إلا بتركها وربما تزين الناس بالتخلي , قبل أن يتزينوا بالتحلي ذلك وإنما الموفق من وفقه الله هذا , وقد جعلنا مجمل هذا التقييد – دون المقدمة والتمهيد والخاتمة – في بابين اثنين :
الباب الأول : في الأخطاء المنهجية الكبرى للحركة الإسلامية بالمغرب , وفيه خمسة فصول , ترجمنا في كل فصل منها لخطأ من الأخطاء الاستصنامية ,
والباب الثاني , في استصنام : المذهبية الحنبيلة " في التيار السلفي وجعلناه ثلاثة فصول لخصنا فيها أهم الأخطاء المنهجية للفكر السلفي بالمغرب .
ثم إننا قبل إصدار هذه الورقات قد استشرنا مع بعض أهل العلم والفضل , باعتبار أنها قد تواجه تهما بال
دعاية السياسية لصالح جهة ضد أخرى , ممن لهم غرض في خوض غمار الانتخابات السياسية , وشهد الله أن قصدنا من ذلك براء ! وأننا كتبنا ما كتبنا لله , ثم لخاصة دعاة المسلمين ولعامتهم , على مقتضي حديث النبي صلي الله عليه وسلم في النصيحة خاصة وأن مقولاتنا النقدية هذه عامة شاملة لا تتعلق بهذه الحركة دون تلك , ولا بهذا التيار دون ذاك , حتى ممن لا غرض لهم في المعارك الانتخابية أصلا , كالتيار السلفي مثلا , وقد فصلنا في نقده تفصيلا .
ثم إننا – قبل ذلك وبعده – قد استخرنا الله تعالي في الأمر , فترجح لنا – بناء على هذا وذاك وعلى تقديرات أخرى رأيناها – أن نخرجها إلى الجمهور , لكشف خطورة العقارب الخضراء في العمل الإسلامي ! وما ألحقته من ضرر – وما تزال – على الدين وأهله , وما لا قبل للناس به ! معرضين – في الوقت نفسه – عن كشف تفاصيل أدق , تتعلق في بعض الأحيان بأشخاص بأعيانهم , عملا بالمنهج النبوي في نقده – صلي الله عليه وسلم – لأصحابه على الإجمال بتعبيره النبوي الشريف : ( ما بال قوم ؟ أو ما بال أقوام ) ( اللهم إلا من ترجح لدينا انحرافه , وغلب في تقديرنا جهلة وبهتانا فانخرمت مروءته وسقطت عدالته ! وصار رأسا في الفتن ورمزا من رموزا الدجل والدجن ! بما تواتر عنه من خرم أحكام الشريعة , أو بما صرح هو نفسه من نقض صريح للمقطوع به من كليات أصول الدين ! فمثل هذا لم نجد حرجا في تجريحه تعبدا لله ببيان غيه وضلالة ذلك , ثم نقول : ( ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) ( الحشر : 10).
وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه , وسلم تسليما كثيرا , وكتبه – بمكناسة الزيتون – عبد ربه , راجي عفوه وغفرانه الفقير إلى رحمته ورضوانه : فريد بن الحسن الأنصاري الخررجي السجلماسي غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين , وقد وافق تمام تصنيفه في مسودته الأولي يوم الجمعة : 20 رمضان : 1427 هـ , الموافق لـ : 13 /10/2006 م.
تمهيد
الحركة الإسلامية بالمغرب وقضية " الاستصنام المنهجي "!
تعيش الحركة الإسلامية بالمغرب- كما في بعض الأقطار الأخرى – أزمة حقيقية ! أزمة ترجع بالدرجة الأولي إلى كونها صارت عاجزة عن أداء وظيفتها الحقيقية , والقيام برسالتها الربانية , التي كانت هي مبرر وجودها , وشرط ميلادها , ثم مسوغ إقبال الناس عليها في مرحلة سابقة , وقد حاولنا في هذه الورقات أن نرصد أهم المعوقات التي ضربتها في صلب محركها , وخرقتها في إطار عجلتها فأعجزتها عن السير في الاتجاه الصحيح , وانحرفت بها متدحرجة في المسالك الضاربة على غير هدى ! وذلك بحصر كل إشكالاتها المنهجية في ستة أخطاء كبرى , ذات طبيعة كلية إليها يرجع أغلب الأخطاء الأخرى التي هي من قبيل الجزئيات والفرعيات , وقد تبين لنا من خلال الممارسة الدعوية , والاحتكاك الحواري مع أغلب فصائل الاتجاهات الإسلامية بالمغرب , لسنوات عديدة , أنها في خياراتها هذه التي نعدها اليوم أصول أخطائها المنهجية , قد وقعت في نوع من " الشرك الخفي " أو ما أسميناه بـ " الاستصنام المنهجي " وذلك أنها في بعض خياراتها الإستراتيجية الكبرى صارت إلى ضرب من " الانحراف " عقرها عن السير في طريقها الأصيل وأدي بأشكالها التنظيمية ذاتها إلى أن تصير حجبا لها هي نفسها عن النظر إلى مقصد " إقامة الدين " في النفس والمجتمع ذلك المقصد الكلي الذي رفعته شعارا لها من يوم ولادتها .
وقد استفحلت تلك الخيارات الإشكالات , واستطالت عليها , بحيث صارت معوقات ذاتية , تحجب عنها الرؤية الواضحة إلى الأفق ! وتمنعها من النظر النقدي إلى فكرها , ومن المراجعة الإصلاحية لسيرها , حتى رسخت أشكالها في الواقع رسوخا حوّلها – في ذهنها – من رتبة " الصواب " إلى رتبة " الحق "! فصدها ذلك من مجرد محاولة وضع السؤال الضروري لكل فعل بشري – عن مدى صوابية خطواتها وسلامة سيرها وصحة مواقفها , بله المحاسبة النقدية لتصوراتها واختياراتها تماما كما وقع لبلقيس ملكة سبأ من صدّ وحجب عن إدراك الحقيقة أول الأمر , بسبب الحجب الشركية التي كانت تسكن عقلها , وتملأ وجدانها , رغم ما شهدته من معجزات ربانية وبراهين توحيدية :
( وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين !) ( النمل : 43 ) ولذلك كانت في حاجة إلى " صدمة الصرح " التي أيقظتها من غفلتها ! حيث ألقي بها في لجة الحقيقة إلقاء فخاضت غيابها بذاتها ووجدانها , كي تتطهر من أدرانها وأهوائها وتنجلي الحجب الكثيقة عن بصيرتها ! وتلك كانت لها تجربة ذاتية عميقة , أدخلتها في مواجهة أنوار الحقيقة مباشرة فشاهدت الفرق الشاسع بينها وبين أوهامها ! وذاك قول الله جل علاه : ( قيل لها : ادخلي الصرح ! فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ! قال : إنه صرح ممرد من قوارير قالت : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) ( النمل /44) .
إن الحجب الشركية التي صدت ملكة سبأ عن مشاهدة حقائق التوحيد , ومنعتها من إدراك خطئها الاعتقادي, قد انتصب اليوم ما يشبهها – من الناحية المنهجية – في وجدان الحركة الإسلامية ! وذلك ما أسميناه بـ الأصنام المنهجية , أو الاستصنام النهجي " إذ أنها بما بلغته من أشكال التقديس لاختياراتها , والتنزيه لتصوراتها , وجعلها فوق النظر النقدي والمراجعة الحقيقية , بصورة شعورية أو لا شعورية , قد جعلها " تستصنم " أخطاءها بالفعل , فانتصبت أوثانا معنوية بعقلها ووجدانها , وجعلت تصدها عن الإدراك السليم والسير القويم ! ولا خلاص لها إلا بـ " صدمة صرح " من نوع آخر , صدمة صرح" تخرجها من أوهامها , وتحطم الأصنام المنتصبة في مخيلتها ! وتهدم الأسوار الحاجبة لها عن مشاهدتها ! " وصدم الصرح " ههنا إنما هي " صدمة تفقهية " وذلك بدخول علمي تعبدي صادق , إلى صرح القرآن العظيم , وبياناته النبوية الواضحة , من خلال قواعد العلم, ومواجيد الإيمان . ثم عرض اختياراتها الإستراتيجية على موازينه لإدراك مدى الفرق الرهيب بين الحقيقة والتمثال !
وعليه فإن الاستصنام الحاجب للحركة الإسلامية اليوم عند استقراء طوبه وأحجاره واستقصاء ما رفعته من نصب على أسواره يرجع – كما ذكرنا – إلى ستة أخطاء منهجية كبرى هي المرجع الكلي للإنحراف , والسبب الجامع للإستصنام ! أخطاء تجسدت بصورة خشنة في فكر الإسلاميين وممارساتهم التنظيمية ! فتعلقت بها قلوبهم رغبا ورهبا ! وخلعت عليها من التنزيه والتقديس ما جعلها طواغيت وأصناما تحجب القلوب عن إخلاص الدين لله ! وهي :
• الخطأ الأول : استصنام الخيار الحزبي .
• الخطأ الثاني : استصنام الخيار النقابي .
• الخطأ الثالث : استصنام الشخصانية المزاجية
• الخطأ الرابع : استصنام التنظيم الميكانيكي
• الخطأ الخامس : استصنام العقلية المطيعية .
الخطأ السادس : استصنام المذهبية الحنبلية " في التيار السلفي .
وقد عقدنا لكل منها فصلا أو بابا على حجم ما وجدنا فيها من قضايا وإشكالات.
هذا , وقد يستغرب البعض جمعنا للتيار السلفي مع " الحركة الإسلامية " في ملف واحد والجواب أنه – فعلا – هو كذلك ملف واحد , كما سترى بدليله إن شاء الله , بالرغم من أن السلفية المتأخرة واحد , كما سترى بدليله إن شاء الله.
بالرغم من أن السلفية المتأخرة صارت تتبرأ من مفهوم " الحركية " فعلاوة على أن أخطاء أى صنف من أصناف العمل الديني يبوء بمآلاتها الوخيمة , ونتائجها السلبية – في الواقع السياسي والاجتماعي – كل التنظيمات والتيارات الإسلامية سلفية كانت أو غير سلفية , فإن نشأة الحركة الإسلامية بالمغرب كانت متلبسة بالفكر السلفي ابتداء , ولم يحصل التمايز والافتراق إلا فيما بعد .
ثم إن التيار السلفي صار – من حيث يدرى أو لا يدرى – رقما سياسيا , موظفا في اللعبة السياسية الوطنية والدولية , خاصة بعد التطورات الفكرية والتنظيمية التي عرفتها بعض فرقه , كما سنبين بهذه الورقات إن شاء الله .
هذا , وقد عبّرنا عن مواقف الحركة الإسلامية إزاء الأخطاء الستة المذكورة – غالبا – بمصطلح " الاستصنام " لأن تلك الأمور ليست أصناما في حد ذاتها , ولكن طريقة تعامل الإسلاميين معها , بما خلعوه عليها من التنزيه والتقديس , ومن الانبهار والإعجاب هو الذي جعلها أصناما معنوية بالفعل , فانحرفت بهم عن أهداف العمل الإسلامي ومقاصده فكانت الأزمة ! وبيان ذلك هو كما يلي :
الباب الأول
الأخطاء المنهجية الكبرى للحركة الإسلامية بالمغرب
ترجمة الباب : قول الله جل علاه
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم , قالوا يا موسي اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة ! قال إنكم قوم تجهلون , إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون !)
الفصل الأول : استصنام الخيار الحزبي
لن أكون مبالغا إذا قلت : إن اتخاذ " حزب سياسي " كان أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب ! لقد صار الإسلاميون يشتغلون في الشك , وقد كانوا – من قبل – يشتغلون في اليقين ! وكانوا إلى الإخلاص في الأعمال أقرب , ثم صاروا إلى خلط مبين ! فانتقلوا بذلك من مقاصد العبادات إلى مقاصد العادات ألهاهم التلميع والتسميع , وانخرط كثير منهم في الحزب على حرف ! تماما كـ ( من يعبد الله عن حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) ! إن اتخاذ " الحزب " في العمل الإسلامي هو أشبه ما يكون بـ " اتخاذ العجل " في قصة بني إسرائيل ! إنه ما أن أمضت الحركة الإسلامية قرار " المشاركة السياسية " حتى تطور ذلك القرار بشكل سرطاني – باندفاع ذاتي , ودفع من جهات أخرى – من مجرد " مشاركة " إلى صورة " تضخم سياسي " أتي على الأخضر واليابس من منجزات العمل الإسلامي , في موارده البشرية ومكتسباته الدينية في المجتمع العام – كما بيناه في كتابنا البيان الدعوى – لقد كان يوم إعلان اتخاذ حزب سياسي واجهة للعمل الإسلامي بالمغرب هو يوم إعلان وفاة الحركة الدعوية , وبداية العد العكسي المنحدر نحو نهاية " أطروحة العمل الإسلامي " بشموليته الكلية , وهويته الإسلامية !
إن العمل الإسلامي في الأصل هو عمل تجديدي للدين بالدرجة الأولي , بناء على الحديث المشهور , من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) وما " الدين ) إذا لم يكن هو هذا الإيمان الذي يربط العباد بالحقائق الغيبية إيمانا بالله وباليوم الآخر ؟ وما تفرع عنهما من حقائق إيمانية أخرى , ثم ما تقرر في أصول الإسلام من وجوب الدخول في أمهات العبادات والتنزه عن كبائر الخطيئات , طبقا للفوز بجنات النعيم والنجاة من عذاب الجحيم ! هذا هو أساس خطاب القرآن وهذا أول ما ينبغي العمل على تجديده في النفس وفي المجتمع , وكل ما سواه من أمور الشأن العام إنما هو تبع له والعكس غير صحيح , كما فصلناه في غير هذا المكان وكل ذلك لا يكون إلا بوجود قوم صادقين يجتهدون أولا في التخلق بتلك الأعمال فعلا وتركا على درجة من العلم والصلاح تؤهلهم لمخاطبة عامة الناس من الشاردين والجاهلين وذلك لا يكون إلا بأخذ كتاب الله بقوة ! والدخول في تعلم بياناته النبوية على مدارج التزكية والتعليم ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) آل عمران :164).
وعلى هذا تأسس العمل الإسلامي بالمغرب ابتداء فكان عطاؤه الأول جيلا من الخيرات والبركات , ثم جاء الحزب السياسي فأتي على ذلك جميعا ! تماما كما دمر السامرى " كل الرصيد الإيماني لبني إسرائيل , بعد غيبة موسي , عندما صنع لهم – من الذهب – جسدا , عجلا له خوار فظلوا عليه عاكفين ! قال تعالي : ( واتخذ قوم موسي من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار.
ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا , اتخذوه وكانوا ظالمين !) ( الأعراف : 148) نعم لقد كان الحزب فتنة حقيقية للإسلاميين كما كان العجل فتنة لبني إسرائيل ! وللذهب بريق مادي فتان في قصة بني إسرائيل , كما أن له بريقا معنويا وماديا فتانا أيضا في قصة الإسلاميين ! ومن ذا قدير على مقاومة فتنة الذهب إلا القليل ! ( ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به !) كذلك كان والله المستعان .
ثم إن الاسصنام الحزبي جعل كثيرا من أبناء العمل الإسلامي منشغلين بهموم الناس الدنيوية فقط ! ثم جعلوا – بعد ذلك – لهمومهم الشخصية من تلك الهموم حظا ! وتدافع الهم الشخصي مع الهم العام في مقاصد بعضهم فتكون الغلبة لهذا تارة وتكون لذاك تارة أخرى , على قدر قوة الإيمان وضعفه في نفس صاحبه مدا وجزرا , فانخرطوا بذلك – على كل حال – في بناء خطاب مادي بالدرجة الأول , يحلل الأزمات الاقتصادية ومشكلات البطالة , والرد السياسي على الهجومات الإلهائية , التي تصدر عن بعض متعصبي اليهود والنصارى , أو عن بعض زنادقة المسلمين , فيخرجون المظاهرات وينظمون المسيرات ثم يؤوبون في المساء إلى مواقعهم سالمين مطمئنين إلى أنهم قد أنجزوا من " النضال " ما يشفع لهم عند الله يوم القيامة , عندما يسأل الناس عن دينهم ماذا فعلوا فيه !" ونسوا القضية الكبرى : قضية الإنسان مع خالقه ومصيره في آخرته ! كيف كان في عبديته ؟ أمن الأوابين التوابين أم من الآبقين الشاردين ؟
ماذا كان تعامله رسالة ربه ؟ وكيف كان تجاوبه مع نذارته وبشارته ؟ ذلك ما لم تهتم به الحركة الإسلامية في خطابها الداخلي والخارجي إلا قليلا قليلا ...! وتلك هي المشكلة ! فالقرآن حسم الأمر بأنما المعول عليه في الدين يوم القيامة إنما هو كسب الإنسان في إيمانه بمعني ما ترتب عن إيمانه بالله واليوم الآخر من العبادة والعمل الصالح , وما أشد هذه الآية من كتاب الله التي تجعل الإيمان الفارغ من كسب الخير غير نافع لصحابه ! قال جل ثناؤه : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ! يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ! قل انتظروا إنا منتظرون ) الأنعام : 158) .
إن القرآن عندما كان يعالج قضايا الاجتماع البشري كان يحوطها بترسانة من السوابق واللواحق المقالية , التي تؤسس الحظوظ الدنيوية على المقاصد الأخروية في قلوب المؤمنين ! ففي سياق التشريع الأسري وفي إطار التنظيم الاجتماعي أورد الله تعالي وصيته للمسلمين في شأن المحافظة على الصلاة , ربطا للدنيا بالآخرة أبدا ! فقال تعالي في سياق التشريع الأسري زواجا وطلاقا : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير , حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون , والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم ( البقرة 237 -242).
فانظر إلى آية الصلاة كيف جاءت منفردة في سياق تقدمها بسوابق تشريعية اجتماعية وتعقبها بلواحق مثلها , آيات عددا كما هو في أصل السورة , وما ذلك إلا ليجعل أمر الاجتماع البشري والنسيج العمراني لا يستقيم في الإسلام إلا ببنائه على العبادات المحضة , من ذكر الله واقام الصلاة وسائر المغذيات للروح صلة بالله على كل حال .
وفي ظروف نزول القرآن التشريعي نزل الله تعالي بالمدينة : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم , يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد !) الحج: 1-2 ) وعند حضور المغانم وميل بعض الناس إليها قال تعالي مبينا أن ذلك من أسباب الهزيمة في غزوة أحد : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) آل عمران : 152 ).
قال الإمام القرطبي رحمه الله ( منكم من يريد الدنيا , يعني : الغنيمة . قال ابن مسعود " ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي - صلي الله عليه وسلم – يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( إنما عني بهذا الرماة وذلك أن النبي – صلي الله عليه وسلم – أقامهم في موضع ثم قال : " احموا ظهورنا ! فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ! وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا !" فلما غنم رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وأباحوا عسكر المشركين , انكشف الرماة جميعا , فدخلوا في العسكر ينتهبون ... !.. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها , دخل الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي – صلي الله عليه وسلم – فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثيرا !)
وفي خاتمة سورة الفتح وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم قال تعالي في توصيف أصحاب سيدنا محمد – صلي الله عليه وسلم – ممن فازوا بمعيته التربوية بأنهم عمال الآخرة بالدرجة الأولي : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم , تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة , ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوي على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار , وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم معفرة وأجرا عظيما ) ( الفتح :29) والآيات والأحاديث من ذلك كثير, تكاد تشكل كل الآي القرآني , وجمع البيان النبوي , مما يثبت أن الخطاب الأخروي هو أساس الرسالة الإسلامية ,وأن ما دونه من أمور البناء الدنيوي العمران أمر مهم , ولكنه تابع لهذه الأصول ومنبن عليها !
إن تجديد الدين قائم أساسا على تجديد علاقته بالناس بإحياء التداول الإنساني للقرآن الكريم و حقائقه الإيمانية والخلقية , ولا يكون ذلك كله إلا بإحياء تربوي لعلوم الدين ! إحيائها في النفوس البشرية , وإشاعة ما أصله أن يكون معلوما منها بالضرورة , وبيان أحكام " ما لا يسع المسلم جهلة ؟ على حد تعبير الفقهاء , في زمن بلغ تجهيل الناس بالدين من الدركات أن يكون بعض العاملين له في الصف الإسلامي مع الأسف – لا يحسن صلاته ولا وضوءه !
إن التداول الاجتماعي للقرآن على سبيل التربية والتزكية , والتعلم والتعليم لأحكامه وحكمه كفيل بالإحاطة بالرسالة الدعوية على التمام : تلك هي الرسالة التجديدية التي وجب أن يحملها رجال الحركة الإسلامية ويطرقوا بها كل باب , من المدارس إلى المتارس ! ولو حملت على حقها لكانت تغني عن اتخاذ الأحزاب والألقاب في بلد كالمغرب خاصة ! فأين هي الحركة الإسلامية المغربية من هذا ؟ لقد أدخلت نفسها مع الأسف في حجر الضب ! وسجنت كل إمكاناتها في قارورة الحزب السياسي , فحجرت على نفسها ما وسعه الله ! وصارت تخاطب الناس ويخاطبوها على أنها حجرة من أحجار لعبة الشطرنج! أو رقم من أرقام الحسابات السياسية التي يستغني عنها متى ما انتهت وظيفتها! إن الثقافة السياسية اليوم تقضي بأن الحزب السياسي ليس إلا لأهله ! بينما الدعوة الإسلامية هي للجميع ! فانظر أى خطيئة وقعتها الحركة عندما استبدلت الذي هو أدني بالذي هو خير ! فاختارت أن تطل على الناس من عين إبرة , وقد كانت من قبل تطل عليهم من عين الشمس ! إن ظروف المغرب وطبيعته المغايرة لكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي لا تتحمل أبدا وجود حركة إسلامية في ثوب حزب سياسي ! ثم إن اتخاذ حزب سياسي للعمل الإسلامي مبدئيا إنما يصلح عندما تكون ظروف العمل الإسلامي – باعتباره منظومة دعوية تجديدية شاملة – غير ممكنة في البيئة أو متعذرة , وبشرط أن تكون إمكانات العمل السياسي غير مؤدية إلى نتائج عكسية على مستوى الدين والتدين , ولقد علم في قواعد أصول الفقه أن " كل فرع عاد على أصله بالإبطال فهو باطل !"
ولقد كان بإمكان الحركة الإسلامية بالمغرب أن تصل إلى أفضل النتائج السياسية – دون أن نتخذ لها حزبا – لو أنها اشتغلت كقوة دينية دعوية , حاضرة برجالها وأفكارها في كل ميدان منتشرة في كل قطاع . من المسجد إلى المعمل ثم إلى الإدارة ! ومن التعليم إلى الإعلام ثم إلى الاقتصاد . لقد كان بإمكانها أن تجعل بعض الأحزاب السياسية الأخرى تنخرط في تطبيق الممكن من برامجها السياسية !
دون أن تنزلق هي إلى شرك الاستهلاك التجزيء لقوتها ! ولكن بعد زمن يمكنها من إنضاج تأثيرها السياسي غير المباشر في الهيئات والمؤسسات , لكن عقدتها كامنة في أنها تنظر في عملها إلى الممكن وغير الممكن في اللحظة الآتية فقط , وتلك هي مشكلتها , إن ما ليس بممكن اليوم قد يكون ممكنا غدا , إذا قدمنا شروطه العملية عند الانطلاق , وسرنا في الاتجاه الصحيح لقد كان بإمكان الحركة الإسلامية أن تكون ما أرادت لو أنها أرادت وجه الله حقيقة ولم تستعجل أمرها , إن سر الخطأ لديها أنها استثمرت كل طاقتها في الهياكل والأشكال دون أن تستثمرها في الإنسان !
لقد كانت تجربة العمل السياسي للعمل الإسلامي بالمغرب فاشلة بكل المقاييس الشرعية والسياسية ! بسبب أن الإسلاميين حاولوا قطف ثمرة لم يئن إبّان قطافها , فتجرعوا مرارة فاكهة لم تنضج بعد ! فكانت النتيجة خسارة للإسلاميين تجلت مظاهرها في المجالات التالية :
- على مستوى الفهم التصوري للدين :
رسخت صورة العمل الإسلامي غير المتوازنة في أذهان كثير من الإسلاميين وتضخم التصور السياسي للدين ! وضمر موقع العبادات من مساجد وصلوات ! وصرت تسمع اتهام هذا المتكلم أو ذاك من الدعاة والعاملين للإسلام بأنه صاحب " خطاب وعظي !" أو أنه " غارق في الفقهيات !" بل إن منهم من كان يدعو إلى ترك الأحكام الفقهية للمساجد , وأن الساحة إنما هي خالصة للخطاب السياسي والتحليل السوسيولوجي ..! كذا ويلهم ! كيف والقضية التي من أجلها نشأ كل هذا الضجيج والعجيج إنما هي الدين ! وما الدين إن لم يكن نظرا إلى المآلات الأخروية واشتغالا بالأعمال التعبدية ! لقد ضللت بعض المقولات كثيرا من أهل الشأن الإسلامي زمنا ليس باليسير ! كمقولة " شمولية العبادة " التي هي حق أريد به في بعض الأحيان باطل ! ذلك أنها وظفت في بعض السياقات لإقامة دعاوى خاطئة ! وإنما قيلت أصلا لتنبيه الغافلين من الزهاد والمنزوين من العباد إلى أن الانخراط في هموم المسلمين , والانغماس في شأنهم العام ضرب من العبادة أيضا . ولكن بالتبع لا بالأصالة , وبالدرجة الثانية لا بالدرجة الأولي , وإلا فلا بركة في حركة تثير النقع في وغي السياسات , وتشعل الخطب النارية في نوادي النقابات , وأصحابها لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالي ! كيف وها ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ! فإن صلحت صلح له سائر عمله , وإن فسدت فسد سائر عمله !) وما تحديد أركان الإسلام الخمسة وحصرها في " الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج" إلا لتكون أصلا , ويكون ما سواها لها تبعا ! لكل الانجراف وراء الرغبات السياسية جعل الفروع أصولا فقلب الموازين ! ثم انصرف كثير من أبناء الحركة الإسلامية إلى ما يشتهون بدعوى أن " السياسة عبادة " فما نجحوا في السياسة ولا صدقوا في العبادة فخسروهما معا ! والله المستعان !
- على المستوى التربوي والدعوى :
انهار العمل التربوي والدعوى بصورة رهيبة , وضعفت مقاصد التعبد لدى أبنائه بسبب بروز المغانم السياسية وتطلع ضعيفي الإيمان منهم إلى إغراءاتها المادية ثم بسبب حماسة العمل السياسي وسرعته وثقل العمل التربوي على النفس بما يحمل من مغارم وتكاليف , وما يتطلب من إعداد روحي , ومجاهدة للنفس قبل مجاهدة الغير : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا !) المزمل :5) وظهر المتسلقون والانتهازيون في الصف الإسلامي أيضا , ووصل بعضهم إلى مواقع الصدارة فعلا . فبدأ العمل التربوي يتلاشي , وينهار شيئا فشيئا – وهو صمام الأمان للمشروع كله – حتى انهارت الحركة تماما ! وأخلت مكانها لصالح الحزب السياسي , وإن بقيت هياكلها الشكلية قائمة لكنها – مع الأسف الشديد – أشباح بلا أرواح ! وخسر العمل الإسلامي موقعه في مواطنه الأصلية وعلى رأسها المدارس والثانويات ثم الجامعات ! لقد كانت الدعوة تشتغل من قبل بالتربية والتكوين في صفوف التلاميذ فكانت تضمن بذلك تنامي الدين والتدين في الأجيال المتعاقبة لكنها ما أن فتنت بالصنم السياسي حتى انسحبت من مواقعها الجهادية وتركت المجال لغول " الفجور السياسي " يعيث في الأرض فسادا , ويخرج من التلاميذ والطلبة أجيالا تكره الدين وتلعن الوطن ! وتقدس أنصاب ناطحات السحاب ! ثم تلقي بأنفسها منتحرة عبر قوارب الموت في غضب البحار !
