أخطاء الفلسفة المادية
مقدمة
إن أخطر ما يحاول دعاة التغريب والماديون وأصحاب الفلسفات أن يقولوا أنهم إنما يصدرون فيما يقولون به من نظريات وأيدلوجيات ومذاهب على أساس عملي لا يقبل النقض، ونحن نعلم أن هناك فارقاً بعيداً جداً بين العلم وبين الفلسفة وبين معطيات العلم التجريبي القائمة على البحث والتجربة على النحو الذي يتم داخل المعامل وبين الفرضيات التي لم تؤكدها التجربة بعد.
أو التي قال بها العلم في محلة ما ثم جاءت تجارب أخرى غيرت هذه المسلمات وتخطتها، ذلك أن الخطأ والخلط إنما يجئ نتيجة تبني الفلسفات لبعض مؤثرات العلم أو نظرياته ونقلها من مجال العلم التجريبي أو من مجال الدراسات البيولوجية ودراسات الطبيعة إلى مجال المفاهيم الإنسانية وقضايا النفس والاجتماع والأخلاق.
بينما لا تصلح أساليب العلم التجريبي في التطبيق على شئون الإنسانيات من نفس واجتماع وأخلاق، هذه التي يجب أن تدرس وفق منهج آخر غير مناهج العلوم المادية.
إذا اتضح هذا المعنى أمكن النظر في سهولة ويسر إلى ذلك الحشد المتعدد من المصطلحات والمفاهيم التي تختلط بين العلم وبين الفلسفة، أما في مجال العلم فهي تدرس دراسة خالصة، وأما في مجال الفلسفة فإنها تخضع لكثير من الأهواء والدوافع.
وقد ظهرت نظريات متعددة في مجال العلم البيولوجي ثم لم تلبث أن نقلت إلى مجال العلوم الاجتماعية كحقائق مسلمة، ومن ذلك مفهوم التطور ومفهوم تنازع البقاء، وقد تبين من بعد أن تقبل هذه الفرضيات ليس سليماً على إطلاقه وأن تطبيقه في المجال الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً.
ومن العجب أن النظرية المادية قامت من بعدها النظرية الماركسية على فرضية كشفت أبحاث العلم من بعد خطأها، قامت النظرية المادية وكذلك الماركسية على أساس القول بأن الحياة كلها من عقلية ونفسية وسلوكية صادرة من مادة عضوية، وهذه الفرضية لا تعد الآن من الحقائق العلمية، ومعنى هذا أن أساس الفلسفة المادية والنظرية الماركسية قد انهار من الأساس.
كذلك فإن القول بالتطور المطلق الذي جعله هربرت سبنسر مفهوماً اجتماعياً قد سقط نتيجة لمفهوم آخر أصلح منه هو مفهوم الثوابت والمتغيرات، كذلك فإن فكرة الجوهر الفرد التي قامت عليها الفلسفات سقطات بنظرية النسبية وظهور مفهوم الطاقة التي تتحول إلى مادة والمادة التي تتحول إلى طاقة، كذلك فإن نظرية النسبية نقلت إلى المجال الاجتماعي القول بنسبية الأخلاق وارتباط القيم الأخلاقية بالمجتمعات والعصور، وهذه النظرية وجدت معارضة شديدة؛ لأنها تخالف الفطرة طبائع الأشياء.
كذلك فإن نظرية الجبرية التي حاولت بعض المذاهب تطبيقها على التاريخ والحضارات والمجتمع قد تبين فسادها؛ لأنها تلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم وتلغي إرادتهم بينما التاريخ كله من عمل الأفراد.
وكذلك تبين خطأ القول بتنازع البقاء وتبين أن تعاون الكائنات أطهر وأقوى وأكبر أثراً من تنازعها. وأن نظرية تنازع البقاء إنما ظهرت نتيجة ملاحظة محدودة لمجتمع محدود.
ويرجع هذا كله إلى منطلق الفكر الغربي أو الفلسفة الغربية الذي يقصر النظرة على المادة وحدها، بينما ينطلق الفكر الإسلامي إلى أفاق أرحب وإلى نظرة لها أبعاد أكثر وضوحاً وقوة.
فالفكر الإسلامي يؤمن بأن الثبات والتغير من القوانين الطبيعية في حياة البشرية والإنسان وفي الكون نفسه. وأن هناك أفلاكاً ثابتة وكواكب متحركة. وأن لكل شئ إطاراً لا يتغير وإنما تتغير الحركة في داخله.
