أطفال رهن الاعتقال!!
مصر تحت الاعتقال !!
ربما تستطيع الأسرة أن تواجه تجربة الاعتقال وأن تتخطَّاها، ولكن تبقى ذاكرة الأبناء كبارًا وصغارًا معلقةً بهذا الحدث المشهود، الذي انتُهكت فيه حرمةُ دارهم، ورُوِّعت فيه نفوسهم، وانتُزِع من بين أيديهم أبوهم في لحظات معدودة.. كيف تكون الآثار النفسية لاعتقال ربِّ الأسرة على الأطفال؟
وكيف تستطيع الأسرة أن تواجه هذا الواقع وتتعامل معه؟ وكيف تنجح في ترميم نفسية الأطفال وإعادتهم إلى حالتهم الطبيعية؟
تقول أم إسراء: داهمَت قوات أمن الدولة المنزل في ساعة متأخرة من الليل، وقاموا بتفتيش البيت وقلبوا نظامه إلى فوضى، ورغم ذلك فإنني أعتبر كل شيء من السهل لملمتُه إلا نفوس الأطفال، الذين وجدُّتني في حيرةٍ من أمري كيف أهدِّئ من روعهم؟ وماذا أقول لهم؟ وهم الذين كانوا يتمنَّون أن يكبُروا ويصبحوا ضباطًا ليقبضوا على اللصوص، وينشروا الأمن والأمان بين الناس، فإذا برمز الأمان يصبح مقتحمًا للبيوت، مستبيحًا عوراتها، ناشرًا للذعر بين أهلها، لا يرحم صغيرًا ولا كبيرًا، صحيحًا أم مريضًا، وليس هذا فقط، بل انتزعوا أباهم من بينهم إلى مكان مجهول يحيطه الظلام، ويغيب عنه حماية القانون، هكذا دار الأمر في خلد أطفالي، الذين لم يكونوا قد بلغوا سن المدرسة بعد، والذين بدأتُ ألحظ على أصغرهم بوادر عدوانيةً لاحظَها الكثير ممن حولنا مع كل الأطفال الذين كانوا يقتربون منه، إضافةً إلى التبول اللاإرادي، وهما عرَضان لم يكن لهما وجود من قبل في محتويات شخصية ابني!!
في بيتنا يهود !!
أما أم آية فتقول : اعتُقل زوجي أكثر من مرة، لكن كانت أكثرهم إيلامًا بالنسبة لي تلك التي كانت والأطفال صغارٌا؛ إذ انعكس ذلك في شخصية ابني الأصغر الذي لم يكن قد أكمل العامين من عمره، فإذا به تظهر عليه علاماتُ التوتر النفسي، بدءًا بالتبول اللاإرادي، ومرورًا بالخوف والهلع الشديد من رجال الشرطة، وأتذكر هنا حادثةً جسَّدت عقدةً كانت قد تمكنت من نفس ابني، الذي لم أكن أعتقد أن سنَّه الصغير سيوفر له هذا القدر من الفهم العميق للدرجة التي تجعله ينهار ويصاب بهلع شديد عند رؤية أحد رجال الشرطة، وقد حدث وأن حاول أحد جنود شرطة مترو الأنفاق أن يلاعبه فإذا الطفل ينهار من البكاء، مُظهِرًا هلعًا شديدًا ومستغيثًا بي أن أُبعده عنه؛ مما أثار استغراب الشرطي ومن كانوا برفقتي!!
أما ح.ع فتقول: اعتُقل زوجي مؤخرًا، وحمدت الله أن الأطفال كانوا نائمِين ولم يشعروا بشيء؛ لأن التفتيش تركز على غرفة النوم والصالة، وطلب منهم زوجي ألا يفتشوا غرف الأطفال؛ لأنه ليس بها إلا أشياءَهم، واستجابوا لطلب زوجي الذي اصطحبوه معهم فجرًا، وحمدت الله أن الأطفال كانوا نائمِين؛ حتى لا يصابوا بهلع من العدد الكبير من رجال الشرطة ومن منظر السلاح!!
ولكن في الصباح وعندما كنت أهيئ الأطفال للذهاب إلى المدرسة إذا بهم يسألونني عن أبيهم، الذي كان يشاركهم مراسم الاستعداد اليومي للذهاب إلى المدرسة، فأجبْتهم بأن أباهم اعتُقل، فسألونني لماذا؟ قلت لهم لأنه شريف مثل إخواننا في فلسطين والعراق، فإذا بابنتي الصغيرة تقول لي: تصدقي يا ماما أنا رأيت يهود في بيتنا بالأمس، وكان هناك واحد كالعملاق يلبس الحديد ويقف عند الديب فريزر، وعندما رأيته خفت وأغمضت عيني حتى لا يقبضوا عليَّ، ثم علَّقت متساءلةً: هل هم يهود حقًّا يا ماما؟!