فأصيبت الحركة الإسلامية في أبنائها بما وجدت أصلا لمحاربته في غيرها ! وتلك هي الطامة الكبرى حقا ! انساق الشباب – ذكرانا وإناثا – وراء الأهواء , ومقولات الإغواء وانخرطوا في مضايق الجدل هروبا من خنادق العمل , ثم حرموا جمال الدين ورونقة : ألا وهو الخلق والحياء ...! فصارت الفظاظة وسوء الأدب – مع الأسف – هي سيماء الخطاب لكثير من العاملين – زعموا – في الصف الإسلامي واحسرتاه ! ولأن دين كثير منهم – إلا من رحم الله – حتى شف عما تحته من ضعف وانحراف , تماما كما شف لباس كثير من " المحجبات" عما تحته من فتنة وغواية ! فأى بديل يقدم هذا العمل للناس ؟
- على مستوى الأمانة الأخلاقية :
كانت الأخلاق هي الضحية الأولي التي ذبحت عند قدمي الصنم السياسي ! وبات الرهان خاسرا فبدل أن ( يخلق ) الإسلاميون الحياة السياسية – كما زعموا – تدنسوا بأوساخها ! بسبب أن الموازين التي اشتغلوا بها في تقدير طبيعة الزمان والمكان كانت خاطئة ! وبسبب أن الأولويات التي نادوا بها – عند اتخاذ الحزب – كانت على غير أولويات الدين ! فماذا بقي للإسلاميين من الدين إن هم فقدوا أخلاقهم ؟ يا ويلهم ! كيف وها الدين كل الدين إنما هو منظومة من الأخلاق ؟
أين تضع الحركة الإسلامية برامجها – بعد هذا – من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( إن أحبكم إلى وأقربكم منى في الآخر مجالس أحاسنكم أخلاقا , وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا , الثرثارون , المتفيهقون , المتشدقون )؟ وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" لا تحاسدوا , ولا تناجشوا , ولا تباغضوا , ولا تدابروا , ولا يبع بعضكم على بيع بعض ! وكونوا عباد الله إخوانا ! المسلم أخو المسلم لا يظلمه , ولا يخذله , ولا يحقره , التقوى هاهنا ! ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ! كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ! إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم , ولكن ينظر إلى قلوبكم , وأشار بأصابعه إلى صدره ( وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ! ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان , وإذا حدث كذب , وإذا عاهد غدر ,وإذا خاصم فجر !) وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلي الله عليه وسلم - قال – قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( عليكم بالصدق ! فإن الصدق يهدي إلى البر , وإن البر يهدى إلى الجنة , وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ! وإياكم والكذب ! فإن الكذب يهدي إلى الفجور , وإن الفجور يهدي إلى النار ! وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا )
لقد جعلت التجربة السياسة بعضهم يناور ضد إخوانه في الحركة وينشئ الجيوب والأحلاف , ليكون على رأس لائحة الترشيحات البلدية أو البرلمانية , ومنهم من فجر وبجر هائجا من الغضب لما أقصي من الاقتراح الانتخابي ! ومنهم من وصل عبر السلم الخلفي إلى رأس اللائحة كما يصل اللص عبر السراديب المظلمة إلى مكان المجوهرات ! وير كل برجلة ساخرا كلمات البيان النبوى الصريح : (إنا والله لا نُولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه !) ثم يزعم علينا في نهاية المطاف أنه يمثل صوت الإسلام في " البلدية " أو في " البرلمان "! بغير استحياء يرفع شعار دين أنزله من ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) غافر :19) .
وبرزت أنصاب الكراسي من بعيد , فانجرفت شيبة الحركة الإسلامية نحو الحزب السياسي انجرافا ! ففرغت " الحركة " من رجالها وصارت أطلالا شاحبة تبكي الزمان الذي كان ! فأشبهت حالها أمارة من أمارات الساعة الواردة في حديث جبريل : ( وأن تلد الأمة ربتها!) والحركة ولدت حزبها , فأرضعته من خالص لبنها , حتى إذا بلغ أشده حكمها , ثم ابتلعها ! وباتت المواقع الدعوية في البلاد أفرغ من فؤاد أم موسي ! وأتاحت للشيطان بذلك أن يركض بحوافره النجسة في كل مكان , وانطلق غول الفجور السياسي من عقاله يخرب البلاد ويهتك الأعراض ! فكان دين الشيبة الإسلامية هو أول ما تعرض للفساد !
لقد انحطت الأخلاق العامة للإسلاميين انحطاطا بليغا , وعلى رأس ذلك خلق الحياء في الرجال والنساء على السواء ! كانت الفتاة المؤمنة – في المرحلة التربوية للحركة الإسلامية – لا تكاد ترفع بصرها إلى الشاب حتى يخفضه حياؤها الصادق ويرده إلى الأرض ! ( والحياء من الإيمان ) و( الحياء خير كله !) ثم ترى الرجل على الرصيف فتنحرف عنه إلى الرصيف الآخر تحاشيا لفتنة قد تقع منها أو عليها ! لله درها ! كيف كانت تمشي بوقار متعبدة بلباسها الساتر الواقي متنزهة عن الألوان الصارخة والأشكال الفاضحة , لا تغنج في صوتها ولا تصنع تنآى بشرفها عن الشبه والشبهات , تجاهد نفسها لتحصيل منازل التقوى والورع فبارك الله في حركتها وفي سعيها وكذلك كان أخوها .
أما اليوم فقد نبت جيل مشوه من هذا المسمى بـ " الأخوات " ! .. محجبات تبرجن بـ حجابهم " أشد من تبرج السافرات بعريهن ! وإذا خاطبن الشباب سمّرن فيهم أعينا خائنا ! وتصنعن في أصواتهم أنغاما زائدة وحروفا باردة ! ولقد عجبت كيف صار أغلبهن في هذا الزمان لا ينطق " الراء " إلا بما تقتضيه قواعد التجويد والترتيل ! كأن بألسنتهن علة ! وما باللسان من على , ولكن القلب هو العليل ! تقترب منك إحداهن لحاجة فتكاد تدهسك بصدرها! يا ويلها ! وأذكر أنني انتقدت يوما هذا الانتكاس الخلقي في لباس الأخوات بلقاء دعوى , داخل أحد مقرات الحركة – وكان تيار الفجور السياسي العام في أول عهده آنئذ – فردت علىّ إحدى الزعيمات – وهي " الأستاذة يا حسرة – عندما ذكرت بأن ذلك علامة على اختلال تربوي , فرفعت نحوى وجها يكاد يسيل من الطلاء والدهون , وقالت بما يشبه الانتهار : ( أو قل : إنهن تقدمن !) ثم رجعت أندب مصير التدين في التنظيم الإسلامي ! فيا لتقدم انطلق من فقه ( الانحلال ) ولم يقف حتى مرغ الأعراض في التراب !
فبأى وجه تخاطب الحركة الإسلامية الناس اليوم إذا هي كذبت في خطابها كما يكذب السياسيون وفجرت في خصامها كما يفجر النقابيون ؟ انحلت في أخلاقها كما ينحل الشهوانيون ؟
الفصل الثاني : استصنام الخيار النقابي
دخلت الحركة الإسلامية التجربة النقابية بلا ترو , ولا تأصيل فقامرت برصيدها الأخلاقي والديني بخوض غمار عمل ما يزال مشبعا بلغة الصراع الطبقي , والمقولات الماركسية في الفكر الاقتصادي , والنظريات الاشتراكية في قضايا العمل والعمال , ومشكلات الرأسمال , فشاركت في إدارة " ميكانيزم " سياسي بالدرجة الأولي , متأثر بديكتاتورية " البروليتاريا " وفكرة نزع الملكية الخاصة , وتجريم الغني أني كان مصدر غناه ! فاشتغلت – بصورة لا شعورية – بعيدا عن منطق الإسلام القائم على بناء عقود العمل على المبدأ الإسلامي الكلي العظيم : ( لا ضرر ولا ضرار ) وتورطت في التلوث ببقايا النظريات الماركسية القائمة على تطبيع نفسيات العمال على الحقد والكراهية والغش , بدل أخلاق التعاون والمشاركة والنصح , ومارست ما يسمي بـ " حق الإضراب " دون تفقه في نوازله , ولا تأصيل لأحكامه , وإنما اعتمادا على منشورات إنشائية ضعيفة القيمة العلمية صدرت عن بعض الكتاب ممن لا علاقة لهم بالبحث العلمي المتخصص في الدراسات الفقهية والأصولية .
وهكذا تورطت الحركات الإسلامية في تأجيج إضرابات عن العمل – على طريقة التنظيمات الماركسية والأحزاب الانتهازية – للضغط السياسي على إدارات معينة من أجل تمرير ملفات أخرى لا علاقة لها بمصالح العمل والعمال لا من قريب ولا من بعيد ! فأسهمت بذلك – من حيث تدري أو لا تدرى – في تربية أبناء الحركة على الكذب والخداع وسوء الأخلاق في المناظرة والحوار , وما كان ينبغي أن نسابق اليسار نحو الهاوية وكل ينفق مما عنده .
هذا ولقد كان للوليد النقابي – غير الشرعي في صفوف الطلبة خاصة , أكبر الأثر في تدمير البنية الخلقية لشباب الإسلاميين بالجامعة , ثم امتد الخراب إلى ما سواها من أجنحة العمل الإسلامي العام ! ونظرا لخطورته ولما سببه من تدبير مفهومي وتخريب خلقي لبنية العمل الدعوى والتربوي لدي أغلب التنظيمات الإسلامية البارزة على الساحة المغربية فإننا نعقد له مبحثا خاصا , وهو كما يلي :
الصنم " الأوطمي " وانهيار الأخلاق في الصف الإسلامي
إنني أشهد – كمراقب للمرحلة ومشارك فيها – أن العمل النقابي الطلابي في التجربة الإسلامية الذي ولد في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات – من القرن العشرين – إنما هو طفل لقيط ! ولذلك فإن عقاربة قد أخضرت حتى كادت تسود بما احتقن في جسمها من سموم ! وبيان ذلك هو كما يلي :
دخلت الحركة الطلابية الإسلامية معبد " أوطم" تلك المنظمة النقابية التي تكون داخل أحشائها – من قبل – المد الماركسي الإلحادي بالمغرب فانتصبت رموزه وصية على الجامعة المغربية لسنوات ليست بالقليلة ! فأسست لغته ثقافة النضال الطلابي ورموزه وأنشأت مرجعيته وقوانينه ثم صنعت أجهزته المفاهيمية وصار ما أصدرته مؤتمرات " أوطم " في مرحلتها اليسارية من قرارات وشعارات هو الفيصل في كل خلال فصائلي , والمرجع في كل جدل كلامي ثم ورثت الفصائل الطلابية الإسلامية المنهجية المادية التي خلقها الفكر الماركسي المتطرف واشتغلت بترسانتها المصطلحية وجهازها المفهومي , بحماس يؤسسه الجهل العلمي بالدين , والهوى الانتمائي الحزبي ! وهكذا ولدت الحركة الطلابية " الإسلامية " لأم متدينة وأب ماركسي لينيني ! فكانت نتاجا غير شرعي لأسوأ زواج عرفه التاريخ ! ولذلك انطلقت تبعل في مشيتها تبعيلا ! وانخرطت في معارك ضد العلم وضد الأخلاق ! فخسرت مصداقيتها عند الطلبة , والأساتذة , والإدارة الجامعية والناس أجمعين ! وكان الإسلام بالجامعة المغربية - من حيث هو قيم وأخلاق – هو الضحية الأولي لذلك الخطاب الفج والسلوك الفظ الذي مارسته فصائلها ! لقد عشت المرحلة الماركسية بالجامعة المغربية طالبا , ثم عشت المرحلة " الإسلامية " مدرسا فلم أر من الفروق المنهجية بين المرحلتين سوى بدء الخطابات بعبارة :" بسم الله قاصم الجبارين " ثم ينطلق الخطاب بعد ذلك يرهب بجبروته الطاغوتي أفئدة الطلبة المستضعفين ! ويقصم المجهود العلمي للأساتذة والباحثين ! على غرار ما عشناه في المرحلة الماركسية سواء !
وقد كان " فصيل العدل والإحسان " أول من بادر بالإعلان الرسمي عن نفسه كفصيل " إسلامي بالجامعة المغربية فكان – مع الأسف – أكثر حظا من غيره في التدنس بالتراث الماركسي اللينيني في الخطاب والممارسة على المستوى النقابي !
ساعده في ذلك خلفيته الإيديولوجية المؤسسة لجماعة " العدل والإحسان " التي ما فئت تعاني – منذ نشوئها – عقدة النظام السياسي , بسبب مرض " التضخم السياسي " التصوري والمنهجي الذي هيمن على فكر مؤسس الجماعة الأستاذ عبد السلام ياسين , كما بيناه مفصلا بأدلته في كتاب سابق فانطلق الفصيل بذلك يستعرض مقولاتها السياسية في الساحة الجامعية , بصورة جعلته أكثر تعبيرا عن نشاطها من باقي أجنحتها , بل لقد أتي عليه حين من الدهر كاد أن يكون هو القاطرة التي تجر الجماعة بأسرها ! لقد تضخم فصيل " العدل والإحسان " بالنسبة لجماعته , كما تضخم حزب " العدالة والتنمية " بالنسبة لحركته حيث كاد الفرع أن يصير أصلا .
لقد دخل هذا الفصيل المنظمة النقابية " أوطم " أى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب – يقوده العمي العلمي , والهوى الانتمائي ! ورفض مقولة التأصيل النقابي للمنظمة , مما نادينا به وليس كل أحلاسها بلا استثناء , كما أشهد على ذلك مرارا من خلال محاورات رسمية مع بعض مسؤولية على المستوى المركزي ! مصرا على الاشتغال بالموجود – رغم فساد أدواته – إلى حين ! بسبب أن القوانين " الأوطمية " في فظاظتها الماركسية كانت تناسب العنف النفسي الذي يلبي الرغبات التنظيمية في تحطيم كل شئ ! وانطلق الفصيل " الياسيني " في الجامعة المغربية مثل ربح عاد : ( تدمر كل شئ بأمر ربها ) ( الأحقاف : 25 ) مشتغلا بالأسلوب الماركسي في النضال الطلابي فبرز في سوء الأدب وتفنن في خرق الحياء ! وأعطي النموذج المثالي بسلوكه الفج عن انحطاط الأخلاق ! مارس العنف الثوري " تحت تأثير مصطلح " القومة " التي لم " تقم " إلا على بقية الدين في رموزه ورواده ! ومارس – مثل سلفه الماركسي – أسلوب تفريغ القاعات الدراسية والمدرجات العامرة من الطلبة والأساتذة بطريقة بدائية لا أدب فيها ولا ذوق , واحترف الكذب والخداع للجماهير الطلابية بالزج بها في معارك وهمية ! والخروج عليها ببيانات تضليلية خدمة لمصالح حزبية ضيقة تهم الجماعة الياسينية في الخارج أساسا و لا علاقة لها بالجامعة ولا بالهم الطلابي ! ثم مارس " دكتاتورية البروليتاريا " باسم " حكومة " التعاضديات ! فعجبا لو وصل لقيادة الدولة باسم حكومة " الخلافة " ماذا كانوا يصنعون ! وتفنن في الشتم والسباب , حتى كاد أن يصنع لنفسه في ذلك قاموسا خاصا ! وما كان ذلك " منهاجا نبويا " ولا أسلوبا لإنتاج الخير قط , لو كانوا يعلمون ! وتطبع – كسلفه اليساري – بنفسية الصراع المرضية وردود الأفعال المتشنجة فلا ترى منه إلا وجوها عبوسة بئيسة وأحوالا مرضية تستحق الإشفاق لا تكاد تحاور أحد رموزه حتى ينفجر بالشرارات ويبوء العبارات ! مارس الانتهازية السياسية, باستغلال رموز دولية كشيخ " حماس " أحمد ياسين تقبله الله في الشهداء واستغلال المظالم الدولية التي تهم كل المسلمين ليستثمرها لحسابه الخاص , غير آبة بما تقتضيه مصلحة الأمة في المسألة ولا حاجتها الحقيقية ! عاش في أغلب رموزه جهلا فظيعا بالدين وضرب المثال بهم في التخلف الدراسي , وتفوق في التأصيل لصناعة الغش في الامتحانات ! وكان أول فصيل إسلامي يبوء بإثم المنع الهمجي للأساتذة المحاضرين والدعاة الإسلاميين من الكلام ! وممارسة حقهم الشرعي في التربية والتوجيه , لا لسبب إلا لكونهم ذوى انتماءات تنظيمية أخرى ! وإن كنت أنسي فلا أنسي أبدا ما وقع للأستاذ الداعية الحجة أبي زيد المقرئ الإدريسي في جامعة الدار البيضاء , ثم ما وقع للأستاذ المجاهد المصطفي الرميد في جامعة تطوان , من إقصاء إرهابي ومنع تعسفي من المشاركة في نشاط لم يكن طلبة ( العدل والإحسان ) هم الذين أقاموه! وقد عشت – وأنا من المشرفين على العمل الطلابي ساعتها – مأساة تحطيم اللوحات الإسلامية وتمزيق اللافتات الإيمانية بأيدي " الياسينيين " بجامعة عبد المالك السعدي وبجامعة الحسن الثاني تحت ذريعة حماية قوانين " أوطمية " جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان ! يبررون بها فعلهم يا ويلهم ! فيدخلون بذلك تحت سياط قول الله جل علاه : ( يخرجون بيوتهم بأيديهم ) ( الحشر :2) كذلك والله المستعان ! وما رأيت – في الإسلاميين – أقل حياء من طالباته وطلابه ولا دوسا لأحكام الشريعة من رواده ! يرفعون أصواتهم باسم الدين تصفيقا وتصدية في السماء في حلق وتظاهرات تعجن الفتيان بالفتيات وتهتك حجاب الحياء ! ثم يدّعون أنهم يعبدون الله تعالي بمثل هذا السفه ؟ عجبا ! كيف ؟ ونصوص الشريعة تدينهم صباح مساء ! من مثل قول النبي صلي الله عليه وسلم : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولي إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إن الحياء والإيمان قرنا جميعا , فإذا رفع أحدهما رفع الآخر !) ثم عن أنس وابن عباس كليهما أن النبي صلي الله عليه وسلم – قال : ( إن لكل دين خلقا وإن خلق الإسلام الحياء !) .
ولو كان هؤلاء يتلون القرآن حق تلاوته , لكانوا يشاهدون المقام الإيماني العالي للفتاتين المؤمنتين في قصة موسي عليه السلام ! وللاحظوا كيف تراجعتا إلى الخلف , حفظا لشرفهما وصونا لحشمتهما , ومنعا لكرامتهما من زحام الرعاء والرعاع ! ولشهدوا كيف جاءت إحداهما إلى موسي تمشي على استحياء ! لا على صلف وكبرياء ! ولا بـ " نضال " تدوس حوافره وأظلافه كل قيم الخبر والحياء ! قال الله جل علاه : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان , قال ما خطبكما ؟ قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقي لهما ثم تولي إلى الظل فقال : رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير , فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ... الآية ) ( القصص : 23 -25) فيا له من كمال ! ويا له من جمال !... فعجبا ! كيف لم يشاهد هؤلاء ذلك وهم – كما زعموا – أصحاب ( المشاهدات ؟1 ثم إنهم لو كانوا يعرفون سنة النبي صلي الله عليه وسلم – ومنهاجه النبوي الحق لوجدوه – عليه الصلاة والسلام – يؤسس قيم الأخلاق في المسجد بفصل صفوف النساء عن الرجال , ويقول لأصحابه ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها , وخير صفوف النساء آخرها , وشرها أولها !) لقد كان ذلك الترتيب النبوى في بيت الله لما أعلمه الله من أن أحدهم كان يصلي في الصف الأخير فينظر – من خلال ركوعه وسجوده – إلى امرأة جميلة – كانت تصلي في الصف الأول من النساء ! فكان الأمر النبوي للرجال بالابتعاد عن صفوف النساء ! وهم في بيت العبادة وحال التقرب إلى الله ! فما بالك بتجمعات اقتضتها عادات ليس فيها من روح العبادة نصيب ؟ ولست أدرى على أى توراة أم على زبور اعتمد هؤلاء لعجن الفتيات بالفتيان في مسيرات السفه والبهتان !
فالله الله على انهيار قيم الدين بأيدى من يفترض فيهم حفظ " عدله وإحسانه " لقد تحطمت قوارير الأخلاق على صخور تقليد " الرفاق "! فماذا بقي بعد ذلك لهؤلاء ؟
لم ينفعهم تصوف الجماعة المزعوم في التربية والسلوك لسبب بسيط , هو أن التعبد لله الواحد القهار , لابد فيه من اتباع سنة النبي المختار , بيد أن الأطروحة الياسينية انحرفت عن ذلك جميعا وغالت في توجهها الخرافي بصورة ما كنا نتوقعها في زمن سابق قط ! وليس عبثا أن يجمع العلماء على أن العبادة لله تعالي لا تصح حتى تجمع بين وصفين : أن تكون خالصة لله في القصد , وموافقة للشرع في الصواب , وكل ذلك انخرم في التصوف الياسيني فقد أضاع الإخلاص ببروز الشخصانية في القيادات والشعارات ! وأضاع الصواب بسبب الجهل بالشريعة , واحكامها في العبادات والمعاملات , وكل عمل خلا من أحد الوصفين فهو باطل ! وقد تقرر في القاعدة الفقهية : أن : ما انبني على باطل فهو باطل !" تأصيلا لكل ذلك فيما تواتر – معنويا – من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد!) ( ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ومن هنا ارتفعت البركة عن أعمالهم و سحبت الربانية عن نضالاتهم فلا نضارة ولا رواء ! فتنزل عليهم إبليس بالرؤى الاستدراجية , والمشاهدات الشيطانية حتى ظنوا أن العصمة قد حلت فيهم , وأن الخلافة صارت إليهم ! وما هو إلا تدليس وتلبيس ووهم خسيس !
وقد مر في التاريخ من هم أفضل منهم قياما وصياما وأكثر منهم تلاوة للقرآن وإحسانا , ثم قضى الله تعالي بكبكبتهم في النار ! وإنما كانوا يطالبون مثلهم بـ العدل والإحسان ) كما تصوروهما لا كما هما في شرع الله ودينه الحق ! وبذلك خرجوا عن أهل السنة والجماعة وما حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك عنا ببعيد , فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : ( سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول : " يخرج في هذه الأمة – ولم يقل منها – قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ! يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم , أو حناجرهم ! يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ! فينظر الرامي إلى سهمه , إلى نصله , إلى رصافه فيتمارى في الفوقه هل علق بها من الدم شئ ؟!) ومثله حديث على رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول :" سيخرج في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام , يقولون من خير قول البرية يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ! يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية !... )
وما هي إلا سنوات قلائل حتى أصبحت الجامعة المغربية أطلالا خاوية على عروشها من كل قيم الخير والجمال ! وصار رد الفعل الخطير على ذلك السلوك المتشنج الذي مارسه " الياسينيون وغيرهم هو انطلاق موجة الفجور السياسي , والانحلال الخلقي , نتيجة عكسية لعدة سنوات من الإرهاب الطلابي الذي مورس باسم الدين ! فكان الخاسر الحقيقي في تلك المعركة إنما هو الدين نفسه ! فتحطمت الفصائل الإسلامية كلها في الجامعة المغربية , ولم يبق منها إلا مزق من قطع غيار بالية ! ترتطم صفائحها الصدئة بين الفينة والأخرى فتصدر أصواتا متحشرجة بهذه الجامعة أو تلك وهي تعيش لحظات الاحتضار ! وخرج الفصيل " الياسيني " من الجامعة المغربية بتاريخ شقي وسجل أسود !
وكنا نرجو ألا يقع " فصيل الوحدة والتواصل " الذي تطور فيما بعد إلى مسمي منظمة التجديد الطلابي – فيما وقع فيه زميله " الياسيني " من مزالق ومهالك ويقف بجرأة وقفة مراجعة للتراث " الأوطمي " قبل التدنس بحممه السوداء ولكنه – مع الأسف – انساق كصاحبه وراء البريق الشيطاني الذي استدرج العمل الإسلامي عن وظيفة الحقيقية , وجره إلى سفه المهاترات الكلامية فابتلي هو أيضا بكل ما ذكرنا عن الفصيل الأول من أدواء وأهواء لكن بدرجة أقل لقد صارت " منظمة التجديد الطلابي " – على وزان الحزب السياسي سواء – تجليا من تجليات " المطيعة " مع الأسف!
رغم ما كان يعترى مبادراتها من محاولات تصحيحية – من حين لآخر – لكنها لا تستمر إلا قليلا حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة ! وظل التصحيح حبيس الأوراق والملصقات الملونة !
ولقد شاهدت بنفسي سنة : 2000م, كيف كان الكذب الصراح والبهتان القراح أساس خطابات طلابية في مؤتمرات داخلية , باء بها بعض رواد فصيل الوحدة والتواصل , ومن أجل احتكار مناصب قيادية داخل الصف الطلابي , لصالح تيار ضد تيار , في نفس الجماعة الواحدة ! وعلا العجيج والضجيج واشتبكت الأصوات الفاجرة وأزبدت ! فشاهدت بعيني المصداقية الدينية تحترق في وجوه بعضهم حتى صار دخان الخيانة يزكم أنفي ! فقلت في نفسي أهذا جمع ( تتنزل عليه الرحمة وتغشاه السكينة , وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده ) ؟ أم أنه جمع للكذبة والشياطين ؟ فضاق صدري وانعقد لساني , ثم انصرفت عن القوم كاسف البال غير آسف إلا على عمر ضاع مني في تيه خارج أولويات الدين !
وهكذا صار العمل الطلابي " الإسلامي "- بكل فصائله – ضليعا في تخريج المتكلمين الجدليين , عاجزا عن تخريج العاملين الرساليين ! وكان أولي به أن يشتغل بما ينفعه في دينه حقا , وينفع الأمة في مستقبلها صدقا . كان حريا به أن يشتغل بتداول نصوص القرآن الكريم تلاوة وتدارسا , والتفقه في الضروري من سنة سيد المرسلين , لامتلاك الحد الأدني من الثقافة الدينية الضرورية للدعاة العاملين , ثم الانخراط في العمل الدعوى بين عموم الطلبة والطالبات ومحاربة الفجور السياسي , والانهيار الأخلاقي , وبث الوعي بخطورة الكيد الإيديولوجي والتضليل الإعلامي .. إلخ كان المفروض في القطاع الطلابي أن يكون أكثر نشاطا في المجال التربوي ,وأكثر فاعلية في مجال دعوة الشباب إلى الصلاح , وتحمل الهم الرسالي لهذا الدين , ثم كان المفروض – قبل هذا وذاك – أن يهتم بالمدارس الثانوية ليهيئ الخلف من الراشدين لحمل رسالة الجامعات والمعاهد الطلابية , حتى لا ينقطع السير في درب العمل الدعوى بالجامعة أبدا , كما كان المفروض أن يهتم بمدارس الأطر العليا , والنخبة المعدة لحمل الشهادات المتخصصة في مجال الدراسات الإعلامية , والقانونية , والاقتصادية والرياضية , والفزيائية والهندسية بشتى فروعها , وألا يزج بأمثال هؤلاء في متاهات ( قيل وقال وكثرة السؤال ) وإنما يصنع منهم أطرا تحمل إيمانا عاليا بالله واليوم الآخر ,وتصدق في خدمة الدين والوطن فمستقبل البلاد دائما رهين توجه النخبة التكنوقراطية والمثقفة لو كانوا يفقهون !