فالإنسان في صورة خلقه وفي حياته يتحرك داخل إطار واضح محدود منذ الولادة إلى الوفاة، وقد تتغير الأساليب والملابس والوسائل ولكن تبقى القواعد الأساسية ثابتة، النوم واليقظة، والسكن والحركة، والطعام والشراب، هناك قيم ثابتة ولكن أساليب العمل بها تتغير وتتطور من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة حسب الظروف والحاجات.
والإنسان يتغير دائماً من حيث الحركة ولكن له إطاره الثابت من حيث أصول الحياة والفكر وأصول البقاء.
وكذلك فإن الإنسان يتحرك في الحياة في إطار من القيم والتعاليم والضوابط والحدود. ويخضع لقوانين الأخلاق والتعامل بما يتكامل معه مع مسيرة المجتمع كله، أخذاً وعطاءً، وحيث تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام يقوم على أساس ثبات القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية التي هي من أصول ثبات الطبيعة البشرية، وفيما عدا ذلك فإن هناك تغيراً وتبديلاً وتطوراً دونما انقطاع، هذه القيم الثابتة من الدين والأخلاق والحدود والضوابط هي التي تقي المجتمع الإنساني من الفناء والهلاك، وهي القانون الثابت الذي لا يتغير مع تغير العناصر المختلفة في المجتمع.
وهكذا نجد ثوابت الكون في الطبيعة وثوابت الأخلاق في الإنسان ومتغيرات الكون ومتغيرات الإنسان، وكأنما نظام السلوك الإنساني مطابق لواقع النظام الكوني.
وثبات السنن الإلهية في الكون والإنسان هو إطار حركة المتغيرات، ولقد كان الفكر الغربي في مرحلته اليونانية يؤمن بالثبات المطلق، ثم جاء هيجل فنقله إلى التطور المطلق.
وكلاهما صدر عن نقص في النظرة وعجز عن استقصاء الأبعاد المختلفة التي جاء الدين الحق ليكشف عنها للإنسان وليدله عليها وليجعل فكره أكثر رقياً وأعمق فهماً.
ومن هنا فإن الفكر الغربي هو فكر انشطاري يمر اليوم بمرحلة التطور المطلق الذي لا يتوقف عند حد والذي يجري في غير إطار من الثوابت ومن ثم يتعرض لكثير من المعاطب والأخطار.
أما الفكر الإسلامي فهو فكر متكامل جامع، يربط بين القيم في توازن رقيق وتناسق معجز، فالحياة يقابلها الموت والفقر يقابله الغنى والجبن يقابله الشجاعة والروح تقابلها المادة، والكون كله ثنائيات متلاقية ليس فيه واحداً لا شاء له ولا تعدد إلا الله تبارك وتعالى، ومن شأن هذا الفهم أن يعالج أزمة الفكر الغربي التي تقوم على الصراع والتناقضات، ذلك أن المفهوم الكامل من شأنه أن يقضي على المتناقضات ويذيب الصراعات.
فليس وجود الأضداد دليل على خصومتها وتعارضها؛ ولكنه سبيل إلى تكاملها والتقائها فالضد يولد من الضد، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ذلك أنو النور يكشف الظلام والحق ينسف الباطل.
أما الفكر الغربي الذي أثر فكرة التطور المطلق وحجب فكرة الأطر الثابتة فقد عجز عن فهم هذا الالتقاء وعده صراعاً، وتناقضات.
أما الإسلام فقد وفق بين المتناقضات في إطار التكامل وعلى قاعدة التوازن وليس في هذا ما يوصف بأنه ازدواجية؛ بل هو التكامل الذي يوفق بين الأضداد والمتناقضات ويسلكها في طريق الحركة الطبيعية.
ولقد يعجز الفكر الغربي عن فهم التكامل والالتقاء بينهما هو طبيعة طيعة للفكر الإسلامي الذي يقوم على التكامل بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي واللانهائي والمحدود.
ومن هنا يمكن القول بلغة الفلاسفة أن الإسلام يجمع بين المنطق الشكلي والمنطق الجدلي، بين منطق أرسطو القائل بثبات الموجودات ومنطق هيجل القائل بتغير الموجودات الدائم. وبذل يقيم قانون "الثوابت والمتغيرات"، فالإسلام يجمع بين الأصول العقائدية الثابتة وبين الاجتهاد في الفروع والتفاصيل والتطبيقات (وهو ما نسميه التطور).
