استعرض مصدر كتابات الإمام البنا عن الهجرة (2)

'''<center>كتابات الأستاذ [[حسن البنا]] عن الهجرة (2) </center>'''

[[ملف:الإمام-الشهيد-حسن-البنا-15.jpg|تصغير|200بك|<center>'''الإمام [[حسن البنا]]'''</center>]]
فى مساء 30ذى الحجة أقام [[الإخوان]] حفل تعارف بمدرسة العلوم الشرعية، دعى إليه أعيان المدينة ورجال الحكومة بها وضيوف المدينة من زعماء البلاد الإسلامية، وكان هذا الحفل لا يقل روعة عن مؤتمر منى وحفل مكة.

وكانت المناسبة الطيبة أنها ليلة مفتح العام الهجرى الجديد 1365ه، وقد تكلم خطباء المدينة فأجادوا، ثم اعتلى المنبر فضيلة الأستاذ حفظه الله وقال:

بسم الله الرحمن الرحيم..

نحمد الله -تبارك وتعالى، ونصلى ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ساعة كريمة نتحدث فيها بكلام كريم من كتاب الله -تبارك وتعالى، ومن آثار رسوله وأحاديثه، نسأل الله أن يكون ذلك عملاً مقبولاً، فيكتب لنا ولكم به ثواب العاملين وأجر المحسنين، وما اجتمع المسلمون على طاعة الله -تبارك وتعالى- إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد من قبل الحق -تبارك وتعالى: أين المتحابون فىّ؟ أين المتوادون فىّ؟ أين المتآخون فىّ؟ اليوم أظلهم بجلالى يوم لا ظل إلا ظلى".

اجتمعتم من بلدان بعيدة وأقطار متفرقة يحدوكم الأمل ويشوقكم طلب رضوان الله، فاجتمعتم فى طيبة البلد المبارك والحرم الكريم فى المسجد النبوى، وأتاح الله لنا فرصة طيبة لأن نلتقى ونتعارف لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من الناس ناسًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، لهم فى الجنة غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها". قالوا: من هؤلاء يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: '''"أولئك أقوام من أبناء القبائل ونوازع الناس اجتمعوا على غير أرحام بينهم إنما جمعهم الحب فى الله"'''.

ما الذى جمعنا -أيها [[الإخوان]]- على غير أرحام، وعن غير تعارف سابق إلا الأخوة فى الله والإيمان به، وحب المؤمن للمؤمن وعاطفة المسلم للمسلم، إنه رباط العقيدة التى جمعنا الله عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

من حقكم إذن علينا أن نشكركم على ما أتحتم لنا من فرصة كريمة، وفى الحق، إن هذا الاجتماع ليس لدرس ولا لمحاضرة ولا لخطابة ولا تبادل مدح أو تقارض ثناء، ولكن لبه وصميمه أن ننتهز هذه الفرصة، فرصة زيارتنا للمدينة المنورة ولسيدنا محمد رسول الله فنلتقى فى مكان نتبادل بعض ما يهم المسلمين، وبعض ما يجب عليهم بعضهم على بعض، والله تعالى يقول: '''﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ﴾'''[النساء: 1].

سجل -تبارك وتعالى- فى كتابه الكريم أن الناس لأب واحد وأم واحدة، وإنما جعلهم كذلك ليتعارفوا فلن يفرق بينهم بلدان ولا أوطان ولا أجناس ولا ألوان.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم، اجتمعنا لنتعارف فأولى ثم أولى أن ننتهز فرصة الاجتماع ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر كما شرع لنا قرآننا وبيّن لنا نبينا '''﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾'''[العصر: 1-3].

وإنا نستمطر الرحمة لمؤسس هذا المعهد الكريم، ونسأل الله أن يجزيه عن مدرسة العلوم الشرعية خير الجزاء، وأن يبارك نجله الفاضل، وأن يوفق مجلس إدارتها الموقر وأساتذتها إلى ما فيه الخير، وأن يوفقنا جميعًا لتشجيع مثل هذه المشروعات النافعة إنه نعم المولى ونعم النصير.

خطر لى وقد أرادت بعثة [[الإخوان]] أن تسعد بهذا التعارف وكان طبعيًّا أن نتحدث إلى حضراتكم فيه ليس لرغبة فيه، فالله يعلم أننا لم نتهيب يومًا من الأيام الحديث كما نتهيبه فى هذه المدينة المباركة التى انبثق منها نور العلم والعرفان.