ولكن تهاوى العمل الإسلامي الأصيل في الجامعة ذلك الصرح الأول الذي بنته – على قلة – الأجيال الطلابية الأولي , طيلة السبعينات وأواسط الثمانينات من القرن الماضية , بلا نقابة ولا ربابة ! وإنما بمجالس تربوية إيمانية بانية , وبإصرار عجيب على القراءة المعمقة , والتضلع بالصناعة العلمية الراشدة , في كل التخصصات الدينية والإنسانية والطبيعية ! وهي آنئذ تدافع ظلم التيارات الماركسية وظلماتها! والماركسية ساعتها في أوج عنفوانها ! وبذلك أنشأ الطلبة الإسلاميون مدرستهم الأولي : ( من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين ) ( النحل : 66) ولكن ما أن دخلت الفصائلية البغيضة العمل الإسلامي حتى تلاشت العقلية التأصيلية والنقدية , انسحبت العزيمة الاجتهادية من الحرم الجامعي , لصالح الفكر الخرافي في بعض فصائله والفكر الغثائي في بعضها الآخر ! ثم تركت المجال فارغا للماركسية الاستئصالية ,والتيارات العنصرية المأجورة , تملأ الجامعة بإرهابها المصطلحي ! وسبابها المفهومي ! وإقصائها للدين وأهله !
وكان المفروض في العمل الطلابي أيضا أن يفرغ أهل التخصصات الشرعية من طلاب الدراسات الإسلامية , وكليات الشريعة وأصول الدين للتحقق بوصف العالمية الحقة بدراسة معمقة والتفقه في الدين بصورة متفانية لتخريج أجيال من العلماء إذ العلماء هم القادة للأمة ,
وهم حياة الأمة ,فإذا انقطع امتدادهم انقطع امتداد الأمة ! ولكننا لا نرى من المتخرجين من هذه التخصصات الشرعية – مع الأسف الشديد – إلا طوابير من الجهلة بعلوم الدين ! وقد لا يمتلك أغلبهم من العلم الشرعي حتى الحد الأدني من الضروري لعبادة رب العالمين ! وذلك لفساد برامج التعليم الجامعي ومناهجه , ثم لرداءة معادن النماذج الطلابية الملتحقة بهذه التخصصات خاصة , وبأغلب شعب الجامعة المغربية عامة , لا سيما في هذه السنوات الأخيرة , إلا من رحم الله , وقليل ما هم ! وذلك لانهيار منظومة التعليم بأسرها وفقدان مصداقيتها قوة وأمانة في نظام التعليم الأساسي والثانوي بالمغرب كله !
فلماذا لم تناضل الفصائل الطلابية ضد هذا العبث الخطير الذي يعصف بالصناعة التعليمية بالوطن كله ؟ وأشهد أنني ما رأيت – ولا لمرة واحدة – مظاهرة واحدة تخرج ضد فساد برامج التعليم , ولا ضد أستاذ يتغيب أو يغش , أو ضد مقرر دراسي هزيل لا يسمن ولا يغني من جوع ! أو ضد مكتبة فقيرة قليلة المصادر والمراجع سيئة الخدمات !
نعم شهدت مسيرات حاشدة ضد دسامة المقررات الدراسية , وغني البرامج التكوينية وضد جدّية سلم التنقيط وصرامة ميزان التقويم , مما وضعته الأطر التربوية بالجامعة لرفع المستوى العلمي وتطوير الأداء الاجتهادي في الدرس والمتابعة أما هذا وإضرابه فما رأيت أشد حرصا على تخريبه منهم !
وكان المفروض في القطاع الطلابي أيضا أن يقود حركة ديناميكية مستمرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجامعة بالحكمة والموعظة الحسنة والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن وهو الأمر الذي لم نره فيهم اللهم إلا " حملات " عابرة ينجزونها أحيانا يخجل وكأنهم ينتظرون لحظة نهايتها لينغمسوا من جديد في جدلهم البيزنطي ويسكروا بترهاته إلى إشعار آخر .
ثم كان من المفروض في القطاع الطلابي الإسلامي في نهاية المطاف وبالتبع لا بالأصالة وبالدرجة الثانية لا بالدرجة الأولي , أن يشتغل بالعمل النقابي التدافعي و الانخراط في المطالبة بحقوق الطلبة المادية , بعد تأمين حقوقهم التربوية , وكان يجب على الطلبة والمنظرين الإسلاميين لهذا القطاع أن يؤصلوا لثقافة نضالية جديدة , تتخلص من رماد التراث الماركسي الشقي , وتخرج من بلوى استنشاق دخانة ثم تصنع مناضلين مؤمنين , تحبهم الإدارة أكثر مما تخاف منهم , تتفاءل بدخولهم عليها أكثر مما تتشاءم ! كان المفروض أن يخرج القطاع الطلابي الإسلامي قادة أقوياء أمناء يتمتعون برفق في الخطاب وبلين في السلوك من غير ضعف ولا خور , وبقوة ومناعة في غير عنف ولا شدة وذلك هو فصل الحكمة , التي حرمها هذا القطاع البئيس ! فحرم البركة كلها ! ولو أنهم كانوا على شئ من ذلك لصاروا نماذج تربوية يقتدي بها ليس للطلبة فحسب بل لكثير من أساتذتهم أيضا ولكثير من الموظفين والإداريين ! حتى إذا غادروا الجامعة حنت إليهم القلوب وتعلقت بهم الذكريات ! لكنهم اليوم مع الأسف , ما غادروا – في الغالب – إلا وتخلصت من شرهم النفوس وتبعتهم اللعنات المخزيات !
لقد درست منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي بالجامعة المغربية إلى يومنا هذا , ولا أحد دخل على ّ - ولا لمرة واحدة – من هذا الفصيل أو ذاك فتصدر منصة المدرج أو قاعة الدراسة لإلقاء كلمة هادفة حول قضية الدين في الأمة بما هو عبادة لله رب العالمين أساسا , ورسالة للناس أجمعين , أو حول أهمية فريضة الصلاة أو خطورة العري الفاجر أو لصد هذا السلوك الساقط الذي يلتهم بأنيابه الوحشية الشباب يوميا , داخل الجامعة وخارجها ! أم أن هذا كله خطاب وعظي , ومنهج سطحي , وغيبيات تعبدية ليست من أولويات النضال " الأوطمي " ؟ فإذن مشكلتنا كما ذكرت مرارا هي في تحرير مفهوم " الدين " في أذهان الإسلاميين ! فلو أننا حررناه حقا , وصار كل العمل الطلابي قائما على موازينه , ومرتبا على سلّم أولوياته لكان للإسلام بالجامعة شأن آخر ! ولتذهب – بعد ذلك – نصب " أوطم" وهياكلها إلى الجحيم !
وإنما كانوا يدخلون على كما تدخل السباع – ولا أقول الأسود – لترويع الطلبة المستضعفين وتفريغ المدرجات منهم تفريغا , ثم الإلقاء بهم – قهرا – في تيه الضياع ّ يتسكعون في ساحات الكلية أو في الشوارع العامة ! فكلما طاب الدرس وحلا وتدلت ثماره ناضجة طرية فتهيأ للقطاف الجني دخل الفصائليون الظلمة " المناضلون " ضد العلم والنور فحطموا دوالي الخير, وأفسدوا كل شئ ! فأبادوا بقية الأمل في وظيفة الجامعة ! وكأنهم " يأجوج ومأجوج " ما بعثوا إلا للإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل , كذلك الأمر كان , والله المستعان .
الفصل الثالث : استصنام " الشخصانية " المزاجية " في الحركة الإسلامية
من أهم أسباب الوقوع فيما ذكر من مظاهر الاستصنام غياب القيادات العلمية الرسالية , والربانية الحكيمة , وتصدي الزعامات اللاعلمية لقيادة العمل الإسلامي , على المستوى العالي والمتوسط من الهرم الإداري , مما أدي إلى اسصنام " شخصاني " لتلك القيادات وإلى رسم معالم السير الحركي , بناء على مزاجها لا بناء على قواعد العلم وأولوياته الشرعية !
والحركة الإسلامية اليوم بالمغرب رازحة تحت سلطان شخصية " المثقف " أو شخصية " التكنوقراطي " خالية من العلم وأهله إلا قليلا , فإذا وجدوا فعلي مستويات لا تؤهلهم لقيادة العمل الإسلامي , علميا وإداريا , فيخضعون هم أيضا بصورة إرادية لشخصانية القيادات المزاجية , والحقيقة أن هذا الإشكال يتفاوت حضوره من حركة إلى أخرى لكنه موجود فيها جميعا على الإجمال .
وربما خلط بعضهم بين مفهوم " المثقف " ومفهوم " العالم " وكذا مفهوم " الواعظ " فالتكنوقراطي قد يكون واعظا ناجحا وقد يكون متقفا كل ذلك بغير مجهود دراسي تخصصي ولا احتراف منهجي , وإنما بشئ من الدربة والمطالعة ولكنه لا يكون عالما إلا بتفرغ تخصصي وتوجه دراسي رسمي أو غير رسمي , ثم احتراف منهجي لما تخصص فيه وتخرج به حتى يحصل صفة " العالمية " بما هي ملكة وصناعة , كما بيناه في كتابنا : " مفهوم العالمية " تماما كما أن الطبيب لا يكون طبيبا إلا بدراسة منهجية واحتراف علاجي فالعلم دراسة وخبرة .
والمشكلة أن كثيرا من الناس – من غير أهل العلم الشرعي المتخصص – قد خلطوا بين المفاهيم , بسبب ندرة العلماء الحقيقيين , أو بسبب غيابهم عن الساحة العامة والإعلامية , مما أدي إلى وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب ! وإلى تربع بعضهم على كرسي قيادة العمل الإسلامي وتقديمه على أنه ( عالم ) وما هو بعالم , وإنما صار كذلك بما خلع الأتباع عليه من الصفات ما لا يستحق !
إننا لا نعرف من الحركات الإسلامية البارزة في الساحة المغربية اليوم حركة يقودها علماء حقيقيون اللهم إلا ما قد حصل لبعضها في فترات محدودة وإنما واقع الحركات الإسلامية بالمغرب في الوقت الراهن أنها تتأرجح بين قيادة " المثقف " وقيادة " التكنوقراطي " سواء على مستوى القيادة العليا أو القيادة المتوسطة , وربما توهم أن اشتهار بعضهم بالكتابة والتأليف في الفكر , أو في السياسة أو في التصوف هو عين العلم , وهو صفة " العالمية " كلا! فقد بينا في غير هذا الموطن أن صناعة " التأليف " هي غير صناعة " البحث العلمي " المتخصص فذلك كله إنما هو عمل ثقافي وصاحبه لا يعدو أن يكون مثقفا فقط , والصفة " الثقافية " هي غير " العالمية " وليس بالضرورة أن يكون كل مؤلف عالما , كما أنه ليس بالضرورة أن يكون كل عالم مؤلفا .
و" كرونولوجيا " الإنسان الدراسية , وسيرته العملية بين العلماء وطلبة العلم , وكذا خبرته الاحترافية للصناعة العلمية , بحثا في صلبه وتدريسا لكتبه , وتكوينا لطلبته , واجتهادا في إشكالاته , ثم إفتاء في نوزاله كل ذلك كفيل يكشف مدى استحقاقه لصفة " العالمية " إما صحة وإما بطلانا .
وعليه فغياب العلماء عن مواقع القيادة والتوجيه المباشر لأغلب حركات العمل الإسلامي جعلها تقع في استصنام " الشخصانية المزاجية " لمن قدر أن يكونوا قادتها اليوم , على مستوى القيادات العليا والمتوسطة , وذلك ما أدي بها – في بعض أشكالها التنظيمية – إلى انحرافات شتى في مجالات أخرى فقد تسبب لها الفراغ العلمي الرباني الراشد , في الوقوع بمستنقع الضلالات العقدية , والانحرافات السلوكية , والانجراف وراء الأهواء والبدع , في العقائد والعبادات والبناء على مرجعية لا شرعية تعتمد الأوهام الخرافية , في المنهاج التربوي والتخطيط الحركي وفي استصدار المواقف والقرارات وشتى ضروب الأحكام على الأشخاص والمؤسسات فكانت بذلك وسيلة إلى التلبسات الشيطانية المتنزلة على كثير من روادها وأتباعها في صورة " رؤى " و" مشاهدات " تناقض أحكام الشريعة وأصولها , وغير ذلك من البلاوى والتخبطات , مما لا نعلمه إلا عن المبتلين بالمس الجني والتلبس الشيطاني , والعياذ بالله , ومن هنا وفي غياب القيادة العلمية الراشدة أصبح كثير من الشباب في هذه التيارات الخرافية وإضرابها يغتر بفهم سطحي لحديث رؤيا النبي – صلي الله عليه وسلم – في المنام الوارد بصيغ مختلفة عن عدد من الصحابة , من مثل ما ورد عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : ( تسمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي ومن رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي , ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار !)
لذلك فإن بعض الجهال يصدق كل حلم شيطاني يتجلي عليه في أى صورة خادعة , وأى هيأة ذات " أنوار " و" أسرار " – زعموا – على اعتبار أن ذلك هو شخص النبي حاشاه عليه الصلاة والسلام ! وإنما الأمر فيه تفصيل شرعي وتقعيد علمي منذ القديم , فقد ورد حديث رؤيا النبي صلي الله عليه وسلم في المنام عن عدد من الصحابة , بألفاظ مختلفة , وبطرق متعددة منها ما جاء عن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلي الله عليه وسلم : ( من رآني في المنام فقد رآني , فإن الشيطان لا يتخيل بي , ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول : ( من رآني فقد رأى الحق , فإن الشيطان لا يتكونني ) .
والعلماء في هذا فريقان , الأول : يمنع استمرار ذلك بعد جيل الصحابة رضوان الله عليهم , على اعتبار أن المخاطب بالحديث هنا إنما هم الصحابة وحدهم , لأنهم هم الذين شاهدوا النبي – صلي الله عليه وسلم – في حياته وصاحبوه , فتمكنوا من معرفة صورته وهيأته والتحقق منها , فإذا رأوه في المنام لم يكن لديهم شك أنه هو شخص النبي – صلي الله عليه وسلم – عينه , وتلك هو صورته على ما يعرفون منه في النهار معاينة , فلا إمكان إذن لتلبس الشيطان بصورة غير صورته والتجلي عليهم بها , زاعما أنه هو النبي الله عليه وسلم , إذ القوم على معرفة حقيقية به عليه الصلاة والسلام وهذا كلام وجيه له حظ من قوة الاستدلال .
والفريق الثاني : يري استمرار ذلك في الأمة إلى يوم القيامة وهو الاختيار الذي نرجحه ولكن بقواعد العلم , لا بترهات الدجاجلة والخرافيين ! وذلك أن إمكان الرؤيا المنامية لصورة النبي – صلي الله عليه وسلم – كما هو في نصوص الحديث الكثيرة عام غير مخصص , ومطلق غير مقيد ... وعليه فلا يبعد أن يري اليوم بعض الناس النبي صلي الله عليه وسلم , بشرط أن تكون الصورة التي رآها هي فعلا عين صورته وذات هيأته صلي الله عليه وسلم وهنا مزلق كثير من جهلة العباد ومرتع كثير من أصحاب الدجل والأهواء إذ يصدقون كل تجل شيطاني يتجلي على صاحبه على أنه هو النبي صلي الله عليه وسلم باعتبار أن الحديث يمنع أن يتمثل به الشيطان أو أن يتكونه , وهذا غلط كبير! فقد يتكون الشيطان بأى صورة , ويتمثل في أى هيأة - من غير صورة النبي وهيأته – ثم يدعي أنه هو النبي صلي الله عليه وسلم ! والحديث لا يمنع أن يدعي الشيطان أنه هو النبي , وإنما يمنع أن يتمثل بصورته عليه الصلاة والسلام وفرق بينهما كبير ! بل لقد ادعي الشيطان أنه هو الرب ! سبحانه وتعالي عن ذلك علوا كبيرا ! وفي الحديث الصحيح أن المسيح الدجال سيدعي ذلك أيضا ! فما بالك بادعاء النبوة ؟
وعليه فليس كل حلم يراه الإنسان على أى صورة كانت دال على أنه هو النبي صلي الله عليه وسلم وأنه مشمول برؤيا الحق الواردة في الحديث حتى ولو قال الشيطان لضحيته :" أنا النبي " أو " أنا الرسول "! ولقد أضل الشيطان بهذا عددا كبيرا من الجهل والله المستعان ! بل لابد لصحة رؤيا النبي صلي الله عليه وسلم في المنام من شروط علمية , ذكر بعضها الإمام الشاطي في كتاب الاعتصام وهي :
- أولا : أن تكون الصورة التي رآها الرائي مطابقة لأوصاف النبي الخلقية الثابتة في وصف هيأته الشريفة عليه الصلاة والسلام , في كتب الشمائل المحمدية على ما يضبطه أهل العلم بالحديث وفقهه .
- ثانيا : ألا تتضمن الرؤيا أمرا أو نهيا يخالف الثابت من نصوص الشريعة من الأحكام الشرعية أصولا وفروعا , ومن الحقائق الإيمانية والغيبية مما جاءت به نصوص الكتاب والسنة , إذ النسخ لذلك أو التغيير والتبديل ممنوع بالإجماع القطعي بعد وفاته صلي الله عليه وسلم والرؤيا الصالحة ليست أصلا من أصول التشريع , وكل قول يخالف شيئا من ذلك كان من البدع المنكرة ! مردودا على صاحبه بنص صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام – المتفق عليه – من قوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد!) ومن هنا فإن شأن الرؤيا الصالحة مطلقا – إذا وردت بتوجيه شرعي – ألا تتجاوز ما سبق ثبوته بالنص . لأنها – على حد تعبير الشاطبي ( كالتنبيه لموضع الدليل ) ولذلك وجب عرضها على أهل العلم , للنظر في إشارتها المساغ طرحت وعلي آنئذ أنها من الشيطان .
- ثالثا : ألا تتعدي الاستفادة من الرؤيا مقاصد النذارة والبشارة لصاحبها خاصة , لا لعموم الناس , ولا للتخطيط لأحوال البلاد والعباد !
- كما يفعله بعض جهلة الإسلاميين في هذا الزمان , وكل شئ خالف هذه الشروط دل على أن تلك الرؤيا إنما هي كذب وبهتان وضرب من إيهام الشيطان !
هذا وقد أغرب بعض الخرافيين فقالوا بإمكان رؤيته – صلي الله عليه وسلم – في اليقظة بعد موته عليه الصلاة والسلام ! بناء على فهم سطحي لحديث أبي هريرة المتفق عليه , وهو قوله رضي الله عنه ( سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول : ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي " قال أبو عبد الله ) ( البخاري ) قال ابن سيرين : إذا رآه في صورته ) ومعني الحديث – كما شرحه فقهاء الحديث – هو على أحد ضربين : إما أنه خاص بأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم على أساس أن من رآه منهم في منامه فسيراه قصدا – بعد ذلك – في يقظته ويستقبله بخصوصه لأمر ما وكان ذلك علامة على الإذن بتلقي توجيه ما أو تنبيه ما , أو بشارة ما في اليقظة بعد المنام , ولا يصح ذلك إلا لمن عاش زمن حياته صلي الله عليه وسلم , ومن هنا خصوا الحديث بصحابته رضي الله عنهم .
والثاني : أن يكون اللفظ على إطلاقه مستمرا إلى اليوم فتكون رؤيا اليقظة وعدا منه - صلي الله عليه وسلم – وبشارة لصاحبها أنه سيراه يوم القيامة ويفوز بزيارته في الجنة , أو بشفاعته , أو بالشرب من حوضه سقيا بيده الشريفة صلي الله عليه وسلم !
أما الرغم بأنه يراه يقظة في الدنيا جهارا نهارا وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام فهو لعمري جهل مكين وضلال مبين ! لأنه مناقض لقواطع الأدلة من الكتاب والسنة , ومما لم يؤثر قط عن أحد من الصحابة والسلف الصالح أنه حدث له ! فكيف يحدث في آخر الزمان لحثالة الناس !؟ ذلك هو النقض الصريح لحقائق القرآن وثوابت الإيمان من أن النبي صلي الله عليه وسلم قد مات , وأنه لا يخرج أبدا من قبره ولا ينزل من برزخه إلى يوم البعث المعلوم , قال تعالي : ( إنك ميت وإنهم ميتون , تم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون !) ( الزمر 30 -31 ) ولا يكون مدعي عكس هذا إلا مبتلي بتخبط الشيطان ! والله وحده المستعان !
ولا يعكر على هذا حديث رد روحه عليه – صلي الله عليه وسلم – مما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي , حتى أرد عليه السلام )
فقد اختلف العلماء فيه اختلافا كبيرا وهو على كل حال خارج عن محل النزاع من مسألتنا لأنه لا يثبت للنبي صلي الله عليه وسلم خروجا من القبر , ولا نزول من البرزخ , ولا تجليا حيا في اليقظة على الناس , وإنما غايته أن النبي صلي الله عليه وسلم يهبه الله وعيا معينا , لرد السلام على الناس , أو طبقة معينة من الحياة الأخروية على نحو ما هو ثابت من حياة الشهداء في عالم البرزخ , وهو ما يزال في موته المستمر والحديث على كل حال استشكله كثير من العلماء , لأنه يقتضي استغراقا أبديا في رد السلام إذ السلام على مقامه الطاهر لا ينقطع أبدا الليل والنهار ! وأما الأحاديث التي تتحدث عن بقاء حياته صلي الله عليه وسلم , وخروجه من قبره فلا يصح منها شئ كما قال غير واحد من أهل العلم , بل كلها من قبيل الموضوعات !
والقول الختام في مسألة هذا الحديث أنه خبر آحاد ظاهرة معارض لقواطع الأصول الكليات , من كتاب الله وسنة رسوله الواردة في مسألة موت رسول الله صلي الله عليه وسلم ويكفينا أن هذا الوهم قد حصل لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند أول صدمة نزلت عليه بخبر موت الرسول صلي الله عليه وسلم ! كما هو في صحيح البخاري وغيره فرده أبو بكر الصديق إلى الحق القطعي , وبيان ذلك هو كما يلي :
أخرج البخارى في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مات , وأبو بكر بالسنح , فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله صلي الله عليه وسلم ! قالت : وقال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك !" وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ! فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فقبله , قال : بأبي أنت وأمي ! طبت حيا وميتا ! والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ! ثم خرج فقال : أيها الحالف ! على رسلك ! فلما تكلم أبو بكر جلس عمر , فحمد الله أبو بكر وأثني عليه , وقال : ألا من كان يعبد محمدا صلي الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات ! ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ! وقال : " إنك ميت وإنهم ميتون " وقال : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم , ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين " . قال " فشنج الناس يبكون (....) ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم , وخرجوا به يتلون : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ") الحديث , وذلك هو القول الفصل ( لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد ) وإنما الموفق من وفقه الله .
أما مشكلة القيادة التكنوقراطية فهي أنها تعاني من غياب " الإمامة العلمية " ذات النظر الفقهي في تقدير المآلات الدعوية ,والقديرة على بسط سلطانها الروحي على النفوس تربية وسلوكا , والحقيقة أن هذه القيادة – رغم ذلك – أقل تعرضا للانحراف المزاجي من القيادة الثقافية بسبب الغرور الذي يصحب " المثقف غالبا " والعجب الذي يتلبس به في ذاته مما يؤدي إلى الاستصنام الحركي لشخصانيته ! وهو ما يقل عادة في شخصية " التكنوقراطي "
فغياب العالمية الربانية من قيادة العمل الدعوى وتوجيهه يؤدي إلى عدم القدرة على الاحتضان التربوي الشامل للحركة وأبنائها " والأمم - كما يقال – على دين أمرائها " – فلا يتصور أن توكل الوظائف التربوية والتأطيرية إلى " لجنة علمية " أو " خلية تربوية " فهذا فساد ما بعده من فساد ! وقد جربناه مرارا فما وجدنا فيه إلا إضاعة الوقت في غير طائل ! نعم اللجان ضرورة حركية ولكن تحت الإشراف المعنوي أو المباشر للعالم الحكيم الرباني , وإلا فستبقي منجزاتها وبرامجها لقي مهملا يتلفه النسيان ويأكله البلي في رفوف مقرات الحركة هنا وهناك , وتبقي بعد ذلك جموع المنتسبين لها معرضة بصورة دائمة للاضطرابات التربوية والاهتزازات الفكرية والتصورية !
ومن هنا تضخمت " الآنا الفردية " لدى كثير من أبناء الحركة ثم طفت على السطح قيادات عالية ومتوسطة تضخمت ( أناها ) بصورة مرضية بغيضة , حتى إنك تجد أحدهم لا يستطيع أن يتحدث عن العمل الإسلامي إلا من خلال نفسه! ولا يعرض منجزات الدعوة في الوطن – أو في جهته - إلا من خلال تجربته ! لما يعاني من الرغبة المرضية الجامحة في تمجيد شخصه ! وإشباع شهوة " بطولته " وبناء صرح مجده ! ولو تسمع له وهو يتحدث أو يحاضر لأمكنك أن تعد له من " ضمير الرفع المتكلم " منفصلا ومتصلا – مئات العبارات ...! من مثل : " أنا قلت وأنا فعلت " ! تماما كما قال إبليس من قبل : ( أنا خير منه !) ( الأعراف : 12 ) وكما قال حليفه قارون : ( إنما أوتيه على علم عندي !) ( القصص : 78) .
وإن تعجب فجب كيف يغامر أحدهم بتمجيد ذاته في الدين ! على حساب قصد التعبد والإخلاص فيه ! وما الدين إلا إفناء " الأنا " في الله ! فأى مدرسة " إسلامية" هذه التي خرجت هؤلاء المشوهين في الفكر التربوي والممارسة الدعوية !" أى جرأة صفيقة هذه التي تمكن أحدهم من استعراض بطولته الكاذبة المنائة على الله ؟ والتباهي بأمر لا يملك تجاهه المجاهدون الربانيون حقا إلا التفاني فيه عن الذات والتنكر لحظوظها؟ حتى لا تكاد تسمع لأحدهم فيه نسبة خطوة واحدة إلى نفسه ! مع أنه لا يكاد يجد للراحة من خوض غمار العمل الإسلامي الجاد سبيلا ! قد أغبرت قدماه في ميدانه وتعددت أدؤاوه بما أبلي من جسده في سبيله ! داعيا إلى الله هنا وهناك ! ولا أستطاع أن يتكلم عن نفسه بكلمة واحدة ! ثم نبتت نابتة سوء من الإسلاميين – زعموا – تدعي أنها قد قلبت الدنيا رأسا على عقب , وأن الفضل كله يرجع إليها في التمكين للدين ونصره سيد المرسلين ! وأن كل من صلح أمره من المسلمين إنما هو يجهدها ! وأن كل من صلي وصام إنما هو بفضلها ! يتبجحون بذلك – أفرادا وجماعات – ثم لا يستحون ! عجبا , عجبا ! فأى جرأة على الله هذه وأى تعد على سلطانه ؟ أولا يعلمون أن في أمثالهم نزل قوله تعالي : ( لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) ( آل عمران : 188) .