ويقول بتغير الأحكام النوعية مع تغير الأزمنة والأمكنة وهو ما يسميه الفقهاء اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان ذلك أن الإسلام منهج إلهي من حيث الأصول، ووضعي بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية ووضع بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية على أساس التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد، فإذا استحال التوفيق اختار الإسلام المصالح الجماعية، وهذا هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.
ومعنى هذا أنه لا انفصال بين ما هو مادي وما هو روحي في الإسلام، ومنهج الإسلام أصول إلهية وتفسيرات بشرية، وعن طريق هذا المفهوم لا يجد المسلم ذلك القلق الفلسفي الواسع الذي يشغل الباحثين حول: التناقض والصراع والجبرية وتنازع البقاء.
(2)فساد نظرية الجبرية
إلى أي حد يمكن أن يصل بالحضارة الغربية وبالفكر الغربي ذلك التصور الذي يجتاح العصر كله ويحاول أن يلقي بظله على الفكر الإسلامي ويجد من المثقفين العرب من يتبناه ويردده: هذا الفهم الخطير للجبرية والحتمية الذي يستمد منطلقه من الفلسفة المادية والذي يذهب بعيداً ليكون عاملاً خطيراً في تصرفات الإنسان، وسلوكه، وما هي صلة ذلك كله بنظرية الخطيئة الأولى في الفكر الغربي المسيحي، وعلاقته بالوجودية وبالأدب وبالأخلاق.
لنستعرض هذا النص الذي يمثل وجهة نظر عامة الآن بين كتاب الغرب لنرى معه إلى (أي) حد نستطيع أن نفهم الموقف: النص للكاتب الغربي الأمريكي (ماكسين جرين) يرى الإنسان الحديث أنه وليد قوى اجتماعية واقتصادية وبيولوجية تحدد دوره في الأرض دون أن يشعر هو نفسه على الإطلاق.
إن فقدان الإنسان لكرامته واعتزازه بنفسه يرجع إلى التقدم العلمي الضخم في القرن التاسع عشر إلى أمثال دارون وهكسلي وماركس الذين أظهروا الإنسان فريسة لقوى ضخمة مظلمة لا سلطان له عليها، وهكذا وجد التفكير الجبري، وظهر هذا التفكير في الأدب في أعمال أصحاب المذهب الطبيعي في كل بلد هؤلاء الذين حلوا محل الأبطال الشاعرين بذواتهم مخلوقات سلبية مطاوعة أنتجتها قوى الوراثة والبيئة لا صلة لهم بها، بل لا وعي لهم بها، وقد اختفت بطولة الإنسان بفضل المذهب الطبيعي".
هذا النص يتحدث عن "جبرية القوانين الطبيعية" وخضوع الإنسان لها: هذه تريد أن تفرض وجودها على الفكر الغربي كله: ليس الفكر الماركسي وحده ولكن الفكر الليبرالي أيضاً، فقد تغيرت الجذور القديمة التي كانت تستمد من الفلسفات المثالية وغيرها رؤية تتمثل فيها إرادة الإنسان، وساد الفكر الغربي اليوم قتام كامل ترتبط فيه كل المذاهب بهذه الجبرية والحتمية. سواء في دراسات علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، أو علماء الاجتماع، أو علماء التاريخ أو في مذاهب الأدب والفن والشعر والمسرح والقصة .. إلخ.
هذا التحول الخطير أساسه المذهب المادي الذي يعد الآن بمثابة القاعدة الأساسية للاتجاهين المختلفين في الفكر الغربي: ليبرالي وماركسي، فردي واجتماعي، أدبي وعلمي. وهذا هو أبرز وجوه الخلاف اليوم بين الفكر الإسلامي وبين هذا الفكر جملة.
فإذا ذهبنا نستقصي المصدر الأول لفكرة الحتمية أو الجبرية وجدناها في تلك القوانين التي اكتشفها الإنسان للكون عن طريق العلم الحديث، دون معرفة مصدر هذه القوانين، والاعتقاد بأنها قوانين طبيعية حيث تدير الطبيعة نفسها فهي لا تتخلف.