وما دمنا قد اجتمعنا فلابد أن نتواصى ونتذاكر أننا -أيها [[الإخوان]]- نستقبل عامًا جديدًا ونودع عامًا ماضيًا، فمن حق العلم الماضى علينا أن نودعه، ومن حق العام المقبل علينا أن نستقبله، ونحن بين وداع واستقبال ما أولانا بالتذكر، وهل أولى بالتذكر من مثل هذا الموقف؟ هذا معنى من المعانى يوحى إلىّ كثيرًا من القول، ويذكرنى بهذه المناسبة الحادث العظيم الكريم العميق الأثر فى حياتنا حادث الهجرة وحديث الهجرة ونحن فى دار الهجرة.

نستقبل عامًا جديدًا من أعوام هذه الهجرة، يذكرنا بها ويرسم أمامنا حوادثها، فما أولانا بأن نتكلم ونتحدث.

ومعنى ثالث، إنكم -أيها الإخوان- من أقطار مختلفة وبلدان متباينة وشعوب كثيرة، أقطارنا وبلداننا وأوطاننا وشعوبنا كلها تستقبل من الزمن عصرًا جديدًا وحوادث جديدة، فما أولانا أن نتبين طريقنا ونرسم منهاجنا.

الناس ثلاثة: رجل لم يدرك سر وجوده ولم يتبين وظيفته فى حياته، إن سألته لم خلقت؟ وماذا تصنع؟ ولم وجدت؟ يقول لك: دعنى فإنى عنك مشغول، وهو لا يدرى لوجوده سرًّا، ولا يدرى له فى الحياة وظيفة، إنما خلق ليكبر ويغلظ ويضخم ثم تحق عليه الكلمة فيموت كالشجر العقيم لا ثمر يؤكل ولا ورق يظل، إنما يكون بعد ذلك كما يقول الحق -تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[الأعراف: 179]، ومن عجيب حكم الله أن هذا الصنف ليس بالقليل ولكنه كثير.

وصنف آخر أراد أن يتبين سر وجوده، وأراد أن يتعرف مهمته فى حياته، فأخطأ الطريق وضل السبيل، همه فى الدنيا لقمة سائغة ومركب فارهة ومتعة زائلة، فأقبل على ذلك يعب منه وينهل، وهكذا قضى حياته مثله مثل سابقه '''﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾'''[آل عمران: 14]، ثم احتقر القرآن ذلك فقال: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[آل عمران: 14]، وما أحقر متاع الحياة الدنيا فى نظر [[القرآن]] و[[الإسلام]] '''﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَّكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾'''[الزخرف: 33]، '''﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾'''[الزخرف: 35]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة" تعس وانتكس، هذا صنف أراد أن يعرف طريقه فضل السبيل هو والغافلون سواء.

وصنف آخر أنار الله بصائرهم فأشرقت مصابيح الهدى فى أفئدتهم فأقبلوا على الله تعالى يتعارفون ويتذللون لجنابه ﴿مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾[الذاريات: 56-57]، ويسمعون نداء الحق ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾[الذاريات: 50]، ففروا إلى الله بقلوبهم ومشاعرهم وعواطفهم وأحاسيسهم فجعلوا أوقاتهم طاعة وأعمالهم عبادة.

وأدركوا حق الوقت وقيمة الوقت، وعرفوا أن الوقت هو الحياة فوهبوا لحياة الله '''﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ﴾'''[آل عمران: 15-17].

لهذا أحب ونحن نستقبل عامًا ونودع عامًا أن نقف بين العامين وقفة نسأل أنفسنا، هل غفلنا؟ هل نسينا؟
نحن الآن -أيها الإخوة- نتسلم كراسة جديدة عدد ورقاتها 360ورقة جديدة، لكل يوم ورقة، وقد انتهت الكراسة القديمة والله أعلم بها، ونسأل الله أن يغفر لنا ما مضى ويصلح لنا ما بقى، ما أولانا أن نقف اليوم ونحن على مفتتح العام الجديد فيذكر كل منا نفسه هذا عام جديد، الليل والنهار صحيفة من صحائفه، يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل والنهار، وما من عمل يعمل إلا ويسجل فى صحف مطهرة بأيدى كرام بررة '''﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾'''[الجاثية: 29]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادى: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود منى، فإنى لا أعود إلى يوم القيامة".

