أحياء وأموات
بقلم الأديب الشهيد الأستاذ/ سيد قطب
جلس "عبد الفضيل" وزوجته "حليمة" في كوخهما المتواضع الذي يدعوانه دارًا. وقد نام بجوارهما أولادهما الأربعة: ابنتهما الكبرى "سيدة"، وقد بلغت الثانية عشرة، وإخوتها الثلاثة الذكور، وأصغرهم قد تجاوز الثالثة بقليل.
كان الأربعة نيامًا على الأرض الطينية، وقد كفتهم الطبيعة الرحيمة مؤنة الفرش والغطاء واللباس أيضًا.
كان الفصل صيفًا، واليلة قائظة، والقرية في الصعيد، فلم يكن بهم من حاجة إلى كل هذا الترف الذي يسمونه الفراش والغطاء واللباس. فيما عدا مزقًا مهلهلة هي والعُري سواء. وكان مصباحُ البترول ذو الفتيل بريق نوره الباهت الضئيل على جدران الكوخ السوداء، وعلى أرضيته المعتمة، فيبدو الأطفال في أسمالهم كالأشباح داخل كهف أثري، أما "عبد الفضيل" وحليمة، فكانا أشبه شيء برصدين من أرصاد الكنوز الخرافية، أو بتمثالين للحزن الباهت العميق، وبعد فترة من الصمت القابض الثقيل تململت حليمة في جلستها وهمت بالكلام، وكأنما تزيح عن لسانها صخرة جاثية، وترفع عن صدرها عبئًا ثقيلاً..
قالت: وبعدين يا عبد الفضيل؟ وإيش بعد العيال أهم بايتين بالجوع؟
ومضت فترة قبل أن يستطيع "عبد الفضيل" التنهد بشدة؛ ليستنشق نفسًا عميقًا؛ يستعين به على الكلام بصوت مخنوق: "وأنا بأيدي إيه يا حليمة؟ ربنا موجود! قالت المرأة: وقد خفت حبسة لسانها: لكن يا عبد الفضيل دا حال صعب قوي!
قال عبد الفضيل في ضيق مكتوم: وأنا بس أعمل أيه يا حليمة، ما انتي عارفة، هو أنا خليت حاجة معملتهاش؟ هو أنا ساكت يا شيخة ما تخلي الواحد في غلبه أُمَّال!
ولم تسكت المرأة. إذ بدا على وجهها أن خاطرًا وضيئًا قد أرق في رأسها المكدود، فانفرجت أساريرها وتهلل جبينها، وراحت تقول: طيب أنا عندي فكرة يا عبد الفضيل بس تطاوعني يكون فيها الخير والبركة ومفتاح الرزق بإذن الله.
ولم يفارق الرجل همومه، ولم يعده نشاط امرأته، فأجاب في استسلام يائس: طيب قولي. وأنا أديني أهو مستعد حتى للومان، إن كان فيه عيش للعيال!
قالت المرأة ولم يفارقها إشراقها، ولم تبعدها لهجة الرجل البائسة ـ قالت وكأنما تُلقي إليه بمفتاح كنز ـ تروح مصر!
وقدحت الفكرة في ذهن الرجل، فاتسعت حدقتاه، ولكن الجذوة خمدت سريعًا. فأجاب في تهكم خافت: هي دي الفكرة؟ وإيه اللي لينا في مصر؟ وإيه اللي حيوصلنا لحد مصر حتى؟
ولم تنهزم حلمية، فالفكرة كانت عزيزة عليها. قالت: تروح عند ولد عمك "عبد الباقي" ويمكن ربنا يفتح عليك زي ما فتح عليه، وتشتغل في مصلحة الكنس والرش زيه، وترجع تأخذنا كلنا، ونعيش هناك في بلد النعيم، بعيدًا عن الفقر، زي ما عمل ولد عمك يا عبد الفضيل!
ولم تعد المسألة في نفس الرجل فكرة سخيفة كما كانت منذ لحظات. بل استحالت مشروعًا عمليًا يستحق التفكير، فتقبض جبينه؛ وبدا على وجهه الاهتمام؛ وصمت برهة يستجمع شواهد فكره.
ولكن ما لبث أن بدا على وجهه اليأس والهم، وهو يجيبها في حرارة: العين بصيرة واليد قصيرة. وفين أجرة السفر لحد مصر؟
قالت المرأة بلهجة آلية: ربك يدبرها!
وكأنما أثارت هذه السذاجة نفس الرجل ـ وهو يواجه مشكلة ضخمة ـ فارتفعت نبراته ثائرة: إنتي نايمة؟ يا شيخةانتي: إنتي عارفة إن الإجرة لحد مصر ثمانية وسبعين قرش صاغ ونص(قالها وهو يمط كل كلمة وكل رقم، ثم يضغط في النهاية على كلمة "ونص").