وفي هذا الاعتقاد خطأ أكبر وخطأ أصغر؛ أما الخطأ الأكبر فإنه من المستحيل أن تدير الطبيعة نفسها بمثل هذه الدقة؛ لأنها لم تخلق نفسها ولابد لها من خالق أساساً، ثم هو نفسه تبارك وتعالى الذي يديرها لحظة بعد أخرى. ومن هنا فإن هذه القوانين مخلوقة لله تعالى وهو القادر على إبطالها.
غياب هذا الفهم عند الفكر المادي جعل النظرية قائمة على شق واحد منها هو حتمية هذه القوانين وإغفال الجانب الهام منها وهو صانعها ومديرها والقادر على إبطالها.
ومن هنا يصور العلماء الحتمية بأنها: هي خضوع الأشياء لمبدأ التغير للقوانين الضرورية وهذا يعني أن الأحداث تترابط فيما بينها وفق قوانين موضوعية ومن هنا فإن الحتمية هي إنكارها المصادفة والاحتمال وحرية الإرادة وأخطر ما في الحتمية هي إنكارها حرية الإرادة، ذلك أن الحتمية لا تتفق مع إرادة التغيير، ومن هنا فهي تعطل هذا الجانب الهام الذي هو مصدر أصيل في إنشاء التاريخ وتلغي دور الإنسان في التغيير.
وهي في هذا تخالف الإنسان من جانبين: من جانب عجزها عن فهم قدرة الله المطلقة وقدرته على خرق القوانين وتغيير الواقع وقصورها عن فهم إرادة الإنسان التي منحها الله إياه، داخل الإرادة العليا للكون كله.
والفارق يسير جداً فهو في نظر المسلم أن العوامل الظاهرة للحدث أو للقانون ليست هي وحدها العوامل الحقيقية، وأن هناك عوامل أخرى تخفى وهي من إرادة الله ومشيئته التي هي أكبر من الأسباب نفسها، والقادرة على تعطيل الأسباب أو إمضاء الأسباب من غير أن تحقق النتائج المترتبة عليها.
ونحن نطلق خطأ على هذا الجانب المجهول من قدرة الله والذي لا يخضع للقوانين الظاهرة: المصادفات والاحتمالات والظواهر غير المنظورة تقريباً للأمور.
والواقع أن الحتمية تقوم على نظرية مادية خالصة.
أما الإنسان فله دوره وإرادته الذاتية التي تحقق له التصرف الذي به يكن مسئولاً عن عمله، في دائرة صغيرة ولكنها بعيدة الأثر في أحداث التغيير.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والفرد يستطيع أن يمارس إرادته في تغيير الواقع والمجتمع بقدر استفادته من قوانين الحركة.
والإنسان له إرادة فاعلة وهي جزء من إرادة الله يتميز بها عن الحيوان وهي يتحرك في دائرة خاصة ويكون مسئولاً في حدودها، ولكنها لا تمثل إلا شطراً يسيراً من إرادة الله الكبرى التي تخلق التأثيرات العامة للمجتمعات والأكوان أما الحتمية فهي لا تتفق مع إرادة التغيير؛ لأن الحتمية تفترض أنه لا إرادة من جانب الإنسان، وهي بذلك تعد الإنسان متفرجاً إزاء حركة التاريخ يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا والقول مخالف للواقع ولطبائع الأشياء.
ومن هنا فإن القول الذي يردده جبريو التاريخ كماركسي والذي يقول أن التاريخ محكوم المسار في مستقبله فهو غير صحيح وكل النبوءات التي قدمها ماركس في هذا الصدد قد تبين كذبها ولم تتحقق -جميعاً- وما وقع في المستقبل بعد تنبؤات ماركس كان مخالفاً تماماً لما قرره بناء على حتمية التاريخ أو جبريته في حدود النظرية التي قدمها، ذلك لأن ماركس ليس إلا بشراً يعجز عن الإحاطة ونظريته ليست إلا شطيرة ترتبط بعنصر واحد من عناصر التأثير وهي الاقتصاد وتقوم في مرحلة زمنية محدودة وبيئة لها طابع خاص، ومن هنا فقد عجز وعجزت عن تفسير المستقبل فضلاً عن إخفاق ماركس في تحليل التاريخ القديم.