ومعنى آخر -أيها الإخوة- إن أردتم أن تعدلوا فى الكراسة القديمة فإن هذا ممكن، اقتضت حكمة الله وكرمه أن تدع للناس محلاً يراجعون فيه أنفسهم ويتوبون إلى الله فيتقبل توبتهم، والله -سبحانه وتعالى- أكرم من أن يسجل علينا ما نعمل إن أردنا توبة صادقة '''﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾'''[آل عمران: 135]، ولقد جاء فى الحديث كذلك أن العبد إذا أذنب فذكر الله فتاب واستغفر قال الحق: "إن عبدى عرف أن له ربًّا يغفر الذنب أشهدكم أنى قد غفرت له".

ففى وسعكم أن تعيدوا هذه النظرة على عامكم الماضى، فمن ارتكب إثمًا أو عمل عملاً لا يرضاه الله له فإن الطريق أمامه واضحة، إن كان من حقوق الخلق رده، وإن كان من حقوق الله تضرع إلى الله بالتوبة ﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾[الشورى: 25]، '''﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾'''[الشورى: 26].

فلننظر إلى الماضى نظرة نردفها بتوبة واستغفار، ولننظر إلى الحاضر والمستقبل نظرة عزم وإصرار، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يسمعون فيفقهون فيعملون.

المعنى الثانى: ونحن فى دار الهجرة لا تنتظروا منى كلامًا فلعلكم أولى الناس بأن نسمع منكم وأنتم أبناء الأنصار الذين كانت الهجرة إليهم، وإن مثلنا ومثلكم فى هذا القول كحامل التمر إلى هجر، أو كمقدم الورد إلى الجنان، إنما أحب فقط أن نحقق الأمر الربانى فى قول الله -تبارك وتعالى: '''﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾'''[الأحزاب: 21].

نمر مرورًا سريعًا على المواقف البارزة الظاهرة التى يجب علينا ويحسن بنا أن نذكرها لنفيد منها فى حياتنا الحاضرة.

كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم دروسًا عالية، ولأمر ما قال الله -تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: 21]، '''﴿قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾'''[آل عمران: 31].

حادث الهجرة، ذلك الحادث العميق الأثر البعيد النتائج فى تاريخ المسلمين عبر دروس وعظات ينبغى للمسلمين أن يعرفوها ويتدبروها؛ ليكونوا -كما كانوا- سادة الأمم وقادة الشعوب. إن هجرة رسول الله من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كانت الفاصل بين عملين من أعمال الإصلاح الفردى فى مكة إلى الإصلاح الاجتماعى فى المدينة.

كان فى مكة داعيًا مبلغًا يجمع الفرد إلى الفرد، يربى العقيدة الصحيحة والنفوس المؤمنة، يكون اللبنات، يجتمعون [فى] دار الأرقم، وما كان المشركون بمكة يدعون الرسول وصحابته ينتظم لهم جمع، أو يلتئم لهم شمل، ورسول الله يبنى بأمر الله هؤلاء الأفراد، لتكون الأمة التى وصفها الله -تبارك وتعالى: '''﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾'''[آل عمران: 110].

أما فى المدينة فقد استقام له الأمر، لقى فيها أهلاً آزروه ونصروه، فكان المجتمع الذى يصح أن يبنى من هذه اللبنات، فعلينا -أيها [[الإخوان]]- أن نبنى الفرد المسلم، ثم نبنى الأمة المسلمة، ما أولانا أن ننظر كيف بنى الله -تبارك وتعالى- هذه النفوس فى مكة، ثم بنى هذا المجتمع فى المدينة.

[عاملان اثنان] بنى عليهما الفرد المؤمن، وعاملان بنى عليهما المجتمع المؤمن.

طبعت النفس الإسلامية الأولى على خلقين، ودعمت على صفتين، وطبعت بهذين اللونين طبعًا ثابتة لم يتغير ولم تتبدل، الإيمان العجيب الذى طبعت به هذه النفوس، آمن الفرد المؤمن بربه فاستند إليه، وآمن بكتابه فنزل على حكمه، وآمن بنبيه فأطاعه واتبعه، وآمن به وعرف أنه منتدب من لدن الحق -تبارك وتعالى- لحراسة الرسالة العظمى ولإقرار الحق، وكان يتلى على مسامعه صباحًا ومساء '''﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ'''﴾[الزخرف: 43-44]، '''﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾'''[النمل: 79].

عرف رسوله وأنه مرسل من قبل الحق، آمن بربه، آمن بكتابه الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، آمن بنبيه الصادق الذى أدى الرسالة وبلغ الأمانة.