تضخمت " الأنا التنظيمية " في الجماعات , ثم تضخمت بداخلها " الأنا الفردية " وتمجدت الذوات ! وبسبب ذلك لم تنقطع حركة التمرد الفكري بهذه الحركة أو تلك , وحالات الشرود التربوي والتشوه الخلقي ,وإنشاء الأحلاف المعاكسة , والجيوب المرضية والتيارات الشاذة داخل البناء التنظيمي للحركات الإسلامية , وقد تمتد الأمراض من حركة إلى أخرى , أو ربما انفصلت عنها جميعا لتصنع مزقا أخرى خارجها ! ولذلك ظهرت بؤر سرية لبعض الفرق الضالة , كالشيعة الروافض , وجماعة الأحباش ومنهم من ارتكس إلى الطرق الخرافية معرضا عن التصوف السني الأصيل ! بل منهم من انسحب من التدين نهائيا ليتخصص في الشعوذة والدجل الخرافي ! ومنهم من ارتمي في أحضان جهات مشبوهة تمتد خيوطها الخفية خارج الوطن , فانخرط في مشروعها الاستعماري يكتب لها التقارير وينجز لها البحوث فتخرب باسمه ما لم تستطع أن تخربه باسمها ! ومن هنا بدأت تطفو على سطح تلك المستقعات الآسنة مقولات رافضية , وأخرى باطنية كسب الصحابة رضوان الله عليه , والطعن في كتب السنن الثابتة كصحيح البخاري والتشكيك في بعض أصول المرجعية الإسلامية وبعض أحكامها المتواترة سواء على المستوى العقدي أو المستوى الفقهي , تحت غطاء " حرية التعدد المذهبي " تارة وتحت غطاء " البحث العلمي الأكاديمي " تارة أخرى تلبية لأهواء مذهبية دخيلة أو خدمة لأغراض استعمارية تمتد خيوطها الخفية إلى جهات معادية للدين والوطن ولا علاقة لها بالعلم ومناهجه البتة , وانتشرت رائحة العمالة والخيانة والزندقة – بمعناها الإيديولوجي - من تحت ثياب رموز كانوا إلى عهد قريب أطرا في الحركات الإسلامية أو قادة في قطاعها الطلابي !
فكل هذا العجب العجاب خرج من تحت جلباب الحركة الإسلامية التي فقدت كثيرا من موازينها بفقدان القيادات العلمية الراشدة والحكيمة الموجهة لمسارها العام على المستويين الفكري والتربوي والله المستعان .
الفصل الرابع : استصنام التنظيم" الميكانيكي "
نقصد بالتنظيم الميكانيكي : الأسلوب الإداري التنظيمي الذي يعتمد البناء الهرمي العمودي في إدارة العمل وتسييره حيث تتركب هياكله بعضها على بعض على سبيل التحكم الميكانيكي , بين قطعها فلا يتحرك الأدنى إلا بحركة الأعلي , والعكس غير صحيح , وهو أسلوب إداري اقتبسته الحركات الإسلامية المعاصرة من نظام الأحزاب السياسية وقد كان الإمام حسن البنا – رحمه الله وتقبله في الشهداء الأبرار – هو أول من أنشأ تنظيما ذا طابع ميكانيكي , عند بنائه لجماعة ( الإخوان المسلمين ) بمصر , ثم ندم عليه من بعد ما وقف على خطورته التفلتية على المستوى التربوي والإداري , حيث انفرط عقد القيادة من بين يديه وانخرط ما سمي بـ " النظام الخاص " في سلسلة من الاغتيالات أدت بالجماعة إلى فتن ومصائب , ما تزال تتجرع مرارتها إلى اليوم ! فقال الإمام البنا – رحمه الله – مقولته المشهور : ( لو استقبلت من الأيام ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى أيام المأثورات !)
إشارة إلى رسالته التربوية الصغيرة في الأذكار , أيام عكوف الإخوان عليها وعلى المجالس القرآنية كـ " حديث الثلاثاء " وما شابهه .
والحركات الإسلامية بالمغرب – كأغلب الحركات في العالم – اعتمدت نفس النظام الإداري مع بعض التغيير الطفيف الذي لا يمس الجوهر في شئ , بل قد كان الاقتباس إلى الحرفية أقرب عند بعضها , حتى بالتسمية للهياكل الإدارية والبشرية كمصطلح " الشعب " و" النُقباء "وقد تطور قليلا عند جهات أخرى ليقتبس أكثر من الأنظمة الحزبية الحداثية ذات البناء الهرمي والتركيب الديمقراطي وههنا يكمن الإشكال الاستصنامي , ويتجلي ذلك في ظاهرتين مرضيتين :
- الأولي : استصنام " الأنا " الجماعي :
ففي جميع الأحوال يعاني التنظيم الميكانيكي من مشكلة التقوقع الحزبي بما يشكل لديه فضاء داخليا مختنقا , لا يتيح للمنتسبين إليه أن يتنفسوا خارجه , فالدوران الآلي للهياكل التنظيمية يجعل العمل كله يتحرك داخل دائرة مغلقة واحدة لا تسمح بالإبداع ولا التطور الداخلي , مما يربي في الأفراد تضخم الشعور بـ " الأنا الجماعي " - بالمعني الحزبي الضيق – الذي هو وسيلة للشعور بـ الأنا الفردي ".
ومن هنا يصير التنظيم – بهذه الصورة – وسيلة لاشعورية لبناء وهم ( الجماعة الإسلامية الكبرى ) المتعالية عن الخطأ وعما فيه الأمة من تدهور وهوان , فينموا فيهم الشعور بأنهم هم الأصل , وأن على غيرهم أن يكونوا لهم تبعا .
فتنتصب الجماعة معرضا لاستعراض العلاضلات الحزبية تلبية للشعور المرضي بالنقص ومعالجة للإحساس بالهوان فيما تعانيه الأمة من جراح ومآس ومن هنا يتضخم الإحساس بالتنظيم على حساب الإحساس بالإسلام نفسه ! فتتجه سائر الأعمال الدعوية لخدمة الجماعة حتى ولو تعارضت مع أحكام الشريعة في بعض الأحيان ! لن تضخم الشعور الحزبي " والأنا الجماعي " يملأ أفق النظر في ذهن الأفراد , فلا يرون إلا ذاتهم التنظيمية , وأجهزتهم الحزبية التي تصبح هي المقياس للحق , وليس الحق هو المقياس لها ! فكل تصرفات الجماعة حق , وكل بياناتها حق , ومن هنا فكل استنباط شرعي خالفها فهو باطل , وكل حكم شرعي ناقضها وجب تأويله لصالحها ! وذلك ما قصدناه بالاستصنام التنظيمي .
- الثانية : استصنام الهوى الديمقراطي :
ومن ذا يستطيع انتقاد الديمقراطية في هذا الزمان ؟ وها هي ذي تتربع على عرش الفكر السياسي في كل مكان ! وتمسك بيدها صولجان السلطان في أعظم البلدان ! أليست هي زبدة الفكرة البشرى في تنظيم الشأن السياسي ؟ أليست هي أساس نهضة أروبا تفوق أمريكا ؟ ثم أليست هي ما تحلم به الجماهير في العالم العربي والإسلامي بهذا العصر ؟ أليس بما تضمن الحقوق وتصان الحريات للأفراد والجماعات ؟ فماذا يشينها إذن وما يثلمها ؟
ولكن أليست الديمقراطية هي مبرر الغزو الأورو/ أمريكي لبلاد المسلمين ؟ أليست هو مسوغ نهب الثروات ؟ ومنطق انتهاك الحرمات !؟ تفزيع الروعات ؟ وتدمير العمران وسائر المنشآت ؟ وماذا غيرها شرع فينا كشف العورات ؟ وتمجيد المنكرات ؟ فمن تكلم تهدم ومن سكت تألم ! أليست هي التي أطلت علينا بأنيابها وحرابها فشردت الصالحين الأبرياء ومجدت الظالمين الأشقياء ؟! ثم أليست الديمقراطية اليوم هي الدين الوضعي البديل عن دين السماء لكثير من الناس ؟ أليست هي مزامير أمريكا ؟ بآياتها تتغني الإذاعات , وبكراماتها تتباهي الفضائيات ! تفرضها على المسلمين فرضا ! وتضربهم بسياطها طولا وعرضا ! فباسمها تغزو بلادهم , وبنارها تحرق حقولهم , وتخرب ديارهم وتيتم أطفالهم ! حتى إذا رضخوا لها واستسلموا وظنوا ألا ملجأ منها إلا إليها , وأن اللعبة حق فتمخضت تجربتهم الساذجة عن انتخاب رجال مؤمنين لتدبير الشأن العام غضبت عليهم أمها ومزقتهم شر ممزق بين السجون والمنافي ! وصرخت فيهم :" ويلكم ! ألم أقل لكم : إنما هي ( لعبة الديمقراطية ) ! فكيف تجدون في استثمارها ؟"
لقد اصطبغت الديمقراطية بالميكيافيلية في الفكر السياسي المعاصر ودخلت فيها , كما ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) مع فارق الشبه في المجال والمقاصد والغايات وذلك على كل المستويات العالمية والمحلية , وتلك قصة أخرى ليس هذا مجال تفصيلها .
وقدس الناس الديمقراطية الليبرالية تقديسا , سواء فيما هي صالحة فيه , أو فيما ليست فيه بصالحة ! واعتبروها " نهاية التاريخ " فلا أحد يستطيع انتقاصها ولا انتقادها , ولا التمييز بين خيرها وشرها , حتى صار المساس بمحارمها أو انتقاد آلياتها " الكيان الصهيوني " في أوروبا أو أمريكا ! من كبائر المحرمات أو خطر المهلكات ! ومن زعم ألا دلالة للاقتران فليتقدم للامتحان ! والله المستعان !
ووقعت الحركة الإسلامية أيضا في الفخ ! فاستوعب تنظيمها الميكانيكي زبور الديمقراطية وأدي صلاتها , وأتقن خشوعها , وأحسن سجودها وركوعها ! وانطلقت التنظيمات تبني هياكلها بصورة ديمقراطية لتقديم النموذج الأجلي لحركتها والمثال الأعلي لخبرتها , فتخرجت الأجيال الجديدة من مدرستها تتقن كل ألاعيبها ! ونشأت بينهم الحيل الديمقراطية " على مذهب أبي حنيفة "! والمصالح الديمقراطية " على مذهب مالك " فتكونت في صفوفهم الأحلاف الديمقراطية والمناورات الديمقراطية , ثم أتقنوا " اللعبة " حياكة وصياغة ! فتسلل بعض سفهائهم – بديموقراطية - إلى مواقع قيادية ومناصب ريادية ! فأوردوا الحركة موارد الهلاك بديمقراطية ! ونسوا أن الأمر دين ! يا ويلهم ! وأن الدعوة إلى الله عبادة ! إنما يتقدم قيادتها أعلمهم بالله وبشريعته , وأفقههم في الدين وفي مقاصده وأدراهم بالواقع ومآلاته ! الجامع بين العلم والحكمة معلم رباني وقدوة رحماني وليس أصخبهم صوتا , وأوسعهم صيتا , وأدهاهم مناورة وأمكرهم خدعة ! إن مشكلة الحركة الإسلامية ذات التنظيم الميكانيكي أنها وضعت الديمقراطية بآلياتها في غير موضعها فانتخبت رجالها بأصوات عوامها لوظائف الشورى ووظائف التشريع الدعوي والتوجيه المنهجي الإسلامي بشروط الديمقراطية لا بشروط شرع الله ! فتقدم دهاة السفهاء وتوقف حكماء الفقهاء ! ومن يدري فلعلها غدا تنتخب إمام الصلاة لمحرابها ! فتأتم بالأمكر الأشقي , لا بالأقرأ الأتقي ! أما أنها تفرق بين هذا وذاك كما فرق أهل الردة بين الصلاة والزكاة ؟! كيف والأمر كله دين ؟
ولقد رأينا في مواطن شتى للحركة الإسلامية كيف تسلق متسلقون المدارج للديمقراطية , وخدعوا جماهير الحركة بعبارات براقات فصنعوا أغلبية من رأيها العام , يسوسونها كما يساس العوام ! ويزجرونها كما تزجر الأنعام ! فإذا أنكرت أو اعترضت قيل لك : تلك نتيجة الفرز الانتخابي ! فإن قلت : ولكنها نتيجة سيئة ! قيل لك تلك طبيعة العمل الديمقراطي ! ثم لن تستطيع إضافة شئ ! وإلا كنت من الهالكين ! فمن يجرؤ على انتقاص الديمقراطية ؟! ألا فتعسا لهم ولما يعبدون من دون الله !
لقد كان حريا بالحركة الإسلامية أن تستلهم تراثها التنظيمي من كتاب ربها , ومن سيرة نبيها , سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم , ثم من حركات التجديد عبر تاريخها , ولا حرج أن تقتبس من نظم الآخرين ما لا يتناقض وشريعة القرآن , في تربية الإنسان وتجديد العمران , بشرط وضعه في محله , و" استصلاحه " مما علق به , من خلفيات وثنية , ومنهجيات استصنامية , فإنما شأن الدعوة الإسلامية أنها دين , وليست شيئا " ميكانيكيا " كسائر المنظمات والأحزاب فلا قيام لها إلا بأن تكون كل أجهزتها تحقق – بذاتها – للعاملين بها فضاء لعبادة للعبادة لله , أداة وقصدا , ووسيلة وغاية , إن منظومة علوم القرآن " وكذا السيرة النبوية الصحيحة , تتضمن منهجا تشريعيا واضح المعالم , لتنظيم العمل الدعوى , وترتيب أولوياته . فلابد للعالمين من استثماره وإلا شط بهم الانحراف عن المنهاج النبوى الحق بعيدا عن الهدي السني الأصيل في مشروع تجديد الدين .
إن " التنظيم الفطري " هو البديل الأصيل ! للعمل الإسلامي والبناء الدعوى . تنظيم خال من المراتب والألقاب ,ولا مجال فيه للأحلاف والأقطاب ! ولا مكان لبناء التماثيل والأنصاب ! يقدم الأقوم دينا والأكفأ خبرة وتجعل المهام في ملفات واضحة , ثم تسند الاختصاصات إلى أهلها , بلا لغو انتخابي , ولا عبث ديمقراطي , وإنما الشورى الإسلامية المتأنية الهادئة – بين الحكماء الحلماء – هي أساس الترشيح للوظائف والمهام , بلا تشنج ولا تعنج ! وبلا صخب ولا غضب ! والعمدة في نجاحها إنما هو على مصداقية أصحابها ضبطا وعدالة وقوة وأمانة فيقدم العلماء الرساليون , ويساعدهم الخبراء الربانيون في دائرة واحدة ذات سطح واحد متساوي الشعاع , أو مربع واحد متوازي الأضلاع , لا أهرام فيه ولا مناصب , ولا مغانم ولا مكاسب . البذل والتضحية شعار من ابتلي بشئ من خدماته ينفق من نفسه ووقته وماله , ولا ينتظر جزءا إلا من الله , ولا أجرأ إلا على الله ! همه الأساس مصيره في الآخرة , وادخار رصيده للحياة الآجلة . ثم تحطم تلك البيروقراطية الميكانيكية الثقيلة , التي تستهلك الجهود والطاقات في كثرة الكلام وتعاقب اللقاءات , ثم لا تنتج في النهاية إلا جعجعة بلا طحين , وصلصلة دون فتح مبين ! ذلك وإنما الموفق من وفقه الله .
الفصل الخامس : استصنام العقلية " المطيعية " وإفشال
الوحدة التاريخية للحركة الإسلامية
نقصد بالعقلية " المطيعية " ذلك المنهج الحركي القائم على أسلوب المناورة والخداع , في التعاطي للشأن الإسلامي من الناحية التنظيمية والإدارية , وهي صفة منسوبة إلى الأستاذ عبد الكريم مطيع المؤسس الرئيس والقائد الأول لحركة الشبيبة الإسلامية , التي تأسست بالمغرب في أوائل السبعينات من القرن الميلادي الماضي , وقد كان للنظريات اليسارية التي تأثر بها الأستاذ مطيع - باعتباره قياديا سابقا في أحد الأحزاب الاشتراكية – أكبر الأثر في طبع منهجه الحركي بهذا الأسلوب الخطير , المناقص للثوابت الشرعية في الدين .
ورغم الانهيار التنظيمي للشبيبة الإسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات وتمزقه إلى شظايا تنشط هنا وهناك فقد ورث بعض الأفراد الصفة المطيعية في تدبير الأمور الحركية في العمل الإسلامي , ونظرا لكون تلك الشظايا قد أسهمت في تكوين أغلب التنظيمات الإسلامية الناشئة فيما بعد , فإنها نقلت العدوى إلى كثير منها , على تفاوت فيما بينها , وكانت سببا في تفريخ العقارب الخضراء داخل الصف الإسلامي , وقلما سلمت جماعة حركية من ذلك إلا من رحم الله .
وعليه فليست " المطيعية " خاصة بمن أدرك الشبيبة الإسلامية وتطبع بأخلاقها فحسب , بل صارت صفة تتجلي – بعد ذلك – في كل من سار على المنهج نفسه , من الأجيال الناشئة بعد في الحركة الإسلامية , ورغم أننا قد عانينا من متاعب التصرفات الميطعية لسنوات , في ظروف التعامل مع عدة تنظيمات إسلامية داخل الساحة الجامعية وخارجها – كما سيأتي بيانه في إشارات – إلا أننا سنقتصر في هذا الفصل على بيان آثار الاستصنام المطيعي على " حركة التوحيد " والإصلاح " خاصة وما كان لها من تأثيرات سلبية أدت إلى إفراغ وحدتها التاريخية من محتواها ! وبيان ذلك هو كما يلي :
لقد كان للتضخم السياسي الذي رسخته العقلية المطيعية في " حركة التوحيد والإصلاح " – الذي آل في النهاية إلى التجسد في صورة " حزب العدالة والتنمية " – أحد الأسباب الرئيسة في إفشال الوحدة الداخلية للحركة التي دشنتها مجموعة من الجمعيات الإسلامية بالمغرب ذات الخلفيات الاجتهادية المختلفة ونعني :
- أولا : " حركة الإصلاح والتجديد " ( حاتم ) وهي الوريثة الكبرى لحركة " الشبيبة الإسلامية ) والحقيقة أنها بذلت مجهودا كبيرا في التخلص من الآثار السلبية الكثيرة التي خلفتها حركة الشبيبة على العمل الإسلامي بالمغرب وقطعت أشواطا ومخاضات شتى من أجل تحسين تصوراتها وآلياتها من المرحلة الشبيبة السرية إلى مرحلة الشظايا إلى مرحلة " الجماعة الإسلامية " ثم مرحلة " حاتم " ومن أهم إنجازاتها الإيجابية أنها خلّصت أبناء الحركة من عقدة الإرتهان بمناهضة النظام السياسي المغربي تلك العقدة التي ورثتها الحركة الإسلامية من حركة الشبيبة الإسلامية " المطيعية " ذات الأصول الماركسية م الناحية المنهجية , وأسست منهجا أقرب إلى التوازن والاعتدال في إصدار مواقفها السياسية , وإن كان يعاب عليها من شئ , فإنما هو عدم تخلص بعض أجنحتها من العقلية المطيعية في تدمير العمل الحركي .
- ثانيا : حركة " التبين " التي تسمت في وقت لاحق بـ " جمعية الشروق " لأسباب أمنية " وهي مجموعة من الشباب الأذكياء الأتقياء كانوا ضمن حركة الشبيبة الإسلامية ابتداء , وفي مرحلة الفتنة الشبيبة وتورط الحركة في مزالق خطيرة تجرمها الشريعة والقانون , مما نتج عنه اضطرابات داخلية واتهامات متبادلة بين هذا وذاك , بعد قرار الأستاذ عبد الكريم مطيع من المغرب تكونت أحلاف وفرق داخل الجسم الحركي الشبيبي , فصار بعضها يلعن الآخر ! في فتنة رهيبة وصلت إلى حد محاولات الاغتيال للإسلاميين فيما بينهم ! هنالك اعتزلت مجموعة " التبين " تلك الفتن كلها , عملا بقول الله تعالي : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ( الحجرات :6) فكانت بذلك أحسن الفرق وأقربها إلى الصواب , ولذلك بارك الله في خطواتها بعد , وأنتجت – على قلة – جيلا من الشباب المؤمن المثقف طيب المعشر طاهر المخبر , وفي تقديري لو قدر لهذه الحركة أن تستمر في منهجها باستقلال لكان لها اليوم في المغرب شأن عظيم وأحسب أنها تضررت بالوحدة الوهمية أكثر ما استفادت كما سنبين بحول الله .
- رابعا :" الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير " التي كانت تنشط في معظم مدن الشمال , وهي جمعية استفادت من الاحتكاك بجماعة التبليغ , رغم استقلال قادتها عنهم , فقد كان لوجود مسجد الفتح بالمدينة – وهو مركز هام للجماعة على الصعيد الوطني – أثر بالغ على الطبيعة التربوية للشباب , فكانت الجمعية تضيف إلى ذلك تكوينا ثقافيا وسياسيا فصار لها نوع من التكامل لولا ما كان ينقصها من عدم التحقق بعد التخلق , مما سبب لها بعض التساقطات لأفرادها على المستوى القيادي أحيانا .
- خامسا : " جمعية الدعوة الإسلامية " بفاس التي كانت تنشط في مجال تكوين الأطر التربوية والتعليمية والإدارية , وقد كان لطابعها الأكاديمي من جهة , ولبرامجها التربوية المرتبطة بالنصوص القرآنية من جهة أخرى الأثر الأكبر في تخريج أطر تربوية متميزة على الصعيد الوطني كما كان لمنشئها التاريخي المستقل ,ولاجتهادها المحلي المتميز , وتأثرها بالإرث العلمي والتربوي لبقية صالحة من علماء القرويين , - أفضوا إلى ربهم بعد ذلك رحمهم الله الأثر الكبير في تميز جمعية فاس بصفتي العلم والحلم في تدبير الشأن الدعوى , وما عيب عليها شئ سوى تقوقعها الأكاديمي وعدم تبلورها على المستوى الاجتماعي والدعوي العام , ومع ذلك أقول : لو قدر لهذه الجمعية أن تستمر مندمجة في العمل الوحدوى لكانت الحركة الإسلامية بالمغرب اليوم أغني وأقني !
- سادسا : مجموعات الشظايا : لم يكن هذا اسما حركيا لتنظيم ماء ولكنه مصطلح وضعناه للدلالة على عدد من المجموعات الإسلامية الصغيرة التي تناثرت عن " حركة الشبيبة الإسلامية " بعد انفجار تنظيمها وتمزقه فرقا وأحلافا , فقد كانت هناك – إلى جانب ما ذكر من حركات – مجموعات إسلامية شتى تنحصر نشاطاتها – في الغالب – في حدود حي واحد من الأحياء بالمدن الكبرى , لا تتعداه إلى غيره إلا قليلا , وأغلب تجلي هذه الظاهرة كان بمدينة الدار البيضاء حيث حافظت كثير من الشظايا على نفسها مستقلة بمنهجا التربوي والتنظيمي لعدة سنوات , لكنها لم تستطع التبلور في مؤسسات حركية كبرى , وإنما ذابت بعد ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى , فمنها ما التحقق بجماعة العدل والإحسان , ومنها ما التحق برابطة المستقبل الإسلامي ومنها ما التحق بالتيار السلفي , ومنها ما تساقط وتلاشي ! ومن أهم المجموعات التي اشتهرت في الدار البيضاء :" مجموعة عين السبع " و" مجموعة الحي المحمدي " ومجموعة درب السلطان " ومجموعة سيدي مؤمن " وغيرها .
إلا أن أهم المجموعات التي ساهمت في بناء الوحدة الحركية بالمغرب , في صورة " رابطة المستقبل الإسلامي" أولا ثم في صورة " حركة التوحيد والإصلاح " ثانيا مجموعة الأستاذ المصطفي الرميد , ومجموعة الأستاذ عبد السلام بلاجي , وأشهد أن المجموعتين كانتا من أنظف شظايا حركة الشبيبة الإسلامية , وأخلصها للعمل الإسلامي , أما المحامي القدير الأستاذ المصطفي الرميد فقد احتككت به كثيرا واشتغلت معه لسنوات في جريدة الصحوة – قدس الله روحها !- واقتربت منه في مواقف دعوية أخرى , فوجدت أنه كان رجلا قويا أمينا حق قوى أمين ! وكانت معه مجموعة خيرة من الأطر , أشهد أنها كانت من الصالحين المصلحين .
وأما الأستاذ عبد السلام بلاجي فقد كان من أنشط الإخوة في ربط الصلات بين الإسلاميين بالمغرب , وتقريب وجهات النظر بينهم من أجل بناء وحدة العمل الإسلامي على الصعيد الوطني , وقد وجدت معه مجموعة من الشباب – في البدايات الأولي لبناء رابطة المستقبل الإسلامي – كانت من أطيب عباد الله خلقا ومن أخلصهم دينا!
وأخيرا لابد – قبل تفصيل مقولاتنا النقدية في شأن " حركة التوحيد والإصلاح " من الوقوف على تنظيم إسلامي آخر , قد أقصي – مع الأسف _ من مشروع الوحدة بعد محاولة توحيدية فاشلة , سبقت مشروع " حركة التوحيد " بقليل وهو :
- سابعا :" حركة الاختيار الإسلامي " وهي أيضا حركة ذات أصول شبيبة , كان قادتها من أوائل من انفصل عن الجسم الشبيبي الأكبر , فاستمرت على النهج السري زمنا , ثم انقسمت – بعد فشل تجربة وحدوية سابقة – إلى حركتين مختلفتين , بسبب أنها كانت قبل ذلك تحمل تناقضات فكرية ومنهجية في تصورها للعمل الإسلامي واختلافات تكاد تكون عمودية بين بعض أجنحتها القيادية , تتأرجح بين التأثر بالتشيع – فكريا لا عقديا – لفترة محدودة , والتأثر بالأديبات الماركسية في تدبير العمل التنظيمي ,وكذا اعتماد الأسلوب " المطيعي " المبني على منهج المناورة السياسية تجاه الإسلاميين أنفسهم ! وقد خلصت منهم طائفة تبلورت في مسمي( الحركة من أجل الأمة ) أحسبها على خير إن شاء الله , فقد حاولت تأصيل ذاتها في النصوص الشرعية على قدر طاقتها , وحاولت الارتباط أكثر بالمنهج الإسلامي الأصيل , وقد قرأت لها إصدارها المنهجي التأصيلي الموسوم بـ " رسالة البصيرة " الذي يعتبر محاولة جادة في التخلص من الآثار الشبيبة السيئة , والمذهبيات الشيعية والماركسية , المخالفة للمنهج الإسلامي عامة , والمنهج السني المغربي خاصة ,وأحسب أن قادتها من أحرص الإسلاميين على العمل الوحدوي , ومن أطيبهم معشرا ومن أخلصهم مخبرا كما أحسب أنهم قد ظلموا في سياق مشروع وحدة فاشلة سبقت مشروع " حركة التوحيد والإصلاح " بقليل , إذ أنه لم يميز بينهم وبين جناحهم الآخر , الذي كان السبب الرئيس في العراقيل ذلك , وإنما الموفق من وفقه الله .
- هذا , وقد كان واحدة من هذه الجمعيات طابع خاص يميزها عن الأخرى , فلما نضجت فكرة الوحدة في أذهان بعض قادتها المخلصين كان أهم طموح يرتجي في ذلك – علاوة على قصد التوحد ذاته – هو التكامل بين مختلف الاجتهادات وما يترتب على ذلك من غني دعوى , وعمق استراتيجي , بسبب التعددية الاجتهادية داخل الوحدة التنظيمية .