ولا ريب أن النموذج البشري الذي تقوم عليه فكرة الجبرية هو نموذج إنسان سلبي خامل كسول، مستسلم للواقع، متنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار مؤثراً للأمان والجبن وعدم المجازفة، وبذلك يفترض في هذا الإنسان أنه تطبيق للحتمية المادية الخادعة الكاذبة.
والمسلم لا يقر هذا المفهوم، السلبي، ويؤمن بالإرادة، وبالقدرة على الاختيار والحركة لتغيير الواقع، ويجعل من إرادته البشرية قوة قادرة على حكم الغرائز وقيادتها والسيطرة عليها.
وهذا هو السر في دعوة الإسلام الملحة لبناء الإرادة.
كذلك الأمم فإنها حين تخضع للجبرية تموت؛ لأنها تستسلم وتُداس بالأقدام، أقدام الغزاة والغاصبين، والإرادة والاختيار هما عاملا التغير في الفرد وفي الجماعات والأمم، وبقوانين هذه الإرادة تقوم الأمم وتتجدد، ولا ريب أن التقدم مرتبط بتنمية إرادة التغيير، فإذا فقدت الأمة هذه الإرادة، استسلمت للجبرية التي هي الانحطاط. ولا ريب أن تفشي هذا المفهوم في الفكر الغربي في هذه المرحلة من انهيار الحضارة هو علامة على مرحلة سقوطها الذي تنبأ به كثير من الباحثين، والذي هو سمة كل الحضارات والأمم التي تستسلم للجبرية الممثلة في الترف والانحلال والفساد والإباحية.
وكما يرفض الإسلام الجبرية التي تجعل الإنسان متفرجاً على التاريخ، كذلك فإن العلم يرفض الجبرية ولا يراها حقيقة أساسية.
وكل ما يقال عن أن الجبرية أو الحتمية هي علم فهو من قبيل الخداع: فالعلم لا علاقة له بهذه الأبحاث التي هي من شأن الفلسفة وإنما هم أطلقوا عليها كلمة فلسفة العلم لأنهم حاولوا أن يستمدوا مفهوم المادية من بعض نظريات العلم التي كانت في القرن التاسع عشر تقول بانبثاق هذا الكون بدون صانع، وقد سقطت هذه النظرية التي قامت على أساسها مذاهب سياسية واجتماعية كثيرة كالماركسية والوجودية والبرجماتية مثلاً.
ولقد تقدم العلم الآن تقدماً عجيباً وألغى كثيراً من النظريات العلمية التي لم تكن في واقع الأمر إلا "فرضاً" لتغطية الجوانب الناقصة في عملية البحث، غير أن التجربة المستمرة كشفت عن أشياء جديدة جعلت كل ما كان يقال من قبل فاسداً وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والمادة؛ فقد أثبت العلم أن الطاقة تتحول إلى مادة وأن المادة تتحول إلى طاقة وبذلك انهدم أساس الفكر المادي وتحطم كثير من القواعد التي تقوم عليها الفلسفات المادية.
ولكن دعاة هذه المذاهب إنما يهدفون إلى هدم المجتمع البشري بإحلال روح الفساد فيه وإسقاط الإرادة ووضع مسئولية الخطأ والانحراف على المجتمعات، وإعلاء شأن المفهوم الجمعي للقضاء على الفردية التي هي مناط المسئولية والخبراء في الدين الحق، وذلك من شأنه أن يدفع إلى مزيد من غلبة الشهوات وتبرير الفساد وسقوط المجتمعات وهو ما تهدف إليه اليهودية التلمودية فيما أشارت إليه في بروتوكلات صهيون.
وعندما نراجع أصول الجبرية في الفكر الإسلامي تجد أن مصدرها يهودي، فهو مما قال به الذين حملوا سموم الفكر البشري القديم، والفرنسيون يقولون بأن الإنسان ليس إرادة ولا اختياراً ولا تأثيراً ولا جزءاً كسبياً، ولذا لا يرونه جديراً بالمدح ولا بالذم، أما اليهود الفروشيم فقد بالغوا بالاختيار ورأوا الإنسان قادراً على مطلق عمل دون أمر الله ونهيه.
وكلا الأمرين الجبر المطلق والاختيار المطلق لا يقرهما الإسلام، وفي الفلسفات الهندية والصينية والفارسية جبرية واضحة؛ إذن أن البرهمية والبوذية والمزكية تبرره، كذلك الفلسفة اليونانية فإن حرب طروادة قد حملت سواد الناس على التسليم المطلق بالجبر، وكذلك فلسفات التقمص والتناسخ كلها مفضية إلى الجبرية.