ووصلت نبراته العالية إلى آذان الأطفال النائمين، فتململوا. وفتحت سيدة عينيها المثقلتين بالنوم وقالت متلعثمة: عاوز حاجة يا بوي؟
فندم الرجل على رفع صوته، وإزعاج الأطفال الجياع، وانتقل بسرعة إلى جوار بنتهم، فربت عليها بحنان ظاهر، وهو يقول في لهجة وديعة، لا يا أختي انعسي يا سيدة.
مفيش حاجة يا بنتي! ولم تكن سيدة في حاجة لمن يدعوها إلى النوم فلقد عادت تغط في نومها بعد آخر حرف لفظته!
وساد الصمت برهة على الكوخ ثم عاودت حليمة الكلام حذرة في هذه المرة وفي صوتها الخافت نبرة متوسطة. ومين قال يا عبد الفضيل، تسافر في القطر الغالي يا خوي؟ متسافر مركب، هو ولد عمك كان سافر في قطر لما سافر يا عبد الفضيل؟ وكان لهذه الكلمات قيمتها في إثارة آمال كثيرة، فقال الرجل في لهجة وديعة، معاكي حق..
ولكن هي أجرة المركب هينة، لو كانت موجودة كنا جبنا بيها كيلة غلة ياكلو فيها العيال دول!
قالت حليمة.. أقول لك ربك يفرجها.. أهل الخير كثير.. يا الله بنا نرقد دلوقت، والصباح فتاح!
لم يسبق لعبد الفضيل أن غادر القرية حتى إلى البندر ـ فضلاً على القاهرة العظيمة ـ لم يكن يستطيع أن يعرف موعد وصول المركب إلى ساحل أثر النبي، ليخبر ابن عمه فينتظره.
اعتمد على القول الريفي المأثور: اللي يسأل ما يتهش. وما دام عنوان عبد الباقي معه فهو مستطيع أن يصل إليه: (شارع فم الخليج. حارة السكر والليمون. زقاق العجانة نمرة3).
وسأل فلم يته. ولكن الذي تاه هو عقله! حينما شاهد عربات الرش وهي تبعثر الماء بشدة في الطريق العام.
لقد اعتاد في القرية النائبة أن يكون الماء بمقدار. فأما الأغنياء فهم يستخدمون السقاء ليجلب لهم الماء في الزقاق من النيل في أشهر الفيضان حينما يغمر الماء الحياض، ومن بئر القرية في سائر العام. وأما الفقراء، فهم يرسلون زوجاتهم وبناتهم ينقلن الماء في الأواني والجرار لملء الأزيار.
وقد يرش بعض الموسرين زقًا من الماء في رحبة دورهم للتطرية. أما أن يبعثر الماء هكذا في الطرقات، فذلك أمر لم يشهده إلا مرة واحدة، يوم زار القرية سعادة الباشا المدير.
وخطر له في مبدأ الأمر أن العربة مخروقة؛ وهم أن ينبه السائق إلى هذا الأمر الجلل ثم خطر أن ربما كان اليوم موعد زيارة الباشا المدير، أو أحد الحكام العظام، ولكنه رويدًا رويدًا جعل يدرك أن هذا أمر عادي، وساعده على هذا الإدراك أنه في "مصر أم الدنيا" حيث كل شيء عجيب، وورد على ذهنه عنوان العمل الذي التحق به ابن عمه والذي يرجو أن يفتح الله عليه، فليتحق به ـ وهو مصلحة الكنس والرش ـ ولم يكن قد تصور من قبل مدلولاً معينًا لهذا الاسم قط. فها هو ذا يتصور صورة غامضة؛ ولكنها قريبة من الواقع، فابن عمه له علاقة ما بهذا الرش الذي تقوم به العربات!
وتقدمت خطواته في الحارة فرأي منظرًا عجيبًا: جمع من السقائين ومعهم زقاق الماء وكثير من النسوة والبنات وبعض الصفائح الفارغة، أمام صنبور ضخم يديره رجل جالس على مقعد عال خلف الصنبور، فيصب الماء صبًا في هذه الصفائح وفي تلك الزقاق في يسر وسخاء، ثم ينصرف الجمع واحدًا بعد واحد، دون أن تستغرق هذه العملية بضع دقائق! يا لله! ولقد كاد يدرك سر الإسراف في رش الشوارع بالماء. فالماء هنا لا يكلف الناس شيئًا ولا يحملهم مشقة.