بدأ هذا الإيمان عجيبًا عميقًا فى تصرفاتهم وأعمالهم، أثر هذا الإيمان فى نفوس هؤلاء القوم، عرفهم كل شىء فحطموا الأصنام بأيديهم، وكانوا يشربون خمرًا ويسمعون غناء، يقضون أوقاتهم فى لهو وعبث، فأصبحوا يقطعون الليل تسبيحًا وقرآنًا، كان يتخاصمون ويتشاجرون فأصبحوا متحابين متآخين، تغيرت كل صفات حياتهم، والعجيب أن يحدث ذلك وقد كبر بهم السن وفات وقت التربية.

وعرفوا قول الحق -تبارك وتعالى: ﴿'''وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾'''[البقرة: 143]، وعرفوا المهمة التى تتجلى فى قول الحق: '''﴿وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾'''[الحج: 78].

المعنى الثانى: إن هذا الإيمان ولد الصبر والاحتمال فى النفس المؤمنة، صبر عجيب وتضحية وشجاعة، وقد تقلبت على النفس المؤمنة الامتحانات والاختبارات فى المال والأهل والولد، فثبتت لذلك وصبرت صبرًا عجيبًا، وكان آخر ذلك الهجرة '''﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾'''[الحشر: 8]، والهجرة قرين القتل '''﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾'''[النساء: 66]، والهجرة قرين الموت والقتل.

وما خرجوا عن ديارهم وأموالهم كراهة لأوطانهم حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى مكة فيقول: '''"والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت"'''، لم يخرجوا قلى لها ولا رغبة عنها إنما خرجوا يلتمسون نصرة دين الله -تبارك وتعالى.

ولذلك كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحبب الله إليهم طيبة كحبهم مكة وأشد، فاستجاب الله لهم وحببت للمؤمنين من يومهم.

فقد المسلمون أموالهم، وعذبوا فى أبدانهم، صودروا فى أملاكهم وما أسفوا على شىء، وما بكوا على شىء فى سبيل الله ونصرة دينه.

ما أحوجنا الآن إلى أن نؤمن بربنا فنستند إليه.

يقولون: ماذا تصنع الأمم الإسلامية وهى ضعيفة فقيرة لا سلاح بأيديها ولا مال معها، لا قوة ولا مناعة؟ خير لها أن تستسلم وليقضى الله أمرًا كان مفعولاً، عجيب أن يبلغ المؤمنون فى مكة أربعين فردًا فتنزل الآية: '''﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾'''[الأنفال: 64].

كان الرسول وأربعون معه هم الذين حملوا عبء هذه الدعوة فأدوا الأمانة ونشروا دين الله، كانوا عزلاً من كل شىء، ولكن الإيمان كان يملأ أفئدتهم فلا يخافوا شيئًا.

لو آمنا بعض إيمانهم لأدان الله لنا الدنيا، رستم قائد الفرس يظفر بعربى من طلائع جيش سعد يستجوبه ويستنطقه فيقول له: ما الذى أخرجكم من دياركم؟ قال: كنا ضالين فهدانا الله، أرسل الله لنا رسولاً من أنفسنا، وأمرنا أن نبلغ هذه الرسالة، فإحدى ثلاث: إما أن تسلموا ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإما الجزية، وإلا فالسيف حتى يحكم الله بيننا وبينكم. قال رستم: أى سيف تعنى وعند كسرى أضعاف أضعافها؟ قالها له هازئًا ساخرًا فقال له العربى: هون عليك، إننا لا نحارب الناس ولكن نحارب القدر، "نحن قدر الله وقضاؤه فلا نرد ولا نخزى ولا ننهزم، وقد سلطنا الله على الناس".

وبهذا الإيمان هزم سعد ومعه اثنا عشر ألفًا جحافل جيوش الفرس.

لو أن معنا بعض هذا الإيمان لاستطعنا أن نجدد فى أمتنا هذه الحيوية، إيمان وصبر، نريد أن ينبثا فى كل رجل مؤمن، يجب أن يقوى إيمانه بربه وكتابه ونبيه وأن يحمله هذا الإيمان على أن يكون صبورًا جلدًا يواجه كل امتحان واختبار فى سبيل عقيدته بكل سرور وامتنان.

كانوا يقولون مع القائل: إن سجنى خلوة، وقتلى شهادة، وتغريبى سياحة.