وتروي أم منة قصة اعتقال لم تكن في بيتها، وإنما كانت في بيت أختها، فتقول: لم يكن زوج أختي سوى رجل اعتاد الصلاة في المسجد، ولم يكن له أي اتجاه سياسي أو ديني، ولكنه ابتُلي بمصافحة أحد المتابَعين أمنيًا ممن كانوا يسمونهم الجماعات الإسلامية، وكما كان الناس البسطاء زمان يقولون السلام لله، ولم يكن أحد يعلم أن السلام يقود الناس إلى غياهب السجون، هذا ما لم نكتشفه إلا بعد مرور أربعة أعوام من السجن لزوج أختي، الذي ظللنا طيلة العام والنصف لا نعلم عنه شيئًا، حتى اتصل بنا رجلٌ شهمٌ وَجد ورقةً في الشارع مكتوبًا عليها رقم تليفون أختي ورجاء لمن يقرأ الورقة أن يتصل بأهله ويبلغهم بأنه معتقل، وبعد العام والنصف بدأ مشوار المحامي والزيارات؛ مما جعل الأبناء يعرفون أن أباهم الرجل الشريف المصلي قد أودع في السجن بتهمة مصافحة إرهابي، كما تدعي قوات الاعتقال!!
والأطفال لا يتحدثون كثيرًا، لكنهم يدخرون في أنفسهم أكثر مما يبدون، وقد ظهر ذلك أكثر بعد خروج أبيهم من السجن، وقد بدا على الابن الأصغر علامات الرفض الشديد لوجود أبيه، والذي كان يرفض أن يقترب منه أو من أمه، وقد تعبت أختي نفسيًّا جدًّا من فترة ما بعد الاعتقال، ربما بدرجة تساوي في ألمها فترة الاعتقال، وكانت تخشى أن يستمر جفاء الابن مع أبيه طوال العمر، لكن مع الأيام بدأت العلاقة تستعيد طبيعتها..!!
ممنوع الخروج
تقول أم صالح : عندما اعتُقل زوجي حاولت أن أُظهر للأبناء أن الأمر ليس بالشيء الغريب، وقلت لهم إن سعد زغلول نُفي خارج البلاد لأنه وطني، وحسن البنا اغتِيل لأنه صاحب مشروع نهضة وحرية، وآلاف الفلسطينيين يقبعون في السجون لعشرات السنين لأنهم ينشدون الحرية، وذلك شأن كل صاحب فكر ينشد لقومه الحرية أو الاستقلال في أي مكان أو زمان، وبالتالي فمن الطبيعي أن نكون مثلهم؛ ولذلك يجب ألا نستغرب الأمر، وهذا لا يمنع من أن ندعوَ الله أن يعافيَنا ويعافيَ أبانا من هذا الابتلاء.
وهكذا يكون مع الأبناء الكبار خط حواري تفاهمي إقناعي يقلل من حدة التوتر النفسي الذي قد يُحدثه غياب الأب المعتقل، إلا أن مكمن الخطر يكون في الصغار، الذين لا يُتقنون فن الحوار في الخارج، والذي يحولونه إلى الداخل، والذي تظهر درجته ظواهر يحددها الطب النفسي ووعي الأم التي تحدد وجود تغيير ما يستدعي المعالجة النقسية.
وهذا تجلى واضحًا بعد خروج زوجي من المعتقل مع طفلي الأصغر الذي لم يظهر عليه أي تغيير قط أثناء فترة اعتقال أبيه، لدرجة أنني اقتنعت أن الأمر قد مر بسلام، لكننا فوجئنا أنه يرفض خروج أبيه من البيت، ويلجأ إلى التشبث به مع بكاء هيستيري، لا يوقفه إلا رجوع أبيه عن قراره بالخروج، وكان مجرد ارتداء زوجي لملابس الخروج يعد مأساةً قد يخففها اصطحاب أبيه له في بعض الأحيان؛ حتى يستطيع أن يخرج في هدوء، وأتذكر أنه- وهو الطفل ذو العامين- قد قام برمي كل الأحذية من الشباك؛ حتى يمنع أباه من الخروج من البيت؛ لأنه لن يستطيع الخروج بدون حذاء.