وأشهد – كمعاين للمرحلة ومعايش لها – أن مشروع الوحدة الحركي قد دشنته بالمغرب إرادات خيرة انطلقت من جمعية الدعوة الإسلامية بفاس ابتداءا , ومن الجمعية الإسلامية بالشمال , ثم جمعية التبين بالرباط , فنشأ الاتحاد الإسلامي أولا بعد مرحلة سابقة من اللقاءات والتنسيقات التعارفية , منذ أواسط الثمانينات من القرن الميلادي الماضي , ثم تبلورت – بعد ذلك – حركة الوحدة الإسلامية الأولي بالمغرب في مسمي " رابطة المستقبل الإسلامي " التي ابتدئ تأسيسها سنة : 1988 م ,تم الإعلان عنها رسميا سنة : 1994 , وكانت قد أصدرت جريدتها الأولي : " السيل " التي صودرت بعد صدور أعدادها الأولي , ثم جريدتها الثانية الناجحة " الصحوة " التي كان لها من سعة الانتشار ما لم يكن لجريدة إسلامية قبلها ! ثم دخلت الرابطة في مشروع وحدوي جرئ مع حركة الاختيار الإسلامي المذكور آنفا لم تستمر إلا قليلا حتى أفشلت – مع الأسف – للأسباب المذكور قبل ثم دخلت " الرابطة " بعدها في المشروع الوحدي التاريخي الكبير مع حركة " حاتم " الذي استمر لسنوات ينبي هياكل الوحدة ومؤسساتها , قبل أن تقصمه العاصفة السياسية الملعونة , فيؤول إلى مجرد أطلال تذكر بالطموح العظيم الذي كان ! وبيان ذلك هو كما يلي :
كانت الجلسة التاريخية لمجلس الشورى برابطة المستقبل الإسلامي الذي انعقد بالرباط إحدى ليالي شهر يونيو من سنة 1996م منعطفا تاريخيا مهما في تاريخ العمل الإسلامي بالمغرب ترتبت عنه إيجابيات وسلبيات , وهناك أتخذ قرار المصادقة على إبرام الوحدة بين الرابطة بكل مكوناتها ( جمعية الدعوة , والجمعية الإسلامية والتبين ) من جهة وبين حركة الإصلاح والتجديد : " حاتم " من جهة أخرى ولكن قيادة جمعية الدعوة الإسلامية بفاس رفضت القرار بذلك اللقاء , باعتبار أن الوحدة لم تنضج بعد , وباعتبار أن المضمون الإسلامي لـ " حاتم " لم يتخلص بعد من خلفيته " المطيعية " وأصرت على احترام المرحلية في بناء الوحدة من تعارفيه فاتحادية , فوحدة وأن الحوار الوحدوي يجب أن يبدأ بقضايا المضامين والتصورات قبل الهياكل والمؤسسات لكن الرأي الآخر المرجح للبدء بالأشكال قبل الأقوال كان أغلب كثرة فأمضي القرار .
ورجع من هناك قادة فاس معتزلين لها غير مشاركين ولكن جمهور أتباعها سار مع الوحدة إلى حين وكان أحد القادة آنئذ يقول على سبيل الأسي والتأسي , متمثلا بقول موسي عليه السلام بعد ضلال بني إسرائيل : ( قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ! ) ( المائدة : 25 ) ومضت الوحدة بين " حاتم " و" الرابطة " على هذه الصورة والشروط المذكورة , فتأسست ( حركة التوحيد والإصلاح ) في مؤتمر الوحدة التاريخي بمقر حركة " حاتم " بالرباط يومي 24 / 25 من شهر غشت لسنة 1996م , ثم عاشت على أمل عظيم وحيوية كبيرة في ظروف تاريخية – على المستوى السياسي العام – كانت لصالح العمل الإسلامي على الصعيد العالمي والوطني حتى إذا غادرت الحركة .
الجديدة مرحلتها الانتقالية وشرعت في تأسيس المضامين وبناء الورقات التصورية , على المستويات التربوية والدعوية والثقافية والسياسية والنقابية بدأ التيار السياسي يجرف الحركة بقوة وبدأت المشاكل الخلافية تصعد إلى السطح شيئا فشيئا , وبدأ اليأس يدب إلى قلوب بعض القيادات العليا والمتوسطة من هذا الاتجاه أو ذاك , وبدأت "المطيعية " تبرز من حين لآخر في هذا السلوك أو ذاك , وبدأت الأحلاف الداخلية تتشكل , وتتضخم أكثر وأكثر , خاصة في ظروف الانتخابات الداخلية لرئاسة هذه المؤسسة أو تلك , وكان ذلك سببا في تجميد عدة شخصيات لعضويتهم في الحركة أو انسحابهم بهدوء مطلقا هذا كمرحلة أول من مراحل الاضطراب في صفوف الحركة .
أما المرحلة الثانية : فقد كانت بعد الانجراف العملي لصالح " الوصل " في قضية " الفصل والوصل " التاريخية , التي تعلقت بإشكال طريقة التعامل مع " حزب العدالة والتنمية " حيث انتصبت هناك قضية وجود شخصيات قيادية تجمع بين عدة مهام وصفات من عضوية المكتب التنفيذي للحركة إلى عضوية الأمانة العامة للحزب إلى قيادة الإطار النقابي أيضا : ( الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب ) إلى عضوية البرلمان !.. إلخ فحصل اتفاق أعلن بمجلس الشورى بضرورة الفصل بين المؤسسات يتم تنفيذه على مراحل وذلك بألا يجمع أحد بين مسؤوليتين , فمن كان عضوا في المكتب التنفيذي للحركة لم يجز له أن يكون عضوا في الأمانة العامة للحزب . أو النقابة . ولا أن يكون منتخبا برلمانيا , من أجل الحفاظ على صفاء العمل الدعوى , وقدرته على مخاطبة جميع التيارات , واستيعاب كل الاتجاهات , وألا تتورط الحركة في منافسة الأحزاب السياسية , بل تكتفي بالتوجيه العام وتترك الفعل التنافسي للحزب وحده , ولكن شيئا من ذلك لم يقع فقد عمد رؤوس التيار السياسي لخلط الأوراق , والجمع بين كل المهام لأسباب شتى ليس هذا أو أن ذكرها , فصارت الحركة والحزب في الواقع وجهين لعملة واحدة ! وصارت الدعوة خادمة للسياسة والعكس غير صحيح !
وفي الجناح السياسي عقارب خضر وبعض شياطين ! وتلك أسوأ خطيئة وقعت فيها حركة التوحيد والإصلاح !
إن التضخم السياسي للحركة , والانتفاخ السرطاني لحزب العدالة والتنمية , الذي باء بإثمه التيار المطيعي , ثم تتابع الهجرات أو بالأحرى التهجير الجماعي للشباب , من الحركة إلى الحزب واستقطابه للأفراد العاملين في المجال التربوي والتكويني بصورة غير مشروعة في كثير من الأحيان , على طريقة الهجرة السرية حينا , والارتماء على أخشاب قوارب الموت , أو على طريقة هجرة الأدمغة طمعا في الرواتب العالية حينا آخر , مما أدي إلى حشده لكل الطاقات الحركية النشيطة قيادة وشبية ! قد أنتج ذلك كله الموت السريع للعمل التربوي , وانهيار كل الوظائف الأساسية لحركة التوحيد والإصلاح مما قررته في أدبياتها الإجماعية , أعني الأركان الوظيفية الثلاثة : " الدعوة والتربية والتكوين " فصارت اللجان المختصة بها لا تجد مخاطبا في الحركة ولا خارج الحركة إذ لم تعد لها القدرة النفسية على مخاطبة العموم بشئ من ذلك فآلت ملفاتها إلى رفوف الإهمال ! فلا دعوة – بعد في الحركة- ولا تربية ولا تكوين !
وفي غياب الغطاء التربوي والخطاب الإيماني وتمرد كثير من الأعضاء على مجالسه ! فسد دين بعض العاملين في الصف الإسلامي ! وانتشرت العقارب الخضراء في كل جهة وقطاع ! حتى صارت مواعد اجتماع بعض المؤسسات الحركية , مثل مجلس الشورى , أو الجمع العام , أو جموع القطاع الطلابي’ أو نحو هذا وذاك , مناسبات لإشعال حرب الكلام واحتطاب الآثام ! حتى إذا أخذ الغضب من بعضهم عقله , وسلبه تمييزه ولبه انفجر جهرا بالسوء ! وما زلت أذكر بعض مجالس الشورى التي وضعت في الأصل لجمع آراء ذوى العقول والأحلام كيف كانت تتشكل فرقا وأحلافا , وتترس ببعض زوايا مقر الحركة لتحصين مدافعها ضد إخوانها ! وإني لأذكر بعض تلك الوجوه البئيسة! من " أهل الحل والعقد " يا حسرة ! كيف كانت تتخير خنادقها بين الكراسي وترتب أرقام تدخلاتها ومواقعها بعناية , قبل من تكون ؟
وبعد من ؟ حتى إذا افتتحت الكلمات وحميت النقاشات واشتغل الشرر ! لم تسمع منها إلا عبارات اللمز , ولم تر بينها إلا إشارات الغمز ! في مناورات من الدجل والحيل , من أجل " ترشيد " قرارات العمل الإسلامي وخططه ! زعموا والله المستعان !
وعندما تحركت عجلة الاستحقاقات السياسية بالمغرب , غرق حزب العدالة والتنمية فيها إلى أذنيه ! وغرقت معه كل الطاقات العاملة في الحركة , التي لم يبق من هياكلها في الوجود إلا الأسماء !
فكانت هذه العجلة التي تمضي بالحركة في هذا الاتجاه السبب الرئيس في انسحاب كثير من الطاقات الدعوة وانزوائها , أو اختيارها لبدائل أخرى بهذه الصورة أو تلك , كل على حسب اجتهاده وقد حصل ذلك عبر مرحلتين :
- مرحلة الانقلاب الخاتمي , وهي المرحلة الممهدة لتفرد الحزب بكل شئ حيث صارت الوحدة المذكور تتطور في اتجاه ترسيخ الاختيارات " الحاتمية " بالدرجة الأولي . وحصل هناك إشكال كبير على مستوى المنهج , وهو أن خطوات التوحيد تمت كما ذكرنا بين الأشكال قبل أن تتم بين الأقوال , أعني أنها تمت على مستوى المؤسسات الإدارية والتنظيمية قبل أن تتم على مستوى الأفكار والمواقف والتصورات , وهذا أدي في النهاية إلى توحيد الأشباح دون توحيد الأرواح ! وما زلت أذكر أن الجموع العامة والمجالس الشورية والتنفيذية كان يغلب عليها عند التصويت الانقسام إلى قسمين بارزين : أصوات أبناء " الرابطة " في جهة وأصوات أبناء " حاتم " في جهة أخرى !
- نعم حصل بعض الانسجام فيما بعد ولكن بعد انسحاب قيادات رابطية مؤثرة وذوبان أخرى في " المطيعية " – مع الأسف – والتطبع باستصنامها ! و" حاتم " جماعة إسلامية خيرة هذا لا مراء فيه , وفيها من الصالحين من نظن – إن شاء الله – أنه لو أقسم على الله لأبره ! ولكن المشكلة أنها كانت ما تزال تعاني من شغب شرذمة ذات نزعة " مطيعية " تناسلت حتى صنعت جيوبا قوية وأحلافا ! تمتد من المركز إلى شتى جهات الوطن ! ونصبت لها أصناما في كل منطقة وقطاع ! ولكل جماعة سفهاؤها نعم , ولكن " المطيعية " كانت أسوأ ما رأيت بين الإسلاميين ! وهي ظاهرة ما تزال مستمرة – مع الأسف – بين عدد من التنظيمات الإسلامية بالمغرب , كالعدل والإحسان ,والاختيار الإسلامي ( سابقا ) وحركة التوحيد والإصلاح وغيرها بتفاوت بين هذه الجماعة وتلك .
وعلى الرغم من أن غالبية أطر " حاتم " من الصالحين المصلحين , وعقلاء المثقفين , فقد كانت الطاقات المطيعية هي التي توجه الجماعة – بمناوراتها وأحلافها - إلى ما تريد في النهاية ! تدفعها حمّي الشخصانية الرهيبة ! فالمطيعيون – سواء منهم القدامى والجدد – مرضي بتضخم " الأنا " إلى درجة الشذوذ! ليس على المستوى الوطني فحسب , بل على المستوى الجهوى أيضا ! قد أشربوا حب الزعامة والرياسة حتى صار ذلك فيهم مرضا مزمنا ! تعابيرهم تنطق بعشقها علنا لشدة ما تتقد شهوتها في نفوسهم ! ولا هم بقادرين على مقاومتها ولو بالكتمان ! ولا أراهم قادرين على التخلص من أدوائها , إلا أن يحالوا على مستشفي الأمراض النفسية !
وكثيرا ما يعجب بعض الإخوان متسائلين : لماذا لم تستطع تيارات الأغلبية مواجهة الأصنام الميطعية داخل الحركة ؟ وهذا السؤال مشروع لو كان الأمر يتعلق بتنظيم سياسي محض أو بمنظمة لا دينية , ولكن الأمر هنا دين ! إذ مواجهة مثل هذه الأحلاف الشاذة تحتاج إلى قدر لا بأس به من الشذوذ لمغالبتها ! فلابد من اعتماد قاموس من الشتائم والإهانات على وزانها , وركوب أساليب الخداع والمناورات على أشكالها ! فأين هي ( الإسلامية ) إذن ؟ وقديما كان أحد الربانيين يصطحب معه سفيها , أني رحل وارتحل ! فعجب الناس من ذلك فقيل له : " يا شيخ لم تصطحب هذا السفيه ؟ " فقال : ليرد على السفهاء ! وصارت هذه الحكمة مثلا سائرا . لأن السفيه لا يغلبه – في الظاهر – إلا سفيه مثله , أو أشد سفها ! ونحن لسنا بسفهاء – نعوذ بالله ! – ولا نستطيع أن نصطحب السفهاء ! بل من خدعنا بالله انخدعنا له ولكن إلى حين , فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين , ولذلك فضلنا الانسحاب من مواطن السفه بسلام , وأمر الدعوة أوسع من أن نتدافع فيه مع هؤلاء . والله المستعان .
وفي بداية الوحدة وقع حادث قدري محزن , ترك بصماته على الحركة كلها , لحكمة يعلمها الله , وهو موت الأستاذ المجاهد عبد الرزاق المروري هو وزوجه , في حادثة سير أليمة ! يوم سابع نونبر من سنة 1996 م. رحمهما الله وتقبلهما في الشهداء ! كان لموت هذا الرجل في المرحلة الأولي من تأسيس الوحدة – بعد نحو شهرين من تاريخ التأسيس – أبلغ الأثر في اضطراب التعادل بين التنظيمين , وفقدان التوازن في قانون التدافع بين المواقف والتصورات , وقد كان الأستاذ المروري – رحمه الله – أمة وحدة ! فقد كان قائدا ناجحا لحركة التبين آنئذ ومن القيادات النشيطة لرابطة المستقبل الإسلامي , كما كان طاقة فكرية فياضة , مثقفا واسع الإطلاع , ذا قدرة إعلامية ذكية شجاعا في إعلاء الحق قويا في مواجهة الباطل ! وكان موته خسارة للعمل الإسلامي عامة وخسارة لرابطة المستقبل الإسلامي خاصة وسببا في فقدان جزء مهم من قوة الاتجاه التربوي والتكويني لصالح الاتجاه السياسي الصرف في حركة التوحيد والإصلاح , ولله الأمر من قبل ومن بعد !
وبعد موته بسنوات قليلة بدأ صاحبه المخلص الأستاذ المجاهد أحمد المشتالي , ورفيق دربه في قيادة حركة التبين , ينسحب – على المستوى النفسي – شيئا فشيئا , من قيادة حركة التوحيد , بعد مدافعات يائسة مع الاتجاه المطيعي , إلى أن اعتزل العمل القيادي والتوجيهي في الحركة مطلقا ! وظل يحضر لقاءاتها بوضعية أشبه ما تكون بوضعية " المراقب "! وإنها لخسارة جسيمة أن يفقد العمل الإسلامي بالمغرب الحضور الفعلي لرجل قوى يملك من الصفاء الروحي , والذكاء العقلي , مثل ما يملك الأستاذ أحمد المشتالي ! ثم انسحبت من الحركة طاقات " تبينية " قيادية هامة على وزان المشتالي أو تكاد ! وبعد نحو سنتين من انطلاق الوحدة تواترت انسحابات شتى من أبناء الرابطة , خاصة من جمعية الدعوة بفاس وأغلبهم من القيادات المتوسطة , لأن القيادات العليا لم تمض في مشروع الوحدة الأخير أصلا , وإن كانت قد أسهمت بقوة في التنظير له ابتداء , وقد كان انسحاب الأستاذ محمد أمناس من عضوية المكتب التنفيذي سنة : 1998 م بداية فعلية لعودة كثير من أبناء المدرسة الفاسية إلى الالتفاف من جديد حول برامجهم التربوية القرآنية .
وكانت خاتمة المرحلة الأولي من الانسحابات الموازية للتطور السريع لعملية طبخ التوجه العملي على الميزان " الحاتمي " في الغالب , أن آلت " حركة التوحيد والإصلاح " إلى صورة حركة الإصلاح والتجديد :" حاتم " بصورة استردا دية لكن في طبعة جديدة , لك أن تقول :" إنها مزيدة ومنقحة ! لأن التوحيد الحقيقي إنما هو توحيد الأفكار والتصورات , قبل أن يكون توحيد الأسماء والشخصيات .
وفقدت جريدة " التجديد " جدتها بعد قرار إصدارها اليومي فآلت من حيث المنهج الإعلامي إلى شبه ناطقة باسم – حزب العدالة والتنمية "! ولم لا ؟ فقد صارت الحركة والحزب وجهين لعملة واحدة !
فصارت الجريدة – بعد ذلك – منبرا خاصا لتلميع بعض المطيعين من ذوى الطموحات الشخصية مع الأسف ! ودخلت إدارتها بسبب ذلك كله في دوامة من التخبطات , بإسناد الأمور إلى غير أهلها من جهة , والطرد المنهجي لثلة متميزة من الصحفيين الشباب لا لذنب , وإنما لأهم لم يستجيبوا للترويض المطيعي , ولم يخضعوا للتطويع الشخصاني مما أدي إلى تراجع مبيعاتها وكساد نسخها , ثم بوارها في سوق الإعلام ! والله المستعان .
لقد كانت حركة التوحيد والإصلاح في بداية عهدها عبارة عن مدارس شتى تربوية , ودعوية وفكرية , وعلمية , وسياسية ... إلخ ولكن قاطرة الحزب السياسي تفردت بالجر فتناثر حولها كل شئ !
أما المرحلة الثانية من التطورات والانسحابات ( ما بعد سنة : 2000م) فقد تميزت بموت تدريجي لحركة التوحيد والإصلاح في صورتها " الحاتمية " الأخيرة ومسخها إلى صورة " حزب العدالة والتنمية "! نقول ذلك ونحن نعلم بقاء أطلالها قائمة , في شكل هيآت ومقرات خاوية من مضمونها الأصيل دعوة وتربية وتكوينا , وأفراد هنا وهناك, لا فاعلية لهم ولا حياة إلا إذا دعوا إلى ملتقي سياسي محض , أو دخلوا في حمي الانتخابات والدعايات ! وفي هذه المرحلة المتأخرة كان انسحاب عدة أفراد ودحرجة آخرين ! فمن المنسحبين الأستاذ الفقيه محمد الروكي , والأستاذ أحمد العبادي , والأستاذ فريد الأنصاري , ومن المدحرجين – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني الرئيس الأول لحركة التوحيد , الذي استقال من رئاستها سنة : 2003 م , والأستاذ المجاهد المصطفي الرميد الرئيس الأول للفريق البرلماني ! الذي أزيح من رئاسته أواخر سنة :2003 م .
وأما المفكر الإسلامي الأستاذ أحمد الريسوني فأمره عجيب ! ما رأيت أقوى منه ولا أصبر على ترويض السباع ! ولكنها – مع الأسف – أكلته في النهاية !
وهنا – في نظري – انتهت اللعبة ! على حد تعبير الدكتور محمد الدوري ¸بعيد سقوط بغداد ! وهو آنئذ ممثل العراق في الأمم المتحدة ( سابقا ) .
ولم يبق في تقديري إلا من هضمته " المطيعية " أو من لا يزال يحلم بشئ من الوهم في القدرة على تصحيح المسار ! وأذكر أن الأستاذ الذكي الدكتور رضا بن خلدون قد كتب – قبيل الوحدة – مقالا بعنوان " الدرس الحاتمي " تصفيقا لتغييرات بشرية في قيادة حركة الإصلاح والتجديد " حاتم " يومئذ , وأحسب أن المقال كان قد جاء قبل إبانه بكثير , حيث استعجل الدكتور التقويم , ولم ينتظر حتى نهاية الدرس ! وإنما الأمور بخواتمها " كما تقول القاعدة الشرعية !
لقد صارت قصة الوحدة – ذات البناء التراجيدي الحزين – إلى ما يلي :
كانت البداية تأسيسا طموحا لوحدة إسلامية وطنية , في أعظم قسم من أقسام العمل الإسلامي بالمغرب , وتأليفا لأوعي نخبة مثقفة من رجاله ! ولكن بعد نحو سنتين من العمل , بدأ يظهر أن الوحدة صارت تؤول حقيقتها إلى مجرد " التحاق " لرابطة المستقبل الإسلامي بحركة الإصلاح والتجديد ! للأسباب المذكور آنفا. ثم بعد الانتخابات الوطنية للبرلمان المغربي لسنة 2002 م , صارت " حركة التوحيد والإصلاح " في صورتها " الحاتمية " تؤول إلى مجرد " التحاق " بحزب العدالة والتنمية ! وتفريغ لطاقاتها في متاهاته المظلمة ! وانتهت القصة .
والنتيجة المأساوية المترتبة عن كل ما سبق أن "حركة التوحيد والإصلاح "- إضافة إلى فشلها الوحدوي – قد فشلت أيضا في تقديم منتوجها ( الإسلامي ) الذي تزعم أنها تتميز به وتتفرد ! وبيان ذلك كما يلي :
- على مستوى الهدف : ديجت الحركة في ميثاقها منذ مراحل بنائها الأولي أن هدفها الأول هو " إقامة الدين " على كل المستويات من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع , إلى الدولة إلى الأمة ! وأقول بكل أسف إنه – بالنسبة لواقعها الداخلي – هدف وهمي ! لأنه بكل صراحة هدف مبني على مجرد التمني ! إذ الحقيقة المرة أن العقلية المطيعية صيرت الحركة – في كثير من منتسبيها – بلا دين ! كما بيناه في غير ما سياق بهذه الورقات , على المستوى المركزي , والجهوى , وعلى المستوى القطاعي الحزبي , والنقابي , والطلابي جميعا ! والقاعدة المنطقية أن فاقد الشئ لا يعطيه ! لقد فشلت الحركة فشلا ذريعا – كما تبين قيل – في تصنيع منتوج " الأمانة" ! وذلك هو جوهر الدين , الذي تزعم أنها وجدت لإقامته فيما ذكر من مجالات كبرى , والحديث الصحيح صريح في أنه ( لا إيمان لمن لا أمانة له ! ولا دين لمن لا عهد له ) وهو معني كلي من كليات الدين القطيعة , إذ النصوص الشرعية فيه أكثر من أن تحصي .
- على مستوى الوسائل الوظيفية :" الدعوة والتربية والتكوين ". جعلت الحركة في ورقاتها وأدبياتها الوظائف الثلاث المذكورة هي تخصصها العملي الذي تتوسل به إلى " إقامة الدين " الذي هو هدفها الأول من العمل الإسلامي , ولكن الحقيقة المؤسفة – كما بينا قبل – أنه لا وجود لكل ذلك على أرض الواقع إلا أشكالا لا تسمن ولا تغني من جوع ! وقد بينا أسبابه , فلا حاجة للإعادة وحجتنا القاطعة لدينا عندك – قارءنا الكريم – هي أن تزور بنفسك مقرات الحركة , وتخالط قطاعاتها المختلفة , ثم تتابع طبيعة الأنشطة التي أغرقت أغلب أطرها هنا وهناك وما هم فيه منهمكون أغلب الأحوال والأوقات لتشاهد الحقيقة معاينة فترى فرق ما بين المفعول والمقول !
- على مستوى الشورى : تزعم " حركة التوحيد والإصلاح " أنها نموذج متميز لتطبيق مفهوم " الشورى " الإسلامي علي المستوى الداخلي للحركة بل هناك من قادتها من يري أنها أمثل نموذج على مستوى العالم الإسلامي كله ! سواء في بناء الهياكل أو في اتخاذ المواقف والقرارات , وأنا أزعم – كعضو سابق في المكتب التنفيذي ,ومجلس الشورى , والجمع العام , وبعض اللجان الوظيفية , وكمشرف سابق أيضا على العمل الطلابي – أن ذلك كله مجرد وهم! بل الحقيقة المرة أن " الحركة " من أقدر التنظيمات الإسلامية على تطبيق " الديمقراطية " بمفهومها السياسوى ! أعني " الديمقراطية " بما هي قدرة سحرية خارقة على إيهام الجموع العامة ,والمؤسسات " الشورية " أن أعضاءها قد شاركوا , وأنهم قد عبروا وأنهم قد رأوا وما هم
– في الواقع – قد رأوا شيئا ! أليس هذا بالعجب العجاب فعلا ؟! فليسموها " شورى " أو ليسموها " ديمرقراطية " ولكنها في النهاية " شئ عجيب ! صورة وهمية يطبخونها طبخا , ويتقنونها صنعا , ويخرجونها على أبهي ما يكون الإخراج , ثم يعرضونها على أجمل ما يلمع الماكياج ! حتى إن المشارك فيها لا يكاد يدرك أحقيقة هي أم خيال ! وما رأيت في حياتي أشبه من شورى الإخوة – أو ديموقراطيتهم – بلعبة الخيط القمارية , يعقدها اللاعب عقدا شتى , ثم يطرحها على الأرض , بعضها فوق بعض , حتى يظن الرائي ظنا يشبه اليقين , أنها قد انعقدت على حلق رابحة فعلا , فإذا وضعت إصبعك داخلها سحب اللاعب الخيط , ترك إصبعك على فراغ خاسر , تخط الأسى في مهب الريح !
- إن هذا الشئ المسمى بـ ( الشورى ) داخل الحركة إنما هو ضرب من " الميكيافيلية " التيارية , أعني أنها منهج قائم أساسا على حفظ القيادة لصالح تيار معين , وجناح معين بأي ثمن , وبأى وسيلة كانت ! ولو بالخدع الديمقراطية والحيل الميطيعة ! سواء في ذلك جموعها العامة , ومجالسها " الشورية " ومكتبها التنفيذي وقطاعها الطلابي ! ذلك ما عايناه وشهدناه والله المستعان !
لقد صارت" حركة التوحيد والإصلاح " - في النهاية – كـ ( يا أيها الناس ) ! لا اجتهاد لها في الدين ولا في الدعوة , ولا فضل لها في التربية ولا في التكوين , بل باتت لا يميزها عن سائر المجتمع سوى أن ناسها في هيكل تنظيمي , يجمع الصالح والطالح , ككل تنظيمات الناس ! صلاحها على قدر صلاح الناس , وفسادها على قدر فساد الناس , وفهمها للدين على قدر فهم الناس ! فلم يعد لها أى شئ ليس لدى الناس , حتى تعطيه للناس ! بل كل ما عندها عندهم , وكل ما ليس عندهم ليس عندها ! فلست أدرى – بعد ذلك – ماذا بقي لها اليوم من معني التوحيد ؟ وماذا يجرى عليها الآن من مفهوم " الإصلاح " ؟ ! هل الشكل أم المضمون ؟! أم الأطلال والشجون ؟ وهل الهياكل والقباب ؟ أم المراتب والألقاب ؟ ألا وإن ذلك كله لأشبه ما يكون بأطلال ( قرية أهلنكاها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد !) ( الحج :45)
هذا , وإن كنت آسي بعد ذلك على فوات شئ , فإني آسي على ضمور العمل الإسلامي بالمغرب بضمور جناحين اثنين من أجنحته العديدة وهما : جناح الشمال , وجناح الجنوب ! صحيح أن جميع أجنحة العمل الوطنية كانت لها بركتها وكانت لها تخصصاتها , ولكن الجناحين المذكورين تميزا بما لم يوجد في غيرهما إلا قليلا .