وما أولانا أن نطبع قلوبنا مثلهم على الصبر والاحتمال، خصلتان يبنى عليهما المجتمع الإسلامى، وما أحوجنا إلى الوفاء وكلمة الصدق يقولها الإنسان ويبحث عنها جيدًا.

هذا مصعب  يتحدث إلى الطليعة الأولى فى يثرب فيأتى سعد يسأل عن خبر الرجل فيركز حريته ويقف على مصعب يتهدده فيقول له مصعب: يا أخى، اجلس واستمع فإن وجدت خيرًا فخذ معنا به، وإن وجدت شرًّا فدع. فيستمع إلى القرآن فيقول سعد: ماذا أقول حتى أكون معكم؟ فيقول مصعب: قل لا إله إلا الله محمد رسول الله. ويرجع سعد إلى أهله بوجه غير وجهه فيقول لهم: "إن كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تسلموا" فيسلمون.

هذا سعد الذى يسمع الرسول يقول وهم خارجين إلى بدر: "أشيروا علىّ -أيها الناس" مرتين أو ثلاثًا، فيفقهها سعد الفقيه فيقول: إنك تعنينا يا رسول الله. إنا لصبر فى الحرب صدق عند اللقاء.

الأمر الثانى: الوحدة والحب، وصدق الله العظيم '''﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾'''[الحشر: 9].

لقد ألف الله ب[[الإسلام]] بين هذه القلوب، وقد توحد كل شىء فى المجتمع: زيهم، شكلهم، حركتهم واحدة، كنا نتصور المدينة كلما قرأنا تاريخ الهجرة وكتبها كالثكنة العسكرية، أو كقشلاق من الطراز الأول.

قبل أن تطلع الشمس يطلع عليهم بلال فإذا بالجميع قاموا يتوضئون ويدوون ب[[القرآن]]، فإذا أذن ابن أم مكتوم خرجوا جميعًا إلى المسجد يتجمعون حول قائدهم المظفر، ويتصورون مثلاً أعلى واحدًا، ويتكرر هذا التدريب خمس مرات فى اليوم، الشعور واحد، والاتجاه واحد، والقبلة واحدة، فإذا اختلفوا فى أمر نزل الوحى من السماء.

لقد وقفت أمام الآية الكريمة '''﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما﴾'''[المجادلة: 1] مأخوذًا، إلى أى حد كانت صلة الجميع بالله تعالى.

هذه الوحدة، كانت وحدة وجدان وحب قبل أن تكون وحدة قانون، يشعر أحدهم أنه جزء من أخيه "مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"

بقى أن نقول: إننا نؤمن ونعتقد كما أن حضراتكم تؤمنون بأننا مهما تباعدت ديارنا ومهما اختلفت حدودها فنحن أبناء وطن واحد.

[[الإسلام]] دين وجنسية، ونحن نؤمن بهذا وننادى به، ونوصى أن يتأهب كل إنسان بالعمل لبلده على أنه جزء من الوطن الإسلامى الكبير الذى يقول: لا إله إلا الله.

فكل مسلم يقول: "لا إله إلا الله" له علينا حق أن نسأل عنه وندافع عنه، وفى كتاب "البحر المحيط" مسألة: إذا امرأة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب أن ينقذوها.

ونحن الآن على مفترق الطرق، ولن يرضى الله لنا أن نذل ونخزى وهو يقول: '''﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾'''[المنافقون: 8]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: '''"من أعطى الذلة طائعًا غير مكره فليس منى"'''.

وختم فضيلة المرشد كلمته بتذكير المسلمين بالتمسك بتعاليم دينهم، وحثهم على الوحدة والإخاء والحب فى الله حتى يعود للإسلام مجده وللوطن كرامته وحريته.


'''المصدر: مع بعثة الحج للإخوان المسلمين عام 1364ه، ص(95-104)'''


== للمزيد ==


'''للمزيد من كلمات الإمام [[البنا]] عن الهجرة:'''

*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (1)]]
*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (3)]]
*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (4)]]
*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (5)]]
*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (6)]]
*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (7)]]
*[[كتابات الإمام البنا عن الهجرة (8)]]


'''إقرأ أيضا :'''

*[[كلمة الأستاذ حسن الهضيبي في الإحتفال بذكرى الهجرة]]

*[[كلمة الأستاذ عمر التلمساني عن الهجرة]]

*[[مقال الأستاذ صالح عشماوي عن الهجرة]]

*[[خطاب الأستاذ صالح عشماوي في حفل الهجرة]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:روابط حسن البنا]]