جناية نفسية
وحول ما يمكن أن يصيب الصغار من هِزَّات نفسية؛ نتيجةً لاعتقال الأب أو الأخ أو غيرهما من المحيطين بالطفل، وما يصاحب عملية الاعتقال من تفتيش وترويع وسلاح، وأحيانًا سلب ونهب واعتداء على أهل البيت، دونما مراعاةٍ لحرمات البيوت ونفسية الصغار.. يحلل الدكتور حاتم آدم (أخصائي الطب النفسي) الحالة قائلاً: نحن أمام جناية نفسية تُرتكب ضد الصغار والكبار، إلا أن الكبار يكون لديهم مصدات نفسية وحيل دفاعية عقلية، سواء بالإنكار أو التبرير أو العقلنة، أما الصغار- خاصةً ما دون العاشرة فإن هذه الأحداث المؤلمة تدخل إلى منطقة اللاوعي، وقد تخرج إلى منطقة الوعي في وقت ما، فتظهر العُقَد النفسية المختلفة، وهناك قصةٌ معروفةٌ في الطب النفسي اسمها قصة الطفلة (دورا) والتي عضها الحصان، وأثناء العض بقي ريق الحصان على يدها فربطت الحادثة بمنظر الماء الذي ظلت تخاف منه، لدرجة أنه يغمى عليها لدى رؤيتها نضر الماء، وهو ما يعني ظهور عقدة ما حتى لو كانت غير معقولة المعنى!!
والهجوم على المنازل يسبب ضغوطًا؛ نتيجةً لما يصاحب ذلك من هجوم لقوات الاعتقال ومنظر السلاح، وما يرافق ذلك من تفتيش وترويع يكون غالبًا متعمَّدًا، وبعد الحادث تأتي آثار انضغاط ما بعد الحادث، وهذه تختلف شدتها من إنسان لآخر، ولكنَّ أبعادها لا يعلم مداها إلا الله، لكن التاثير الأخطر يكون عند الأطفال الذين لم يكن قد اكتمل نموُّ جهازهم النفسي بعد؛ مما يجعله أكثر هشاشةً وقابليةً للتوتر والانضغاط!!
وفي الحقيقة فإنني أحذِّر القائمين على أمر هذا البلد، واذا كانو حريصين على سلامته أن يراعوا عدم انتهاك الجانب النفسي نتيجةً للممارسات التي لا تراعي إنسانية هذا الشعب؛ وذلك حتى نتفادى خروج أجيال عنف، وأجيال انتقام، وأجيال لا تثق ولا تصغى للحوار، وعلى جهاز الشرطة أن يحافظ على صورة مثالية له في أذهان الأطفال والشباب، باعتباره مصدرًا لأمن المواطن وليس العكس، وأن يغيِّر الصورة السيئة التي بدا فيها في فيلم (إحنا بتوع الأتوبيس) وغيره..!!
ويضيف آدم: لقد تأكدتُ من تشوه صورة رجال الشرطة عند الصغار عندما سألت طفلةً في إحدى المدارس الابتدائية عن ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟! فإذا بها تجيبني قائلةً: أريد أن أكون طبيبةً وأخي ضابط، فقلت لها لماذا؟ فأجابتني بمفاجأة؛ حيث قالت: حتى نبهدل (نعذب) الناس!!
وعلينا أن نعرف أنه من الأساسيات الملحَّة للإنسان الاحتياج إلى الأمن والأمان والانتماء، وكما يقول نجيب محفوظ لا بد من تجميع الناس على قضية عامة مشتركة كحرب أكتوبر، ومواجهة الاستعمار قبل ثورة يوليو؛ لأن غياب القضية المشتركة مع غياب الإحساس بالأمن والأمان يصيب قضية الانتماء في مقتل، وهو ما يكون مقدمةً للعنف ضد المجتمع، بل وضد الذات أيضًا، ولذا أطالب رجال الأمن ألا ينسوا دورهم في توفير الأمن للناس وليس تعقب وترويع الشرفاء لمجرد أنهم أصحاب آراء سياسية معارضة.. وعليهم أن يدَعوا الناس يلتمسون الحماية من الأبواب والجدران، بعد أن أصبح الحامي هو المروِّع، لدرجة أن أحد المعتقلين السياسيين، والذي اقتحمت قوات الاعتقال بيته مروِّعةً الكبار والصغار؛ مما دفع بابنته الصغرى إلى سؤاله: "إمال إيه لزوم باب البيت يا بابا"؟!
وينصح الدكتور حاتم الأم في هذ الحالة أن تشرح الحكاية بما يناسب عقل ومدارك الطفل وبصورة هادئة خالية من التوتر بقدر المستطاع، على أن نؤكد له أن أباه ليس مجرمًا، وأنه صاحب مبادئ قد تختلف مع الجهات الرسمية التي لا محالةَ ستطلق سراحه؛ لأنها تعلم جيدًا أنه ليس خطرًا على البلد أو الناس، ولأن بابا صح، وبابا رجل شجاع؛ ولذلك فإنه سيعود قريبًا إن شاء الله.
ويستطرد الدكتور آدم قائلاً: يجب طمأنة الأبناء، وممنوع أن يرَوا ضعفَنَا، ولا بد من إخفاء البكاء عنهم؛ وذلك حتى نحافظ على هدوء أنفسهم وتمر المحنة بسلام.
المصدر :موقع: إخوان أون لاين