أما جناح الشمال الذي كانت تقوده الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير , فقد كان يسهم في صناعة بيئة روحانية عامة وطاقات تربوية جادة , وأجواء ثقافية إيمانية متميزة بما جعل المدينة تكاد تصبح عاصمة روحية للشمال المغربي كله ! حتى إن بعضهم كان يسمي الجمعية بـ " جمعية الزواج " لكثرة ما كان يقبل الشباب من جهات أخرى على اختيار زوجاتهم من مدينة القصر ونواحيها , وإنما كان ذلك بسبب الصلاح العام والعفة الشاملة التي كانت تطبع المنطقة بأسرها , وذلك أن غالبية السكان بهذه المناطق هي معادن طيبة طاهرة في أصلها , إذ معظم أعراقها تنتمي إلى مداشر الجبال ( أجبالة ) بالشمال المغربي , وهم أهل قرآن وعلم , وتدين وصلاح , وعفة وشجاعة , وسابقة في المقاومة والجهاد , فكانت الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير تستفيد من هذا الرصيد المعدني والتاريخي , فتخرج من الناس خيارهم , حتى كانت المدينة تنعم بأمن اجتماعي نادر , بسبب قلة الجريمة والفساد , بما غلب على الناس من خير وصلاح , ولكن ما أن ابتلي الله الجمعية بآفة العمل الحزبي حتى تسلطت عليها ريح عاد ! فأتت على منجزات العمل الدعوى كله خاصة وعامة ! وانطلقت السياسية ( تدمر كل شئ بأمر ربها ! فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ) ( الأحقاف : 25 ) وذهب الطابع الروحي للمدينة أدراج الرياح !
وأما جناح الجنوب , فقد كانت منطقة الرشيدية / تافيلالت , بامتداداتها الجبلية والواحاتية أعظم " محمية بشرية " وأندر معدن إنساني رفيع , على الصعيد الوطني كله ! " محمية " كمحميات الأسود والغزلان ! أقول ذلك ليس تعصبا لها – وأنا ابن نخيلها ورمالها – ولكن اعتمادا على شهادات متواترة مستفيضة صدرت عن كثير من أهل العلم والخبرة ممن زاروا المنطقة , أو احتكوا برجالها في العمل الإسلامي , أو العمل التعليمي , أو الإداري العام , هنا أو هناك , منطقة غارقة في الفقر والأشجان والأحزاب , نعم , ومع ذلك ما تزال تصر على الحفاظ على مؤهلاتها الفطرية للخير ! بما لا تجده عند غيرها إلا آحادا , يتخرج الشباب من أصلابها مفطورين على خصلتين قلما تجتمعان في هذا الزمان : القوة والأمانة ! وهما كمال شخصية الإنسان على ما ذكره الله – جل علاه – في القرآن , على لسان ابنة الرجل الصالح , في حق موسي عليه السلام : ( إن خير من استأجرت القوى الأمين ) ( القصص : 26) فإذا خضعت لتكوين تربوي أو تعليمي جاد تخرج من أصلابها المعدن النفيس والعبقرية النادرة !
وكان أولي بهذه المنطقة أن تبقي " محمية " بحق تشتغل بما برزت فيه وأبدعت " التربية والتكوين " بعيدا عن أدخنة السياسة الحزبية وظلماتها فقد بقيت على عهدها هذا زمنا تنتج الرجال وتصدر الأبطال , حتى كادت أن تغطي التراب الوطني كله بالطاقات القوية والأطر الجادة ! فنفع الله بها ما لم ينفع بغيرها .
ولكن !... ويا لحسرتاه على " ولكن "! وصلت الأمطار الحامضية عبر الحزب السياسي إلى بلاد النخيل أيضا ! فحملت عليها شعاب وادي زيز وغريس بما لا قبل لها به ! وارتمي الشباب في مجارى العمل السياسي العفن , فانتقضت الطهارة , تنجس العمل ! وتورطت الطاقات في الخلافات القبلية وزادتها تأجيجا واشتعالا , وقد كانوا إلى عهد قريب هم أهل الصلاح والإصلاح , إليهم المفزع عند أى نزاع . فصاروا طرفا في طل شئ !
وبدل أن يكونوا مرجعا لحل الإشكال صاروا جزءا من الإشكال ! في منطقة لا تزال فيها الانتماءات القبلية والعرقية لها وزنها وحسابها ! وما تزال القيادة محترمة للشيوخ وأهل الجاه الاجتماعي والقبلي والمادي , وكان أولي أن يحسب كل ذلك , وألا تدخل الحركة الإسلامية في شئ منه طرفا البتة ! ولكنها أخطأت خطأ جسيما , إذ رشحت من أفرادها الصغار من جاء ينافس الشيوخ الكبار ! وكانت الزلة التي أهلكت الحرث والنسل ! وأدت الدعوة الإسلامية بالمنطقة الثمن غاليا ! فقد حوصر أبناء الحركة دعويا واجتماعيا وسياسيا , وصار كل قول يصدر من دعاتها متهما حتى تثبت براءته !
تسيس العمل الإسلامي بالإقليم المحافظ , فبدأ دين " الدعاة " هناك يلين أيضا – على اصطلاح المحدثين – وبدأ الانحراف السلوكي والتصورى ينخر القلوب والأجسام ! رجالا ونساء بما لم يخطر قط بالبال أن يقع مثله بين أولئك القوم واقتحمت المحمية بالجرثوم السياسي الدخيل فبدأ الفساد يدب إلى كل شئ ! وربما كان لدخول غير أبناء المنطقة إليها بهذه الفهوم بعض نصيب ! فماذا بقي لهم أن يقدموا للناس في بيئة لها حساسية ضد الاستغلال السياسي بطبيعتها القبلية , وتعددها العرقي أشد من غيرها ؟
لقد خسر العمل الإسلامي في الجنوب السجلماسي ما لم يخسره في أى منطقة أخرى , لقد خسر الإنسان ! والإنسان هو أغل ما ينتجه الإقليم على الإطلاق ! فما وجدت لضياع العمل التربوي هناك مثلا أدق مما أورد الله تعالي في حق مملكة سبأ ! ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية : جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له ! بلدة طيبة ورب غفور , فأعرضوا , فأرسلنا عليهم سيل العرم ! وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل !) ( سبأ : 15 -16 ) كذلك كان والله المستعان !
فعسي أن الله بغيث طيب ينبت جيلا جديدا من المصلحين فلا , يأس من رحمة الله , وإنما الدين أمر الله : أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوءة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) ( الأنعام :89). ( وإن تتولوا يستبدل ) قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم !) ( محمد:38) .
تلك إذن خمسة أخطاء منهجية تتعلق بالحركة الإسلامية في صورتها التنظيمية الحديثة , وأما الخطأ المنهجي السادس فقد جعلناه بابا مستقلا لخصوصيته المنهجية والمرجعية وهو استصنام المذهبية الحنبلية في التيار السلفي , وبيان ذلك هو كما يلي :
الباب الثاني :
استصنام " المذهبية الحنبلية " في التيار السلفي
وهو الخطأ المنهجي السادس للعمل الإسلامي بالمغرب ,وقد جعلنا قضاياه في ثلاثة فصول , هي كالتالي :
الفصل الأول : تمهيد تاريخي
التيار السلفي بالمغرب كان على خير , ونطق بخير , واشتغل بخير , وما كان أحد أولي منه بإصلاح البلاد والعباد لو استمر على النهج القويم , ولكنه هو أيضا أنتج – في مرحلة انحرافه – عقارب أشد خضرة من عقارب الحركة الإسلامية , وأشد لسعا! فشدة خضرته , هي بما كان أشبه من غيره بالعلم وأهله ! وشدة لسعة هي بما ألحق بالإسلام والمسلمين من الأذى على علم ! وإليك البيان :
كانت " الدعوة السلفية " هي أول ما اشتغل بالمغرب من حركات الإصلاح الديني , وذلك بالعمل على إخراج أجيال الصحوة الإسلامية المعاصرة , فقد انطلقت نداءاتها التحريرية منذ العهد الاستعماري البائد , حيث ظهرت دعوتها مع علماء مغاربة كبار , من أمثال الشيخ أبي شعيب الدكالي , وشيخ الإسلام ابن العربي العلوى , رحمهما الله , ومن تتلمذ على أيديهما , ثم تطورت مع مجئ العلامة المجدد الدكتور نفي الدين الهلالي , والشيخ محمد الزمزمي آل ابن الصديق , ومن تتلمذ على أيديهما أيضا . وقد بدأ الدكتور الهلالي – رحمه الله – نشاطه منذ الفترة الاستعمارية , واستمر إلى ما بعدها زمنا , حتى توفي بالدار البيضاء رحمة الله عليه , في شهر شوال من عام 1407هـ , عن سن تناهز المائة عام بالعد الهجري , وكان قد أصدر مجلة " لسان الدين " بمدينة تطوان سنة : 1946م. كما سافر إلى أروبا , ثم إلى المشرق – قبل ذلك وبعد ذلك - وجال عدة أقطار من العالم الإسلامي , داعيا إلى الله معلما ومجددا , ثم عاد ليتفرغ للعمل الدعوى بالمغرب , طيلة النصف الثاني من القرنين الرابع عشر الهجرى , والعشرين الميلادي .
ويمكن أن نقول : إن الدكتور تقي الدين الهلالي – رحمه الله – هو المؤسس الحقيقي للمدرسة السلفية بالمغرب في العصر الحاضر , وذلك بما خلف من تلاميذ , حملوا راية التجديد بعده , وإن لم يبلغ أحدهم – مع الأسف – مبلغه من العلم ولا حتى قاربه ! ثم بما ترك من كم هائل من الكتب والمصنفات في مختلف العلوم الشرعية , واللغوية , والأدبية والفكرية ومن الترجمات من اللغات العالمية وإليها , كان ذا عبقرية فذة نادرة على مستوى العالم الإسلامي كله ! وقد اشتهر من العلماء المغاربة المتأثرين بمنهجه الشيخ محمد بوخبزة التطواني – وهو أسنهم وأعلمهم – بارك الله في عمره , والشيخ محمد زحل والشيخ الدكتور القاضي برهون والشيخ محمد الصمدي وآخرون .
والحق أن الدعوة السلفية – في أول عهدها – كانت حركة مباركة فقد أسهمت إسهاما بالغا في عودة الناس إلى ممارسة الشعائر الدينية وخاصة الصلوات , بعدما كانت المساجد خاوية على عروشها لا تكاد تجد فيها إلا الرجل والرجلين من الشيوخ والعجزة , فكانت كلمات المصلحين السلفيين توقظ المشاعر الدينية , وتغرس الوعي الديني لدي الشباب والكهول كما أبلت البلاء الحسن في تصحيح العقائد والشرائع , من توحيد وعبادات , وكان لها الفضل الأكبر في محاربة المظاهر الشركية , من الذبح لغير الله , والاستعانة بغير الله , والتوعية بخطورة ذلك كله , وكذا محاربة مظاهر الشعوذة والخرافة والدجل التي خدعت الناس باسم " الولاية الصوفية " و" المشيخة الطرقية " , زمنا طويلا والتصوف السني الأصيل منها براء ! ففي ظروف الجهل وانقطاع الناس عن طلب العلم الشرعي من مصادره الأصيلة تقمص عدد من الدجاجلة شخصيات " الأولياء الصالحين " وتلبسوا بما لم يعطوه من الصفات , وخدعوا العامة بما أمدتهم الشياطين من مخرقات فعرضوها على أنها كرامات ! وما هي بكرامات إن هي إلا إفك كبير , ودجل مبير ..! فحررت السلفية أغلب المغاربة من هذا الجهل العظيم ! كما أنها أسهمت في تحقيق النصوص الحديثية وتنبيه العامة والخاصة من المتدينين وطلبة العلم إلى الأحاديث الصحيحة والضعيفة , وضرورة التمييز بينها في التشريع والاستدلال . بعدما كان الناس لا يشتغلون بأى شئ من ذلك فعبدوا الله تعالي بالجهل والخرافة زمنا طويلا .
وفي مرحلة السبعينات من القرن الميلادي الماضي كان بعض علماء المشرق يفدون إلى المغرب , ومن أمثال الشيخ أبي بكر الجزائري , والشيخ حماد الأنصاري , والشيخ محمد عبد الوهاب البنا , والشيخ عبد المحسن العباد , والشيخ محمد الحسن الكسلي السوداني والعلامة محمد ناصر الدين الألباني , وغيرهم رحمة الله عليهم جميعا فكان لهم أكبر الأثر على كثير من المغاربة في تصحيح الوعي الديني عقيدة وشريعة .
إلا أن الدعوة السلفية بالمغرب – رغم إيجابياتها الكثيرة – لم تسلم من اختلال موازين ثلاثة الأمر الذي تولدت عنه أخطاء منهجية – سيأتي تفصيلها بحول الله – أدت إلى تمزقها وذهاب ريحها إلا ما شاء الله أما الموازين الثلاثة التي اختلت لها فهي :
- الأول : اختلال ميزان الحكمة , حيث لم تراع مقتضيات البيئة المغربية وطبيعة أدوائها , ما تطيقه من أمور الدعوة والإصلاح وما لا تطيقه وما كان حقه التقديم من ذلك وما كان حقه التأخير , ولم تستطع التكيف مع طبيعة المغرب المذهبية والسياسية بل إنها حاولت أن تنقل التجربة الدعوية الحنبلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - بصورة حرفية , من دون مراجعة ولا اجتهاد , سواء فيما تعلق ببعض أحكامها الشرعية , أو فيما تعلق بمنهج تحقيق مناطها بأرض الواقع المغربي , وذلك كان من أكبر زلاتها المنهجية !
- الثاني : اختلال ميزان الإنصاف , حيث إنها ظلمت كثيرا من خصومها من أهل العلم والصلاح , من ذوى الاجتهادات المخالفة , ولم تعترف لهم بفضيلة البتة ! كما أنها صادرت المذاهب الفقهية جميعا عدا المذهب الحنبلي ! وهاجمت التصوف بلا تمييز بين أهله ومدارسه , ولم تحترم مراتب الأحكام على البدع إلا قليلا .
- الثالث : اختلال ميزان الحلم , وذلك بما مارسته من شدة مفرطة في النقد والهجوم على كثير من علماء المسلمين , ممن ابتلاهم الله بالابتداع – الحقيقي أو الإضافي – في العقائد والعبادات , أو حتى ممن خالفهم في الاجتهاد الفقهي المحض , منهم ومن غيرهم , بل إن بعض دعاتها المتأخرين قد تورطوا في قاموس من الشتائم والسباب , مما لا يليق بالمسلم العادي أن يتلفظ به , بله العالم الداعية ! وقد كنت يوما بمجلس أحد مشايخهم بالمغرب فلم يلبث أن وقع في أحد العلماء الكبار – من زعماء " الإخوان المسلمين " بعبارات نابية ساقطة , أخجلت كل من كان في المجلس بما في ذلك تلامذة الشيخ أنفسهم ! و ( لا يكون المؤمن لعانا!) لو كانوا يعلمون ! فالتفت إلى من رافقوني آنئذ إلى مجلس ذلك الشيخ , وقد كانوا يرجون أن تجتمع عليه كلمة الدعوة بالمغرب فقلت لهم : " إن هذا الشيخ لن يستطيع جمع شئ ولا حتى الذباب !" وكذلك كان ! فلم يلبث أن تفرق الناس من حوله شذر مذر ..!
لقد خسرت الدعوة السلفية في امتحان الأخلاق مع الأسف فأضاعت بذلك على الأمة خيرا كثيرا !( ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) ( فصلت : 34 – 35 ) ذلك ما لم يتزودوا منه إلا قليلا !
وعليه فقد كان لهذا وذاك – مما ذكرنا من موازين مختلة – أثر بالغ على انحراف التيار السلفي , وانزلاقه إلى اتجاهات أخرى , وظفت أحيانا لضرب الإسلام نفسه ! فمع أواخر القرن العشرين الميلادي لم يلبث جيل الخلف من المدرسة السلفية أن تغيرت أحواله واضطرب اتجاهه بسبب تعرضه لفتن مذهبية , وأخرى سياسية فشطت به رياح الأهواء إلى ضرب من الانحراف المنهجي , والتعصب المذهبي و" استصنام " المشايخ والزعماء , مما أدي – فيما بعد – إلى أن تكونت منه تيارات وفرق شتى كان لها أكبر الأثر في توتر الساحة الدينية بالمغرب , وإرباك مسيرة الصحوة الإسلامية إرباكا شديدا فتغير مفهوم " السلفية " من معناه الإصلاحي الإيجابي إلى معان أخرى سلبية لبسها لنفسه بنفسه , ثم أججت ضلالها المفهومي كثير من وسائل الإعلام المغرض فكان من أمره ما كان وبيان ذلك هو كما يلي :
لقد كان انطلاق الحركة الإسلامية بالمغرب متداخلا بالفكر السلفي ومتلبسا به وذلك منذ أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الميلادي الماضي , حيث كانت التنظيمات الإسلامية الناشئة آنئذ , تستفيد من التأطير العلمي لرموز الحركة السلفية بالمغرب , من أمثال الدكتور تقي الدين الهلالي والعلامة محمد الزمزمي وغيرهما رحمهما الله . وذلك بوعي تام من الطرفين وإرادة كاملة , حيث كان بدء العمل الإسلامي بالمغرب في تلك اللحظة يطبعه نوع من التعاون والتآلف بين جميع مكوناته , وقلما يدخله الاختلاف والشنآن , وذلك بسبب الحاجة المرحلية للتوحد الفكري , ضد موجة الإلحاد الماركسية التي كانت تجتاح المغرب آنئذ .
ومن هنا لم يكن ثمة تمايز بين الإسلاميين ولا أى اختلاف جذري في العمل الدعوي والتربوي , بل كان هناك نوع من التكامل والتعاون , فما تنكره بعض التيارات السلفية اليوم على الحركات الإسلامية من " بدعية " العمل التنظيمي , كانت هي أيضا تمارسه في تلك المرحلة وتقره , من خلال تعاون رموزها مع عدد من التنظيمات السرية والعلنية , وقد استجاب الدكتور تقي الدين الهلالي لطلب الإمام حسن البنا رحمه الله عليهما , في مراسلة تاريخية لما طلب منه " البنا " ترشيح أحد المغاربة ليكون مراسلا لجريدة الإخوان المسلمين " التي كان يصدرها في مصر فأجابه تقي الدين الهلالي برسالة ترحيبية مليا فيها طلبه , ومقترحا نفسه ذاتها مراسلا لجريدته وقد وشحها ببيت شعرى نصه :
لبيك يا لبيك يا لبيكا *** ها أنا ذا منطلق إليكا !
وكان الدكتور آنئذ يصدر هو أيضا مجلة " لسان الدين " يتطوان وكان على معرفة جيدة بالبنا وبحركته , وقد كان الإمام – رحمه الله وتقبله في الشهداء – هو أول من أنشأ جماعة ذات بناء تنظيمي حديث على شاكلة التنظيمات السياسية المعاصرة .
ثم إن الدكتور الهلالي – رحمه الله – صار بعد ذلك على صلة غير مباشرة بتنظيم الشبيبة الإسلامية , من خلال تربية بعض رموزها العلمية وتوجيههم وكان – كما بلغني – يسأل عن أحوال الحركة وما قطعته من مراحل , وعن الكتب المقررة في التربية والتكوين .
وما أن انفجرت " الشبيبة " في أواخر السبعينات وبداية الثمانينيات حتى بدأ التيار السلفي بالمغرب يتبلور في صورة جديدة متأثرا في ذلك بتطور أصوله المشرقية , بما اقتضته مرحلة ما بعد السبعينات من مواجهة المد الشيعي – بعد قيام الثورة الإيرانية سنة : 1979م – الذي نشط على المستوى العالمي , بما تبناه من فكرة تصدير الثورة . ففي هذه الظروف , وبعد وفاة الدكتور تقي الدين الهلالي – رحمه الله – مباشرة ظهرت على الساحة المغربية رموز سلفية جديدة كان بعضها يشتغل تحت قيادته ورعايته ولكنها ما أن استلمت زمام الزعامة السلفية حتى خطّت لنفسها منهجا جديدا , مخالفا في كثير من سماته لمنهج الدكتور تقي الدين رحمه الله وشيئا فشيئا , ومع تطور الأحداث العالمية , وما صاحبها من نشوء ما سمي بـ " الجهاد الأفغاني " وظهور " الأفغان العرب " ثم ازدياد السلفية في صورتها الأخيرة التي صارت تصنع جزءا من الصورة لا يستهان به في واقع العمل الإسلامي بالمغرب , وهكذا تطورت الاتجاهات السلفية من مجرد تيار دعوى تجديدي تتلخص وظيفته في محاربة البدع وإحياء السنن في العقائد والعبادات , إلى فاعل سياسي كبير يوظف سلبا وإيجابا على المستوى العالمي والمحلي , بما جعله يتعرض للزلازل السياسية , ويتمزق هو أيضا إلى تيارات وفق وأحلاف , تمتد من " السلفية العلمية " إلى " السلفية الإخوانية " إلى " السلفية التكفيرية القتالية " ! وداخل كل فرقة من هذه الفرق تتناسل فرق أخرى وأحلاف , حتى إنك لتكاد تجد مفهوم " الجماعة " يختزل في خمسة أفراد أو ثلاثة ! حتى يتشخص – بعد ذلك – في فرد واحد يرفع عقيرته مناديا ( أنا الفرقة الناجية )!
وهكذا أصيب التيار السلفي في عمومه – إلا من رحم الله – بما أصيبت به الحركة الإسلامية الحزبية من " استصنام منهجي " جعله – في بعض تجلياته – أداة للتخريب ووسيلة للهدم! من بعد ما عاش مرحلة مباركة من الإصلاح والتجديد والبناء السديد , ثم صار إلى نوع من الجمود والتحجر في فهم الكتاب والسنة وإلى نوع من تضخم " الشكلانية " على حساب الحقائق الإيمانية , والمقاصد الشرعية. فصار محجوبا عن التأثير الحقيقي في عموم الناس بسبب قيامه على العنت والغلو في الدين , دون التوسط والاعتدال , فكان بعض رموزه بذلك حجبا عن الله , بما خلع عليها الأتباع – من العامة والرعاع – من استصنام شخصاني وعصمة لا شعورية , أضف إلى ذلك استصنامه أيضا للرأي الفقهي بتداوله لكثير من الأحكام الشرعية , ذات الطابع الاجتهادي الصرف , وكثير من المقولات الفقهية القائمة – من الناحية المرجعية – على المذهب الحنبلي بشكل واضح ! وتقديمها لعامة المتدينين على أنها هي " الكتاب والسنة " وأنها حقائق قطعية لا مجال فيها للاجتهاد ! مما نقلها في أذهانهم من رتبة الصواب إلى رتبة الحق , كما نقل نواقضها من درجة الخطأ النسي إلى دركة الباطل المطلق ! ثم نتج عن ذلك أن جعل أصحابها القائلون بها في قفص الاتهام , وصنفوا ضمن خانة تتردد بين الكفر والضلال ! ذلك أن بعض رواد هذا التيار قد أدخلوا منطق " التبديع " والتضليل " إلى مجال الأصل فيه أن يتناول بمنطق " التخطئ " والتصويب " فبدل أن يتعاملوا مع الناس بميزان الخطأ الذي يرجي لصاحبه – على الأقل - أجر واحد , تعاملوا معهم بميزان " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار !" وكان ذلك كله من أشد أنواع " الاستصنام المنهجي " الواقع في صف العمل الإسلامي المعاصر !
وهذا كله إنما حصل بسبب الوقوع في مجموعة من الاختلالات التصورية والانحرافات السلوكية نفصلها فيما يلي :
الفصل الثاني : استيراد المذهبية الحنبلية باسم " الكتاب والسنة "
لعل أول صخرة اصطدم بها الفكر السلفي الدخيل هي صخرة المذهبية و فقد كان من أخطائه المنهجية الكبرى أنه استهان بأمر الخصوصيات المذهبية للمغرب , فأدي ذلك إلى فشل مشروعه الإصلاحي , ولعل بعض من روجوا له بالبلاد – بعد وفاة الدكتور الهلالي رحمه الله – لا خبرة لهم بالخلفية المذهبية التي تضمنتها مقولاته نظرا لعدم الاختصاص بالفقه وأصوله , وبعلم الخلاف العالي من ناحية , ونظرا لأن الرسالة السلفية – من ناحية أخرى – قد ألقيت إليهم على أنها هي العمل بـ " الكتاب والسنة " فدُلس عليهم كثير من الأحكام الفقهية الحنبلية وتلقوا ذلك بنوع من السذاجة دون الدخول في تدقيق تلك المقولات , وتحقيق مدى قوة علاقتها بالكتاب والسنة بعرضها على موازين القواعد الفقهية والأصولية , دلالة واستدلالا . ثم النظر في اختلاف العلماء من قبل , واستعراض أدلتهم كلا على حدة لمعرفة الراجح من المرجوح وقد تجلت حنبلية السلفية الدخيلة في أمرين : الأول فقهي جزئي , والثاني منهجي أصولي .
فالأول : الذي هو التجلي الفقهي للسلفية متعلق بمجموعة من الأحكام الفقهية التي قال بها الحنابلة قديما , وجعلوها من اختياراتهم , فصدرت إلينا على أنها ضرب من التجديد للدين ومحاربة للبدع . كالقول بوجوب النقاب على النساء , وعدم جواز مس اللحية بشئ من القص والتهذيب مهما طالت ووجوب الخروج من الصلاة بتسليمتين لا بتسليمة واحدة , وبطلان القول بالندب في ذلك , كما هو عند المالكية وغيرهم ,وكذا القول بتكفير تارك الصلاة بناء على ظواهر النصوص , وتبديع القول بالقنوت في صلاة الصبح والتشنيع على المغاربة في ذلك زمنا طويلا ! مع أن أصله ثابت في السنة الصحيحة عند الشيخين وغيرهما , بل هو متواتر مقطوع به ,
وإنما الخلاف هو في نسخه أو عدمه , وفي علة ترك رسول الله – صلي الله عليه وسلم – له أهو نسخ أم هو لمجرد بيان عدم وجوبه ؟ كما حدث في صلاة التراويح مثلا ... إلخ هذا على سبيل المثال , وإلا فالفروع الحنبلية المنقولة إلينا عبر الفكر السلفي كثيرة جدا , ليس هذا مجال تفصيلها .
هذا وقد خرج بعض المعاصرين منهم أحكاما فقهية – في بعض النوازل الجديدة – على أصول مذهبهم وقواعده , من مثل القول بتحريم التصوير " الفتوغرافي " بشتى أنواعه ! اعتمادا على مطلق المنع من التصوير , بمفهومه القديم الوارد في الحديث دون النظر إلى علل المنع فوقعوا في أقيسه باطلة , لوجود عدة فوارق بين الأصل والفرع ولعدم تحقيق مناط النصوص بما يناسب النازلة الجديدة بصورة سليمة .
وقد كثر النقل عن أئمة الحنابلة – رحمهم الله – بدءا بالإمام أحمد , ثم الإمام ابن الجوزي وابن قدامة المقدسي , وشيخ الإسلام ابن تيمية , وتلميذه الرباني الإمام ابن القيم , وانتهاء بشيوخ العصر منهم كالعلامة ابن باز , والشيخ العثيمين رحمهما الله , وسائر المنتسبين لمؤسسة " هيئة كبار العلماء " السعودية ,وجرت ألقابهم وكناهم على ألسنة المنتسبين للتيار السلفي بالمغرب , حتى رسخت لدى كثير منهم عبارة ( قال " شيخ الإسلام " ) دون ذكر ماذا يقصدون بهذا اللقب لظنهم أن المعني واضح , وظنهم أن شخصا واحدا هو من اشتهر به !