وكذلك تحمل فكرة وحدة الوجود معنى الجبر؛ فهي تلغي الإرادة والمسئولية الفردية، وصدق في هذا قول القائل: إن الاختيار المطلق يكلف الإنسان فوق الطاقة والجبر المطلق محو للتكليف وهدم للشريعة وإبطال لحكم العقل وإنكار للواقع.
والإسلام لا جبر فيه، ولقد نادى القرآن بالتمييز: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وأخذ الرسول بيد طلاب الهداية لربهم، ودعا الإسلام إلى الإرادة: والصبر وعزائم الأمور، ودعا إلى تغيير الواقع الفاسد ودعا إلى الهجرة في الأرض حتى لا يظلم الإنسان نفسه بالبقاء في الواقع السلبي.
ولقد أقام الإسلام الاختيار ونادى به القرآن (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).
وقال ابن تيمية: "إن للعبد قدرة ومشيئة وعمل فهو مختار مريد.
والجبريون هم المعطلون للتكاليف الشرعية المسفهون للخطابات الإلهية". وقال النابلسي أنهم زنادقة هذه الأمة:
ولقد فتح الإسلام الباب واسعاً أمام الذين ينحرفون إلى الجبر مع قدرتهم على الحرية والاختيار، وفتح لهم باب العودة إلى الإرادة الصحيحة.
ورسل الله ودعاة الحق في كل جيل وعصر لم يأمروا بالانحراف، ودعوا إلى الإرادة والاختيار التي تنشأ عنها المسئولية والجزاء، ولكن المنحرفين من أصحاب الفكر البشري هم الذين زينوا القياس الحلول والإشراق والتجسد وغيرها من المفاهيم الباطلة المبطلة التي تدعو إلى الجبرية، ثم جاء الفكر الفلسفي المادي المعاصر فاحتوى كل هذه العناصر وأعاد صياغتها من جديد.
ومن عجب أن العلم بالتجارب العديدة لم يعد تعبر نظرية الحتمية: التي كان يقوم عليها كيانه، فأصبح حين تتوافر الشروط والأسباب يحكم بوقوع النتائج؛
وذلك لأنه وجد عشرات من الأشياء لا تخضع لهذا القانون، ومن ثم فإن العلماء لأن يقررون أن الحتمية في العلم غير ضرورية وأن القانون الذي يحكم العلم هو قانون الاحتمالات، وبذلك انفسح لهم المجال للإيمان بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه.
ولكن رجال الفلسفة المادية، وهم اليهود التلموديون أصحاب بروتوكلات صهيون، إنما يريدون أن يتجاهلوا حقائق الفطرة وآراء العلم وطبيعة الدين الحق؛ ليفرضوا على البشرية نظرية زائفة يراد بها تدمير المجتمعات: تلك هي الجبرية والحتمية.
ولقد صدق القائل: أن الإنسان لا تجوز عليه الحتمية؛ لأن الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين فيزيائية؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية، كذلك فإن القوانين الإحصائية هي قوانين إجمالية وكلها ترجيحات ولا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية على الإطلاق.
(3)فساد نظرية (تنازع البقاء)
ومن الفرضيات التي قدمها العلم تحت التجربة نظرية (تنازع البقاء)، وقد تعالى القول بهذه النظرية وامتد حتى خُيل للناس أن هناك قانوناً يطلق عليه تنازع البقاء، وفي أفق الفكر الإسلامية والثقافة العربية ردد الباحثون هذا المصطلح سنوات وسنوات، ثم تبين من بعد أنه لا توجد حقيقة علمية تسمى تنازع البقاء، وأن كل ما يقال عن التنازع أو الصراع ليس من طبيعة العلاقات بين الأحياء.
لقد جاءت فرضية التنازع نتيجة لتقدير مادي بأن إنتاج الطعام في العالم محدود، بينما التوالد يتضاعف ويزداد، ومن هنا فلابد أن يتنازع الأفراد لأجل البقاء أو من أجل الحصول على الطعام، ولكن نظرية إنتاج الطعام المحدود التي قال بها "مالتوس"ثبت بطلانها من بعد؛ فقد اكتشفت أفاق عديدة للموارد والرزق ونما العالم وتضاعف عشرات المرات دون أن يفقد القوت، وهذا عيب النظريات التي تكون دائماً محدودة بقدر معين من العلم في عصرها، وبالتحدي الخاص ببيئتها وبالتأثير بنظرية جزئية أخرى، نجد هذا تماماً عند دارون ونجده عند ماركس ونجده عند فرويد.