إنها قطعة من الحديد تُدار بسهولة فيتدفق الماء تدفقًا فلا لولب ولا حبل ولا دلو ولا جهد في استخراج الماء من قاع الآبار.
ولقد رأى قبل ذلك المضخة في دار العمدة حيث يخرج الماء متدفقًا بعض الشيء تُدار باليد ولقد رأى كذلك صنابير المسجد حيث يملأ الحوض بالماء من بئر المسجد ليتوضأ المصلون. ولكن هذه السهولة وهذا السخاء اللذين يراهما الآن شيء لم يخطر له ببال.
وما كاد يسير بضع خطوات ـ وهو يجيل في نفسه هذه الأفكار ـ حتى أشرق خاطره بحلم وضيء اهتز له كيانه كله وشاع فيه الرضى والشوق واللهفة في آن: ترى يفتح الله عليه كما فتح على ابن عمه عبد الباقي ويتحقق حلم زوجته حليمة فيرسل في استحضارهم من القرية حيث يعيشون هنا في بلد النعيم وتكون "سيدة" بنته هي إحدى هؤلاء البنات اللواتي شاهدهن لا يتكلفن في استحضار الماء إلى الدار مشقة ولا نصبًا كما تتكلف هي غاية الجهد في قريتهم النائية؟!
ووجد نفسه يفرك كفيه من الفرح ومن الشوق لهذا الحلم المرتقب الجميل! حينما عاد عبد الباقي من عمله وجد ابن عمه في داره فسرته هذه اللقيا بعد عهد طويل واستخفه الشوق إلى عناق حار وسلام متواصل كانت الأكف فيه تفترق لحظة للتلاقى بعد ذلك من جديد.
وما كاد يستقر بهما المقام وينتهي السؤال عن الأهل والأحوال حتى وجد عبد الفضيل في نفسه رغبة حارة ليحدث ابن عمه عما رآه من العجائب في طريقه إلى مسكنه.
عربات الرش والماء المراق في الطرقات وصنبور الماء العام وسهولة الاستسقاء على هذا النحو العجيب!
وابتسم ابن عمه له ابتسامة المجرب الخبير أمام القروي الساذج الغرير! وأحس بكثير من الزهو أمام ابن عمه ولا سيما حكاية الرش وله بها علاقة كما عرفنا وراح يقول في لهجة خليطة من لهجة القاهرة ولهجة الصعيد.
وأنت شفت إيه يا ولد العم دا تعرف. دا فيه هنا جواها حنفيات. البيت اللي جنبنا ده فيه حنيفة في قلب البيت زي اللي شفتها برة بس دي صغيرة شوية والسكان كلهم فوق وتحت ياخدوا منها من غير ما ينتقلوا خطوة برا البيت! وفغر عبد الفضيل فاه من الدهشة وهو يتخيل هذا الحدث المدهش، حنفية في وسط الدار، والسكان لا يتكلفون مغادرة المنزل للحصول على الماء.. السكان جميعًا!
ولم ينقذه من هذه الدهشة إلا أن يتذكر أنه في مصر ـ يعني القاهرة ـ فجعل يردد في شبه ذهول: أيوه أُمّال يا عم مصر أم الدنيا.
وبينما كان لسانه يردد هذه الألفاظ كان خياله يسبح ليرسم صورة أخرى لسيدة غير التي رسمها لها في الطريق فهي في هذه المرة لا تتكلف الخروج بالصحيفة إلى حنفية الطريق إنها ستستقي لهم من حنفية البيت الذي يسكنون فيه! وحينما كان مستغرقًا في هذا الخيال البعيد كان ابن عمه يتابع حديثه في زهو شديد: وفيه كمان بيوت ـ بس موش هنا برة شوية ـ فيها حنفية في كل دور.
والبيت الواحد تلاقي فيه ثلاث أربع حنفيات. وكل ساكن في دور حنفية لوحده!
وإذا كان خيال عبد الفضيل قد استطاع أن يتصور وجود حنفية في كل منزل فإن هذا الخيال قد عجز عجزًا تامًا عن تصور هذا الذي يقوله عبد الباقي الآن حنفية في كل دور؟.
ولم يحاول بالطبع أن يرسم صورة ثالثة لسيدة في هذا الوضع الجديد فإن خياله لم يسعفه بحال من الأحوال.
في الصباح نشرت بعض الصحف أن أحد أثرياء القاهرة بنى لنفسه مدفنًا كلفه ثلاثين ألف جنيه ومد إليه أنابيب الماء وأجهزة التسخين والتبريد.
تناسق!!!
أحياء وأموات!!!
المصدر
- مقال: أحياء وأموات موقع اخوان اون لاين