وإنما هم يقصدون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو صحيح , ولكن الإطلاق إنما هو عند متأخري الحنابلة فقط ولذلك وجب التقييد! ولكنهم لا ينتبهون إلى أنهم في المغرب المالكي , وأن المغاربة هم أيضا عندهم من اشتهر بهذا اللقب ! كالإمام ابن عبد البر الأندلسي ( ت : 463هـ ) والإمام أبي الوليد الباجي ( ت : 474هـ ) .
ثم اشتهر به من المتأخرين : شيخ الإسلام ابن العربي العلوي السجلماسي , المتوفي في القرن الماضي .
وممن أشتهر بهذا اللقب من غير المذهب قديما : المحدث الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني ( ت : 450هـ ) وأبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصارى الهروي الحنبلي ( ت :481هـ ) وسراج الدين البلقيني الشافعي : ( 805هـ ) والقاضي شرف الدين يحيي بن محمد المناوى الشافعي ( 871 هـ ) والقاضي أبو يحيي زكريا بن محمد الأنصاري المصري الشافعي ( ت : 928هـ ) وغيرهم كثير , وأما من وصف به في غير اشتهار فأكثر من أن يحصي .
كما الدولة العثمانية بتركيا أيضا كانت تعتمد هذا اللقب , وذلك لتمييز منصب رئيس العلماء بـ " دار الحكمة " في اسطنبول , على غرار " شيخ الأزهر " بمصر . ومن أشهر شيوخ الإسلام بالدولة العثمانية : شيخ الإسلام العلامة مصطفي صبري رحمه الله .
وغير ما مرة سمعت قولهم : ( قال إمام أهل السنة والجماعة ) دون تعيين المعني لظنهم أنما هو شخص واحد أيضا من اتصف بهذا الوصف من دون العالمين ! وإنما يقصدون به الإمام أحمد بن حنبل ( ت : 241 هـ ) رحمه الله .
وكان مالكا بن أنس ( ت: 179هـ ) - وقد عاش قبله بأكثر من قرن ونصف القرن من الزمان – لم يكن كذلك ! أو كأنه كان إمام طائفة أخرى , غير " أهل السنة والجماعة !" وقد علم تاريخيا أن مالكا رحمه الله هو المؤسس الأول – على المستوى المذهبي الاجتماعي - لمدرسة " أهل السنة والجماعة " فقها وعقيدة ! وكل الأئمة الأربعة هم أئمة " أهل السنة والجماعة " وما كتاب " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لابن تيمية عنا ببعيد ! ولكن الهوى الحنبلي المدسوس في الفكر السلفي الوافد , قد قصر ذلك الوصف على الإمام أحمد رحمه الله , ومعلوم ما في ذلك من التقوية لآراء الحنابلة الفقهية إذا اختلف الناس ! فردد بعض المغاربة ذلك , بسبب الجهل حينا , وبسبب المجاملة لمصادر التمويل في الخليج أحيانا أخرى , كل ذلك والقوم يدعون محاربة المذهبية !
وقد بدعت الخلاصات الفقهية المالكية بالجملة وبلا تمييز! وصارت أقوال المغاربة باطلة حتى يثبت بصحتها الدليل , بينما أقوالهم هم صحيحة حتى يثبت ببطلانها الدليل !
ومن أغرب الأشياء التي صادفتها أكثر من مرة في بعض مصنفاتهم عند تخريجهم للأحاديث أنهم – مثلا – يعزون الحديث إلى مسند أحمد – إن كان في المسند- ثم إلى صحيح البخاري أو مسلم أو هما معا , ثم إلى كتب السنن الأربعة مثلا , ويكون الحديث المقصود بالتخريج والتوثيق قد سبق مالك – رحمه الله – إلى إخراجه في الموطأ ولكنهم يغفلون ذلك إغفالا ! والأمر يتكرر في غير ما مصنف ورسالة ! فإن كان القصد الاقتصار على المصادر الصحاح فالعزو إلى البخاري كاف , والموطأ أصح من المسند بالإجماع ! وأما إن كان القصد الترتيب التاريخي للمصادر فالموطأ أقدم من المسند , فلم يبق إذن إلا التأثر اللاشعوري أو الشعوري بالنزعة الحنبلية.
والثاني : هو التجلي الأصولي المنهجي , وذلك هو المسمى عند الأصوليين بـ " الاجتهاد في إطار المذهب " وهو من أدق الأمور المذهبية حيث لا يستطيع اكتشافها إلا أهل الاختصاص من أهل العلم , وهذا ينسحب على كثير من الفتاوى المعاصرة التي قال بها بعض علماء التيار السلفي , وقد ذكرت غير ما مرة عند بعض الحوارات العلمية , مع بعض إخواننا منهم , أن هذه المسألة أو تلك , إنما هي تخريجة حنبلية , وليست نصا من الكتاب والسنة , بل هي ضرب من الفهم لهما فيعترض علينا بأن القائل بها إنما هو فلان أو علان من مشاهير العلماء , وهو عندهم ليس متمذهبا أصلا , لا بالحنبلية , ولا بغيرها , بدعوى أنه خالف أحمد بن حنبل رحمه الله في كذا وكذا , وهذا من أكبر الجهل وأعظمه ! فإن هذه الدعوى باطلة علميا وواقعيا , لأن المذهبية ليست بالضرورة تقليدا لإمام المذهب في الفروع , بل قد تكون مجرد تقليد له في الأصول , ومع إمكان مخالفته في الفروع , وهذا هو " الاجتهاد في إطار المذهب " وأما المجتهد في الأصول والفروع معا فهو " المجتهد المطلق " حقا وهو الذي اتخذ لنفسه منهجا أصوليا غير مسبوق وترتيبا استدلاليا خاصا به , وهو من الندرة بمكان ! بل هو في تاريخ الأمة صنف معدود ! وهم أرباب المذاهب البائدة والباقية .
وقد خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان , ومع ذلك صنفهما العلماء ضمن طبقات الحنفية , وكذلك كان الأمر مع الإمام ابن القاسم , وابن وهب , وسحنون وابن الماجشون كلهم خالف الإمام مالكا ,وهم مع ذلك من رواد المذهب المالكي , وقد تفرد علماء المغرب والأندلس باستنباطات خالفوا فيها الإمام مالكا , من أمثال الإمام ابن عبد البر , وابن رشد الجد وأبي الوليد الباجي , وأبي بكر بن العربي المعافرى وأبي عبد الله القرطبي والإمام أبي إسحاق الشاطبي , وغيرهم كثير , حتى اشتهرت مقولة أندلسية جرت مجرى المثل في الفقه المالكي المغربي والأندلسي وهي قولهم : ( لسنا مماليك لمالك ) ورغم ذلك كله كانوا حماة المذهب المالكي ومجدديه عبر التاريخ , وقد واجه الإمام أبو الوليد الباجي معاصره ابن حزم الظاهري – رحمهما الله تعالي – مواجهة شديدة دفاعا عن المذهب المالكي , مع أن الباجي يعتبر من المجتهدين لا من المقلدين الحرفيين لمالك وما أنكر أحد من هؤلاء وأولئك " مالكيته " قط , ولا تنكر لها !
وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما , وكثير من علماء العصر , كالعلامة ابن باز , والشيخ العثيمين , والعلامة ناصر الدين الألباني . وغيرهم من فضلا المجددين , هم مجتهدون حقيقة , ولكن في إطار المذهب الحنبلي أى باستعمال أصوله وقواعده في الاستنباط والاستدلال , ولا يعيب ذلك أحدا منهم أبدا ومن هنا فكثيرا ما يفتي أحدهم بحكم ما في أمر حادث جديد من نوازل العصر , فنقول هذه فتوى حنبلية , بمعني أنها مخرجة على أصول المذهب , كما نقرأ لبعضهم فتاوى مخرجة على أصول أبي حنيفة , ككثير من فتاوى العلامة يوسف القرضاوي مثلا .
وكان حريا بمن تأثروا بالدعوة السلفية من المغاربة أن ينتبهوا إلى هذا كله لكنهم لم يفعلوا بل نقلوا كثير من الأقوال الحنبلية نقلا حرفيا على أنها هي الكتاب والسنة ! لا أنها ضرب من الفقه للكتاب والسنة , سواء في ذلك ما هو حنبلي محض , أو ما هو مخرج على قواعد الحنابلة فاصطدموا بما جرى عليه العمل من الفقه المالكي المغربي , وتكسرت تياراتهم على صخرة الجهل بالاختلاف المذهبي ! ذلك وإنما الموفق من وفقه الله , والله وحده المستعان .
الفصل الثالث : الأخطاء المنهجية للتيار السلفي في تدبير الشأن الدعوى بالمغرب
لقد ترتب عما سبق بيانه من إشكالات مذهبية , وقوع التيار السلفي بالمغرب في عدة أخطاء منهجية , متفرعة عن اسصنامه الحنبلي المشرقي شكلا ومضمونا نوجزها في خمسة أخطاء فرعية , هي كما يلي :
- الخطأ المنهجي الأول : الإعراض عن المذهب المالكي واختلال ميزان الأولويات
- لقد كان حريا برواد التيار السلفي بالمغرب أن يدرسوا تاريخ المذهب المالكي , لتأصيل مقولاتهم فيه , فاللمالكية أيضا سلفيتهم لو كانوا يعلمون ! فقد اشتهر منهم الإمام ابن عبد البر , وابن أبي زيد القيرواني , والإمام أبو إسحاق الشاطبي , والإمام أحمد زروق الفاسي وغيرهم كثير فهؤلاء من أبرز فقهاء المالكية الذين اشتهروا بمحاربة البدع في العقائد والعبادات والتصوف لكن دون النقض لمذهبيتهم المالكية ولا التنكر لتصوفهم السني تماما كما صنع الإمام ابن القيم رحمه الله في الحفاظ على حنبليته الاجتهادية وتصوفه السني الأصيل معا!
لكن إخواننا بالمغرب لم يستطيعوا التخلص من تقليد المذهبية الحنبلية حتى على المستوى المدرسي البسيط! فقد كانت مدارسهم العتيقة تركز في الفقه على الخلاصة الحنبلية المشهورة " زاد المستقنع " وشروحه بدل الخلاصة المدرسية المالكية : " مختصر خليل " أو " رسالة ابن أبي زيد القيرواني " وشروحهما , أو " القوانين الفقهية " لابن جزي الغرناطي مثلا , ثم الإحالة في الفتوى العامة على المصادر الحنبلية ككتاب " المغني " لابن قدامة , مع وجود الأمهات المالكية التي تبز كتاب " المغني " مادة ومنهجا , وحجة واستدلالا ككتاب " الاستذكار " لشيخ الإسلام حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر الأندلسي ( ت:463هـ ) وكتاب " التمهيد " له أيضا , وكتاب " النوادر والزيادات " لابن أبي زيد القيرواني ( ت 386هـ ) وكتاب " المعونة " للقاضي عبد الوهاب البغدادي ( ت : 422هـ ) وكتاب " المنتقي " لأبي الوليد الباجي ( ت : 474 هـ ) و" البيان والتحصيل " لابن رشد الجد ( ت : 520هـ ) , و" المقدمات الممهدات " له أيضا , و" مشارق الأنوار على صحاح الآثار " للقاضي عياش السبتي ( ت 544هـ ) و" أحكام القرآن " و" عارضة الأحوذي " وكتاب " القبس " كلها لأبي بكر بن العربي المعافري ( ت:543هـ ) " والجامع لأحكام القرآن " لأبي عبد الله القرطبي ( ت : 668هـ ) ثم " الذخيرة " للإمام القرافي ( ت: 684هـ ) ... إلخ . فالمكتبة المالكية هي من السعة والضخامة والشمول , بحيث لا تستوعبها الأعمار , ولا تخصرها الأقطار , ولكن الهوى المذهبي اللاشعوري استوطن قلوب كثير من دعاة السلفية الحنبلية فصعب عليهم الرجوع إلى تراثهم الخاص . والتنافس بين المشرق والمغرب قديم. فمن قبل كتب أحد المشارقة تقريظا على كتاب " مشارق الأنوار " للقاضي عياض السبتي فيه شئ من التعريض بالمغاربة , وهو قوله:
مشارق أنوار تبدت بمغرب **** فيا عجبا كون المشارق بالمغرب !
فلم يقبل القاضي – رحمه الله – تعجب صاحبه من صدور العلم عن المغاربة , فرد عليه ببيت معارض له قال فيه :
وما شرف الأوطان إلا رجالها *** وإلا فلا فضل لترب على ترب !
ومشهور جدا – لدي المغاربة – إنشاد الإمام ابن حزم الظاهرى الأندلسي :
أنا الشمس في جو العلوم منيرة *** ولكن عيبي أن مطلعي الغرب !
ولو أنني من جانب الشرق طالع *** لجد على ما ضاع من ذكري النهب !
وشهد الله أننا لا نقول هذا تعصبا للمغاربة , ولا للفقه المالكي , ولكنا نقوله بيانا للحق وترجيحا للحكمة ولوجوب مناسبة الزمان والمكان والإنسان والبيئة في الدعوة إلى الله إحياء للسنن وإماتة للبدع .
ثم كان أولي بمن تصدى لتجديد العلم بالمغرب صادقا أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره , كما روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما في صحيح البخارى . فيؤسس التعلم على المذهب المالكي أولا , ثم يرتقي به إلى محاولة الاجتهاد في إطاره , ثم إلى رتبة الاجتهاد المطلق , دون التعرض لمذهب العامة مما جرى به العمل من مذهبهم لما فيه من الفتن ما الله به عليم !
ثم كان أول بهم أن يتجردوا للدراسات العلمية التاصيلية , دون الاستغراق في القيل والقال وسهر الليالي في اغتياب الرجال ! وأن يتفرغوا لخدمة الكتاب والسنة من خلال تأصيل كتب الفقه المالكي , دلالة واستدلالا وتصفيته مما علق به في عصور الانحطاط من البدع , كما حصل لغيره من سائر المذاهب الفقهية بلا استثناء , بسبب فشوا الجهل وسيطرة التقليد على العباد , وأن يشتغلوا برد كل متونة ومنظوماته إلى أصلها من الكتاب والسنة , وبيان طرائقها الاستبناطية , ومآخذها الاستدلالية وبنائها - من الناحية المنهجية خاصة – على الأصول والقواعد التي قال بها مالك رحمة الله , وجعلها أساس مذهبه ولا يمنع ذلك أبدا من رد بعض الأقوال وإبطال بعض الأحكام – بتلك القواعد والأصول نفسها – مما تبين أن غيره أرجح منه وأولي , لكن على علم وبصيرة , كما صنع من قبل أئمة المذهب الكبار , من أمثال الإمام ابن عبد البر , وابن رشد الجد , وأبي بكر بن العربي وغيرهم وما عاب أحد من أهل العلم عليهم صنيعهم , بل اتخذوا أئمة لهم وصاروا بهم مقتدين , وباجتهادهم متعبدين لما تواتر من تفوق علمهم وخالص نصحهم وصفاء صدقهم وبالغ حكمتهم .
ثم الاشتغال من خلال ذلك كله – لو كانوا عقلاء – بتربية جيل من العلماء المجتهدين , والحكماء الربانيين , لتأسيس نهضة علمية إصلاحية بالمغرب , إذ بغير ذلك لا يكون لهم ولا للدين شأن .
هذا , وإن الحركة السلفية بالمغرب – بعد هذا وذاك – قد فقدت نصرة الناس في المجال الدعوى الصرف , بسبب اضطراب ميزان الأولويات الدعوية , والجهل الفظيع بفن " التواصل " عند مخاطبة الجمهور , وذلك بالتركيز على المفاسد الجزئية الخلافية , وإهمال المفاسد الكلية الإجماعية القطعية ! وعدم مراعاة حاجة البيئة الدعوية وطبيعة مشكلاتها , بل إن أغلبهم ينقل إلينا معارك ليست واقعة ببلادنا أصلا , أو ربما نحن نعاني ما هو أعظم منها , فلا ينتبهون إلى الاختلاف البيئ , وينخرطون في إيقاظ فتن ومشاكل هي عندنا بحكم الميتة , فيفسدون ولا يصلحون , ويدمرون ولا يعمرون !
وإن تعجب فعجب أمر من يشعل نيران معارك كلامية حول قضايا " الذات والصفات " , و" الإثبات والتعطيل أو التأويل " في بيئة مات فيها علم الكلام أصلا! أو ربما مات التدين ذاته ! ومن أغرب الغرائب وأكلح الطامات أن يثار مثل ذلك في أروبا , بين شباب أضاعوا دين آبائهم وأجدادهم من أبناء الجاليات الإسلامية هناك , وكذا بين قوم حديثي العهد بالكفر من المسلمين الجدد! وما كان أحوج هؤلاء وأولئك إلى التلطف والتألف ! ولكن العمي المنهجي يجعل أولئك " الدعاة " مصرين على البدء بما حقه التأخير , أو ربما حقه الإلغاء كلية ! فيكونون بذلك مجرد موقظين للفتن لا أقل ولا أكثر !
ومن الاختلال المنهجي أيضا الغلو في محاربة البدع , وعدم التمييز بين " البدع الحقيقة " وبين " البدع الإضافية " على ما قرره العلماء في هذا الشأن ورتبوه من أمثال أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله ثم بين بدع العقائد وبين بدع العبادات , وبين ما الشأن فيه أنه عبادة في الأصل , لكنه سيق مساق الوسيلة التعليمية , كقراءة الحزب القرآني بالمساجد , وأشكال أداء الأذكار والدعوات , وبين ما هو عبادة محضة ومقصدا وغاية كحقائق الإيمان الكبرى من إخلاص الدين , وأداء الصلوات , خشوعها وركوعها وسجودها , فمن الخطأ عدم مراعاة الأولويات فيما ينبغي البدء به من ذلك كله , وما ينبغي الختم به , وتقديس الاجتهادات الحنبلية في ذلك كله !
ومن أغرب ما شهدته من بعضهم في مجلس جمعنا مع بعض المثقفين , وقد كان أحدهم من أشهر السكيرين ! متغرب الفكر والثقافة أبعد ما يكون عن الدين وأهله ! ثم شمله الله برحمته , فتاب منيبا إلى ربه !
وهجر حياته الأولي هجرانا تاما , وشرع في أداء الصلوات والتزام الأوقات , ولكن ذلك كان على يد بعض إخواننا من " رجال الدعوة والتبليغ " فلما تكلم صاحبنا في المجلس صادف أن كان به أحد المتأثرين بالسلفية الحنبلية , فأعرض عنه مشمئزا وقد انعقدت عبسة وجهه!
حتى شعرت بالحرج الشديد إزاء صنعه ! وقد كان التائب الجديد أشد ما يكون في حاجة إلى الاحتضان والتلطف والتأليف ! خاصة وأن زملاءه القدامي قد أشعلوا نار الحرب ضده ! ثم تكلمت مع صاحبي – بعد ذلك – بنوع من اللوم والعتاب الرقيق قائلا له :
- ألا ترى أن صاحبنا قد صلح حاله ؟
- فأجابني بسرعة : ولكن المنهج فاسد !... ( كذا )
-وكان ألمي لهذا أشد مما وجدت من عبسته ! والله المستعان !..
فأى منهج هذا الذي يسوى بين فسوق وعصيان أقرب إلى الكفر وبين صلاح وإيمان ربما شابه بعض دخن ؟ تالله إن هذه الموازين لفي ضلال مبين !
وإنه لمن الجهل بالبيئة وحاجاتها مثلا أن تقام الدنيا وتقعد , حربا على قراءة " حزب القرآن " في وقت لا سلطان لهم عليه ولا على الناس ! ولا إمكان ليسلكوهم في الأحسن والأصلح , تلاوة وتدبرا , وإنما النتيجة الطبيعية لعمل مثل هذا , في بلد مثل هذا , وفي زمان مثل هذا , هي حجب القرآن على الناس ! والإسهام في تضييق دائرة الاشتغال به والإقبال عليه ! ولو علموا طبيعة الظروف المحيطة بهم لكانوا هم أول من يقرؤه ! ظروف نبت فيها جيل مغرب العقل مفتون الوجدان ! قد تجرد منه تيار يناضل من أجل حذف القرآن كله من البلاد , وانتزاعه من قلوب العباد ! ورحم الله الله ابن تيمية , فقد دبج كلاما أغلي من الذهب ! في سياق وضع موازين المصالح والمفاسد في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فقال في ( القاعدة العامة : " فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد , والحسنات والسيئات , أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها " (...) وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر , بحيث لا يفرقون بينهما , بل إما أن يفعلوهما جميعا أو يتركوهما جميعا , لم يجز أن يؤمروا بمعروف , ولا أن ينهوا عن منكر , بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر , ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه , بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله ! والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله ! وزوال فعل الحسنات !
وإن كان المنكر أغلب نهي عنه , وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف . ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر ! وسعيا في معصية الله ورسوله ! وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان , لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما , فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي , حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة )
وبالقطع فإن النهي عن قراءة الحزب القرآني في هذه الظروف لا يؤدي إلا إلى الخسائر الكبرى في الدين والدعوة ! ولا ينتج عنه إلا المفاسد التي تربو بكثير على مصالح إحياء سنن التلاوة السنية , كما كانت علي عهد رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وصحبه ! مع أن إحياء السنن بنازلتنا هذه غير ممنوع من الناحية الواقعية , وإنما هو فقط مشروط بالسكوت على طريقة تعليمية , عمل بها المغاربة منذ القديم , بهدف تعليم العامة القرآن , وإسماعه لمن لا قدرة له على سماعه إلا بهذه الوسيلة , والحاجة إليها اليوم آكد وأشد لو كانوا يبصرون ! والمعركة الإيديولوجية اليوم حامية الوطيس حول الهوية الحضارية للوطن كله ! ومعلوم أنه لا مشاحة في الوسائل التعليمية , وشهد الله , ما رأيت غلوا في الإصلاح الدعوى ببلاد المغرب , مثل إصرار بعضهم على محاربة الطريقة الجماعية في قراءة القرآن وأضراب ذلك من الوسائل التي جرى بها العمل تربية وتعليما !
نعم , لقد اختل ميزان الأولويات فعلا لدى كثير من متزعمي التيار السلفي بالمغرب , فدخلوا في معارك وهمية مع خصوم وهميين , وتركوا العدو الحقيقي يعبث في الأرض فسادا وهم لا يشعرون , إن المشكلات الدعوية للبلد هي غير ما يتصورون ,غير ما يتوهمون , وغير ما يستوردون من المشرق من قضايا ومعارك , هي بالنسبة لواقع المغاربة ترف زائد لو كانوا يبصرون ! معار كنا شئ آخر تماما ! المغرب يعاني من اهتزاز منظومة القيم وأصول الأخلاق الإسلامية , ومن وطأة " الفجور السياسي " كما فصلناه قبل ومن ارتجاج الإيمان لدي بعض العامة والخاصة , ومن الإيديولوجيات " الأخرى " المناقضة للدين عقيدة وشريعة , ومن تسرب الطائفيات والمذهبيات المخالفة لثوابت الوطن الدينية أصولا وفروعا ! ومن تدهور " التعليم الشرعي " وانهيار منظومة التعليم كله ! ومن اضطراب المناهج التربوية الرسمية والشعبية , ومن الجهل العام بما لا يسع المسلم جهله , من المعلوم من الدين بالضرورة ! مما تقوم عليه أصول العبادات الكبرى , وكل هذه القضايا الحقيقية هي أصول العمل الديني التي أعرض عنها السلفيون واشتغلوا بما وراءها بأزمنة بعيدة ! وإنما اشتغل رسول الله – صلي الله عليه وسلم – بما قرره القرآن في غير ما موطن من آياته وسوره , بما أسميناه بـ " وظائف النبوة " من مثل ما أوردناه قبل من قوله تعالي : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ( آل عمران : 164) .
- الخطأ المنهجي الثاني : الغلو في التحقيقات العقدية
وذلك بالدخول في مواجهة الأشعرية بإطلاق , دون تحرّ ولا تقييد , والأشعرية مدارس لو كانوا يعلمون ثم القيام بإحياء الفرق البائدة وبالدخول في معارك ماتت , وبعث فتنها من جديد , وتصنيف الناس في العصر الحاضر على موازينها , دون مراعاة التغيرات المعاصرة , ولا أحوال الزمان وأهله , ثم الغلو في التحقيقات العقدية وإدخال العامة في متاهاتها ! مما لم يفعله رسول الله – صلي الله عليه وسلم – ولا أصحابه من بعده ! الشئ الذي أدي إلى تعقيد التدين والغلو في أخذ أحكامه , ثم إلى نفور عموم الناس من الإقبال عليهم , وما كان ذلك من منهج رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا صحبه , وما حمل السابقين على بيان الفرق قديما إلا الضرورة التاريخية , دفاعا عن الدين والتوحيد خاصة , وربما جاز شئ من ذلك اليوم في بلاد أخرى , استمرت فيها الطائفية وبقايا الفرق القديمة , أما المغرب فقد بقي بعيدا – والحمد لله – عن ذلك كله , حتى قمنا نحن اليوم بإثارة الجدل الكلامي المعقد بين الناس بل بين العامة منهم فاستهوى الشيطان بعضهم وجعلوا ينطقون بمقالات المبتدعة .
وعموم الناس في بلاد المغرب لا يعرف لا " الأشعرية " ولا " الاعتزال " ولا " الإرجاء " بل حتى أغلب المثقفين لا يعرف ذلك ! وإنما هو عندنا أمر خاص بأهل الاختصاص الكلامي والفلسفي فقط , والعقيدة " الأشعرية " بمعناها الكلامي الدقيق – لمن يملك البصيرة – لا وجود لها بالمغرب إلا في بطون الكتب , ولا علاقة لها بحياة الناس اليوم , والشائع بين المسلمين المغاربة اليوم إنما هو الأشعرية " الأصلية " التي لخصها أبو الحسن الأشعري - رحمة الله – من نصوص الكتاب والسنة , وانتصر فيها الإمام أحمد في محنته ضد المعتزلة , وهي عقيدة الإمام مالك قبلهم جميعا كما هو معروف , ولا وجود اليوم في التدين العام للأشعرية " الجوينية " المحدثة ذات الطابع الكلامي الصرف .
فانظر كم يكون حجم المفاسد التي يستجلبونها عندما يجلسون إلى العوام وأشباه العوام يحذرونهم من التأويل والتعطيل ! وهم أصلا لا يعرفون لا هذا ولا ذاك ! وإنما عقيدتهم سليمة على الفطرة الأصلية البسيطة , التي جاء بها القرآن الكريم , وبينتها السنة النبوية , بلا تعمق ولا تكلف , ولو سألت أى مغربي اليوم بصورة تلقائية فقلت له : " أين الله ؟" لقال لك , كما قالت الجارية الأعرابية لرسول الله صلي الله عليه وسلم :" في السماء " فقال النبي – صلي الله عليه وسلم – لصاحبه : " أعتقها فإنها مؤمنة " فلماذا لا يعتق هؤلاء الناس اليوم ؟ لماذا لا يحررونهم من هذا الجدل البيزنطي العقيم ؟ أم أن الجارية كانت تعرف " علم الكلام " ؟ وتفرق بين التأويل والتعطيل والإثبات , وبين العلو والنزول ؟ لماذا التفتيش العقدى المعقد ؟ ولماذا الفتن ؟ ولماذا البحث عن أمور هي عندهم هناك في المشرق , وما عندنا لها في المغرب من أثر ؟ إن عموم المغاربة على العقيدة السلفية الفطرية السليمة , بلا دراسة ولا بحث في المذاهب والملل والنحل إنهم على عقيدة القرآن وعقيدة السنة يؤمنون بما جاء عن الله , بمراد الله , كما بلغ عنه رسول الله .