وقد حاول أنصار دارون تبرير موقفه ودافعوا عنه، فقالوا أنه استمد نظرية تنازع البقاء في الطبيعة من إقامته في لنكشير وغيرها من الأقاليم الصناعية، وكانت نظرية دارون في مجموعها -وهي نظرية بيولوجية- مما استخدمه الفكر السياسي الاستعماري خاصة فيما يتعلق بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، فقد طبقوها على الشعوب المستعمرة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين.
فشلت نظرية داروين في تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتبين للباحثين والعلماء أن هناك "تعاوناً" بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقياً أقوى من الصراع، وفي هذا يقول أحد الباحثين: أن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية في لانكشير ومن كفاح الإمبراطورية البريطانية لخطف الأسواق وإذلال الأمم هذه العواطف حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
وكما سقطت نظرية التطور كما أرادها الفلاسفة الاجتماعيون، وسقطت نظرية مالتوس في الوراثة، كذلك سقطت نظرية "تنازع البقاء"، والفكر الإسلامي واضح في هذا تمام الوضوح؛ فهو يقر مفهوم التلاقي والتعاون والتكامل بين قوى الطبيعة المختلفة، ويرى أن هذا الالتقاء هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء".
ويرى الفكر الإسلامي ضرورة التعاون في المجتمع الإنساني بجميع أفراده، القوي والضعيف، والغني والفقير، والمريض والصحيح، ويُحّمل الإسلام الأقوياء والأغنياء والأصحاء مسئولية باقي أفراد المجتمع بنظام كامل من أنظمة الإعاشة والإنفاق والبذل.
ويرفض الإسلام تماماً فكرة القضاء على الضعفاء أو الفقراء أو المرضى ويراها عاملاً من عوامل الخروج عن الإيمان (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، وإذا كانت نظرية تنازع الإبقاء قد بدأت في مجال العلم الطبيعي فإن علماء الاجتماع أرادوا أن يجعلوها قانوناً عاماً للبشرية ولكنهم فشلوا في ذلك وتبين من التجارب المتعددة قيام التعاون بديلاً عن التنازع.
ومن هنا كان زيف كل التفسيرات التي حاول بعض الماديين إلقاءها شأن المواقع التاريخية واندثار الحضارات وانقراض الأمم.
ومن الحق أن الصراع لم يكن هو مصدر انهيار الحضارات أو انقراض الأمم؛ وإنما كان الفساد والانحراف والاستعلاء والترف والتحلل والخروج عن نظام الكون وقوانينه الطبيعية التي تفرض العمل والإرادة وبذل الجهد والاستمساك بالخشونة في الحياة والحفاظ على الضوابط والحدود.
ومما ينقض نظرية تنازع البقاء أن الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش وتنمو. وفق قانون التكيف مع البيئة الذي هو أصدق من قانون تنازع البقاء، ذلك أن كل كائن يستطيع أن يحتاط ويتكيف مع الظروف إذا كانت هذه من الطبيعة كالبرد والحر أو من مقاومة الأعداء.
ويصدق قانون التكيف مع البيئة بينما تفشل نظرية "تنازع البقاء"، ويؤكد الباحثون أن فساد نظرية تنازع البقاء ترجع أساساً إلى أنها تعارض الطبيعة والفطرة وتكشف عن تحدِ واضح لانطلاقة الحياة في صورتها السليمة. فهي تؤدي إلى حرمان الضعفاء من حق الحياة وتشجيع الأقوياء على التسلط والسيطرة، وتبيح الحرب وتعتبرها ضرورة في يد القوي لإهلاك الضعيف.
ولما كان من طبيعة القوي أن يسيطر على الأضعف، فقد دعا الإسلام إلى أن يتمسك أهله بالقوة في مواجهة كل مَن يحاول الاعتداء عليهم، وكذلك دعا الأفراد إلى الهجرة من الأرض التي يقع فيها الإذلال لهم؛ حتى لا يكون المسلمون موضع سيطرة من غيرهم أو تسلط مِن عدوهم.