ومن الأخطاء المنهجية في هذا المجال أيضا اعتماد الحركة السلفية بالمغرب مقررات عقدية ألفها حنابلة , لتصحيح العقائد لدى الناس , وقد كان كتاب " فتح المجيد " للشيخ عبد الرحمن حسن آل الشيخ مقررا دراسيا للحركة السلفية بالمغرب زمنا , لا يكادون يشتغلون بغيره اللهم إلا ما كان من كتاب " العقيدة الواسطية " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , ثم كتاب " شرح العقيدة الطحاوية " للعلامة الألباني رحمه الله , وكلها كتب صحيحة مليحة , هذا أمر لا شك فيه ولا مراء لكنها إنما تصلح أن تكون مراجع خاصة لأهل العلم في أنفسهم لا مقررات دعوية لعامة الناس , في بلاد لها أهلها وعلماؤها وظروفها الخاصة , لقد كان أولي بهم أن ينظروا إلى ما يشبه ذلك من المصنفات – أو ربما كان أحسن وأبين – في التراث العقدي المالكي , وكان أولي بهم أن يعتمدوا – مثلا – كتاب " الإبانة في أصول الديانة " للإمام أبي الحسن الأشعري نفسه , وهو كتاب في العقيدة السلفية الأصيلة – كما سبق بيانه - لا علاقة له بالعقيدة " الجوينية " باعتراف علماء السلف والخلف , بما في ذلك علماء الحنابلة أنفسهم , وكذا كتاب " شرح عقيدة مالك الصغير " للقاضي عبد الوهاب البغدادي على مقدمة " رسالة ابن أبي زيد القيرواني " وهي عقيدة سلفية واضحة قد أشاد بها ابن تيمية – رحمه الله – واستشهد بنصوصها في غير ما موطن من فتاويه , ثم كتاب " النور المبين في بيان عقائد الدين " لابن جزي الغرناطي رحمه الله , وكذا " مقدمته " العقدية " لكتاب " القوانين الفقهية " فكل ذلك عقيدة سلفية سليمة , وهي كتب تفضل الكتب الأخرى , بكونها ألفها علماء معتمدون عقديا ومذهبيا من لدن المغاربة عبر التاريخ ! فهي علم مستنبت غير مستورد ! وفي ذلك ما فيه من الحكمة الدعوية والقوة الحجاجية .
والأخطر من هذا وذاك أن أغلب من تتلمذ على متأخرى زعماء السلفية إنما هم العوام وأشباه العوام , وما تخرج عليهم من طلبة العلم إلا قليل , فنتج عن ذلك – بعد فترة " الانفجار العظيم " وانطلاق دخان الفتنة من ركامه – أن تصدر المجالس جيل من الجهال يقودون حركة الانشقاقات ! ويمسخون السلفية الأصلية إلى " سلفيات " ! فأصدروا الفتاوى والبلاوي! وإنما أغلبهم من الفاشلين دراسيا , المطرودين من المدارس في وقت مبكر من أعمارهم , والعاجزين حتى عن طلب العلم الشرعي في مدارس التعليم العتيق ! فصار منهم من تسمي شيخا " ومن تسمي " زعيما " ! وإنك لتجد أحدهم يكاد يقبض بأصابعه على أطراف شفاهة , لتقويم كلامه وبيانه عسي أن يسلم له نطق لسانه , ولكن دون جدوى تتكسر دون مراده الكلمات , وتنحرف في فمه العبارات ! ثم يجادل – بعد ذلك – في حجية الحديث , ومراتب الإجماع , وأنواع القياس ! ويجهل هذا العالم ويبدع ذاك !
ومن هنا وبمؤثرات سياسية من جهات مشبوهة – داخلية وخارجية – تكونت " السلفية القتالية "! - ولا أقول :" الجهادية " - فتناسلت عقاربها في كل مكان ! لقد كانت بيئة التفتيش العقدي , والمنهج الحرفاني – ذي الأصول الحنبلية – في فهم الكتاب والسنة , وبالإضافة إلى النفسية المرضية التي تعاني منها الفئات الاجتماعية المهمشة , وكذا الظلم السياسي العالمي للمسلمين في كل مكان , كل ذلك وما في معناه كان سببا في تفريخ العقليات " الخوارجية " التي خرجت على المجتمع من تحت جبة التيار السلفي مع الأسف !
- الخطأ المنهجي الثالث : مواجهة التصوف بإطلاق ثم دخلوا في مواجهة التصوف مطلقا , بلا تمييز بين أشكاله ومسالكه ولا بين صالحيه وفجاره ! وما تكلم ابن تيمية نفسه – وهو نقاده التصوف – عن كثير من المتصوفة المشهورين إلا بخير ! وما ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني في فتاويه إلا أعقب ذكره – في الغالب – بقوله : قدس الله روحه ! وقد نقل عنه في علم السلوك عدة نصوص , وما تحرج تلميذه ابن القيم من شرح كتاب " منازل السائرين " لشيخ صوفية الحنابلة . الإمام أبي عبد الله الهروى الأنصاري وما كان يصفه إلا بلقب " شيخ الإسلام ".
وقد رتب ابن تيمية – رحمه الله – في ذلك ترتيبا عجيبا , فجاء بحكم وموازين حقها أن تكتب بماء الذهب ! ولو أخذ بها حنابلة العصر لكانوا أعدل وأقوم ! قال رحمه الله : ( أفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون , كما قال الله تعالي : " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " " النساء : 69" ولهذا ليس عندهم ( يعني الصوفية ) بعد الأنبياء أفضل من الصوفي , لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه , فكان الصديق من أهل هذه الطريق , كما يقال " صديقوا العلماء " و" صديقو الأمراء " فهو أخص من " الصديق المطلق " ودون " الصديق الكامل الصديقية , من الصحابة والتابعين وتابعيهم , فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين إنهم " صديقون " فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة إنهم صديقون أيضا , كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله , بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم , فهم من أكمل صديقي زمانهم , و الصديق في العصر الأول أكمل منهم , والصديقون درجات وأنواع , ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات , حققه وأحكمه , وغلب عليه , وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه .
ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم , فطائفة ذمت الصوفية والتصوف , وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة! ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف , وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام , وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق , وأكملهم بعد الأنبياء ! وكلا طرفي هذه الأمور ذميم . والأصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله , كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله , ففيهم السابق المقرّب بحسب اجتهاده , وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين , وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه , عاص لربه .
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم , كالحلاج مثلا , فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه , وأخرجوه عن الطريق , مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة , وغيره كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في " طبقات الصوفية " وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد "
فهذا أصل التصوف , ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع وصارت الصوفية ثلاثة أصناف : " صوفية الحقائق " , " صوفية الأرزاق " , و " صوفية الرسم " فأما " صوفية الحقائق " : فهم الذين وصفناهم . وأما " صوفية الأرزاق " : فهم الذين وقفت عليهم الوقوف , كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق , فإن هذا عزيز , وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك , ولكن يشترط فيم ثلاثة شروط :
أحدها : العدالة الشرعية , بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم , والثاني : التأدب بآداب أهل الطريق , وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات , وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها : والثالث : ألا يكون أحدهم متمسكا بفضول الدنيا , فأما من كان جماعا للمال , أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة , ولا يتأدب بالآداب الشرعية , أو كان فاسقا , فإنه لا يستحق ذلك , وأما " صوفية الرسم " : فهم المقتصرون على النسبة . فهمهم في اللباس والآداب الوضعية , ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زى أهل العلم , وأهل الجهاد , ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم ! )
وأما فيما يخص شطحات القوم فإن الإمام ابن القيم – رحمه الله – قد نصب لذلك ميزانا ذهبيا , يحق الحق ويبطل الباطل , جاء في نص بديع تشد إلى مثله الرحال ! وظفناه غير ما مرة في كتبنا ! لبيان هذه الحقيقة التي عمر عنها كثير من مدعي السلفية في هذا الزمان , وهي قوله رحمه الله : ( هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس ! إحداهما : حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم , فأهدروها لأجل هذه الشطحات , وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم مطلقا ! وهذا عدوان وإسراف ! فلو كان كل من أخطأ أو غلط , ترك جملة , وأهدرت محاسنه , لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها !
والطائفة الثانية : حجبوا بما رأوه من محاسن القوم , وصفاء قلوبهم , وصحة عزائمهم , وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم , ونقصها فسحبوا عليها ذيل المحاسن , وأجروا حكم القبول والانتصار لها واستظهروا بها في سلوكهم , وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون .
والطائفة الثالثة : - وهم أهل الإنصاف – الذين أعطوا كل ذي حق حقه , وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته !)
هذا بالإضافة إلى حقيقة تاريخية أخرى , أدت الاستهانة بها إلى فشل المشروع السلفي , وهي أن المغرب بلد صوفي بامتياز ! فالتدين الشعبي فيه إنما شكلته من الناحية التاريخية المدارس الصوفية منذ القديم .
ولذلك ما أسرع أن تنجح فيه المبادرات الصوفية فتتمكن من الانتشار والاستيعاب للمريدين , بمجرد ظهور أحد الأشياخ المتمكنين من الإقناع والإشباع الروحيين , سواء كان على حق أم كان على باطل , فتلك قضية أخرى , فإنما حديثنا هنا عن طبيعة اجتماعية دينية لدى المغاربة , ولذلك كثيرا ما اصطدمت دعوات الفكر السلفي بصخرة الطرق الصوفية على المستويين الرسمي والشعبي , فارتدت مشاريعها خاسرة والحكمة تقتضي من الدعاة تقديم بديل متوازن ينفي عن الدين – بعلم وبحكة – غلو الطرق الصوفية وانحرافها عن الدين الخالص إلى متاهات الخرافة والدجل , وذلك بإنضاج خطاب رباني ندى تغلب فيها طراوة الروح ونداء الإيمان على لائحة أحكام الحلال والحرام ومنطق الاتهام وإنما الحكيم هو من يسوق الأحكام الشرعية مساقا تربويا ربانيا , على هدي السنة والمنهاج التربوي النبوى الحق , لا مساقا عقابيا سبابيا ! فيكسب قلوب الناس أولا , ثم يكسب سلامة دينهم من الخرافات والبدع ثانيا , ولكن كثيرا من الدعاة – مع الأسف – عن هذا عمون ذلك وإنما الموفق من وفقه الله .
- الخطأ المنهجي الرابع : تضخم الشكلانية المظهرية
حيث صار المظهر الخارجي هو المقياس الأساس لسلامة الدين لدى كثير منهم , وغدا إعفاء اللحية وتقصير الثوب بالخصوص هو المقياس الأساس للالتزام بالدين !
نعم لا شك أن ذلك من أهم سنن الهيآت الدينية والمظاهر التعبدية في الإسلام , لا ننقصها شيئا من أحكامها ولا نصوصها مما شرعه الله ورسوله , ولكن بعض التيارات السلفية ضخمته كثيرا ,وأعطته من الرعاية الدعوية أكثر من حجمه , حتى كاد أن يصير هو أساس " الولاء والبراء " لدي بعضهم ! بل لقد صار ...! وما كان ينبغي أن يصير , خاصة في بيئة " حليقة " تعربت عاداتها وأذواقها وأفكارها منذ حوالي قرن من الزمان ! ونحن لا نمنع أن يدعو المصلحون إلى سنة مندوبة أو واجبة , ولكننا نعيب تضخيمها إلى درجة أن يحتل الفرع محل الأصل ! فيحصل تشوه الدين في الفكر والممارسة .
ولقد شهدت بيئة تضخمت فيها الدعوة إلى سنن فرعية على حساب أحكام أصلية , فنبت فيها جيل يتحرج من حلق لحيته أو قصها , ولكن لا يتحرج أبدا من أكل أموال الناس بالباطل ! وأكل السحت والتعامل بالربا مثلا ! وليس معني هذا أننا ندعو الناس إلى حلق لحاهم كلا وحاشا ! وإنما القصد وضع كل حكم في موضعه الذي وضعه الله فيه ,وعدم الغلو في تضخيم المظاهر على حساب الأحكام الكلية الكبرى , من أمور الحقائق الإيمانية , وأصول العبادات والأخلاق الإسلامية الكبرى , وأمهات الفضائل , وأمهات الرذائل , والتربية على ذلك كله تخليه وتحلية , وأن نقبل من الناس تدينهم – في زمان لأن فيه الدين كثيرا – على سبيل التدرج الأول فالأولي , وأن نأخذهم بالرفق على منهج الكتاب والسنة في ترتيب حقائق التشريع تعليما وتزكية .
وإنما حدث هذا الاستصنام الشكلاني للمظاهر , بسبب اعتماد الرؤية التجزيئية للشريعة ,وانعدامك الفقه السليم لمقاصد النصوص ومراتبها الدلالية والاستدلالية , مما نتج عنه ضرب من الظاهرية الفقهية , واعتماد الشكلانية في التدين , واللاوطنية في اللباس , تقليدا للمشارقة عربا وعجما , فصار اللباس الأفغاني موضة التدين بين فريق من الناس زمنا , ثم صار اللباس الخليجي هو الغالب بعد ذلك , وخاصة أشكال التنقب لبعض النسا ! اللائي صرن يتصرفن بطريقة الخليجيات في التحجب ,وكان أولي بهن – لو صدقن في تدينهن حقا – أن يتنقبن – إن كان ولابد – بطريقة المغريبات الأصيلات , كما كان الأمر عندنا لدى الجدات والأمهات في السابق , والجلباب النسوى المغربي الأصيل أستر وأوقر ,لو كانوا يعلمون ! ولكن لعن الله الأهواء ! فالشيطان يزين لكثير منهن التعمق في الإغراب والغلو في الاختلاف !
وليس بعض الشباب قمصانا ذات هيئة باكستانية أو خليجية , وأعرضوا عن القمصان المغربية والجلابيب المغربية , كأنما هذه لا تستر عورة ولا تفي بسنة ! ثم أطالوا لحاهم بصورة مزعجة ومقرفة , حتى إنك لتجد أحدهم أحيانا قد ملأت لحيته كل وجهه وغطت كل صدره ! بلا تهذيب ولا تشذيب ! رغم أن العلامة الألباني – رحمه الله – قد قال ببدعية ما دون القضبة من اللحية ! ووجوب قص ما طال منها ! وهو قول قديم لبعض أهل العلم كالإمام الطبري وغيره , وهو ثابت عن عمل عبد الله بن عمر , وأبي هريرة رضي الله عنهما , وهما من رواة أحاديث الإعفاء , بما يدل على أن المقصود منها إنما هو ما بيناه بعملهما من قص ما دون القبضة , وهو الذي عليه جمهور كثير من التابعين وفقهاء الأمصار , وقد كان الشيخ الألباني – رحمه الله - دقيق الاستدلال , عميق الاستنباط, في محاورة بينه وبين الشيخ أبي إسحاق الحويني المصري حيث بين بما يشبه القطع أن ذلك كان عمل أصحاب رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وأنه يؤول إلى أن يكون من السنة التقريرية .
وليس كل اللحي يطول خلقه , بل منها ما يطول ومنها ما لا يطول , بل ينمو بشكل معتدل , ولله في خلقه شؤون , سبحانه وتعالي , وقد رأيت مرة رجلا صغير الوجه قد أطال لحيته بشكل فظيع فادح , حتى صارت أضعاف مساحة وجهة طولا وعرضا ! ما رآه أحد إلا فزع ! وقد كان معجبا بلحيته ! منبهرا بطولها وانتشارها غير العادي , ولا يدرى الأحمق أنه بذلك أبعد ما يكون عن السنة وجمالها ! وقد أطلق رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قاعدة التجمل في المظهر للمسلمين, فقال قولته المشهورة : ( إن الله جميل يحب الجمال !) وتالله إن اللحي الفادحة الحجم , لا تزيد المرء إلا قبحا ! فحاشا أن يكون مثل ذلك من الدين ! وقد غرهم ما روى من " كثافة " لحي بعض الصحابة , وذلك كله خارج عن محل النزاع إذ " الكثافة " لا علاقة لها بمعني الطول , فقد تكون كثيفة لكنها مشذبة مهذبة , على قدر ما تحسن به هيئة الوجه , كما قرره الفقهاء منذ القديم , وكل أحاديث الإعفاء مقيدة بعمل الصحابة لأنها سنة ذات هيئة , ومعلوم أن السنن ذوات الهيآت لا يقيدها ولا يبينها إلا العمل ! وعلى هذا أغلب فقهاء الأمصار , وقد كتب بعض العلماء في ذلك بحوثا كافية شافية , لمن أراد التفصيل , والله المستعان .
وزاد حرفانية الفهم للدين وتجويئه الشكلاني غلوا أن من انتسب للعلم منهم قد تخرج من معاهد كانت تعاني أصلا من اختلال في مناهج التعليم وعدم توازنها بإغفالها لتدريس علم أصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة ومراتبها, وقواعد اللغة العربية وبيانها وعلم الخلاف العالي وأنواع المذاهب , مما نتج عنه ضيق الأفق العلمي للمتخرجين وانحصارهم في دائرة التقليد لما تلقنوه دون القدرة على محاولة معرفة أدلة الآخرين , بله محاولة الاجتهاد والتجديد !
وبسبب التعصب المذهبي الكامن في مثل هذه العقليات نبت منهم قوم لا يتورعون في الرد على مخالفيهم من الإسلاميين بالشتم واللعن والسباب , والتعبير بأبذأ العبارات والألفاظ مما تمجه الآذان المؤمنة , وتكرهه العقول السليمة , ولم يكن ذلك عندهم مقصورا على نقد الإسلاميين الحركيين فحسب , بل هو شامل لكل مخالف أني كان ! ولو ممن هو منهم ! أى ممن رفع شعار السلفية قولا وعملا , حتى ألوا هم أنفسهم – في نهاية المطاف – إلى التشرذم الفرقي والتحزب الأهوائي ,
ووقعوا فيما عابوه على الإسلاميين الحركيين ! وتكونت " جماعات " مصغرة بشكل " ميكروسكوبي " تلتف حول بعض الأنصاب البشرية , ذات النزعة " الشخصانية " أو البترودولارية " فسهل بذلك – وقد استحكمت الأهواء من الأنفس – التورط في الاستجابة للتوظيفات " المخابراتية " المختلفة " والدخول الآثم في الاصطدام " الموظف " ضد الحركات الإسلامية , ثم ضد ثوابت الوطن الدينية , فقها وسلوكا , لأغراض سياسية يجني ثمارها قوم يترصدون بالدين وأهله الدوائر , فكانت عقارب السلفيين بذلك أشد وأنكي من غيرها ! والله المستعان , وقد كان حريا بزعماء السلفية بالمغرب أن ينخرطوا في مشروع التصحيح – لو كانوا حكماء عقلاء – من خلال مقولة ابن عاشر المشهورة :
في عقد الأشعرى وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك ولهم في الأشعرية الأصيلة دون " الجوينية " المحدثة خير مجال لعرض عقيد ة أهل السنة والجماعة الصحيحة السليمة كما أن لهم في أصول مالك وقواعده الاستنباطية ما يساعدهم على تصحيح التدين عقيدة وعبادة وإرجاع ما انحرف من ذلك إلى أصله من الكتاب والسنة ولهم في ذلك سلف عظيم , من أمثال ابن عبد البر والإمام الشاطبي وغيرهما كثير , كما أشرنا إليه آنفا .
ثم لهم في مفهوم " التصوف السني " المجال الأوسع والأرحب لرد كل سلوك في هذا الشأن إلى ما كان عليه رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وصحابته الكرام , ثم مشاهير الزهاد والعباد من التابعين وأتباعهم , ممن أجمعت الأمة على فضلهم كالإمام الجنيد شيخ القوم وإمامهم ولهم خير مرجه وطني تاريخي في الحركة الإصلاحية الصوفية التي بدأها الشاطبي بالأندلس واستأنفها أحمد زروق بالمغرب , وكذلك أبو عبد الله المالقي الساحلي لرد التصوف إلى وتصفيته من علاته وشطحاته وضبط مقولاته بضابط الشريعة , وإنارة مسلكه بنور العلم , كل ذلك من داخل بنيته وكيانه , ومن خلال مدارسه ورجاله , بتسليط حقه على باطله , وضرب دجاجلته بأوليائه ! فتستبين طريق الصلاح بإذن الله , بلا ضجيج ولا عجيج , وإذن يكون رجال السلفية بذلك – كما كان الإمام الشاطبي قديما , وهو الفقيه المالكي المجدد للفقه والتصوف – مصلحين للبلاد والعباد من الداخل لا من الخارج ! ويكونون أفقه لأحوال الناس وأدري بطبيعة أدوائهم فيتنزل الدواء على قدر الداء , وتلك هي عين الحكمة , ولا بركة في عمل أخطأته الحكمة , وتجاربهم الفاشلة في هذا السياق خير دليل !
إن مثل تجربة " السلفية " – في مرحلتها الأخيرة – كمثل فتية ورثوا عن أبيهم منزلا قديما في صحراء موحشة فلم يزالوا يسكنونه وإن انهدمت أغلب مرافقه الداخلية , إلا سوره الخارجي وبابه , حتى لم تعد له من فائدة سوى أنه يزل يحميهم من عوادي السباع والضباع , فأصروا على هدم البيت لإعادة بنائه من جديد على أصوله الأولي , تماما كما كان من قبل بكمال مرافقه , ولما هدموه وقعوا في خلاف شديد حول تصميمه الأصيل كيف كان ! ولا اجتمعوا في ذلك على رأي واحد ! حتى فاجأتهم السباع والوحوش الضواري ! وهم لا يزالون يتجادلون في العراء ! فافترست بعضهم , وشردت بعضهم في الفلوات والقفار فلم يزل تائها بلا دار ولا ما يشبه الدار !
- الخطأ المنهجي الخامس : الارتباط المادي المشروط ببعض الدول المشرقية .
والسبب الرئيس في اصطباغ السلفية الدخيلة بالمذهبية الحنبلية – لدى بعضهم – إنما هو الارتباط المادي بدول الخليج ! وأنا أزعم أنه لولا " البترول " لما كان للحنبلية – في ثوبها الجديد – كل هذا التأثير على كثير من دول العالم الإسلامي ! الشئ الذي دفع بعض الانتهازيين إلى تصدر قيادة التيار السلفي أو الانتماء إليه على الأقل طمعا في الحصول على دعم مادي يخرجه من الفقر إلى الغني , أو منحة دراسية بالمشرق تفتح له الآفاق أو منصب " داعية " بالخارج يتقاضي عليه أجرة شهرية منهم , أو نحو هذا وذاك .
ونحن لا ننكر – من حيث المبدأ – أن تساعد بعض الدول الغنية الدعاة إلى الله في غير بلادها وأن تنفق على العمل الإسلامي والعمل الخيري هنا وهناك , بل هذا من أفضل أسباب تقوية التواصل بين أعضاء الجسم الإسلامي الكبير , لكن المشكل إنما هو الدعم المادي المشروط كما وصفناه أعلاه , أعني أن تمتد إليك يد المساعدة بشرط أن تكون حنبليا أو أن تكون شيعيا هذا هو الإشكال , وهو من أبرز الأخطاء المنهجية التي أربكت العمل السلفي , إذ وجد بعض زعمائه أنفسهم كالمضطرين للدعاية لمذاهب أخرى , غير ما أستقر عليه العمل في بلده , فاستظهر كثير منهم دروس " التوحيد " وأضاع دروس الإخلاص ! ودرس أصول " العقيدة " وفقد أصول الإيمان ! مما أدي ببعضهم ممن غلقت دونهم الأبواب – لأسباب تنافسية – إلى رد فعل نفسي تكفيري فصادر يلعن سلفية " البترودولار " كما سماها , وأنشأ " سلفية " أخرى ذات خلفية " خارجية " ومنهج تكفيري قتالي ! فانضم إليه كل من يعيش منهم مأساة التهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي , وأسسوا خطابا " خارجيا " ذا خلفية انتقامية من الناحية اللاشعورية . وقد انعقد ذات مرة في بعض الأحياء المهمشة من بعض المدن المغربية مجلس " للحوار بينه وبين ممثل جماعة إسلامية أخرى فلما بلغ الحوار بينهما الباب المسدود – بسبب تباين الأفكار والمنطلقات – قال له صاحبه وهو يحاوره :" بيننا وبينكم كتاب الله , فرد عليه الزعيم السلفي القتالي بحدة :" بيننا وبينكم الكلاشينكوف !" كذا ..!
وما كان لمثل هذه الأمراض أن تظهر بالصف الإسلامي السلفي لو التزام بمذهبيته المالكية وفك ارتباطه بالدعم المادي الخليجي , ولو فعل لجاء بسلفية تصحيحية , فعلا تعالج الغلو والانحراف في العقائد والعبادات , تماما كما كان شأنها في المغرب عبر التاريخ , وذلك لما للمذهب المالكي من قدرة استيعابية لكل وجوه الخلاف وقدرة فريدة على التعايش مع سائر الاجتهادات بعيدا عن منطق التبديع والتكفير لأبسط الأشياء ولو كانت اجتهادية محضة ! ولما لأصوله الفقهية وقواعده الاستدلالية من مرونة قلما تجدها في مذهب آخر , بنفس السعة والشمول .
وأخيرا فتلك أهم الأخطاء المنهجية الاستصنامية , الأصيلة والفرعية , التي استقريناها من مقولات العمل الإسلامي بالمغرب وتطوراته التاريخية , حركة إسلامية وتيارا سلفيا , ذكرناها بهذا التقييد موجزة عسي أن ينفع الله بها من كان مثلي من الغافلين ! ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد ) . كذلك الأمر كان , والله المستعان .
خاتمة
ألم يأن للحركة الإسلامية أن تتوب إلى ربها ؟ وتمسك بكتابها فتحطم أصنامها ؟ وتكسر أغلالها ! وتسلك مسلك التلاوة للكتاب وتلقي التزكية من منازل الخوف والرجاء ومقامات الافتقار إلى الملك الوهاب . ثم تشرع في فتح طريق التعلم والتعليم للكتاب والسنة عسي أن تشملها الرحمة وتنطق بالحكمة , ويسلك بها الرحمن مسلك التسديد والتأييد .
فهل تعود الحركات الإسلامية إلى إخلاصها التعبدي ؟ وإلى صلاحها المنهاجي وانتشارها الدعوى ؟ وهل يعود خطابها إلى حمل رسالة القرآن وأخلاق القرآن ؟ وأولويات القرآن ؟ ثم هل تعود التيارات السلفية إلى " سلفيتها" ؟ وإلى إخلاص دينها , والتعريف بربها ؟ وترك شقاقها ونفاقها ؟ ثم هل يعود التصوف إلى روائه ؟ وجمال صفائه ؟ وترك غلوائه وشطحاته ؟ وتصحيح منازله وأحواله ؟ وعرض كل ذلك على قواعد العلم وموازين الكتاب والسنة ؟
فالشريعة الشريعة ! يا أبناء الحركات الإسلامية ! ويا رواد التيارات الدينية , قبل أن ينفلت ما بقي من الدين بين أيديكم فلا يبقي لكم من الخير شئ ! ونعوذ بالله أن يكون مثل أعمالنا ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه ! والله سريع الحساب ) ( النور / 39) ويا لحظ امرئ رضيه الله عبدا ونالته ولايته ففتح به وله !
ذلك ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب . للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون , والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون , والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) ( الحشر : 7-10) .
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلى آله , وسلم تسليما كثيرا .
وكتبه – بمكناسة الزيتون , من حواضر المغرب الأقصى – عبد ربه , راجي عفوه وغفرانه الفقير إلى رحمته ورضوانه : فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي السجلماسي , غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين , وقد وافق تمام تصنيفه في مسودته الأولي يوم الجمعة / 20 رمضان : 1427هـ , الموافق لـ : 13 / 10 / 2006 م.