والحق دائماً يثبت والباطل دائماً يرتفع ثم ينهزم؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه ثبات الحق وسلامته وقدرته على الانتصار والبقاء. وعلى أهل الحق أن يلتمسوا نصر الله بالاستعداد لمعارضة الباطل ومقاومته.
ويقر الإسلام نظام "التعاون" بديلاً لمفهوم "التنازع"، ومن هنا فإن الأنظمة التي تقوم على الصراع لابد أن تسقط؛ لأنها تمثل اتجاهاً مضاداً للحق والخير، الذي هو الناموس الطبيعي للحياة.
ومن شأن "الفطرة" التي فطر الله عليها الكون والناس أن تمكن للحق من هزيمة الباطل والادالة نه، ومن شأن أهل الحق أن يكونوا في يقظة حتى لا يستشري الباطل ويكسب الحولية عليهم، فإذا فقدوا مقومات عقيدتهم، تغلب الباطل عليهم لا محالة، فكان حقاً عليهم أن يعودوا إلى التماس مقومات عقيدتهم ويتجمعوا لها، ومهما كانوا قلة فإن تمسكهم بالحق مع معونة الله يحتم تحقيق النصر لهم، وهذا هو مفهوم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وهو معنى يختلف عن النظرية الغربية "تنازع البقاء".
ويجمع الباحثون على أن "الصراع" فكرة استعمارية نشأت في ظل الفكر الغربي الاستعماري الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي سارت عليه عمليات الاستعمار والاحتلال والحروب الاستعمارية، تبريراً للاستيلاء على موارد الغير وممتلكاته بالقوة والعنف.
ولقد رحب الماديون بفكرة دارون؛ لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات.
أما القرآن فقد ذكر أن "الصلاح" هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وهو عدة الضعفاء المتقين في التغلب على الأقوياء المنحرفين.
ولا ريب أن من أخطر ما تروج له الفلسفات الغربية كلمة "الطبيعة"، حيث ينسب إليها العطاء والمنع والكشوف والقوانين، ولا ريب أن هذا معارض تماماً لمفهوم الدين الحق؛ فإن الخالق هو الله وليس الطبيعة، والطبيعة مخلوقة لله، مذللة له سبحانه.
أما كلمة "الطبيعة" في مفهوم العلم فهي عبارة (عن=) قوانين سقوط الأجسام ودورانها ومغناطسيتها، وهي قوانين تعبر عن قدرة الله في خلق الكون والإنسان، وليس في الإسلام صراع بين الله والطبيعة؛ فالكل يسلم ويسجد طوعاً وكرهاً.
وكل ما كشفه العلم الحديث ليس إلا قشوراً صغيرة من علم الله الأكبر، وما استطاع العلم أن يصل إلى تفسير ظواهر الأشياء.
ومن أخطر مقاتل العلم الحديث أنه فضل بين المادي والروحي في العلم وأنكر الروحي: يقول الكسي كاريل: "إن الغلطة المسئولة عما نعانيه أنها جاءت مِن فكرة لجاليلو؛ فقد فصل جاليلو بين الصفات الأولية للأشياء وهي الأبعاد والأوزان التي يمكن قياسها بسهولة عن صفاتها الثانوية وهي الشكل واللون والرائحة التي لا يمكن قياسها فقد فصل الكم عن النوع (الكيف)، ولقد جلب الكم المعبر عنه باللغة الحسابية والعلم، بينما أهمل الكيف.
لقد كان تجريد الأشياء عن صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك؛ فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها، فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم، ولما اتخذت التركيبات العضوية والألباب الفسيولوجية حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجهل، دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم والانحلال الإنساني، ولابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه وأن الخطأ الذي بدأ به كان أنه أعل شأن الكم على الكيف، هذا الخلل المروع في بناء الحضارة، الإنسان الذي حقق تسخير المادة وإطلاق الطاقة لا يزال أقرب إلى الغابة في العقل والتدبير وذلك أن الدين هو الحماية: هو الحائط العريض الحاجز عن الخطر هو إنسان الإنسان الذي ينقله من الغابة".
من هذا المنطلق وقع المحظور، وتوالت الأخطاء، واندحر الإنسان الذي تمزق في الغرب.